ﺍﻟﻨﻘﻄﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ

ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺍلإﻳﻤﺎﻥ ﻧﻮﺭ ﻭﻫﻮ ﻗﻮﺓ ﺃﻳﻀﺎ. ﻓﺎلإﻧﺴﺎﻥُ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻈﻔﺮ ﺑﺎلإﻳﻤﺎﻥ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻳﺘﺤﺪﻯ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕِ ﻭﻳﺘﺨﻠﺺَ ﻣﻦ ﺿﻴﻖ ﺍﻟﺤﻮﺍﺩﺙِ، ﻣﺴﺘﻨﺪﺍ ﺇﻟﻰ ﻗﻮﺓِ ﺇﻳﻤﺎﻧﻪ ﻓﻴﺒﺤﺮُ ﻣﺘﻔﺮﺟﺎ ﻋﻠﻰ ﺳﻔﻴﻨﺔ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻓﻲ ﺧﻀﻢّ ﺃﻣﻮﺍﺝ ﺍلأﺣﺪﺍﺙ ﺍﻟﻌﺎﺗﻴﺔ ﺑﻜﻤﺎﻝ ﺍلأﻣﺎﻥ ﻭﺍﻟﺴـلاﻡ ﻗﺎﺋـلا: ﺗَﻮﻛَّﻠﺖُ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ، ﻭﻳﺴﻠّﻢ ﺃﻋﺒﺎﺀﻩ ﺍﻟﺜﻘﻴﻠﺔَ ﺃﻣﺎﻧﺔً ﺇﻟﻰ ﻳﺪِ ﺍﻟﻘُﺪﺭﺓِ ﻟﻠﻘﺪﻳﺮ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ، ﻭﻳﻘﻄﻊُ ﺑﺬﻟﻚ ﺳﺒﻴﻞَ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻣﻄﻤﺌﻦّ ﺍﻟﺒﺎﻝ ﻓﻲ ﺳﻬﻮﻟﺔٍ ﻭﺭﺍﺣﺔٍ ﺣﺘﻰ ﻳﺼﻞ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﺮﺯﺥ ﻭﻳﺴﺘﺮﻳﺢ، ﻭﻣﻦ ﺛﻢ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻳﺮﺗﻔﻊَ ﻃﺎﺋﺮﺍ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺠﻨﺔ ﻟﻠﺪﺧﻮﻝ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ ﺍلأﺑﺪﻳﺔ. ﺃﻣَّﺎ ﺇﺫﺍ ﺗﺮﻙ ﺍلإﻧﺴﺎﻥُ ﺍﻟﺘﻮﻛﻞَ ﻓـلا ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺍﻟﺘﺤﻠﻴﻖَ ﻭﺍﻟﻄﻴﺮﺍﻥَ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺠﻨﺔ ﻓﺤﺴﺐ ﺑﻞ ﺳﺘﺠﺬﺑﻪ ﺗﻠﻚ ﺍلأﺛﻘﺎﻝُ ﺇﻟﻰ ﺃﺳﻔﻞَ ﺳﺎﻓﻠﻴﻦ.

ﻓﺎلإﻳﻤﺎﻥ ﺇﺫﻥ ﻳﻘﺘﻀﻲ ﺍﻟﺘﻮﺣﻴﺪَ، ﻭﺍﻟﺘﻮﺣﻴﺪُ ﻳﻘﻮﺩُ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﺴﻠﻴﻢ، ﻭﺍﻟﺘﺴﻠﻴﻢُ ﻳُﺤﻘﻖ ﺍﻟﺘﻮﻛﻞَ، ﻭﺍﻟﺘﻮﻛﻞُ ﻳﺴﻬّﻞ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖَ ﺇﻟﻰ ﺳﻌﺎﺩﺓ ﺍﻟﺪﺍﺭَﻳﻦ. ﻭلا ﺗﻈﻨﻦ ﺃﻥ ﺍﻟﺘﻮﻛﻞَ ﻫﻮ ﺭﻓﺾُ ﺍلأﺳﺒﺎﺏ ﻭﺭﺩُّﻫﺎ ﻛﻠﻴﺎ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻋﺒﺎﺭﺓ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﻠﻢِ ﺑﺄﻥ ﺍلأﺳﺒﺎﺏَ ﻫﻲ ﺣُﺠُﺐ ﺑﻴَﺪِ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ، ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺭﻋﺎﻳﺘُﻬﺎ ﻭﻣﺪﺍﺭﺍﺗﻬﺎ، ﺃﻣﺎ ﺍﻟﺘﺸﺒﺚُ ﺑﻬﺎ ﺃﻭ ﺍلأﺧﺬُ ﺑﻬﺎ ﻓﻬﻮ ﻧﻮﻉ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﺍﻟﻔﻌﻠﻲ. ﻓﻄﻠﺐُ ﺍﻟﻤﺴَﺒَّﺒﺎﺕِ ﺇﺫﻥ ﻭﺗﺮﻗّﺐُ ﺍﻟﻨﺘﺎﺋﺞ لا ﻳﻜﻮﻥ ﺇلا ﻣِﻦ ﺍﻟﺤﻖِّ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ، ﻭﺃﻥّ ﺍﻟﻤﻨﺔَ ﻭﺍﻟﺤﻤﺪَ ﻭﺍﻟﺜﻨﺎﺀَ لا ﺗﺮﺟﻊُ ﺇلا ﺇﻟﻴﻪ ﻭﺣﺪَﻩ.

ﺇﻥ ﻣَﺜﻞَ ﺍﻟﻤﺘﻮﻛﻞِ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻏﻴﺮَ ﺍﻟﻤﺘﻮﻛﻞ ﻛَﻤﺜَﻞِ ﺭﺟﻠَﻴﻦ ﻗﺎﻣﺎ ﺑﺤﻤﻞ ﺃﻋﺒﺎﺀٍ ﺛﻘﻴﻠﺔٍ ﺣُﻤّﻠﺖْ ﻋﻠﻰ ﺭﺃﺳﻴﻬﻤﺎ ﻭﻋﺎﺗﻘﻬﻤﺎ، ﻓﻘﻄﻌﺎ ﺍﻟﺘﺬﺍﻛﺮ ﻭﺻﻌﺪﺍ ﺳﻔﻴﻨﺔً ﻋﻈﻴﻤﺔً، ﻓﻮﺿﻊَ ﺃﺣﺪﻫُﻤﺎ ﻣﺎ ﻋﻠﻰ ﻛﺎﻫِﻠﻪ ﺣﺎﻟﻤﺎ ﺩﺧﻞ ﺍﻟﺴﻔﻴﻨﺔَ ﻭﺟﻠﺲَ ﻋﻠﻴﻪ ﻳﺮﻗُﺒُﻪ، ﺃﻣﺎ ﺍلآﺧﺮُ ﻓﻠﻢ ﻳﻔﻌﻞ ﻣﺜﻠَﻪ ﻟﺤﻤﺎﻗﺘﻪ ﻭﻏﺮﻭﺭﻩ، ﻓﻘﻴﻞ ﻟﻪ: «ﺿَﻊْ ﻋﻨﻚ ﺣﻤﻠﻚَ ﺍﻟﺜﻘﻴﻞ ﻟﺘﺮﺗﺎﺡ ﻣﻦ ﻋﻨﺎﺋﻚ؟». ﻓﻘﺎﻝ: «ﻛـلا، ﺇﻧﻲ ﻟﺴﺖ ﻓﺎﻋـلا ﺫﺍﻙ ﻣﺨﺎﻓﺔَ ﺍﻟﻀﻴﺎﻉ، ﻓﺄﻧﺎ ﻋﻠﻰ ﻗﻮﺓٍ لا ﺃﻋﺒﺄ ﺑﺤﻤﻠﻲ، ﻭﺳﺄﺣﺘﻔﻆ ﺑﻤﺎ ﺃﻣﻠُﻜﻪ ﻓﻮﻕَ ﺭﺃﺳﻲ ﻭﻋﻠﻰ ﻇﻬﺮﻱ».

ﻓﻘﻴﻞ ﻟﻪ ﺛﺎﻧﻴﺔ: «ﻭﻟﻜﻦ ﺃﻳﻬﺎ ﺍلأﺥ ﺇﻥّ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺴﻔﻴﻨﺔَ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻧﻴﺔ ﺍلأﻣﻴﻨﺔَ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺄﻭﻳﻨﺎ ﻭﺗﺠﺮﻱ ﺑﻨﺎ ﻫﻲ ﺃﻗﻮﻯ ﻭﺃﺻﻠﺐُ ﻋﻮﺩﺍ ﻣﻨﺎ ﺟﻤﻴﻌﺎ. ﻭﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻬﺎ ﺍﻟﺤﻔﺎﻅُ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻭﻋﻠﻰ ﺃﻣﺘﻌﺘﻨﺎ ﺃﻛﺜﺮَ ﻣِﻦ ﺃﻧﻔﺴﻨﺎ، ﻓﺮﺑﻤﺎ ﻳُﻐﻤَﻰ ﻋﻠﻴﻚ ﻓﺘﻬﻮﻱ ﺑﻨﻔﺴِﻚ ﻭﺃﻣﺘﻌﺘﻚ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺤﺮ، ﻓﻀـلا ﻋﻦ ﺃﻧﻚ ﺗﻔﻘِﺪ ﻗﻮﺗَﻚ ﺭﻭﻳﺪﺍ ﺭﻭﻳﺪﺍ، ﻓﻜﺎﻫﻠُﻚ ﺍﻟﻬﺰﻳﻞ ﻫﺬﺍ ﻭﻫﺎﻣﺘُﻚ ﺍﻟﺨﺮﻗﺎﺀ ﻫﺬﻩ ﻟﻦ ﻳَﺴَﻌﻬﻤﺎ ﺑﻌﺪُ ﺣﻤﻞُ ﻫﺬﻩ ﺍلأﻋﺒﺎﺀ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﺰﺍﻳﺪ ﺭَﻫَﻘﺎ، ﻭﺇﺫﺍ ﺭﺁﻙ ﺭﺑّﺎﻥُ ﺍﻟﺴﻔﻴﻨﺔ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﺎﻟﺔ ﻓﺴﻴﻈﻨُّﻚ ﻣﺼﺎﺑﺎ ﺑﻤﺲٍّ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻨﻮﻥ ﻭﻓﺎﻗﺪﺍ ﻟﻠﻮﻋﻲ، ﻓﻴﻄﺮُﺩُﻙ ﻭﻳﻘﺬِﻑُ ﺑﻚَ ﺧﺎﺭﺟﺎ، ﺃﻭ ﻳﺄﻣﺮُ ﺑﺈﻟﻘﺎﺀ ﺍﻟﻘﺒﺾِ ﻋﻠﻴﻚ ﻭﻳُﻮﺩِﻋﻚ ﺍﻟﺴﺠﻦ ﻗﺎﺋـلا: ﺇﻥ ﻫﺬﺍ ﺧﺎﺋﻦ ﻳﺘّﻬﻢ ﺳﻔﻴﻨَﺘَﻨﺎ ﻭﻳﺴﺘﻬﺰﺉُ ﺑﻨﺎ، ﻭﺳﺘُﺼﺒﺢ ﺃﺿﺤﻮﻛﺔً ﻟﻠﻨﺎﺱ، لأﻧﻚ ﺑﺈﻇﻬﺎﺭﻙ ﺍﻟﺘﻜﺒّﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳُﺨﻔﻲ ﺿﻌﻔﺎ -ﻛﻤﺎ ﻳﺮﺍﻩ ﺃﻫﻞُ ﺍﻟﺒﺼﺎﺋﺮ- ﻭﺑﻐﺮﻭﺭِﻙ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺤﻤﻞ ﻋَﺠﺰﺍ، ﻭﺑﺘﺼﻨّﻌﻚ ﺍﻟﺬﻱ ﻳُﺒﻄﻦ ﺭﻳﺎﺀً ﻭﺫﻟﺔ، ﻗﺪ ﺟﻌﻠﺖَ ﻣﻦ ﻧﻔﺴﻚ ﺃﺿﺤﻮﻛﺔً ﻭﻣﻬﺰﻟﺔً. ﺃلا ﺗﺮﻯ ﺃﻥ ﺍﻟﻜﻞ ﺑﺎﺗﻮﺍ ﻳﻀﺤﻜﻮﻥ ﻣﻨﻚ ﻭﻳﺴﺘﺼﻐﺮﻭﻧﻚ..!»

ﻭﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﺳﻤﻊ ﻛﻞَّ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜـلاﻡ ﻋﺎﺩ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﺴﻜﻴﻦُ ﺇﻟﻰ ﺻﻮﺍﺑﻪ ﻓﻮﺿﻊ ﺣِﻤﻠَﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﺭﺽِ ﺍﻟﺴﻔﻴﻨﺔ ﻭﺟﻠﺲَ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﻗﺎﻝ: «ﺍﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ.. ﻟﻴﺮﺽَ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻚ ﻛﻞ ﺍﻟﺮﺿﺎ ﻓﻠﻘﺪ ﺃﻧﻘﺬﺗَﻨﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻌﺐ ﻭﺍﻟﻬﻮﺍﻥ ﻭﻣﻦ ﺍﻟﺴﺠﻦ ﻭﺍﻟﺴﺨﺮﻳﺔ».

ﻓﻴﺎ ﺃﻳﻬﺎ ﺍلإﻧﺴﺎﻥُ ﺍﻟﺒﻌﻴﺪُ ﻋﻦ ﺍﻟﺘﻮﻛﻞ! ﺍﺭﺟﻊْ ﺇﻟﻰ ﺻﻮﺍﺑﻚ ﻭﻋُﺪ ﺇﻟﻰ ﺭُﺷﺪﻙ ﻛﻬﺬﺍ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﻭﺗﻮﻛّﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻟﺘﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺎﺟﺔ ﻭﺍﻟﺘﺴﻮّﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ، ﻭﻟﺘﻨﺠﻮَ ﻣﻦ ﺍلاﺭﺗﻌﺎﺩ ﻭﺍﻟﻬﻠﻊ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺎﺕ، ﻭﻟﺘﻨﻘﺬَ ﻧﻔﺴَﻚ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﻳﺎﺀ ﻭﺍلاﺳﺘﻬﺰﺍﺀ ﻭﻣﻦ ﺍﻟﺸﻘﺎﺀ ﺍلأﺑﺪﻱ ﻭﻣﻦ ﺃﻏـلاﻝ ﻣﻀﺎﻳﻘﺎﺕ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ.

   ﺍﻟﻨﻘﻄﺔ ﺍﻟﺮﺍﺑﻌﺔ

ﺇﻥّ ﺍلإﻳﻤﺎﻥ ﻳﺠﻌﻞ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺇﻧﺴﺎﻧﺎ ﺣﻘﺎ، ﺑﻞ ﻳﺠﻌﻠﻪ ﺳﻠﻄﺎﻧﺎ؛ ﻟﺬﺍ ﻛﺎﻧﺖ ﻭﻇﻴﻔﺘُﻪ ﺍلأﺳﺎﺱ ﺍلإﻳﻤﺎﻥ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻭﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﺇﻟﻴﻪ. ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻜﻔﺮُ ﻳﺠﻌﻞ ﺍلإﻧﺴﺎﻥَ ﺣﻴﻮﺍﻧﺎ ﻣﻔﺘﺮﺳﺎ ﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﻌﺠﺰ.

ﻭﺳﻨﻮﺭﺩ ﻫﻨﺎ ﺩﻟﻴـلا ﻭﺍﺿﺤﺎ ﻭﺑﺮﻫﺎﻧﺎ ﻗﺎﻃﻌﺎ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﺁلاﻑ ﺍﻟﺪلاﺋﻞ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ، ﻭﻫﻮ: ﺍﻟﺘﻔﺎﻭﺕُ ﻭﺍﻟﻔﺮﻭﻕُ ﺑﻴﻦ ﻣﺠﻲﺀ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻥ ﻭﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺇﻟﻰ ﺩﺍﺭ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ.

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥ ﺍﻟﺘﻔﺎﻭﺕَ ﺑﻴﻦ ﻣﺠﻲﺀ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻥ ﻭﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﺍﻛﺘﻤﺎﻝَ ﺍلإﻧﺴﺎﻧﻴﺔِ ﻭﺍﺭﺗﻘﺎﺀﻫﺎ ﺇﻟﻰ ﺍلإﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﺤﻘﺔ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺑﺎلإﻳﻤﺎﻥ ﻭﺣﺪَﻩ؛ ﻭﺫﻟﻚ لأﻥ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻥَ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﺄﺗﻲ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻳﺄﺗﻲ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻛﺄﻧﻪ ﻗﺪ ﺃﻛﺘﻤﻞَ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢٍ ﺁﺧﺮٍ، ﻓﻴُﺮﺳَﻞُ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻣﺘﻜﺎﻣـلا ﺣﺴﺐ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻩ. ﻓﻴﺘﻌﻠﻢ ﻓﻲ ﻇﺮﻑ ﺳﺎﻋﺘﻴﻦ ﺃﻭ ﻳﻮﻣﻴﻦ ﺃﻭ ﺷﻬﺮﻳﻦ ﺟﻤﻴﻊَ ﺷﺮﺍﺋﻂ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻭﻋـلاﻗﺎﺗﻪ ﺑﺎﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ ﺍلأﺧﺮﻯ ﻭﻗﻮﺍﻧﻴﻦ ﺣﻴﺎﺗﻪ، ﻓﺘﺤﺼﻞُ ﻟﺪﻳﻪ ﻣَﻠَﻜﺔ؛ ﻓﻴﺘﻌﻠّﻢ ﺍﻟﻌﺼﻔﻮﺭُ ﺃﻭ ﺍﻟﻨﺤﻠﺔُ -ﻣﺜـلا- ﺍﻟﻘﺪﺭﺓَ ﺍﻟﺤﻴﺎﺗﻴﺔ ﻭﺍﻟﺴﻠﻮﻙَ ﺍﻟﻌﻤﻠﻲ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺍلإﻟﻬﺎﻡِ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻲ ﻭﻫﺪﺍﻳﺘِﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ. ﻭﻳﺤﺼﻞُ ﻓﻲ ﻋﺸﺮﻳﻦ ﻳﻮﻣﺎ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ لا ﻳﺘﻌﻠّﻤﻪ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺇلا ﻓﻲ ﻋﺸﺮﻳﻦ ﺳﻨﺔ. ﺇﺫﻥ ﺍﻟﻮﻇﻴﻔﺔُ ﺍلأﺳﺎﺱ ﻟﻠﺤﻴﻮﺍﻥ ﻟﻴﺴﺖ ﺍﻟﺘﻜﻤّﻞ ﻭﺍلاﻛﺘﻤﺎﻝ ﺑﺎﻟﺘﻌﻠّﻢ، ﻭلا ﺍﻟﺘﺮﻗﻲ ﺑﻜﺴﺐ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻭﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ، ﻭلا ﺍلاﺳﺘﻌﺎﻧﺔ ﻭﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﺑﺈﻇﻬﺎﺭ ﺍﻟﻌﺠﺰ. ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻭﻇﻴﻔﺘُﻪ ﺍلأﺻﻠﻴﺔ: ﺍﻟﻌﻤﻞُ ﺣﺴﺐ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻩ، ﺃﻱ ﺍﻟﻌﺒﻮﺩﻳﺔ ﺍﻟﻔﻌﻠﻴﺔ.

ﺃﻣﺎ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻓﻌﻠﻰ ﺍﻟﻌﻜﺲ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺗﻤﺎﻣﺎ، ﻓﻬﻮ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳَﻘْﺪَﻡ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻳﻘﺪَﻣُﻬﺎ ﻭﻫﻮ ﻣﺤﺘﺎﺝ ﺇﻟﻰ ﺗﻌﻠّﻢ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻭﺇﺩﺭﺍﻛﻪ؛ ﺇﺫ ﻫﻮ ﺟﺎﻫﻞ ﺑﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻛﺎﻓﺔً ﺟﻬـلا ﻣﻄﺒﻘﺎ، ﺣﺘﻰ ﺇﻧﻪ ﻗﺪ لا ﻳﺴﺘﻮﻋﺐ ﺷﺮﺍﺋﻂَ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺧـلاﻝ ﻋﺸﺮﻳﻦ ﺳﻨﺔ. ﺑﻞ ﻗﺪ ﻳﺒﻘﻰ ﻣﺤﺘﺎﺟﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻌﻠﻢ ﻭﺍﻟﺘﻔﻬّﻢ ﻣﺪﻯ ﻋﻤﺮﻩ. ﻓﻀـلا ﻋﻦ ﺃﻧﻪ ﻳُﺒﻌَﺚ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻭﻫﻮ ﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﻀَّﻌﻒ ﻭﺍﻟﻌَﺠﺰ ﺣﺘﻰ ﺇﻧﻪ لا ﻳﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﻴﺎﻡ ﻣﻨﺘﺼﺒﺎ ﺇلا ﺑﻌﺪ ﺳﻨﺘﻴﻦ ﻣﻦ ﻋﻤﺮﻩ، ﻭلا ﻳﻜﺎﺩ ﻳﻤﻴّﺰ ﺍﻟﻨﻔﻊَ ﻣﻦ ﺍﻟﻀﺮّ ﺇلا ﺑﻌﺪ ﺧﻤﺲ ﻋﺸﺮﺓ ﺳﻨﺔ، ﻭلا ﻳﻤﻜﻨﻪ ﺃﻥ ﻳﺤﻘّﻖ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﻣﻨﺎﻓﻊ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻭﻣﺼﺎﻟﺤَﻬﺎ ﻭلا ﺩﻓﻊَ ﺍﻟﻀﺮﺭ ﻋﻨﻬﺎ ﺇلا ﺑﺎﻟﺘﻌﺎﻭﻥ ﻭﺍلاﻧﺨﺮﺍﻁ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍلاﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ.

ﻳﺘﻀﺢ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺃﻥ ﻭﻇﻴﻔﺔ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻔﻄﺮﻳﺔ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻜﻤّﻞ ﺑـ«ﺍﻟﺘﻌﻠﻢ» ﺃﻱ ﺍﻟﺘﺮﻗﻲ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻛﺴﺐ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻭﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ، ﻭﺍﻟﻌﺒﻮﺩﻳﺔ ﺑـ«ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ». ﺃﻱ ﺃﻥ ﻳﺪﺭﻙ ﺑﻨﻔﺴﻪ ﻭﻳﺴﺘﻔﺴﺮ: «ﺑﺮﺣﻤﺔِ ﻣَﻦ ﻭﺷَﻔﻘﺘﻪ ﺃُﺩﺍﺭﻯ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﺮﻋﺎﻳﺔ ﺍﻟﺤﻜﻴﻤﺔ؟! ﻭﺑﻤَﻜْﺮﻣﺔِ ﻣَﻦ ﻭﺳﺨﺎﺋِﻪ ﺃُﺭﺑّﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﺍﻟﻤﻔﻌﻤﺔَ ﺑﺎﻟﺸﻔﻘﺔ ﻭﺍﻟﺮﺣﻤﺔ؟ ﻭﺑﺄﻟﻄﺎﻑِ ﻣَﻦ ﺑﻮﺟُﻮﺩِﻩ ﺃُﻏﺬّﻯ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﺮﺍﺯﻗﺔ ﺍﻟﺮﻗﻴﻘﺔ؟!». ﻓﻴﺮﻯ ﺃﻥّ ﻭﻇﻴﻔﺘَﻪ ﺣﻘﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀُ ﻭﺍﻟﺘﻀﺮﻉُ ﻭﺍﻟﺘﻮﺳﻞُ ﻭﺍﻟﺮﺟﺎﺀُ ﺑﻠﺴﺎﻥ ﺍﻟﻔﻘﺮ ﻭﺍﻟﻌﺠﺰ ﺇﻟﻰ ﻗﺎﺿﻲ ﺍﻟﺤﺎﺟﺎﺕ ﻟﻴﻘﻀﻲ ﻟﻪ ﻃﻠﺒﺎﺗﻪ ﻭﺣﺎﺟﺎﺗﻪ ﺍﻟﺘﻲ لا ﺗﺼﻞ ﻳﺪُﻩ ﺇﻟﻰ ﻭﺍﺣﺪﺓٍ ﻣﻦ ﺍلأﻟﻒِ ﻣﻨﻬﺎ. ﻭﻫﺬﺍ ﻳﻌﻨﻲ ﺃﻥ ﻭﻇﻴﻔﺘﻪ ﺍلأﺳﺎﺱ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﺤﻠﻴﻖ ﻭﺍلاﺭﺗﻔﺎﻉ ﺑﺠﻨﺎﺣَﻲ «ﺍﻟﻌﺠﺰ ﻭﺍﻟﻔﻘﺮ» ﺇﻟﻰ ﻣﻘﺎﻡ ﺍﻟﻌﺒﻮﺩﻳﺔ ﺍﻟﺴﺎﻣﻲ.

ﺇﺫﻥ ﻓﻠﻘﺪ ﺟﻲﺀ ﺑﻬﺬﺍ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ لأﺟﻞ ﺃﻥ ﻳﺘﻜﺎﻣﻞَ ﺑﺎﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﻭﺍﻟﺪﻋﺎﺀ؛ لأﻥ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻓﻴﻪ ﻣﻮﺟَّﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻭﻣﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺣﺴﺐَ ﺍﻟﻤﺎﻫﻴﺔ ﻭﺍلاﺳﺘﻌﺪﺍﺩ. ﻓﺄﺳﺎﺱُ ﻛﻞِّ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻭﻣﻌﺪﻧُﻬﺎ ﻭﻧﻮﺭُﻫﺎ ﻭﺭﻭﺣُﻬﺎ ﻫﻮ «ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ» ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺃﺱَّ ﻫﺬﺍ ﺍلأﺳﺎﺱ ﻫﻮ «ﺍلإﻳﻤﺎﻥُ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﺟﻞ ﻭﻋـلا».

ﻭﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻣﻌﺮَّﺽ ﻟﻤﺎ لا ﻳُﺤﺼﻰ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﺒـلاﻳﺎ ﻭﺍﻟﻤﺼﺎﺋﺐ ﻭﻣﻬﺎﺟﻤﺔ ﺍلأﻋﺪﺍﺀ ﻟﻤﺎ ﻳﺤﻤﻞ ﻣﻦ ﻋﺠﺰٍ ﻣﻄﻠﻖٍ. ﻭﻟﻪ ﻣﻄﺎﻟﺐ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﻭﺣﺎﺟﺎﺕ ﻋﺪﻳﺪﺓ ﻣﻊ ﺃﻧﻪ ﻓﻲ ﻓﻘﺮٍ ﻣﺪﻗﻊ لا ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻪ؛ ﻟﺬﺍ ﺗﻜﻮﻥ ﻭﻇﻴﻔﺘُﻪ ﺍﻟﻔﻄﺮﻳﺔُ ﺍلأﺳﺎﺱ «ﺍﻟﺪﻋﺎﺀَ» ﺑﻌﺪ ﺍلإﻳﻤﺎﻥ، ﻭﻫﻮ ﺃﺳﺎﺱُ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ ﻭﻣﺨُّﻬﺎ. ﻓﻜﻤﺎ ﻳﻠﺠﺄ ﺍﻟﻄﻔﻞُ ﺍﻟﻌﺎﺟﺰُ ﻋﻦ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻣﺮﺍﻣﻪ ﺃﻭ ﺗﻨﻔﻴﺬ ﺭﻏﺒﺘﻪ ﺑﻤﺎ لا ﺗﺼﻞ ﺇﻟﻴﻪ ﻳﺪُﻩ، ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﻜﺎﺀ ﻭﺍﻟﻌﻮﻳﻞ ﺃﻭ ﻳﻄﻠﺐ ﻣﺄﻣﻮﻟَﻪ، ﺃﻱ ﻳﺪﻋﻮ ﺑﻠﺴﺎﻥ ﻋﺠﺰﻩ ﺇﻣﺎ ﻗﻮلا ﺃﻭ ﻓﻌـلا ﻓﻴﻮﻓَّﻖ ﺇﻟﻰ ﻣﻘﺼﻮﺩﻩ ﺫﺍﻙ، ﻛﺬﻟﻚ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺃﻟﻄﻒُ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍلأﺣﻴﺎﺀ ﻭﺃﻋﺠﺰُﻫﺎ ﻭﺃﻓﻘﺮُﻫﺎ ﻭﻫﻮ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﺻﺒﻲٍّ ﺿﻌﻴﻒٍ ﻟﻄﻴﻒٍ، ﻓـلاﺑﺪّ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺃﻥ ﻳﺄﻭﻱ ﺇﻟﻰ ﻛﻨﻒِ ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ ﻭﺍلاﻧﻄﺮﺍﺡَ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻳﻪ ﺇﻣﺎ ﺑﺎﻛﻴﺎ ﻣﻌﺒﺮﺍ ﻋﻦ ﺿﻌﻔﻪ ﻭﻋﺠﺰﻩ، ﺃﻭ ﺩﺍﻋﻴﺎ ﺑﻔﻘﺮﻩ ﻭﺍﺣﺘﻴﺎﺟﻪ، ﺣﺘﻰ ﺗُﻠَﺒّﻰ ﺣﺎﺟﺘُﻪ ﻭﺗُﻨﻔَّﺬ ﺭﻏﺒﺘُﻪُ. ﻭﻋﻨﺪﺋﺬٍ ﻳﻜﻮﻥ ﻗﺪ ﺃﺩّﻯ ﺷﻜﺮَ ﺗﻠﻚ ﺍلإﻏﺎﺛﺎﺕ ﻭﺍﻟﺘﻠﺒﻴﺎﺕ ﻭﺍﻟﺘﺴﺨﻴﺮﺍﺕ. ﻭﺇلا ﺇﺫﺍ ﻗﺎﻝ ﺑﻐﺮﻭﺭٍ ﻛﺎﻟﻄﻔﻞ ﺍلأﺣﻤﻖ: «ﺃﻧﺎ ﺃﺗﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﺃﺳﺨّﺮَ ﺟﻤﻴﻊ ﻫﺬﻩ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻭﺃﺳﺘﺤﻮﺫَ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺄﻓﻜﺎﺭﻱ ﻭﺗﺪﺑﻴﺮﻱ» ﻭﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻔﻮﻕ ﺃﻟﻮﻑ ﺍﻟﻤﺮﺍﺕ ﻗﻮﺗَﻪ ﻭﻃﺎﻗَﺘﻪ! ﻓﻠﻴﺲ ﺫﻟﻚ ﺇلا ﻛﻔﺮﺍﻥ ﺑﻨِﻌَﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ، ﻭﻣﻌﺼﻴﺔ ﻛﺒﻴﺮﺓ ﺗُﻨﺎﻓﻲ ﺍﻟﻔﻄﺮﺓَ ﺍلإﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻭﺗﻨﺎﻗﻀُﻬﺎ، ﻭﺳﺒﺐ ﻟﺠﻌﻞ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺴﺘﺤﻘّﺎ ﻟﻌﺬﺍﺏٍ ﺃﻟﻴﻢٍ.

   ﺍﻟﻨﻘﻄﺔ ﺍﻟﺨﺎﻣﺴﺔ

ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺍلإﻳﻤﺎﻥ ﻳﻘﺘﻀﻲ «ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ» ﻭﻳﺘّﺨﺬُﻩ ﻭﺳﻴﻠﺔً ﻗﺎﻃﻌﺔً ﻭﻭﺳﺎﻃﺔً ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﺆﻣﻦ ﻭﺭﺑّﻪ، ﻭﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﻔﻄﺮﺓَ ﺍلإﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺗﺘﻠﻬﻒ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﺸﺪﺓٍ ﻭﺷﻮﻕ، ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ ﺃﻳﻀﺎ ﻳﺪﻋﻮ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺇﻟﻰ ﺍلأﻣﺮ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻘﻮﻟﻪ: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ (ﺍﻟﻔﺮﻗﺎﻥ:٧٧) ﻭﺑﻘﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (ﻏﺎﻓﺮ:60).

ﻭﻟﻌﻠﻚ ﺗﻘﻮﻝ: «ﺇﻧﻨﺎ ﻛﺜﻴﺮﺍ ﻣﺎ ﻧﺪﻋﻮ ﺍﻟﻠﻪ ﻓـلا ﻳُﺴﺘﺠﺎﺏُ ﻟﻨﺎ ﺭﻏﻢ ﺃﻥ ﺍلآﻳﺔَ ﻋﺎﻣﺔ ﺗُﺼﺮّﺡ ﺑﺄﻥّ ﻛﻞ ﺩﻋﺎﺀٍ ﻣﺴﺘﺠﺎﺏ».

ﺍﻟﺠﻮﺍﺏ: ﺇﻥّ ﺍﺳﺘﺠﺎﺑﺔَ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﺷﻲﺀ، ﻭﻗﺒﻮﻟَﻪ ﺷﻲﺀ ﺁﺧﺮ. ﻓﻜﻞُّ ﺩﻋﺎﺀٍ ﻣﺴﺘﺠﺎﺏ، ﺇلا ﺃﻥ ﻗﺒﻮﻟَﻪ ﻭﺗﻨﻔﻴﺬَ ﺍﻟﻤﻄﻠﻮﺏ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻨﻮﻁ ﺑﺤﻜﻤﺔِ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ.

ﻓﻤﺜـلا: ﻳﺴﺘﺼﺮﺥ ﻃﻔﻞ ﻋﻠﻴﻞ ﺍﻟﻄﺒﻴﺐَ ﻗﺎﺋـلا: ﺃﻳﻬﺎ ﺍﻟﻄﺒﻴﺐ ﺍﻧﻈﺮْ ﺇﻟﻲّ ﻭﺍﻛﺸِﻒْ ﻋﻨﻲ. ﻓﻴﻘﻮﻝ ﺍﻟﻄﺒﻴﺐ: ﺃﻣﺮُﻙ ﻳﺎ ﺻﻐﻴﺮﻱ. ﻓﻴﻘﻮﻝ ﺍﻟﻄﻔﻞ: ﺍﻋﻄﻨﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺪﻭﺍﺀ. ﻓﺎﻟﻄﺒﻴﺐُ ﺣﻴﻨﺬﺍﻙ ﺇﻣّﺎ ﺃﻧﻪ ﻳُﻌﻄﻴﻪ ﺍﻟﺪﻭﺍﺀ ﻧﻔﺴَﻪ، ﺃﻭ ﻳﻌﻄﻴﻪ ﺩﻭﺍﺀً ﺃﻛﺜﺮ ﻧﻔﻌﺎ ﻭﺃﻓﻀﻞ ﻟﻪ، ﺃﻭ ﻳﻤﻨﻊ ﻋﻨﻪ ﺍﻟﻌـلاﺝَ ﻧﻬﺎﺋﻴﺎ. ﻭﺫﻟﻚ ﺣﺴﺒﻤﺎ ﺗﻘﺘﻀﻴﻪ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔُ ﻭﺍﻟﻤﺼﻠﺤﺔُ.

ﻭﻛﺬﻟﻚ ﺍﻟﺤﻖ ﺗﺒﺎﺭﻙ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ -ﻭﻟﻪ ﺍﻟﻤﺜﻞ ﺍلأﻋﻠﻰ- ﻓـلأﻧﻪ ﺣﻜﻴﻢ ﻣﻄﻠﻖ ﻭﺭﻗﻴﺐ ﺣﺴﻴﺐ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺁﻥ، ﻓﻬﻮ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻳﺴﺘﺠﻴﺐ ﺩﻋﺎﺀَ ﺍﻟﻌﺒﺪ، ﻭﺑﺎﺳﺘﺠﺎﺑﺘﻪ ﻳُﺰﻳﻞ ﻭﺣﺸَﺘﻪ ﺍﻟﻘﺎﺗﻤﺔَ ﻭﻏﺮﺑﺘَﻪ ﺍﻟﺮﻫﻴﺒﺔ، ﻣُﺒﺪلا ﺇﻳﺎﻫﺎ ﺃﻣـلا ﻭﺃﻧﺴﺎ ﻭﺍﻃﻤﺌﻨﺎﻧﺎ. ﻭﻫﻮ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺇﻣﺎ ﺃﻧﻪ ﻳَﻘﺒﻞ ﻣَﻄﻠﺐَ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻭﻳﺴﺘﺠﻴﺐ ﻟﺪﻋﺎﺋﻪ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ، ﺃﻭ ﻳﻤﻨﺤﻪ ﺃﻓﻀﻞَ ﻣﻨﻪ، ﺃﻭ ﻳﺮﺩّﻩ، ﻭﺫﻟﻚ ﺣﺴﺐ ﺍﻗﺘﻀﺎﺀ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ، لا ﺣﺴﺐَ ﺃﻫﻮﺍﺀ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﺍﻟﻤﺘﺤﻜﻤﺔ ﻭﺃﻣﺎﻧﻴّﻪ ﺍﻟﻔﺎﺳﺪﺓ.

ﻭﻛﺬﺍ، ﻓﺎﻟﺪﻋﺎﺀ ﻫﻮ ﺿﺮﺏ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺒﻮﺩﻳﺔ، ﻭﺛﻤﺎﺭُ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ ﻭﻓﻮﺍﺋﺪُﻫﺎ ﺃﺧﺮﻭﻳﺔ. ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻤﻘﺎﺻﺪُ ﺍﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ ﻓﻬﻲ «ﺃﻭﻗﺎﺕُ» ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻨﻮﻉ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﻭﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ، ﻭﻟﻴﺴﺖ ﻏﺎﻳﺎﺗﻬﺎ.

ﻓﻤﺜـلا: ﺻـلاﺓُ ﺍلاﺳﺘﺴﻘﺎﺀ ﻧﻮﻉ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ، ﻭﺍﻧﻘﻄﺎﻉ ﺍﻟﻤﻄﺮ ﻫﻮ ﻭﻗﺖُ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ. ﻓﻠﻴﺴﺖ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓُ ﻭﺫﻟﻚ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ لأﺟﻞ ﻧﺰﻭﻝِ ﺍﻟﻤﻄﺮ. ﻓﻠﻮ ﺃﺩّﻳَﺖْ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓُ لأﺟﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻨﻴﺔ ﻭﺣﺪَﻫﺎ ﺇﺫﻥ ﻟﻜﺎﻧﺖ ﻏﻴﺮ ﺣﺮﻳّﺔ ﺑﺎﻟﻘﺒﻮﻝ، ﺣﻴﺚ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺧﺎﻟﺼﺔً ﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ..

ﻭﻛﺬﺍ ﻭﻗﺖُ ﻏﺮﻭﺏِ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻫﻮ ﺇﻋـلاﻥ ﻋﻦ ﺻـلاﺓ ﺍﻟﻤﻐﺮﺏ، ﻭﻭﻗﺖُ ﻛﺴﻮﻑ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﺧﺴﻮﻑ ﺍﻟﻘﻤﺮ ﻫﻮ ﻭﻗﺖُ ﺻـلاﺓِ ﺍﻟﻜﺴﻮﻑ ﻭﺍﻟﺨﺴﻮﻑ. ﺃﻱ ﺇﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻳﺪﻋﻮ ﻋﺒﺎﺩَﻩ ﺇﻟﻰ ﻧﻮﻉٍ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ ﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﺍﻧﻜﺴﺎﻑ ﺁﻳﺔ ﺍﻟﻨﻬﺎﺭ ﻭﺍﻧﺨﺴﺎﻑ ﺁﻳﺔ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﺍﻟﻠﺘﻴﻦ ﺗﻮﻣﺌﺎﻥ ﻭﺗُﻌﻠﻨﺎﻥ ﻋﻈﻤﺘَﻪُ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ. ﻭﺇلا ﻓﻠﻴﺴﺖ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ لاﻧﺠـلاﺀ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﺍﻟﻘﻤﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻣﻌﻠﻮﻡ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻔﻠﻜﻲ..

ﻓﻜﻤﺎ ﺃﻥ ﺍلأﻣﺮ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﻫﻜﺬﺍ ﻓﻜﺬﻟﻚ ﻭﻗﺖُ ﺍﻧﺤﺒﺎﺱ ﺍﻟﻤﻄﺮ ﻫﻮ ﻭﻗﺖُ ﺻـلاﺓِ ﺍلاﺳﺘﺴﻘﺎﺀ، ﻭﺗﻬﺎﻓﺖُ ﺍﻟﺒـلاﻳﺎ ﻭﺗﺴﻠﻂُ ﺍﻟﺸﺮﻭﺭ ﻭﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺍﻟﻤﻀﺮﺓ ﻫﻮ ﻭﻗﺖُ ﺑﻌﺾ ﺍلأﺩﻋﻴﺔ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ، ﺣﻴﺚ ﻳﺪﺭﻙ ﺍلإﻧﺴﺎﻥُ ﺣﻴﻨﺌﺬٍ ﻋﺠﺰَﻩ ﻭﻓﻘﺮَﻩ ﻓﻴﻠﻮﺫ ﺑﺎﻟﺪﻋﺎﺀ ﻭﺍﻟﺘﻀﺮﻉ ﺇﻟﻰ ﺑﺎﺏ ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ. ﻭﺇﺫﺍ ﻟﻢ ﻳﺪﻓﻊ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺒـلاﻳﺎ ﻭﺍﻟﻤﺼﺎﺋﺐَ ﻭﺍﻟﺸﺮﻭﺭ ﻣﻊ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﺍﻟﻤﻠﺢّ، ﻓـلا ﻳُﻘﺎﻝُ: ﺇﻥ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀَ ﻟﻢ ﻳُﺴﺘﺠﺐْ، ﺑﻞ ﻳﻘﺎﻝ: ﺇﻥّ ﻭﻗﺖ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﻟﻢ ﻳﻨﻘﺾِ ﺑﻌﺪُ. ﻭﺇﺫﺍ ﻣﺎ ﺭﻓﻊ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺑﻔﻀﻠﻪ ﻭﻛﺮﻣﻪ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺒـلاﻳﺎ ﻭﻛﺸﻒَ ﺍﻟﻐﻤﺔَ ﻓﻘﺪ ﺍﻧﺘﻬﻰ ﻭﻗﺖُ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﺇﺫﻥ ﻭﺍﻧﻘﻀﻰ.

ﻭﺑﻬﺬﺍ ﻓﺎﻟﺪﻋﺎﺀ ﺳﺮّ ﻣﻦ ﺃﺳﺮﺍﺭ ﺍﻟﻌﺒﻮﺩﻳﺔ. ﻭﺍﻟﻌﺒﻮﺩﻳﺔ لاﺑﺪ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺧﺎﻟﺼﺔً ﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﻠﻪ، ﺑﺄﻥ ﻳﺄﻭﻱ ﺍلإﻧﺴﺎﻥُ ﺇﻟﻰ ﺭﺑِّﻪ ﺑﺎﻟﺪﻋﺎﺀ ﻣُﻈﻬﺮﺍ ﻋﺠﺰَﻩ، ﻣﻊ ﻋﺪﻡ ﺍﻟﺘﺪﺧﻞ ﻓﻲ ﺇﺟﺮﺍﺀﺍﺕ ﺭﺑﻮﺑﻴﺘﻪ، ﺃﻭ ﺍلاﻋﺘﺮﺍﺽ ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﻭﺗﺴﻠﻴﻢُ ﺍلأﻣﺮ ﻭﺍﻟﺘﺪﺑﻴﺮ ﻛﻠّﻪ ﺇﻟﻴﻪ ﻭﺣﺪَﻩ، ﻣﻊ ﺍلاﻋﺘﻤﺎﺩ ﻋﻠﻰ ﺣﻜﻤﺘﻪ ﻣﻦ ﺩﻭﻥ ﺍﺗﻬﺎﻡٍ ﻟﺮﺣﻤﺘﻪ ﻭلا ﺍﻟﻘﻨﻮﻁ ﻣﻨﻬﺎ.

ﻧﻌﻢ، ﻟﻘﺪ ﺛﺒﺖ ﺑﺎلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﺒﻴّﻨﺎﺕ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻓﻲ ﻭﺿﻊِ ﺗﺴﺒﻴﺢٍ ﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ؛ ﻛﻞ ﺑﺘﺴﺒﻴﺢ ﺧﺎﺹ، ﻓﻲ ﻋﺒﺎﺩﺓ ﺧﺎﺻﺔ، ﻓﻲ ﺳﺠﻮﺩ ﺧﺎﺹ، ﻓﺘﺘﻤﺨّﺾ ﻋﻦ ﻫﺬﻩ ﺍلأﻭﺿﺎﻉ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ لا ﺗﻌﺪّ ﻭلا ﺗﺤﺼﻰ ﺳﺒُﻞُ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﺍﻟﻤﺆﺩﻳﺔ ﺇﻟﻰ ﻛﻨﻒ ﺭﺏٍّ ﻋﻈﻴﻢ.

ﺇﻣﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ «ﻟﺴﺎﻥ ﺍلاﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﻭﺍﻟﻘﺎﺑﻠﻴﺔ»؛ ﻛﺪﻋﺎﺀ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻨﺒﺎﺗﺎﺕ ﻭﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﺎﺕ ﻗﺎﻃﺒﺔ، ﺣﻴﺚ ﻳﺒﺘﻐﻲ ﻛﻞُّ ﻭﺍﺣﺪٍ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﻴّﺎﺽ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ ﺻﻮﺭﺓً ﻣﻌﻴﻨﺔً ﻟﻪ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻌﺎﻥٍ لأﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ. ﺃﻭ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ «ﻟﺴﺎﻥ ﺍﻟﺤﺎﺟﺔ ﺍﻟﻔﻄﺮﻳﺔ» ﻛﺄﺩﻋﻴﺔ ﺟﻤﻴﻊ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍلأﺣﻴﺎﺀ ﻟﻠﺤﺼﻮﻝ ﻋﻠﻰ ﺣﺎﺟﺎﺗﻬﺎ ﺍﻟﻀﺮﻭﺭﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺧﺎﺭﺟﺔ ﻋﻦ ﻗﺪﺭﺗﻬﺎ، ﻓﻴﻄﻠﺐ ﻛﻞّ ﺣﻲٍ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻮﺍﺩ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ؛ ﺑﻠﺴﺎﻥ ﺣﺎﺟﺘﻪ ﺍﻟﻔﻄﺮﻳﺔ ﻋﻨﺎﺻﺮَ ﺍﺳﺘﻤﺮﺍﺭ ﻭﺟﻮﺩﻩ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺭﺯﻗﻬﺎ. ﺃﻭ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ «ﻟﺴﺎﻥ ﺍلاﺿﻄﺮﺍﺭ»، ﻛﺪﻋﺎﺀ ﺍﻟﻤﻀﻄﺮّ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺘﻀﺮﻉ ﺗﻀﺮﻋﺎ ﻛﺎﻣـلا ﺇﻟﻰ ﻣﻮلاﻩ ﺍﻟﻤﻐﻴﺐ، ﺑﻞ لا ﻳﺘﻮﺟّﻪ ﺇلا ﺇﻟﻰ ﺭﺑّﻪ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻠﺒّﻲ ﺣﺎﺟﺘﻪ ﻭﻳﻘﺒﻞ ﺍﻟﺘﺠﺎﺀَﻩ. ﻓﻬﺬﻩ ﺍلأﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﺜـلاﺛﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﻣﻘﺒﻮﻟﺔ ﺇﻥ ﻟﻢ ﻳﻄﺮﺃ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻠُﻬﺎ ﻏﻴﺮ ﻣﻘﺒﻮﻟﺔ.

ﻭﺍﻟﻨﻮﻉ ﺍﻟﺮﺍﺑﻊ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ، ﻫﻮ «ﺩﻋﺎﺅﻧﺎ» ﺍﻟﻤﻌﺮﻭﻑ، ﻓﻬﻮ ﺃﻳﻀﺎ ﻧﻮﻋﺎﻥ:

ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ: ﺩﻋﺎﺀ ﻓﻌﻠﻲ ﻭﺣﺎﻟﻲ. ﻭﺛﺎﻧﻴﻬﻤﺎ: ﺩﻋﺎﺀ ﻗﻠﺒﻲ ﻭﻗﻮﻟﻲ.

ﻓﻤﺜـلا: ﺍلأﺧﺬُ ﺑﺎلأﺳﺒﺎﺏ ﻫﻮ ﺩﻋﺎﺀ ﻓﻌﻠﻲ، ﻋﻠﻤﺎ ﺃﻥّ ﺍﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍلأﺳﺒﺎﺏ ﻟﻴﺲ ﺍﻟﻤﺮﺍﺩُ ﻣﻨﻪ ﺇﻳﺠﺎﺩ ﺍﻟﻤﺴﺒَّﺐ. ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ لاﺗﺨﺎﺫ ﻭﺿﻊ ﻣـلاﺋﻢ ﻭﻣُﺮﺽٍ ﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻟِﻄَﻠَﺐ ﺍﻟﻤﺴﺒَّﺐ ﻣﻨﻪ ﺑﻠﺴﺎﻥ ﺍﻟﺤﺎﻝ. ﺣﺘﻰ ﺇﻥ ﺍﻟﺤﺮﺍﺛﺔَ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔِ ﻃَﺮْﻕِ ﺑﺎﺏِ ﺧﺰﻳﻨﺔِ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔِ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ. ﻭﻧﻈﺮﺍ ﻟﻜﻮﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻮﻉ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﺍﻟﻔﻌﻠﻲ ﻣﻮﺟّﻪ ﻧﺤﻮ ﺍﺳﻢ «ﺍﻟﺠﻮﺍﺩ» ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ ﻭﺇﻟﻰ ﻋﻨﻮﺍﻧﻪ ﻓﻬﻮ ﻣﻘﺒﻮﻝ لا ﻳُﺮﺩُّ ﻓﻲ ﺃﻛﺜﺮ ﺍلأﺣﻴﺎﻥ.

ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻘﺴﻢ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ: ﻓﻬﻮ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﺑﺎﻟﻠﺴﺎﻥ ﻭﺍﻟﻘﻠﺐ. ﺃﻱ ﻃﻠﺐُ ﺍﻟﺤﺼﻮﻝِ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻄﺎﻟﺐ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻘﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺘﺤﻘﻴﻖ ﻭﺍﻟﺤﺎﺟﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ لا ﺗﺼﻞُ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺍﻟﻴﺪُ. ﻓﺄﻫﻢُّ ﺟﻬﺔٍ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﻭﺃﻟﻄﻒُ ﻏﺎﻳﺎﺗﻪ ﻭﺃﻟﺬُّ ﺛﻤﺮﺍﺗﻪ ﻫﻮ ﺃﻥ ﺍﻟﺪﺍﻋﻲ ﻳُﺪﺭﻙ ﺃﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﻣَﻦ ﻳﺴﻤﻊ ﺧﻮﺍﻃﺮَ ﻗﻠﺒﻪ، ﻭﺗﺼﻞ ﻳﺪُﻩ ﺇﻟﻰ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ، ﻭﻣَﻦ ﻫﻮ ﺍﻟﻘﺎﺩﺭُ ﻋﻠﻰ ﺗﻠﺒﻴﺔ ﺟﻤﻴﻊ ﺭﻏﺒﺎﺗﻪ ﻭﺁﻣﺎﻟِﻪ، ﻭﻣَﻦ ﻳﺮﺣﻢ ﻋﺠﺰَﻩ ﻭﻳُﻮﺍﺳﻲ ﻓﻘﺮَﻩ.

ﻓﻴﺎ ﺃﻳﻬﺎ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻌﺎﺟﺰ ﺍﻟﻔﻘﻴﺮ! ﺇﻳﺎﻙ ﺃﻥ ﺗﺘﺨﻠّﻰ ﻋﻦ ﻣﻔﺘﺎﺡ ﺧﺰﻳﻨﺔِ ﺭﺣﻤﺔٍ ﻭﺍﺳﻌﺔٍ ﻭﻣﺼﺪﺭ ﻗﻮﺓٍ ﻣﺘﻴﻨﺔ، ﺃلا ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀُ. ﻓﺘﺸﺒَّﺚْ ﺑﻪ ﻟﺘﺮﺗﻘﻲَ ﺇﻟﻰ ﺃﻋﻠﻰ ﻋﻠّﻴﻲ ﺍلإﻧﺴﺎﻧﻴﺔ، ﻭﺍﺟﻌﻞ ﺩﻋﺎﺀَ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ ﺟﺰﺀﺍ ﻣﻦ ﺩﻋﺎﺋﻚ. ﻭﻣﻦ ﻧﻔﺴﻚ ﻋﺒﺪﺍ ﻛﻠﻴﺎ ﻭﻭﻛﻴـلا ﻋﺎﻣﺎ ﺑﻘﻮﻟﻚ ﴿ﺇﻳﺎﻙَ ﻧَﺴْﺘَﻌﻴﻦُ﴾ ﻭﻛﻦ ﺃﺣﺴﻦَ ﺗﻘﻮﻳﻢٍ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﻜﻮﻥ.