القطعة الثانية من الذيل

هي المقام الأول من تسعة مقامات لطبقات البراهين التسع التي تدور حول الحشر والتي أشارت إليها بإعجاز الآية الكريمة الآتية:

﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ (الروم: 17 – 19)

سيُبيَّن -إن شاء الله- ما أظهرته هذه الآيات الكريمة من البرهان الباهر والحجة القاطعة للحشر(حاشية) لم يكتب هذا المقام بعدُ. وحيث أن مسألة (الحياة) وقضيتها لها علاقة مع الحشر، فقد أُدرجت هنا. وفي ختام هذه المسألة إشارات الحياة إلى الركن الإيماني (القَدَر)، وهي مسألة دقيقة جدًا وعميقة. المؤلف. ولقد بيّنت في الخاصة الثامنة والعشرين من الحياة، أن الحياة تثبت أركان الإيمان الستة، وتتوجه نحوها وتشير إلى تحقيقها.

نعم! فما دامت (الحياة) هي حكمة خلق الكائنات، وأهم نتيجتها وجوهرها، فلا تنحصر تلك الحقيقة السامية في هذه الحياة الدنيا الفانية القصيرة الناقصة المؤلمة، بل أن الخواص التسع والعشرين للحياة وعظمة ماهيتها، وما يُفهم من غاية شجرتها ونتيجتها، وثمرتها الجديرة بعظمة تلك الشجرة، ما هي اِلاّ الحياة الأبدية والحياة الآخرة والحياة الحية بحجرها وترابها وشجرها في دار السعادة الخالدة. والاّ يلزم أن تظل شجرة الحياة المجهَّزة بهذه الأجهزة الغزيرة المتنوعة في ذوي الشعور -ولا سيما الإنسان- دون ثمر ولا فائدة ولا حقيقة، ولظل الإنسان تعسًا وشقيًا وذليلًا وأحط من العصفور بعشرين درجة، بالنسبة لسعادة الحياة، مع أنه أسمى مخلوق وأكرم ذوي الحياة وأرفع من العصفور بعشرين درجة.

بل العقل الذي هو أثمن نعمة يصبح بلاءً ومصيبة على الإنسان بتفكره في أحزان الزمان الغابر ومخاوف المستقبل، فيعذّب قلبَه دائمًا معكرًا صفو لذة واحدة بتسعة آلام!. ولاشك أن هذا باطل مائة في المائة.

فهذه الحياة الدنيا إذن تثبت ركن (الإيمان بالآخرة) إثباتًا قاطعًا بما تظهر لنا في كل ربيع أكثر من ثلاثمائة الف نموذج من نماذج الحشر.

فيا ترى هل يمكن لربّ قدير، يهئ ما يلزم حياتك من الحاجات المتعلقة بها جميعًا ويوفر لك أجهزتها كلها سواءٌ في جسمك أو في حديقتك أو في بلدك، ويرسله في وقته المناسب بحكمة وعناية ورحمة، حتى أنه يعلم رغبة معدتك فيما يكفل لك العيش والبقاء، ويسمع ما تهتف به من الدعاء الخاص الجزئي للرزق مبُديًا قبوله لذلك الدعاء بما بثّ من الأطعمة اللذيذة غير المحدودة ليُطمئن تلك المعدة ! فهل يمكن لهذا المدبّر القدير أن لا يعرفك؟ ولا يراك؟ ولا يهئ الأسباب الضرورية لأعظم غاية للإنسان وهي الحياة الأبدية؟ ولا يستجيب لأعظم دعاء وأهمه وأعمّه، وهو دعاء البقاء والخلود؟ ولا يقبله بعدم إنشائه الحياة الآخرة وإيجاد الجنة؟ ولا يسمع دعاء هذا الإنسان وهو أسمى مخلوق في الكون بل هو سلطان الأرض ونتيجتها.. ذلك الدعاء العام القوي الصادر من الأعماق، والذي يهز العرش والفرش! فهل يمكن أن لا يهتم به اهتمامَه بدعاء المعدة الصغيرة ولا يُرضي هذا الإنسان؟ ويعرّض حكمتَه الكاملة ورحمته المطلقة للإنكار؟ كلا.. ثم كلا ألف ألف مرة كلا.

وهل يعقل أن يسمع أخفت صوت لأدنى جزء من الحياة فيستمع لشكواه ويسعفه، ويحلم عليه ويربيه بعناية كاملة ورعاية تامة وباهتمام بالغ مسخرًا له أكبر مخلوقاته في الكون، ثم لا يسمع صوتًا كهزيم السماء لأعظم حياة وأسماها وألطفها وأدومها؟ وهل يعقل ألاّ يهتم بدعائه المهم وهو دعاء البقاء، وألاّ ينظر إلى تضرعه ورجائه وتوسله؟ ويكون كمن يجهز بعناية كاملة جنديًا واحدًا بالعتاد، ولا يرعى الجيش الجرار الموالي له !! وكمن يرى الذرة ولا يرى الشمس! أو كمن يسمع طنين الذباب ولا يسمع رعود السماء! حاشَ لله مائة ألف مرة حاشَ لله.

وهل يقبل العقل -بوجه من الأوجه- أن القدير الحكيم ذا الرحمة الواسعة وذا المحبة الفائقة وذا الرأفة الشاملة والذي يحب صنعته كثيرًا، ويحبّب نفسه بها إلى مخلوقاته وهو أشد حبًا لمن يحبونه، فهل يعقل أن يُفني حياة مَن هو أكثر حبًا له، وهو المحبوب، وأهلٌ للحب، وعابدٌ لخالقه فطرةً؟ ويُفني كذلك لب الحياة وجوهرها وهو الروح، بالموت الأبدي والإعدام النهائي!! ويولّد جفوة بينه وبين محبيه ويؤلمهم أشد الإيلام! فيجعل سر رحمته ونور محبته معرّضًا للإنكار! حاشَ لله ألف مرة حاش للّه… فالجمال المطلق الذي زيّن بتجليه هذا الكون وجمّله، والرحمة المطلقة التي أبهجت المخلوقات قاطبة وزيّنتها، لاشك إنهما منزّهتان ومقدستان بلا نهاية ولا حد عن هذه القساوة وعن هذا القبح المطلق والظلم المطلق.

النتيجة: ما دامت في الدنيا حياة، فلابد أن الذين يفهمون سر الحياة من البشر، ولا يسيئون استعمال حياتهم، يكونون أهلًا لحياة باقية، في دار باقية وفي جنة باقية… آمنا.

* * *

ثم، إن تلألؤ المواد اللمّاعة على سطح الأرض، وتلمّع الفقاعات والحباب والزبد على سطح البحر، ثم انطفاء ذلك التلألؤ والبريق بزوال الفقاعات ولمعان التي تعقبها كأنها مرايا لشُميسات خيالية يظهر لنا بداهة أن تلك اللمعات ما هي اِلاّ تجلي انعكاس شمسٍ واحدة عالية. وتذكر بمختلف الألسنة وجود الشمس، وتشير إليها بأصابع من نور.. وكذلك الأمر في تلألؤ ذوي الحياة على سطح الأرض وفي البحر، بالقدرة الإلهية وبتجلّى اسم ((المحيي)) للحي القيوم جلّ جلاله، واختفائها وراء ستار الغيب لفسح المجال للذي يخلفها -بعد أن ردّدت ((يا حي))- ما هي اِلاّ شهادات وإشارات للحياة السرمدية ولوجوب وجود الحي القيوم سبحانه وتعالى.

وكذا، فإن جميع الدلائل التي تشهد على العلم الإلهي الذي تُشاهَد آثاره من تنظيم الموجودات، وجميع البراهين التي تثبت القدرة المتصرفة في الكون، وجميع الحجج التي تثبت الإرادة والمشيئة المهيمنة على إدارة الكون وتنظيمه، وجميع العلامات والمعجزات التي تثبت الرسالات التي هي مدار الكلام الرباني والوحي الإلهي.. جميع هذه الدلائل التي تشهد وتدلّ على الصفات الإلهية السبع الجليلة، تدل وتشهد أيضًا بالاتفاق على حياة ((الحي القيوم)) سبحانه؛ لأنه لو وجدت الرؤية في شئ فلابد أن له حياة أيضًا، ولو كان له سمع فذلك علامة الحياة، ولو وجد الكلام فهو إشارة إلى وجود الحياة، ولو كان هناك الاختيار والإرادة فتلك مظاهر الحياة.. وهكذا فإن جميع دلائل الصفات الجليلة التي تشاهد آثارها ويُعلم بداهة وجودها الحقيقي، أمثال القدرة المطلقة، والإرادة الشاملة، والعلم المحيط، تدل على حياة ((الحي القيوم)) ووجوب وجوده، وتشهد على حياته السرمدية التي نوّرت بشعاعٍ منها جميعَ الكون وأحيَت بتجلٍ منها الدار الآخرة كلها بذراتها معًا..

* * *

والحياة كذلك تنظر وتدل على الركن الإيماني ((الإيمان بالملائكة)) وتثبته رمزًا.

إذ ما دامت الحياة هي أهم نتيجةٍ للكون، وأن ذوي الحياة لنفاستهم هم أكثر انتشارًا وتكاثرًا، وهم الذين يتتابعون إلى دار ضيافة الأرض قافلة إثر قافلة، فتعمّر بهم وتبتهج. وما دامت الكرة الأرضية هي محط هذا السيل من ذوي الحياة، فتملأ وتخلى بحكمة التجديد والتكاثر باستمرار، ويُخلق في أخس الأشياء والعفونات ذوو حياة بغزارة، حتى أصبحت الكرة الأرضية معرضًا عامًا للأحياء.. وما دام يُخلق بكثرة هائلة على الأرض أصفى خلاصة لترشح الحياة وهو الشعور والعقل والروح اللطيفة ذات الجوهر الثابت، فكأن الأرض تحيا وتتجمل بالحياة والعقل والشعور والأرواح.. فلا يمكن أن تكون الأجرام السماوية التي هي أكثر لطافة وأكثر نورًا وأعظم أهمية من الأرض جامدة بلا حياة وبلا شعور. فالذين سيعمّرون السماوات إذن يعمرونها ويبهجون الشموس والنجوم، ويهبون لها الحيوية، ويمثلون نتيجة خلق السماوات وثمرتها، والذين سيتشرفون بالخطابات السبحانية، هم ذوو شعور وذوو حياة من سكان السموات وأهاليها المتلائمين معها حيث يوجدون هناك بسرّ الحياة، وهم الملائكة.

* * *

وكذلك ينظر سر الحياة وماهيتها ويتوجه إلى ((الإيمان بالرسل)) ويثبته رمزًا.

نعم! ما دام الكون قد خُلق لأجل الحياة، وأن الحياة هي أعظم تجل وأكمل نقش وأجمل صنعة للحي القيوم جلّ جلاله، وما دامت حياته السرمدية الخالدة تظهر وتكشف عن نفسها بإرسال الرسل وإنزال الكتب. إذ لو لم تكن هناك ((رسل)) ولا ((كتب)) لما عُرفت تلك الحياة الأزلية، فكما أن تكلم الفرد يبين حيويته وحياته كذلك الأنبياء والرسل عليهم السلام والكتب المنزلة عليهم، يبينون ويدلون على ذلك المتكلم الحي الذي يأمر وينهى بكلماته وخطاباته من وراء الغيب المحجوب وراء ستار الكون. فلابد أن الحياة التي في الكون تدل دلالة قاطعة على ((الحي الأزلي)) سبحانه وتعالى وعلى وجوب وجوده،كما أن شعاعات الحياة الأزلية كذلك وتجلياتها تنظر وتتوجه إلى مالها ارتباطات وعلاقات معها من أركان الإيمان مثل (إرسال الرسل) و (إنزال الكتب) وتثبتهما رمزًا، ولا سيما ((الرسالة المحمدية)) و ((الوحي القرآني)). إذ يصح القول: إنهما ثابتان قاطعان كقطعية ثبوت الحياة، حيث إنهما بمثابة روح الحياة وعقلها.

نعم، كما أن الحياة هي خلاصة مترشحة من هذا الكون، والشعور والحس مترشحان من الحياة، فهما خلاصتها، والعقل مترشح من الشعور والحس، فهو خلاصة الشعور، والروح هي الجوهر الخالص الصافي للحياة، فهي ذاتها الثابتة المستقلة. كذلك الحياة المحمدية -المادية والمعنوية- مترشحة من الحياة ومن روح الكون، فهي خلاصة خلاصتها والرسالة المحمدية مترشحة من حسّ الكون وشعورهِ وعقلِه، فهي أصفى خلاصته، بل إن حياة محمد صلى الله عليه وسلم-المادية والمعنوية- بشهادة آثارها حياة لحياة الكون، والرسالة المحمدية شعور لشعور الكون ونور له. والوحي القرآني بشهادة حقائقه الحيوية روح لحياة الكون وعقل لشعوره.. أجل … أجل… أجل.

فإذا ما فارق نور الرسالة المحمدية الكون وغادره، مات الكون وتوفيت الكائنات، وإذا ما غاب القرآن وفارق الكون، جنّ جنونه وفقدت الكرة الأرضية صوابها، وزلزل عقلها، وظلت بلا شعور، واصطدمت بإحدى سيارات الفضاء، وقامت القيامة.

والحياة كذلك، تنظر إلى الركن الإيماني ((القدر)) وتدل عليه وتثبته رمزًا؛ إذ ما دامت الحياة ضياءً لعالم الشهادة وقد استولت عليه وأحاطت به، وهي نتيجة الوجود وغايته، وأوسع مرآةٍ لتجليات خالق الكون، وأتم فهرس ونموذج للفعالية الربانية، حتى كأنها بمثابة نوع من خطتها ومنهجها -إذا جاز التشبيه- فلابد أن سر الحياة يقتضي أن يكون عالم الغيب أيضًا -وهو بمعنى الماضي والمستقبل، أي المخلوقات الماضية والقابلة- في نظام وانتظام وأن يكون معلومًا ومشهودًا ومتعينًا ومتهيًا لإمتثال الأوامر التكوينية، أي كأنه في حياة معنوية. مَثَلُها كمثل تلك البذرة الأصلية للشجرة وأصولها، والنوى والأثمار التي في منتهاها، التي تتميز بمزايا نوعٍ من الحياة كالشجرة نفسها. بل قد تحمل تلك البذور قوانين حياتية أدق من قوانين حياة الشجرة.

فكما أن البذور والأصول التي خلفها الخريف الماضي، وسيخلفها هذا الربيع تحمل نور الحياة وتسير وفق قوانين حياتية، مثل ما يحمله هذا الربيع من حياة، كذلك شجرة الكائنات، وكلُّ غصنٍ منه وكلُّ فرعٍ، له ماضيه ومستقبله، وله سلسلة مؤلفة من الأطوار والأوضاع، القابلة والماضية، ولكلّ نوعٍ ولكلّ جزء منه وجودٌ متعدد بأطوار مختلفة في العلم الإلهي، مشكلًا بذلك سلسلةَ وجودٍ علمي. والوجود العلمي هذا، الشبيه بالوجود الخارجي هو مظهرٌ لتجلٍ معنوي للحياة العامة، حيث تؤخذ المقدرات الحياتية من تلك الألواح القدرية الحية ذات المغزى العظيم.

نعم، إن امتلاء عالم الأرواح -وهو نوع من عالم الغيب- بالأرواح التي هي عين الحياة، ومادتها، وجوهرها وذواتها، يستلزم أن يكون الماضي والمستقبل -وهما نوعان من عالم الغيب وقسم ثان منه- متجلّية فيهما الحياة.. وكذا فإن الانتظام التام والتناسق الكامل في الوجود العلمي الإلهي لأوضاع ذات معانٍ لطيفة لشئ ما ونتائجَه وأطوارَه الحيوية ليبيّن أن له أهلية لنوع من الحياة المعنوية.

نعم، إن مثل هذا التجلي، تجلي الحياة الذي هو ضياء شمس الحياة الأزلية لن ينحصر في عالم الشهادة هذا فقط، ولا في هذا الزمان الحاضر، ولا في هذا الوجود الخارجي، بل لابد أن لكل عالم من العوالم مظهرًا من مظاهر تجلي ذلك الضياء حسب قابليته. فالكونُ إذن بجميع عوالمه، حيّ ومشع مضئ بذلك التجلي، وِالاّ لأصبح كل من العوالم -كما تراه عين الضلالة- جنازة هائلة مخيفة تحت هذه الدنيا المؤقتة الظاهرة، وعالمًا خربًا مظلمًا.

وهكذا يُفهم وجهٌ من أوجه الإيمان بالقضاء والقدر من سر الحياة ويثبت به ويتضح. أي كما تظهر حيوية عالم الشهادة والموجودات الحاضرة بانتظامها وبنتائجها، كذلك المخلوقات الماضية والآتية التي تعدّ من عالم الغيب لها وجود معنوي، ذو حياة معنى، ولها ثبوت علمي ذو روح بحيث يظهر باسم المقدرات أثر تلك الحياة المعنوية بوساطة لوح القضاء والقدر.

 

 

القطعة الثالثة من الذيل

* سؤال يرد بمناسبة مبحث الحشر:

إن ما ورد في القرآن الكريم مرارًا ﴿إِنْ كَانَتْ اِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ (يس:29)، ﴿وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾ (النحل:77) يبين لنا أن الحشر الأعظم سيظهر فجأة إلى الوجود، في آن واحد بلا زمان. ولكن العقول الضيقة تطلب أمثلة واقعية مشهودة كي تقبل وتذعن لهذا الحدث الخارق جدًا والمسألة التي لا مثيل لها.

الجواب: إن في الحشر ثلاث مسائل هي: عودةُ الأرواح إلى الأجساد، وإحياءُ الأجساد، وإنشاء الأجساد وبناؤها.

المسألة الأولى: وهي مجئ الأرواح وعودتها إلى أجسادها ومثاله هو:

اجتماع الجنود المنتشرين في فترة الاستراحة والمتفرقين في شتى الجهات على الصوت المدوي للبوق العسكري.

نعم، إن الصور الذي هو بوق إسرافيل عليه السلام، ليس قاصرًا عن البوق العسكري كما أن طاعة الأرواح التي هي في جهة الأبد وعالم الذرات والتي أجابت بـ﴿قَالُوا:بَلى﴾ (الأعراف:172) عندما سمعت نداء ﴿أَلَسْتُ بِرَبِكُم﴾ (الأعراف: 172) المقبل من أعماق الأزل ونظامها يفوق بلاشك أضعاف أضعاف ما عند أفراد الجيش المنظم. وقد أثبتت((الكلمة الثلاثون)) ببراهين دامغة أن الأرواح ليست وحدها جيش سبحاني بل جميع الذرات أيضًا جنوده المتأهبون للنفير العام.

المسألة الثانية: وهي إحياء الأجساد. ومثالُه هو:

مثلما يمكن إنارة مئات الآلاف من المصابيح الكهربائية ليلة مهرجان مدينة عظيمة، من مركز واحد في لحظة واحدة، كأنها بلا زمان. كذلك يمكن إنارة مئات الملايين من مصابيح الأحياء وبعثها على سطح الأرض من مركز واحد. فما دامت الكهرباء وهي مخلوقة من مخلوقات الله سبحانه وتعالى وخادمة إضاءة في دار ضيافته، لها هذه الخصائص والقدرة على القيام بأعمالها حسب ما تتلقاه من تعليمات وتبليغات ونظام من خالقها، فلابد أن الحشر الأعظم سيحدث كلمح البصر ضمن القوانين المنظمة الإلهية التي يمثلها آلاف الخدم المنوّرِين كالكهرباء.

المسألة الثالثة: وهي إنشاء الأجساد فورًا ومثاله هو:

إنشاء جميع الأشجار والأوراق التي يزيد عددها ألف مرة على مجموع البشرية، دفعة واحدة في غضون بضعة أيام في الربيع، وبشكل كامل، وبالهيئة نفسها التي كانت عليها في الربيع السابق.. وكذلك إيجاد جميع أزهار الأشجار وثمارها وأوراقها بسرعة خاطفة، كما كانت في الربيع الماضي.. وكذلك تنبّه البُذيرات والنوى والبذور وهي لا تحصى ولا تعد والتي هي منشأ ذلك الربيع في آن واحد معًا وانكشافها وإحياؤها.. وكذلك نشور الجثث المنتصبة والهياكل العظمية للأشجار، وامتثالها فورًا لأمر ((البعث بعد الموت)) .. وكذلك إحياء أفراد أنواع الحيوانات الدقيقة وطوائفها التي لا حصر لها بمنتهى الدقة والإتقان.. وكذلك حشر أمم الحشرات ولا سيما الذباب (الماثل أمام أعيننا والذي يذكرنا بالوضوء والنظافة لقيامه بتنظيف يديه وعيونه وجناحيه باستمرار وملاطفته وجوهنا) الذي يفوق عدد ما ينشر منه في سنة واحدة عدد بنى آدم جميعهم من لدن آدم عليه السلام.. فحشر هذه الحشرة في كل ربيع مع سائر الحشرات الأخرى وإحياؤها في بضعة أيام، لا يعطي مثالًا واحدًا بل آلاف الأمثلة على إنشاء الأجساد البشرية فورًا يوم القيامة.

نعم، لما كانت الدنيا هي دار ((الحكمة)) والدار الآخرة هي دار ((القدرة)) فإن إيجاد الأشياء في الدنيا صار بشئ من التدريج ومع الزمن. بمقتضى الحكمة الربانية وبموجب أغلب الأسماء الحسنى أمثال ((الحكيم، المرتّب، المدبر، المربي)). أما في الآخرة فإن ((القدرة)) و ((الرحمة)) تتظاهران أكثر من ((الحكمة)) فلا حاجة إلى المادة والمدة والزمن ولا إلى الانتظار. فالأشياء تنشأ هناك نشأة آنية. وما يشير إليه القرآن الكريم بـ ﴿وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إلاّ كَلَمْحِ البَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ (النحل:77)، هو أن ما ينشأ هنا من الأشياء في يوم واحد وفي سنة واحدة ينشأ في لمحة واحدة كلمح البصر في الآخرة.

وإذا كنت ترغب أن تفهم أن مجئ الحشر أمر قطعي كقطعية مجئ الربيع المقبل وحتميته، فانعم النظر في ((الكلمة العاشرة)) و ((الكلمة التاسعة والعشرين)). وإن لم تصدق به كمجئ هذا الربيع، فلك أن تحاسبني حسابًا عسيرًا.

المسألة الرابعة: وهي موت الدنيا وقيام الساعة، ومثاله:

إنه لو اصطدم كوكب سيار أو مذنّب بأمر رباني بكرتنا الأرضية التي هي دار ضيافتنا، لدمّر مأوانا ومسكننا -أي الأرض- كما يُدمّر في دقيقة واحدة قصر بُني في عشر سنوات.

 

 

القطعة الرابعة من الذيل

﴿قَالَ مَنْ يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَميمٌ * قُل يُحْييْهَا الَّذى أَنْشَاَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَليمٌ﴾ (يس:78ــ 79)

لقد جاء في المثال الثالث في الحقيقة التاسعة للكلمة العاشرة، أنه:

إذا قال لك أحدهم إن شخصًا عظيمًا في الوقت الذي ينشئ أمام أنظارنا جيشًا ضخمًا في يوم واحد يمكنه أن يجمع فرقة كاملة من الجنود المتفرقين للاستراحة بنفخ من بوق، ويجعلهم ينضوون تحت نظام الفرقة، وقلتَ: لا، لا أصدق ذلك، الا يكون جوابك وإنكارك جنونًا وبلاهة؟ كذلك، فإن الذي أوجد أجساد الحيوانات كافة، وذوي الحياة كافة من العدم، تلك الأجساد التي هي كالفرق العسكرية للكائنات الشبيهة بالجيش الضخم ونظّم ذراتها ولطائفها ووضعها في موضعها اللائق، بنظام كامل وميزان حكيم بأمر ((كن فيكون))، وهو الذي يخلق في كل قرن بل في كل ربيع، مئآت الآلاف من أنواع ذوي الحياة وطوائفها الشبيهة بالجيش.. فهل يمكن أن يُسأل هذا القدير وهذا العليم كيف سيجمع بصيحة واحدة من بوق إسرافيل جميع الذرات الأساس والأجزاء الأصلية من الجنود المتعارفين تحت لواء فرقة الجسد ونظامها؟! وهل يمكن أن يُستبعد هذا منه؟ أوَ ليس استبعاده بلاهة وجنونًا؟

وكذلك فإن القرآن الكريم قد يذكر من أفعال الله الدنيوية العجيبة والبديعة كي يعدّ الأذهان للتصديق ويحضر القلوب للإيمان بأفعاله المعجزة في الآخرة. أو أنه يصوّر الأفعال الإلهية العجيبة التي ستحدث في المستقبل والآخرة بشكل نقنع ونطمئن إليه بما نشاهده من نظائرها العديدة. فمثلًا.

﴿أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصيمٌ مُبينٌ﴾ إلى آخر سورة (يس).. هنا في قضية الحشر، يثبت القرآن الكريم ويسوق البراهين عليها، بسبع أو ثماني صور مختلفة متنوعة.

إنه يقدّم النشأة الأولى أولًا، ويعرضها للأنظار قائلًا: إنكم ترون نشأتكم من النطفة إلى العلقة ومن العلقة إلى المضغة ومن المضغة إلى خلق الإنسان، فكيف تنكرون إذن النشأة الأخرى التي هي مثل هذا بل أهون منه؟ ثم يشير بـ ﴿اَلّذى جَعَلَ لكم مِنَ الشَّجَرِ الأَخْـضَرِ نَارًا﴾ (يس:80) إلى تلك الآلاء وذلك الإحسان والإنعام الذي أنعمه الحق سبحانه على الإنسان، فالذي ينعم عليكم مثل هذه النعم، لن يترككم سدى ولاعبثًا، لتدخلوا القبر وتناموا دون قيام.. ثم إنه يقول رمزًا : إنكم ترون إحياء وإخضرار الأشجار الميتة، فكيف تستبعدون اكتساب العظام الشبيهة بالحطب للحياة ولا تقيسون عليها؟.. ثم هل يمكن أن يعجز مَن خلق السماوات والأرض عن إحياء الإنسان وإماتته وهو ثمرة السموات والأرض، وهل يمكن لمن يدير أمر الشجرة ويرعاها أن يهمل ثمرتها ويتركها للآخرين؟! فهل تظنون أن يُترك للعبث ((شجرة الخلقة)) التي عجنت جميع أجزائها بالحكمة، ويهمل ثمرتها ونتيجتها؟.. وهكذا فإن الذي سيحييكم في الحشر هو مَن بيده مقاليد السموات والأرض، وتخضع له الكائنات خضوع الجنود المطيعين لأمره فيسخرهم بأمر((كن فيكون)) تسخيرًا كاملًا.. ومَن عنده خلق الربيع يسير وهيّن كخلق زهرة واحدة، وإيجاد جميع الحيوانات سهل على قدرته كإيجاد ذبابة واحدة. فلا ولن يُسأل للتعجيز صاحب هذه القدرة: ﴿مَنْ يُحيْىِ الْعِظَامَ﴾؟

ثم إنه بعبارة ﴿فَسُبْحَانَ الَّذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (يس:83) يبين أنه سبحانه بيده مقاليد كل شئ، وعنده مفاتيح كل شئ، يقلب الليل والنهار، والشتاء والصيف بكل سهولة ويسر كأنها صفحات كتاب، والدنيا والآخرة هما عنده كمنزلين يغلق هذا ويفتح ذاك. فما دام الأمر هكذا فإن نتيجة جميع الدلائل هي: ﴿وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي أنه يحييكم من القبر، ويسوقكم إلى الحشر، ويوفي حسابكم عند ديوانه المقدس.

وهكذا ترى أن هذه الآيات قد هيأت الأذهان، وأحضرت القلوب لقبول قضية الحشر، بما أظهرت نظائرها بأفعال في الدنيا.

هذا وقد يذكر القرآن أيضًا أفعالًا أخروية بشكل يحسس ويشير إلى نظائرها الدنيوية، ليمنع الإنكار والاستبعاد فمثلًا:

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ …﴾ إلى اخر السورة

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾ إلى آخر السورة

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾ إلى آخر السورة

فترى أن هذه السوّر تذكر الانقلابات العظيمة والتصرفات الربانية الهائلة بأسلوب يجعل القلب أسير دهشة هائلة يضيق العقل دونها ويبقى في حيرة. ولكن الإنسان ما أن يرى نظائرها في الخريف والربيع اِلاّ ويقبلها بكل سهولة ويسر. ولما كان تفسير السور الثلاث هذه يطول، لذا سنأخذ كلمة واحدة نموذجًا، فمثلًا:

﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ تفيد هذه الآية: ستنشر في الحشر جميع أعمال الفرد مكتوبة على صحيفة. وحيث أن هذه المسألة عجيبة بذاتها فلا يرى العقل إليها سبيلًا، اِلاّ أن السورة كما تشير إلى الحشر الربيعي وكما أن للنقاط الأخرى نظائرها وأمثلتها كذلك نظير نشر الصحف ومثالها واضح جلي. فلكل ثمر ولكل عشب ولكل شجر، أعمال وله أفعال وله وظائف وله عبودية وتسبيحات بالشكل الذي تظهر به الأسماء الإلهية الحسنى، فجميع هذه الأعمال مندرجة مع تاريخ حياته في بذوره ونواه كلها. وستظهر جميعها في ربيع آخر ومكان آخر. أي أنه كما يذكر بفصاحة بالغة أعمال أمهاته وأصوله بالصورة والشكل الظاهر، فإنه ينشر كذلك صحائف أعماله بنشر الأغصان وتفتح الأوراق والأثمار.

نعم، إن الذي يفعل هذا أمام أعيننا بكل حكمة وحفظ وتدبير وتربية ولطف هو الذي يقول ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾.

وهكذا قس النقاط الأخرى على هذا المنوال. وإن كانت لديك قوة استنباط فاستنبط.

ولأجل مساعدتك ومعاونتك سنذكر ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ أيضًا. فإن لفظ ((كُوِّرَتْ)) الذي يرد في هذا الكلام هو بمعنى: لُفّتْ وجُمعتْ، فهو مثال رائع ساطع فوق أنه يومئ إلى نظيره ومثيله في الدنيا:

اولًا: إن الله سبحانه وتعالى قد رفع ستائر العدم والأثير والسماء، عن جوهرة الشمس التي تضئ الدنيا كالمصباح، فأخرجها من خزينة رحمته وأظهرها إلى الدنيا. وسيلفّ تلك الجوهرة بأغلفتها عندما تنتهي هذه الدنيا وتنسد أبوابها.

ثانيًا: إن الشمس موظفة ومأمورة بنشر غلالات الضوء في الأسحار ولفّها في الأماسي، وهكذا يتناوب الليل والنهار عل هامة الأرض، وهي تجمع متاعها مقللة من تعاملها، أو قد يكون القمر -إلى حدٍ ما- نقابًا لأخذها وعطائها ذلك. أي كما أن هذه الموظفة تجمع متاعها وتطوي دفاتر أعمالها بهذه الأسباب فلابد من أن يأتي يوم تعفى من مهامها، وتفصل من وظيفتها، حتى أن لم يكن هناك سبب للإعفاء والعزل. ولعلّ توسع ما يشاهده الفلكيون على وجهها من البقعتين الصغيرتين الآن اللتين تتوسعان وتتضخمان رويدًا رويدًا، تسترجع الشمس -بهذا التوسع- وبأمر رباني ما لفّته ونشرته على رأس الأرض بإذن إلهي من الضوء، فتلف به نفسها. فيقول ربّ العزة: إلى هنا انتهت مهمتك مع الأرض، فهيّا إلى جهنم لتحرقي الذين عبدوك وأهانوا موظفة مسخرة مثلك وحقروها متهمين إياها بالخيانة وعدم الوفاء.

بهذا تقرأ الشمسُ الأمرَ الرباني ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ على وجهها المبقع.

 

القطعة الخامسة من الذيل

إن إخبار مائة وأربعة وعشرين ألفًا من المصطفين الأخيار وهم الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام -كما نص عليه الحديث- إخبارًا بالإجماع والتواتر مستندين إلى الشهود عند بعضهم وإلى حق اليقين عند آخرين، عن وجود الدار الآخرة، وإعلانهم بالإجماع أن الناس سيساقون إليها، وأن الخالق سبحانه وتعالى سيأتي بالدار الآخرة بلا ريب، مثلما وعد بذلك وعدًا قاطعًا.

وإن تصديق مائة وأربعة وعشرين مليونًا من الأولياء كشفًا وشهودًا ما أخبر به هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، وشهادتهم على وجود الآخرة بعلم اليقين دليل قاطع وأي دليل على وجود الآخرة..

وكذا، فإن تجلّيات جميع الأسماء الحسنى لخالق الكون المتجلّية في أرجاء العالم كله، تقتضي بالبداهة وجود عالم آخر خالد، وتدل دلالة واضحة على وجود الآخرة.

وكذا القدرة الإلهية وحكمتها المطلقة، التي لا إسراف فيها ولا عبث، والتي تحيي جنائز الأشجار الميّتة وهياكلها المنتصبة، تحييها وهي لا تعد ولا تحصى على سطح الأرض في كل ربيع، وفي كل سنة، بأمر ((كن فيكون)) وتجعلها علامة على ((البعث بعد الموت)) فتحشر ثلائمائة ألف نوع من طوائف النباتات وأمم الحيوانات وتنشرها، مظهرةً بذلك مئات الألوف من نماذج الحشر والنشور ودلائل وجود الآخرة.

وكذا الرحمة الواسعة التي تديم حياة جميع ذوي الأرواح المحتاجة إلى الرزق، وتعيّشها بكمال الرأفة عيشة خارقة للغاية. والعناية الدائمة التي تظهر أنواع الزينة والمحاسن بما لا يُعدّ ولا يحصى، في فترة قصيرة جدًا في كل ربيع. لا شك أنهما تستلزمان وجود الآخرة بداهة.

وكذا، عشق البقاء، والشوق إلى الأبدية وآمال السرمدية المغروزة غرزًا لا انفصام لها في فطرة هذا الإنسان الذي هو أكمل ثمرة لهذا الكون، وأحب مخلوق إلى خالق الكون، وهو أوثق صلة مع موجودات الكون كله، لا شك أنه يشير بالبداهة إلى وجود عالم باقٍ بعد هذا العالم الفاني، وإلى وجود عالم الآخرة ودار السعادة الأبدية.

فجميع هذه الدلائل تثبت بقطعية تامة -إلى حدّ يستلزم القبول- وجود الآخرة بمثل بداهة وجود الدنيا (حاشية) إن مدى السهولة في إخبار “الأمر الثبوتي” ومدى الصعوبة والأشكال في (نفي وإنكار) ذلك، يظهر في المثال الآتي:

إذا قال أحدهم: إن هناك على سطح الأرض حديقة خارقة جدًا ثمارها كعلب الحليب، وأنكر عليه الآخر قوله هذا قائلًا: لا، لا توجد مثل هذه الحديقة. فالأول يستطيع بكل سهولة أن يثبت دعواه. بمجرد إراءة مكان تلك الحديقة أو بعض ثمارها. أما الثاني (أي المنكر) فعليه أن يرى ويُري جميع أنحاء الكرة الأرضية لأجل أن يثبت نفيه، وهو عدم وجود مثل هذه الحديقة. وهكذا الأمر في الذين يخبرون عن الجنة، فإنهم يُظهرون مئات الآلاف من ترشحاتها، ويبيّنون ثمارها وأثارها، علمًا أن شاهدين صادقين منهم كافيان لاثبات دعواهم، بينما المنكرون لوجودها، لا يسعهم إثبات دعواهم إلاّ بعد مشاهدة الكون غير المحدود، والزمن غير المحدود، مع سبر غورها بالبحث والتفتيش، وعند عدم رؤيتهم لها، يمكنهم اثبات دعواهم!

فيا من بلغ به الكبر عتيًا ويا أيها الإخوة! اعلموا ما أعظم قوة الإيمان بالآخرة وما أشد رصانته!. المؤلف.

فما دام أهم درس يلقننا القرآن إياه هو ((الإيمان بالآخرة)) وهذا الدرس رصين ومتين إلى هذه الدرجة، وفي ذلك الإيمان نور باهر ورجاء شديد وسلوان عظيم ما لو اجتمعت مائة ألف شيخوخة في شخص واحد لكفاها ذلك النور، وذلك الرجاء، ذلك السلوان النابع من هذا الإيمان؛ لذا علينا نحن الشيوخ أن نفرح بشيخوختنا ونبتهج قائلين: ((الحمد لله على كمال الإيمان)).