الحقيقة العاشرة

باب الحكمة والعناية والرحمة والعدالة

وهو تجلي اسم ((الحكيم والكريم والعادل والرَّحيم))

أمن الممكن لمالك الملك ذي الجلال الذي أظهر في دار ضيافة الدنيا الفانية هذه، وفي ميدان الامتحان الزائل هذا، وفي معرض الأرض المتبدل هذا، هذا القدر من آثار الحكمة الباهرة، وهذا المدى من آثار العناية الظاهرة، وهذه الدرجة من آثار العدالة القاهرة، وهذا الحد من آثار الرحمة الواسعة! ثم لا ينشئ في عالم ملكه وملكوته مساكن دائمة، وسكنة خالدين، ومقامات باقية، ومخلوقات مقيمين. فتذهب هباءًا منثورًا جميع الحقائق الظاهرة لهذه الحكمة، ولهذه العناية، ولهذه العدالة، ولهذه الرحمة؟.

وهل يعقل لحكيم ذي جلال اختار هذا الإنسان من بين المخلوقات، وجعله مخاطبًا كليًا له، ومرآة جامعة لأسمائه الحسنى، ومقدّرًا لما في خزائن رحمته من ينابيع، ومتذوقًا لها ومتعرفًا إليها، والذي عرّف سبحانه ذاته الجليلة له بجميع أسمائه الحسنى، فأحبّه وحبّبه إليه.. أفمن المعقول بعد كل هذا أن لا يُرسل ذلك((الحكيم)) جل وعلا هذا الإنسان المسكين إلى مملكته الخالدة تلك؟ ولا يسعده في تلك الدار السعيدة بعد أن دعاه إليها؟؟

أم هل يعقل أن يحمّل كل موجود وظائف جمّة -ولو كان بذرة- بثقل الشجرة، ويركّب عليه حِكَمًا بعدد أزهارها، ويقلّده مصالح بعدد ثمارها، ثم يجعل غاية وجود تلك الوظائف والحكم والمصالح جميعها مجرّد ذلك الجزء الضئيل المتوجه إلى الدنيا. أي يجعل غاية الوجود هي البقاء في الدنيا فقط، الذي لا أهمية له حتى بمثقال حبة من خردل؟ ولا يجعل تلك الوظائف والحِكَم والمصالح بذورًا لعالم المعنى، ولا مزرعة لعالم الآخرة لتثمر غاياتها الحقيقية اللائقة بها.

وهل يعقل أن تذهب جميع هذه المهرجانات الرائعة والاحتفالات العظيمة هباءً بلا غاية، وسدى بلا معنى وعبثًا بلا حكمة؟!

أم هل يعقل أن لا يوجّه كلها إلى عالم المعنى وعالم الآخرة لتظهر غاياتُها الأصيلة وأثمارُها الجديرةُ بها؟!

نعم! أمن الممكن أن يظهر كل ذلك خلافًا للحقيقة، خلافًا لأوصافه المقدّسة وأسمائه الحسنى: ((الحكيم، الكريم، العادل، الرحيم)) كلا.. ثم كلا.

أم هل من الممكن أن يكذِّب سبحانه حقائقَ جميع الكائنات الدالة على أوصافه المقدّسة من حكمةٍ وعدلٍٍ وكرمٍ ورحمة، ويردّ شهادة الموجودات جميعًا، ويبطل دلائل المصنوعات جميعًا! تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

وهل يقبل العقل أن يعطي للإنسان أجرة دنيوية زهيدة، زهادة شعرة واحدة، مع أنه أناط به وبحواسه مهامًا ووظائف هي بعدد شعرات رأسه؟ فهل يمكن أن يقوم بمثل هذا العمل الذي لا معنى له ولا مغزى خلافًا لعدالته الحقة، ومنافاة لحكمته الحقيقة؟ سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا.

أوَ من الممكن أن يقلّد سبحانه كل ذي حياة، بل كل عضو فيه -كاللسان مثلًا- بل كل مصنوع، من الحِكم والمصالح بعدد أثمار كل شجرة مُظهرًا حكمته المطلقة ثم لا يمنح الإنسان البقاء والخلود، ولا يهب له السعادة الأبدية التي هي أعظم الحِكَم، وأهم المصالح، وألزم النتائج؟ فيترك البقاء واللقاء والسعادة الأبدية التي جعلت الحكمة حكمة، والنعمة نعمةً، والرحمة رحمةً، بل هي مصدر جميع الحكم والمصالح والنعم والرحمة ومنبعها. فهل يمكن أن يتركها ويهملها ويسقط تلك الأمور جميعها إلى هاوية العبث المطلق؟ ويضع نفسه -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا- بمنزلة من يبني قصرًا عظيمًا يضع في كل حجر فيه آلاف النقوش والزخارف، وفي كل زاوية فيه آلاف الزينة والتجميل، وفي كل غرفة فيه آلاف الآلات الثمينة والحاجيات الضرورية.. ثم لا يبني له سقفًا ليحفظه؟! فيتركه ويترك كل شئ للبلى والفساد! حاشَ لله.. إن الخير يصدر من الخيّر المطلق، وإن الجمال يصدر من الجميل المطلق، فلن يصدر من الحكيم المطلق العبث البتة.

نعم! إن كل من يمتطي التاريخ ويذهب خيالًا إلى جهة الماضي سيرى أنه قد ماتت بعدد السنين منازلُ ومعارضُ وميادين وعوالمُ شبيهة بمنزل الدنيا وميدان الابتلاء ومعرض الأشياء في وقتنا الحاضر. فعلى الرغم مما يُرى من اختلاف بعضها عن البعض الآخر صورةً ونوعًا، فإنها تتشابه في الانتظام والإبداع وإبراز قدرة الصانع وحكمته.

وسيرى كذلك -ما لم يفقد بصيرته- أن في تلك المنازل المتبدلة، وفي تلك الميادين الزائلة، وفي تلك المعارض الفانية.. من الأنظمة الباهرة الساطعة للحكمة، والإشارات الجليّة الظاهرة للعناية، والأمارات القاهرة المهيمنة للعدالة، والثمار الواسعة للرحمة ما سيدرك يقينًا أنه:

لا يمكن أن تكون حكمةٌ أكملَ من تلك الحكمة المشهودة، ولا يمكن أن تكون عناية أروع من تلك العناية الظاهرة الآثار، ولا يمكن أن تكون عدالة أجلّ من تلك العدالة الواضحة أماراتها. ولا يمكن أن تكون رحمة أشمل من تلك الرحمة الظاهرة الثمار.

وإذا أفتُرض المحال، وهو أن السلطان السرمدي -الذي يدير هذه الأمور، ويغيّر هؤلاء الضيوف والمستضافات باستمرار- ليست له منازل دائمة ولا أماكن راقية سامية ولا مقامات ثابتة ولا مساكن باقية ولا رعايا خالدون، ولا عبادٌ سعداء في مملكته الخالدة. يلزم عندئذٍ إنكار الحقائق الأربعة: (الحكمة والعدالة والعناية والرحمة) التي هي عناصر قوية شاملة كالنور، والهواء والماء والتراب، وإنكار وجودها الظاهر ظهور تلك العناصر. لأنه من المعلوم أن هذه الدنيا وما فيها لا تفي لظهور تلك الحقائق، فلو لم يكن هناك في مكان آخر ما هو أهل لها، فيجب إنكار هذه الحكمة الموجودة في كل شئ أمامنا -بجنون من ينكر الشمس الذي يملأ نورها النهار- وإنكار هذه العناية التي نشاهدها دائمًا في أنفسنا وفي أغلب الأشياء. وإنكار هذه العدالة الجلية الظاهرة الأمارات (حاشية) نعم، إن العدالة شقان أحدهما إيجابي، والآخر سلبي.

أما الإيجابي فهو: إعطاء كل ذي حق حقه. فهذا القسم من العدالة محيط وشامل لكل ما في هذه الدنيا لدرجة البداهة. فكما أثبتنا في “الحقيقة الثالثة” بأن ما يطلبه كل شيء وما هو ضروري لوجوده وإدامة حياته التي يطلبها بلسان استعداده وبلغة حاجاته الفطرية وبلسان إضطراره من الفاطر ذي الجلال يأتيه بميزان خاص دقيق، وبمعايير ومقاييس معينة، أي أن هذا القسم من العدالة ظاهر ظهور الوجود والحياة.

أما القسم السلبي فهو: تأديب غير المحقين، أي إحقاق الحق بإنزال الجزاء والعذاب عليهم. فهذا القسم وإن كان لا يظهر بجلاء في هذه الدنيا إلا أن هنالك إشارات وأمارات تدل على هذه الحقيقة. خذ مثلًا سوطَ العذاب وصفعات التأديب التي نزلت بقوم عاد وثمود بل بالأقوام المتمردة في عصرنا هذا، مما يظهر للحدس القطعي هيمنة العدالة السامية وسيادتها. المؤلف. وإنكار هذه الرحمة التي نراها في كل مكان. وكذلك يلزم أن يعتبر صاحب ما نراه من الإجراءات الحكيمة والأفعال الكريمة، والآلاء الرحيمة (حاشَ لله ثم حاشَ لله) لاهيًا لاعبًا ظالمًا غدّارًا تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وما هذا الاّ انقلاب الحقائق بأضدادها، وهو منتهى المحال، حتى السوفسطائيون الذين أنكروا وجود أنفسهم لم يدنوا إلى تصوّر هذا المحال بسهولة.

والخلاصة: أنه ليست هناك علاقة أو مناسبة بين ما يُشاهَد في شؤون العالم من تجمعات واسعة للحياة، وافتراقات سريعة للموت، وتكتلات ضخمة، وتشتتات سريعة، واحتفالات هائلة، وتجليات رائعة.. وبين ما هو معلوم لدينا من نتائج جزئية، وغايات تافهة مؤقتة، وفترة قصيرة تعود إلى الدنيا الفانية. لذا فالربط بينهما بعلاقة، أو إيجاد مناسبة، لا ينسجم مع عقل ولا يوافق مع حكمة، إذ يشبه ذلك ربط حِكَم هائلة وغايات عظيمة كالجبل بحصاة صغيرة جدًا، وربط غاية تافهة جزئية مؤقتة -بحجم الحصاة- بجبل عظيم!!.

أي إن عدم وجود هذه العلاقة بين هذه الموجودات وشؤونها وبين غاياتها التي تعود إلى الدنيا، يشهد شهادة قاطعة، ويدل دلالة واضحة على أن هذه الموجودات متوجهة إلى عالم المعنى، حيث تعطي ثمارها اللطيفة اللائقة هناك، وأن أنظارها متطلعة إلى الأسماء الحسنى، وأن غاياتها ترنو إلى ذلك العالم. ومع أن بذورها مخبوءة تحت تراب الدنيا الاّ أن سنابلها تبرز في عالم المثال. فالإنسان -حسب استعداده- يَزرع ويُزرع هنا ويحصد هناك في الآخرة.

نعم! لو نظرت إلى وجوه الموجودات المتوجهة إلى الأسماء الحسنى وإلى عالم الآخرة لرأيت:

أن لكل بذرة -وهي معجزة القدرة الإلهية- غايات كبيرة كبر الشجرة.

وأن لكل زهرة -وهي كلمة الحكمة- (حاشية) فإن قلت: لِمَ تورد أغلب الأمثلة من الزهرة والبذرة والثمرة؟

الجواب: لأنها إبدع معجزات القدرة الإلهية وأعجبها وألطفها. ولمّا عجز أهل الضلالة والطبيعة والفلسفة المادية من قراءة ما خَطه قلم القدر والقدرة فيها من الكتابة الدقيقة، تاهوا وغرقوا فيها، وسقطوا في مستنقع الطبيعة الآسن. المؤلف. معاني جمّة بمقدار أزهار الشجر.

وأن لكل ثمرة -وهي معجزة الصنعة وقصيدة الرحمة- من الحِكَم ما في الشجرة نفسها. أما من جهة كونها أرزاقًا لنا فهي حكمة واحدة من بين ألوف الحكم، حيث أنها تنهي مهامها، وتوفي مغزاها فتموت وتدفن في معداتنا.

فما دامت هذه الأشياء الفانية تؤتي ثمارها في غير هذا المكان، وتودع هناك صورًا دائمة، وتعبّر عن معانٍ خالدة، وتؤتي أذكارها وتسابيحها الخالدة السرمدية هناك. فالإنسان إذن يصبح إنسانا حقًا مادام يتأمل وينظر إلى تلك الوجوه المتوجهة نحو الخلود. وعنده يجد سبيلًا من الفاني إلى الباقي.

إذن هناك قصد آخر ضمن هذه الموجودات المحتشدة والمتفرقة التي تسيل في خضم الحياة والموت، حيث أن أحوالها تشبه -ولا مؤاخذة في الأمثال- أحوالًا وأوضاعًا تُرتّب للتمثيل، فتنفق نفقات باهظة لتهيئة اجتماعات وافتراقات قصيرة، لأجل التقاط الصور وتركيبها لعرضها على الشاشة عرضًا دائمًا.

وهكذا فإن إحدى غايات قضاء الحياة -الشخصية والاجتماعية- في فترة قصيرة في هذه الدنيا هي أخذ الصور وتركيبها، وحفظ نتائج الأعمال، ليحاسب أمام الجمع الأكبر، وليعرض أمام العرض الأعظم، وليهيأ استعداده ومواهبه للسعادة العظمى. فالحديث الشريف: «الدنيا مزرعة الآخرة» يعبّر عن هذه الحقيقة.

وحيث أن الدنيا موجودة فعلًا، وفيها الآثار الظاهرة للحكمة والعناية والرحمة والعدالة، فالآخرة موجودة حتمًا، وثابتة بقطعية ثبوت هذه الدنيا.

ولما كان كل شئ في الدنيا يتطلع من جهة إلى ذلك العالم، فالسير إذن والرحلة إلى هناك، لذا فإن إنكار الآخرة هو إنكار للدنيا وما فيها.

وكما أن الأجل والقبر ينتظران الإنسان، فإن الجنة والنار كذلك تنتظرانه وتترصدانه.

 

الحقيقة الحادية عشرة

باب الإنسانية

وهو تجلي اسم ((الحق))

أمن الممكن للحق سبحانه وهو المعبود الحق أن يخلق هذا الإنسان ليكون أكرمَ عبدٍ لربوبيته المطلقة، وأكثر أهمية لربوبيته العامة للعالمين، وأكثر المخاطبين إدراكًا وفهمًا لأوامره السبحانية، وفي أحسن تقويمٍ حتى أصبح مرآة جامعة لأسمائه الحسنى ولتجلي الاسم الأعظم ولتجلي المرتبة العظمى لكل اسم من هذه الأسماء الحسنى. وليكون أجملَ معجزات القدرة الإلهية، واغناها أجهزةً وموازينَ لمعرفة وتقدير ما في خزائن الرحمة الإلهية من كنوز، وأكثرالمخلوقات فاقة وحاجة إلى نعمه التي لا تحصى، وأكثرها تألمًا من الفناء، وأزيدها شوقًا إلى البقاء، وأشدها لطافة ورقة وفقرًا وحاجة. مع أنه من جهة الحياة الدنيا أكثرها تعاسة، ومن جهة الاستعداد الفطري أسماها صورة.. فهل من الممكن أن يخلق المعبود الحق الإنسان بهذه الماهية ثم لا يبعثه إلى ما هو مؤهّل له ومشتاق إليه من دار الخلود؟! فيمحق الحقيقة الإنسانية ويعمل ما هو منافٍ كليًا لأحقيته سبحانه؟ تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا..

وهل يعقل للحاكم بالحق والرحيم المطلق الذي وهب لهذا الإنسان استعدادًا فطريًا ساميًا يمكّنه من حمل الأمانة الكبرى التي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها، أي خَلقَه ليعرف صفات خالقه سبحانه الشاملة المحيطة وشؤونه الكلية وتجلياته المطلقة، بموازينه الجزئية وبمهاراته الضئيلة.. والذي بَرأه بشكل ألطف المخلوقات وأعجزها وأضعفها. فسخر له جميعَها من نبات وحيوان، حتى نصبه مشرفًا ومنظمًا ومتدخلًا في أنماط تسبيحاتها وعباداتها.. والذي جعله نموذجًا -بمقاييس مصغّرة- للإجراءات الإلهية في الكون، ودلاّلًا لإعلان الربوبية المنزهة -فعلًا وقولًا- على الكائنات، حتى منحه منزلة أكرم من منزلة الملائكة، رافعًا إياه إلى مرتبة الخلافة.. فهل يمكن أن يهب سبحانه للإنسان كل هذه الوظائف ثم لا يَهَبَ له غاياتها ونتائجها وثمارها وهي السعادة الأبدية؟ فيرميه إلى درك الذلّة والمسكنة والمصيبة والأسقام، ويجعله أتعس مخلوقاته؟ ويجعل هذا العقل الذي هو هدية مباركة نورانية لحكمته سبحانه ووسيلة لمعرفة السعادة آلةَ تعذيبٍ وشؤم، خلافًا لحكمته المطلقة، ومنافاة لرحمته المطلقة؟ تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

الخلاصة: كما أننا رأينا في الحكاية أن في هوية الضابط ودفتر خدمته رتبته، ووظيفته ومرتّبه وأفعاله وعتاده، واتضح لدينا أن ذلك الضابط لا يعمل لأجل هذا الميدان المؤقت، بل لما سيرحل إليه من تكريم وإنعام في مملكة مستقرة دائمة.

كذلك فإن ما في هوية قلب الإنسان من لطائف، وما في دفتر عقله من حواس، وما في فطرته من أجهزة وعتاد متوجهة جميعًا ومعًا إلى السعادة الأبدية،بل ما مُنحت له إلاّ لأجل تلك السعادة الأبدية. وهذا ما يتفق عليه أهل التحقيق والكشف.

فعلى سبيل المثال:

لو قيل لقدرة التخيل في الإنسان وهي إحدى وسائل العقل وأحد مصوّريه: ستُمنح لكِ سلطنةَ الدنيا وزينتها مع عمر يزيد على مليون سنة ولكن مصيرك إلى الفناء والعدم حتمًا. نراها تتأوه وتتحسر. (إن لم يتدخل الوهم وهوى النفس).

أي أن أعظم فانٍ -وهو الدنيا وما فيها- لا يمكنه أن يُشبع أصغر آلة في الإنسان وهي الخيال!

يظهر من هذا جليًا أن هذا الإنسان الذي له هذا الاستعداد الفطري والذي له آمالٌ تمتد إلى الأبد، وأفكارٌ تحيط بالكون، ورغباتٌ تنتشر في ثنايا أنواع السعادة الأبدية. هذا الإنسان إنما خلق للأبد وسيرحل إليه حتمًا. فليست هذه الدنيا إلاّ مستضافًا مؤقتًا، وصالة انتظار الآخرة.

 

الحقيقة الثانية عشرة

باب الرسالة والتنزيل

وهو تجلي ((بِسْمِ الله الرَّحْمن الرَّحيم))

أمن الممكن لمن أيّد كلامَه جميعُ الأولياء الصالحين المعزّزين بكشفياتهم وكراماتهم، وشهد بصدقه جميعُ العلماء والأصفياء المستندين إلى تدقيقاتهم وتحقيقاتهم.. ذلكم هو الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي فتح بما أوتي من قوة طريقَ الآخرة وباب الجنة، مصَّدقًا بألفٍ من معجزاته الثابتة، وبآلاف من آيات القرآن الكريم الثابت إعجازُه بأربعين وجهًا. فهل من الممكن أن تسد أوهامٌ هي أوهى من جناح ذبابة ما فتحه هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من طريق الآخرة وباب الجنة؟!

***

وهكذا لقد فُهم من الحقائق السابقة أن مسألة الحشر حقيقة راسخة قوية بحيث لا يمكن أن تزحزحها أيّة قوة مهما كانت حتى لو استطاعت أن تزيح الكرة الأرضية وتحطمها، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى يقرّ تلك الحقيقة بمقتضى أسمائه الحسنى جميعها وصفاته الجليلة كلها. وأن رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم يصدّقها بمعجزاته وبراهينه كلها. والقرآن الكريم يثبتها بجميع آياته وحقائقه. والكون يشهد لها بجميع آياته التكوينية وشؤونه الحكيمة.

فهل من الممكن يا ترى أن يتفق مع واجب الوجود سبحانه وتعالى جميعُ الموجودات -عدا الكفار- في حقيقة الحشر، ثم تأتي شبهة شيطانية واهية ضعيفة لتزيح هذه الحقيقة الراسخة الشامخة وتزعزعها؟! كلاّ… ثم كلا…

ولا تحسبنّ أن دلائل الحشر منحصرة في ما بحثناه من الحقائق الاثنتي عشرة، بل كما أن القرآن الكريم وحدَه يعلّمنا تلك الحقائق، فإنه يشير كذلك بآلاف من الأوجه والأمارات القوية إلى أن خالقنا سينقلنا من دار الفناء إلى دار البقاء.

ولا تحسبنّ كذلك أن دلائل الحشر منحصرة فيما بحثناه من مقتضيات الأسماء الحسنى ((الحكيم، الكريم، الرحيم، العادل، الحفيظ)) بل إن جميعَ الأسماء الحسنى المتجلية في تدبير الكون تقتضي الآخرة وتستلزمها.

ولا تحسب أيضًا أن آيات الكون الدّالة على الحشر هي تلك التي ذكرناها فحسب، بل هناك آفاق وأوجه في أكثر الموجودات تفتح وتتوجه يمينًا وشمالًا، فمثلما يدل ويشهد وجه على الصانع سبحانه وتعالى يشير وجه آخر إلى الحشر ويومئ إليه.

فمثلًا: إن حسن الصنعة المتقنة في خلق الإنسان في أحسن تقويم، مثلما هو إشارة إلى الصانع سبحانه، فإن ما فيه من قابليات وقوى جامعة، التي تزول في مدّة يسيرة، تشير إلى الحشر. حتى إذا ما لوحظ وجهٌ واحدٌ فقط بنظرتين، فإنه يدل على الصانع والحشر معًا.

فمثلًا: إذا لوحظت ماهيةُ ما هو ظاهرٌ في أغلب الأشياء من تنظيم الحكمة وتزيين العناية وتقدير العدالة ولطافة الرحمة، تبين أنه صادرة من يد القدرة لصانع حكيم، كريم، عادل، رحيم. كذلك إذا لوحظت عظمة هذه الصفات الجليلة وقوتها وطلاقتها، مع قصر حياة هذه الموجودات في هذه الدنيا وزهادتها فإن الآخرة تتبين من خلالها.

أي أن كل شئ يقرأ ويستقرئ بلسان الحال قائلًا: آمَنْتُ بِالله وَبِالْيَوْم اْلآخِرِ.

 

الخاتمة

إن الحقائق الاثنتي عشرة السابقة يؤيد بعضها البعض الآخر، وتكمل احداها الأخرى وتسندها وتدعمها، فتتبين النتيجة من مجموعها واتحادها معًا. فأي وهم يمكنه أن ينفذ من هذه الأسوار الاثنى عشر الحديد، بل الألماس المنيعة ليزعزع الإيمان بالحشر المحصّن بالحصن الحصين؟

فالآية الكريمة ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (لقمان:28) تفيد أن خلق جميع البشر وحشرهم سهل ويسير على القدرة الإلهية، كخلق إنسان واحد وحشره. نعم، وهو هكذا حيث فصلت هذه الحقيقة في بحث ((الحشر)) من رسالة ((نقطة من نور معرفة الله)). إلا أننا سنشير هنا إلى خلاصتها مع ذكر الأمثلة، ومن أراد التفصيل فليراجع تلك الرسالة.

فمثلًا: ولله المثل الأعلى-ولا جدال في الأمثال- أن الشمس مثلما تُرسل -ولو إراديًا- ضوءَها بسهولة تامة إلى ذرة واحدة، فإنها ترسله بالسهولة نفسها إلى جميع المواد الشفافة التي لا حصر لها، وذلك بسر ((النورانية)).

وإن أخذ بؤبؤ ذرّة شفافة واحدة لصورة الشمس مساوٍ لأخذ سطح البحر الواسع لها، وذلك بسر ((الشفافية)).

وإن الطفل مثلما يمكنه أن يحرك دُميَتَه الشبيهة بالسفينة، يمكنه أن يحرّك كذلك السفينة الحقيقية، وذلك بسرّ ((الانتظام)) الذي فيها.

وأن القائد الذي يسيّر الجندي الواحد بأمر ((سِر))، يسوق الجيش بأكمله بالكلمة نفسها، وذلك بسرّ ((الامتثال والطاعة)).

ولو افترضنا ميزانًا حساسًا جدًا في الفضاء، بحيث يتحسس وزن جوزة صغيرة في الوقت الذي يمكن أن توضع في كفتيه شمسان. ووجدت في الكفتين جوزتان أو شمسان، فإن الجهد المبذول لرفع إحدى الكفتين إلى الأعلى والأخرى إلى الأسفل هو الجهد نفسه، وذلك بسر ((الموازنة)).

فما دام أكبر شئ يتساوى مع أصغره، وما لا يعدّ من الأشياء يظهر كالشئ الواحد في هذه المخلوقات والممكنات الاعتيادية -وهي ناقصة فانية- لما فيها من (النورانية والشفافية والانتظام والامتثال والموازنة) فلابدّ أنه يتساوى أمام القدير المطلق القليل والكثير، والصغير والكبير، وحشرُ فرد واحد وجميع الناس بصيحة واحدة، وذلك بالتجليات ((النورانية)) المطلقة لقدرته الذاتية المطلقة وهي في منتهى الكمال، و((الشفافية)) و((النورانية)) في ملكوتية الأشياء، و((انتظام)) الحكمة والقدرة، و((امتثال)) الأشياء وطاعتها لأوامره التكوينية امتثالًا كاملًا، وبسر ((موازنة)) الإمكان الذي هو تساوي الممكنات في الوجود والعدم.

ثم إن مراتب القوة والضعف لشئ ما عبارة عن تداخل ضده فيه، فدرجات الحرارة -مثلًا- ناتجة من تداخل البرودة، ومراتب الجمال متولدة من تداخل القبح، وطبقات الضوء من دخول الظلام. إلاّ أن الشئ إن كان ذاتيًا غير عرضي، فلا يمكن لضده أن يدخل فيه، وإلا لزم اجتماع الضدين وهو محال. أي أنه لا مراتب فيما هو ذاتي وأصيل. فما دامت قدرة القدير المطلق ذاتية، وليست عرضية كالممكنات، وهي في كمال المطلق، فمن المحال إذن أن يطرأ عليها العجزُ الذي هو ضده. أي أن خلق الربيع بالنسبة لذي الجلال هيّن كخلق زهرة واحدة، وبعث الناس جميعًا سهل ويسير عليه كبعث فرد منهم، بخلاف ما إذا أُسند الأمرُ إلى الأسباب المادية، فعندئذٍ يكون خلقُ زهرةٍ واحدة صعبًا كخلق الربيع.

***

وكل ما تقدّم من الأمثلة والإيضاحات -منذ البداية- لصور الحشر وحقائقه ما هي إلاّ من فيض القرآن الكريم، وما هي إلا لتهيئة النفس للتسليم والقلب للقبول؛ إذ القول الفصل للقرآن الكريم والكلام كلامه، والقول قوله، فلنستمع إليه.. فلله الحجَّة البالغة…

﴿فَانْظُرْ إلى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (الروم: 50)

﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ (يس:78،79)

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ (الحج: 1- 2)

﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ (النساء:87)

﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ (الانفطار: 13- 14)

﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإنسان مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (سورة الزلزال)

﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾ (سورة القارعة)

﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (النحل:77)

* * *

ولنستمع إلى أمثال هذه الآيات البينات. ولنقل آمنا وصدقنا:

آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشرّه من الله تعالى، والبعث بعد الموت حق، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الشفاعة حق، وأن منكرًا ونكيرًا حق، وأنَّ الله يبعث من في القبور.

أشهد أن لا اِله اِلاّ الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.

اللّهم صلّ على ألطف وأشرف وأكمل وأجمل ثمرات طوبى رحمتك الذي أرسلته رحمةً للعالمين ووسيلة لوصولنا إلى أزين وأحسن وأجنى وأعلى ثمرات تلك الطوبى المتدلية على دار الآخرة أي الجنّة.

اللّهم أجرنا وأجر والدينا من النار وأدخلنا وأدخل والدينا الجنّة مع الأبرار بجاه نبيّك المختار… آمين.

* فيا أيها الأخ القارئ لهذه الرسالة بإنصاف! لا تقل لِمَ لا أحيط فهمًا بهذه الكلمة العاشرة.. لا تَغتَم ولا تتضايق من عدم الإحاطة بها، فإن فلاسفة دهاة -أمثال ابن سينا- قد قالوا: (الحشر ليس على مقاييس عقلية) أي ((نؤمن به فحسب، إذ لا يمكن سلوك سبيله، وسبر غوره بالعقل)) وكذلك اتفق علماء الإسلام بأن قضية الحشر قضية نقلية، أي أن أدلتها نقلية، ولا يمكن الوصول إليها عقلًا. لذا فإن سبيلًا غائرًا، وطريقًا عاليًا ساميًا في الوقت نفسه، لا يمكن أن يكون بسهولة طريق عام يمكن أن يسلكه كل سالك.

ولكن بفيض القرآن الكريم، وبرحمة الخالق الرحيم قد مُنَّ علينا السير في هذا الطريق الرفيع العميق، في هذا العصر الذي تحطم فيه التقليد وفسد الإذعان والتسليم. فما علينا إلاّ تقديم آلاف الشكر إلى البارى عز وجل على إحسانه العميم وفضله العظيم، إذ إن هذا القدر يكفي لإنقاذ إيماننا وسلامته. فلابد أن نرضى بمقدار فهمنا ونزيده بتكرار المطالعة.

هذا وإن أحد أسرار عدم الوصول إلى مسألة الحشر عقلًا هو أن الحشر الأعظم هو من تجلي (الاسم الأعظم)، لذا فإن رؤية واراءة الأفعال العظيمة الصادرة من تجلي الاسم الأعظم، ومن تجلي المرتبة العظمى لكل اسم من الأسماء الحسنى هي التي تجعل اثبات الحشر الأعظم سهلًا هينًا وقاطعًا كاثبات الربيع وثبوته، والذي يؤدي إلى الإذعان القطعي والإيمان الحقيقي.

وعلى هذه الصورة توضّح الحشر ووُِضِح في هذه (الكلمة العاشرة) بفيض القرآن الكريم. واِلاّ لو اعتمد العقل على مقاييسه الكليلة لظلّ عاجزًا مضطرًا إلى التقليد.