ﺍﻟﻨﻘﻄﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ

ﺍﻟﺒﺪﺍﻋﺔ ﺍﻟﺨﺎﺭﻗﺔ ﻓﻲ ﺃﺳﻠﻮﺑﻪ: ﻧﻌﻢ، ﺇﻥ ﺃﺳﺎﻟﻴﺐ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻏﺮﻳﺒﺔ ﻭﺑﺪﻳﻌﺔ ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻬﺎ ﻋﺠﻴﺒﺔ ﻭﻣﻘﻨﻌﺔ، ﻟﻢ ﻳﻘﻠّﺪ ﺃﺣﺪﺍ ﻗﻂ ﻭلا ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﺣﺪ ﺃﻥ ﻳﻘﻠﺪﻩ. ﻓﻠﻘﺪ ﺣﺎﻓﻆ ﻭﻣﺎ ﻳﺰﺍﻝ ﻳﺤﺎﻓﻆ ﻋﻠﻰ ﻃﺮﺍﻭﺓ ﺃﺳﺎﻟﻴﺒﻪ ﻭﺷﺒﺎﺑﻴﺘﻪ ﻭﻏﺮﺍﺑﺘﻪ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻧﺰﻝ ﺃﻭﻝ ﻣﺮﺓ.

ﻓﻤﺜـلا: ﺇﻥّ ﺍﻟﺤﺮﻭﻑ ﺍﻟﻤﻘﻄّﻌﺔ ﺍﻟﻤﺬﻛﻮﺭﺓ ﻓﻲ ﺑﺪﺍﻳﺎﺕ ﻋﺪﺓٍ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻮَﺭ ﺗﺸﺒﻪ ﺍﻟﺸﻔﺮﺍﺕ؛ ﺃﻣﺜﺎﻝ: ﴿ﺍﻟﻢ﴾ ﴿ﺍﻟﺮ﴾ ﴿ﻃﻪ﴾ ﴿ﻳﺲ﴾ ﴿ﺣﻢ﴾ ﴿ﻋﺴﻖ﴾. ﻭﻗﺪ ﻛﺘﺒﻨﺎ ﻧﺤﻮ ﺳﺖٍ ﻣﻦ ﻟﻤﻌﺎﺕ ﺇﻋﺠﺎﺯﻫﺎ ﻓﻲ «ﺇﺷﺎﺭﺍﺕ ﺍلإﻋﺠﺎﺯ» ﻧﺬﻛﺮ ﻣﻨﻬﺎ:

ﺇﻥّ ﺍﻟﺤﺮﻭﻑ ﺍﻟﻤﺬﻛﻮﺭﺓ ﻓﻲ ﺑﺪﺍﻳﺎﺕ ﺍﻟﺴﻮﺭ ﺗُﻨﺼِّﻒ ﻛﻞَّ ﺃﺯﻭﺍﺝ ﻃﺒﺎﺋﻊ ﺍﻟﺤﺮﻭﻑ ﺍﻟﻬﺠﺎﺋﻴﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻬﻤﻮﺳﺔ ﻭﺍﻟﻤﺠﻬﻮﺭﺓ ﻭﺍﻟﺸﺪﻳﺪﺓ ﻭﺍﻟﺮﺧﻮﺓ.. ﻭﻏﻴﺮﻫﺎ ﻣﻦ ﺃﻗﺴﺎﻣﻬﺎ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮﺓ. ﺃﻣﺎ ﺍلأﻭﺗﺎﺭ -ﺍﻟﺘﻲ لا ﺗﻘﺒﻞ ﺍﻟﺘﻨﺼﻴﻒ- ﻓﻤﻦ ﺍﻟﺜﻘﻴﻞ ﺍﻟﻨﺼﻒ ﺍﻟﻘﻠﻴﻞ ﻛﺎﻟﻘﻠﻘﻠﺔ، ﻭﻣﻦ ﺍﻟﺨﻔﻴﻒ ﺍﻟﻨﺼﻒ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮ ﻛﺎﻟﺬلاﻗﺔ.

ﻓﺴﻠﻮﻛُﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻨﺼﻴﻒ ﻭﺍلأﺧﺬُ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ ﺍﻟﺨﻔﻲ ﺍﻟﺬﻱ لا ﻳﺪﺭﻛﻪ ﺍﻟﻌﻘﻞُ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻄﺮﻕ ﺍﻟﻤﺘﺪﺍﺧﻠﺔ ﺍﻟﻤﺘﺮﺩﺩﺓ ﺑﻴﻦ ﻣﺎﺋﺘﻲ ﺍﺣﺘﻤﺎﻝ، ﺛﻢ ﺳَﻮﻕ ﺍﻟﻜـلاﻡ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺴﻴﺎﻕ ﻭﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﻮﺍﺳﻊِ ﺍﻟﻤﺸﺘﺒﻬﺔِ ﺍلأﻋـلاﻡ ﻟﻴﺲ ﺑﺎلأﻣﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺄﺗﻲ ﻣﺼﺎﺩﻓﺔً ﻗﻂ، ﻭلا ﻫﻮ ﻣﻦ ﺷﺄﻥ ﺍﻟﺒﺸﺮ.

ﻓﻬﺬﻩ ﺍﻟﺤﺮﻭﻑُ ﺍﻟﻤﻘﻄﻌﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻓﻲ ﺃﻭﺍﺋﻞ ﺍﻟﺴﻮﺭ ﻭﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺷﻔﺮﺍﺕ ﻭﺭﻣﻮﺯ ﺇﻟﻬﻴﺔ ﺗﺒﻴّﻦ ﺧﻤﺴﺎ ﺃﻭ ﺳﺘﺎ ﻣﻦ ﺃﺳﺮﺍﺭ ﻟﻤﻌﺎﺕ ﺇﻋﺠﺎﺯ ﺃﺧﺮﻯ، ﺑﻞ ﺇﻥ ﻋﻠﻤﺎﺀَ ﻋﻠﻢ ﺃﺳﺮﺍﺭ ﺍﻟﺤﺮﻭﻑ ﻭﺍﻟﻤﺤﻘﻘﻴﻦ ﻣﻦ ﺍلأﻭﻟﻴﺎﺀ ﻗﺪ ﺍﺳﺘﺨﺮﺟﻮﺍ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻘﻄّﻌﺎﺕ ﺃﺳﺮﺍﺭﺍ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ، ﻭﻭﺟﺪﻭﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﻣﺎ ﻳﺜﺒﺖ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﻘﻄﻌﺎﺕ ﻣﻌﺠﺰﺓ ﺑﺎﻫﺮﺓ ﺑﺤﺪ ﺫﺍﺗﻬﺎ. ﺃﻣﺎ ﻧﺤﻦ ﻓﻠﻦ ﻧﻔﺘﺢ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺒﺎﺏ لأﻧﻨﺎ ﻟﺴﻨﺎ ﺃﻫـلا لأﺳﺮﺍﺭﻫﻢ، ﺯﺩ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ لا ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻧﺜﺒﺘﻬﺎ ﺇﺛﺒﺎﺗﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﺸﻬﻮﺩﺍ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﺠﻤﻴﻊ. ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻧﻜﺘﻔﻲ ﺑﺎلإﺣﺎﻟﺔ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻓﻲ «ﺇﺷﺎﺭﺍﺕ ﺍلإﻋﺠﺎﺯ» ﻣﻦ ﺧﻤﺲِ ﺃﻭ ﺳﺖِ ﻟﻤﻌﺎﺕِ ﺇﻋﺠﺎﺯٍ ﺗﺨﺺ ﺍﻟﻤﻘﻄّﻌﺎﺕ.

ﻭﺍلآﻥ ﻧﺸﻴﺮ ﻋﺪﺓ ﺇﺷﺎﺭﺍﺕ ﺇﻟﻰ ﺃﺳﺎﻟﻴﺐ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ، ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭ ﺍﻟﺴﻮﺭﺓ، ﻭﺍﻟﻤﻘﺼﺪ، ﻭﺍلآﻳﺎﺕ، ﻭﺍﻟﻜـلاﻡ، ﻭﺍﻟﻜﻠﻤﺔ:

ﻓﻤﺜـلا: ﺳﻮﺭﺓ «ﺍﻟﻨﺒﺄ» ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ..﴾ ﺇﻟﻰ ﺁﺧﺮﻫﺎ، ﺇﺫﺍ ﺃُﻧﻌﻢ ﺍﻟﻨﻈﺮُ ﻓﻴﻬﺎ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﺼﻒ ﻭﺗُﺜﺒﺖ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﺍلآﺧﺮﺓ ﻭﺍﻟﺤﺸﺮ ﻭﺍﻟﺠﻨﺔ ﻭﺟﻬﻨﻢ ﺑﺄﺳﻠﻮﺏ ﺑﺪﻳﻊ ﻳُﻄَﻤﺌِﻦ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭﻳُﻘﻨﻌﻪ، ﺣﻴﺚ ﺗﺒﻴﻦ ﺃﻥ ﻣﺎ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻣﻦ ﺃﻓﻌﺎﻝ ﺇﻟﻬﻴﺔ ﻭﺁﺛﺎﺭ ﺭﺑﺎﻧﻴﺔٍ ﻣﺘﻮﺟﻬﺔٌ ﺇﻟﻰ ﻛﻞٍّ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍلأﺣﻮﺍﻝ ﺍلأﺧﺮﻭﻳﺔ. ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺇﻳﻀﺎﺡ ﺃﺳﻠﻮﺏ ﺍﻟﺴﻮﺭﺓ ﻛﻠِّﻬﺎ ﻳﻄﻮﻝ ﻋﻠﻴﻨﺎ، ﻓﺴﻨﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﻧﻘﻄﺔ ﺃﻭ ﻧﻘﻄﺘﻴﻦ ﻣﻨﻪ:

ﺗﻘﻮﻝ ﺍﻟﺴﻮﺭﺓ ﻓﻲ ﻣﺴﺘﻬﻠﻬﺎ ﺇﺛﺒﺎﺗﺎ ﻟﻴﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ: ﻟﻘﺪ ﺟﻌﻠﻨﺎ ﺍلأﺭﺽ ﻟﻜﻢ ﻣﻬﺪﺍ ﻗﺪ ﺑُﺴﻂَ ﺑﺴﻄﺎ ﺟﻤﻴـلا ﺯﺍﻫﻴﺎ.. ﻭﺍﻟﺠﺒﺎﻝَ ﺃﻋﻤﺪﺓ ﻭﺃﻭﺗﺎﺩﺍ ﻣﻠﻴﺌﺔ ﺑﺎﻟﺨﺰﺍﺋﻦ ﻟﻤﺴﺎﻛﻨﻜﻢ ﻭﺣﻴﺎﺗﻜﻢ.. ﻭﺧﻠﻘﻨﺎﻛﻢ ﺃﺯﻭﺍﺟﺎ ﺗﺘﺤﺎﺑّﻮﻥ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻜﻢ ﻭﻳﺄﻧﺲ ﺑﻌﻀُﻜﻢ ﺑﺒﻌﺾ.. ﻭﺟﻌﻠﻨﺎ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﺳﺎﺗﺮﺍ ﻟﻜﻢ ﻟﺘﺨﻠﺪﻭﺍ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺮﺍﺣﺔ.. ﻭﺍﻟﻨﻬﺎﺭَ ﻣﻴﺪﺍﻧﺎ ﻟﻤﻌﻴﺸﺘﻜﻢ.. ﻭﺍﻟﺸﻤﺲَ ﻣﺼﺒﺎﺣﺎ ﻣﻀﻴﺌﺎ ﻭﻣﺪﻓﺌﺎ ﻟﻜﻢ.. ﻭﺃﻧﺰﻟﻨﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺴُﺤﺐ ﻟﻜﻢ ﻣﺎﺀً ﺑﺎﻋﺜﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻳﺠﺮﻱ ﻣﺠﺮﻯ ﺍﻟﻌﻴﻮﻥ.. ﻭﻧُﻨﺸﺊُ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﻣﻦ ﻣﺎﺀ ﺑﺴﻴﻂ ﺃﺷﻴﺎﺀَ ﺷﺘﻰ ﻣﻦ ﻣُﺰﻫﺮ ﻭﻣُﺜﻤﺮ ﻳﺤﻤﻞ ﺃﺭﺯﺍﻗﻜﻢ.. ﻓﺈﺫﻥ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻔﺼﻞ، ﻭﻫﻮ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ، ﻳﻨﺘﻈﺮﻛﻢ. ﻭﺍلإﺗﻴﺎﻥ ﺑﻪ ﻟﻴﺲ ﺑﻌﺴﻴﺮ ﻋﻠﻴﻨﺎ.

ﻭﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﻳﺸﻴﺮ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺧﻔﻴﺔ ﺇﻟﻰ ﺇﺛﺒﺎﺕ ﻣﺎ ﻳﺤﺪﺙ ﻓﻲ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻣﻦ ﺳﻴﺮ ﺍﻟﺠﺒﺎﻝ ﻭﺗﻨﺎﺛﺮﻫﺎ، ﻭﺗﺸﻘﻖ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻭﺗﻬﻴﺆ ﺟﻬﻨﻢ، ﻭﻣﻨﺢ ﺍﻟﺠﻨﺔ ﺃﻫﻠَﻬﺎ ﺍﻟﺮﻳﺎﺽ ﺍﻟﺠﻤﻴﻠﺔ. ﻭﻛﺄﻧﻪ ﻳﻘﻮﻝ: ﺇﻥّ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻔﻌﻞ ﻫﺬﻩ ﺍلأﻓﻌﺎﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﺒﺎﻝ ﻭﺍلأﺭﺽ ﺑﻤﺮﺃﻯ ﻣﻨﻜﻢ ﺳﻴﻔﻌﻞ ﻣﺜﻠﻬﺎ ﻓﻲ ﺍلآﺧﺮﺓ. ﺃﻱ ﺇﻥ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺑﺪﺍﻳﺔ ﺍﻟﺴﻮﺭﺓ ﻣﻦ ﺟﺒﺎﻝ ﺗﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﺠﺒﺎﻝ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ، ﻭﺇﻥ ﺍﻟﺤﺪﺍﺋﻖ ﺍﻟﺘﻲ ﻓﻲ ﺻﺪﺭ ﺍﻟﺴﻮﺭﺓ ﺗﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺭﻳﺎﺽ ﺍﻟﺠﻨﺔ ﻓﻲ ﺍلآﺧﺮﺓ. ﻓﻘﺲ ﺳﺎﺋﺮ ﺍﻟﻨﻘﺎﻁ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﻟﺘﺸﺎﻫﺪ ﻋﻠﻮ ﺍلأﺳﻠﻮﺏ ﻭﻣﺪﻯ ﻟﻄﺎﻓﺘﻪ.

ﻭﻣﺜـلا: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (ﺁﻝ ﻋﻤﺮﺍﻥ:26-27)

ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ ﺗﺒﻴﻦ ﺑﺄﺳﻠﻮﺏ ﻋﺎﻝٍ ﺭﻓﻴﻊ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺑﻨﻲ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻣﻦ ﺷﺆﻭﻥ ﺇﻟﻬﻴﺔ، ﻭﻣﺎ ﻓﻲ ﺗﻌﺎﻗﺐ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻭﺍﻟﻨﻬﺎﺭ ﻣﻦ ﺗﺠﻠﻴﺎﺕ ﺇﻟﻬﻴﺔ، ﻭﻣﺎ ﻓﻲ ﻓﺼﻮﻝ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻣﻦ ﺗﺼﺮﻓﺎﺕ ﺭﺑﺎﻧﻴﺔ، ﻭﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻭﺍﻟﻤﻤﺎﺕ ﻭﺍﻟﺤﺸﺮ ﻭﺍﻟﻨﺸﺮ ﺍﻟﺪﻧﻴﻮﻱ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻪ ﺍلأﺭﺽ ﻣﻦ ﺇﺟﺮﺍﺀﺍﺕ ﺭﺑﺎﻧﻴﺔ.. ﻫﺬﺍ ﺍلأﺳﻠﻮﺏ ﻋﺎﻝٍ ﻭﺑﺪﻳﻊ ﺇﻟﻰ ﺣﺪ ﻳﺴﺨّﺮ ﻋﻘﻮﻝ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻨﻈﺮ. ﻭﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﻫﺬﺍ ﺍلأﺳﻠﻮﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻲ ﺳﺎﻃﻊ ﻳﻤﻜﻦ ﺭﺅﻳﺘﻪ ﺑﺄﺩﻧﻰ ﻧﻈﺮ ﻓـلا ﻧﻔﺘﺢ ﺍلآﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﻨﺰ.

ﻭﻣﺜـلا: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾ (ﺍلاﻧﺸﻘﺎﻕ:١-٥).

ﺗﺒﻴﻦ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺎﺕ ﻣﺪﻯ ﺍﻧﻘﻴﺎﺩ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻭﺍلأﺭﺽ ﻭﺍﻣﺘﺜﺎﻟﻬﻤﺎ ﺃﻭﺍﻣﺮَ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ، ﺗﺒﻴﻨﻬﺎ ﺑﺄﺳﻠﻮﺏ ﻋﺎﻝٍ ﺭﻓﻴﻊ؛ ﺇﺫ ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﻗﺎﺋﺪﺍ ﻋﻈﻴﻤﺎ ﻳﺆﺳﺲ ﺩﺍﺋﺮﺗﻴﻦ ﻋﺴﻜﺮﻳﺘﻴﻦ لإﻧﺠﺎﺯ ﻣﺘﻄﻠﺒﺎﺕ ﺍﻟﺠﻬﺎﺩ؛ ﻛﺸُﻌَﺐ ﺍﻟﻤﻨﺎﻭﺭﺓ ﻭﺍﻟﺠﻬﺎﺩ، ﻭﺷُﻌَﺐ ﺍﻟﺘﺠﻨﻴﺪ ﻭﺍﻟﺴَﻮﻕ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺠﻬﺎﺩ، ﻭﺇﻧﻪ ﺣﺎﻟﻤﺎ ﻳﻨﺘﻬﻲ ﻭﻗﺖ ﺍﻟﺠﻬﺎﺩ ﻭﺍﻟﻤﻨﺎﻭﺭﺓ ﻳﺘﻮﺟﻪ ﺇﻟﻰ ﺗﻴﻨﻚ ﺍﻟﺪﺍﺋﺮﺗﻴﻦ ﻟﻴﺴﺘﻌﻤﻠﻬﻤﺎ ﻓﻲ ﺷﺆﻭﻥ ﺃﺧﺮﻯ، ﻓﻘﺪ ﺍﻧﺘﻬﺖ ﻣﻬﻤﺘﻬﻤﺎ. ﻓﻜﺄﻥ ﻛـلا ﻣﻦ ﺍﻟﺪﺍﺋﺮﺗﻴﻦ ﺗﻘﻮﻝ ﺑﻠﺴﺎﻥ ﻣﻮﻇﻔﻴﻬﺎ ﻭﺧﺪّﺍﻣﻬﺎ ﺃﻭ ﺑﻠﺴﺎﻧﻬﺎ ﻟﻮ ﺃﻧﻄﻘﺖ:

«ﻳﺎ ﻗﺎﺋﺪﻱ ﺃﻣﻬﻠﻨﺎ ﻗﻠﻴـلا ﻛﻲ ﻧﻬﻴﺊَ ﺃﻭﺿﺎﻋَﻨﺎ ﻭﻧﻄﻬّﺮ ﺍﻟﻤﻜﺎﻥ ﻣﻦ ﺑﻘﺎﻳﺎ ﺃﻋﻤﺎﻟﻨﺎ ﺍﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻭﻧﻄﺮﺣﻬﺎ ﺧﺎﺭﺟﺎ.. ﺛﻢ ﺷﺮِّﻑ ﻭﺗﻔﻀَّﻞ ﻋﻠﻴﻨﺎ!» ﻭﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﺗﻘﻮﻝ: «ﻓﻬﺎ ﻗﺪ ﺃﻟﻘﻴﻨﺎﻫﺎ ﺧﺎﺭﺟﺎ، ﻓﻨﺤﻦ ﻃﻮﻉَ ﺃﻣﺮﻙ، ﻓﺎﻓﻌﻞ ﻣﺎ ﺗﺸﺎﺀ ﻓﻨﺤﻦ ﻣﻨﻘﺎﺩﻭﻥ لأﻣﺮﻙ. ﻓﻤﺎ ﺗﻔﻌﻠﻪ ﺣﻖ ﻭﺟﻤﻴﻞ ﻭﺧﻴﺮ».

ﻓﻜﺬﻟﻚ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻭﺍلأﺭﺽ ﺩﺍﺋﺮﺗﺎﻥ ﻓﺘﺤﺘﺎ ﻟﻠﺘﻜﻠﻴﻒ ﻭﺍلاﻣﺘﺤﺎﻥ، ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﺗﻨﻘﻀﻲ ﺍﻟﻤﺪﺓ، ﺗﺨﻠّﻲ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕُ ﻭﺍلأﺭﺽ ﺑﺈﺫﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﻳﻌﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﺘﻜﻠﻴﻒ، ﻭﻳﻘﻮلاﻥ: «ﻳﺎ ﺭﺑﻨﺎ ﺍﺳﺘﺨﺪِﻣﻨﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﺗُﺮﻳﺪ، ﻓﺎلاﻣﺘﺜﺎﻝ ﺣﻖ ﻭﺍﺟﺐ ﻋﻠﻴﻨﺎ، ﻭﻛﻞُّ ﻣﺎ ﺗﻔﻌﻠﻪ ﻫﻮ ﺣﻖ». ﻓﺎﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺳﻤﻮ ﻫﺬﺍ ﺍلأﺳﻠﻮﺏ ﺍﻟﺨﺎﺭﻕ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﻤﻞ ﻭﺃﻧﻌﻢ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻓﻴﻪ.

ﻭﻣﺜـلا: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (ﻫﻮﺩ:٤٤)

ﻟـلإﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﻗﻄﺮﺓ ﻣﻦ ﺑﺤﺮ ﺑـلاﻏﺔ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﻧﺒﻴﻦ ﺃﺳﻠﻮﺑﺎ ﻣﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﻣﺮﺁﺓ ﺍﻟﺘﻤﺜﻴﻞ، ﻭﺫﻟﻚ: ﺃﻥ ﻗﺎﺋﺪﺍ ﻋﻈﻴﻤﺎ ﻓﻲ ﺣﺮﺏ ﻋﺎﻟﻤﻴﺔ ﺷﺎﻣﻠﺔ ﻳﺄﻣﺮ ﺟﻴﺸَﻪ ﺑﻌﺪ ﺇﺣﺮﺍﺯ ﺍﻟﻨﺼﺮ: «ﺃﻭﻗﻔﻮﺍ ﺇﻃـلاﻕ ﺍﻟﻨﺎﺭ»، ﻭﻳﺄﻣﺮ ﺟﻴﺸَﻪ ﺍلآﺧﺮ: «ﻛُﻔُّﻮﺍ ﻋﻦ ﺍﻟﻬﺠﻮﻡ». ﻓﻔﻲ ﺍﻟﻠﺤﻈﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻳﻨﻘﻄﻊ ﺇﻃـلاﻕُ ﺍﻟﻨﺎﺭ ﻭﻳﻘﻒ ﺍﻟﻬﺠﻮﻡ، ﻭﻳﺘﻮﺟّﻪ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﻗﺎﺋـلا: «ﻟﻘﺪ ﺍﻧﺘﻬﻰ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻭﺍﺳﺘﻮﻟﻴﻨﺎ ﻋﻠﻰ ﺍلأﻋﺪﺍﺀ ﻭﻗﺪ ﻧُﺼﺒﺖْ ﺭﺍﻳﺎﺗُﻨﺎ ﻋﻠﻰ ﻗﻤﺔ ﻗـلاﻋﻬﻢ ﻭﻧﺎﻝ ﺃﻭﻟﺌﻚ ﺍﻟﻈﺎﻟﻤﻮﻥ ﺍﻟﻔﺎﺳﺪﻭﻥ ﺟﺰﺍﺀﻫﻢ ﻭﻭﻟﻮﺍ ﺇﻟﻰ ﺃﺳﻔﻞ ﺳﺎﻓﻠﻴﻦ».

ﻛﺬﻟﻚ، ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﺬﻱ لا ﻧﺪّ ﻟﻪ ﻭلا ﻣﺜﻴﻞ، ﻗﺪ ﺃﻣﺮ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻭﺍلأﺭﺽ ﺑﺈﻫـلاﻙ ﻗﻮﻡ ﻧﻮﺡ. ﻭﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﺍﻣﺘﺜـلا ﺍلأﻣﺮَ ﺗﻮﺟّﻪ ﺇﻟﻴﻬﻤﺎ: «ﺃﻳﺘﻬﺎ ﺍلأﺭﺽُ ﺍﺑﻠﻌﻲ ﻣﺎﺀَﻙ، ﻭﺃﻧﺖِ ﺃﻳﺘﻬﺎ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀُ ﺍﺳﻜﻨﻲ ﻭﺍﻫﺪﺃﻱ ﻓﻘﺪ ﺍﻧﺘﻬﺖ ﻣﻬﻤﺘُﻜﻤﺎ. ﻓﺎﻧﺴﺤﺐ ﺍﻟﻤﺎﺀ ﻓﻮﺭﺍ ﻣﻦ ﺩﻭﻥ ﺗﺮﻳّﺚ ﻭﺍﺳﺘﻮﺕ ﺳﻔﻴﻨﺔُ ﺍﻟﻤﺄﻣﻮﺭ ﺍلإﻟﻬﻲ ﻛﺨﻴﻤﺔ ﺿﺮﺑﺖ ﻋﻠﻰ ﻗﻤﺔ ﺟﺒﻞ. ﻭﻟﻘﻲَ ﺍﻟﻈﺎﻟﻤﻮﻥ ﺟﺰﺍﺀﻫﻢ».

ﻓﺎﻧﻈﺮْ ﺇﻟﻰ ﻋﻠﻮ ﻫﺬﺍ ﺍلأﺳﻠﻮﺏ، ﺇﺫ ﺍلأﺭﺽُ ﻭﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻛﺠﻨﺪﻳﻴﻦ ﻣﻄﻴﻌﻴﻦ ﻣﺴﺘﻌﺪﻳﻦ ﻟﻠﻄﺎﻋﺔ ﻭﺗﻠﻘﻲ ﺍلأﻭﺍﻣﺮ. ﻓﺘﺸﻴﺮ ﺍلآﻳﺔُ ﺑﻬﺬﺍ ﺍلأﺳﻠﻮﺏ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ ﺗﻐﻀﺐُ ﻣﻦ ﻋﺼﻴﺎﻥ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻭﺗﻐﺘﺎﻅ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕُ ﻭﺍلأﺭﺽ. ﻭﺑﻬﺬﻩ ﺍلإﺷﺎﺭﺓ ﺗﻘﻮﻝ: «ﺇﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻤﺘﺜﻞ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻭﺍلأﺭﺽ ﺑﺄﻣﺮﻩ لا ﻳُﻌﺼﻰ ﻭلا ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻳُﻌﺼﻰ» ﻣﻤﺎ ﻳﻔﻴﺪ ﺯﺟﺮﺍ ﺷﺪﻳﺪﺍ ﺭﺍﺩﻋﺎ ﻟـلإﻧﺴﺎﻥ. ﻓﺄﻧﺖ ﺗﺮﻯ ﺃﻥ ﺍلآﻳﺔ ﻗﺪ ﺟﻤﻌﺖ ﺑﺒﻴﺎﻥ ﻣﻮﺟﺰ ﻣﻌﺠﺰ ﺟﻤﻴﻞ ﻣﺠﻤﻞٍ ﻓﻲ ﺑﻀﻊ ﺟﻤﻞ ﺣﺎﺩﺛﺔَ ﺍﻟﻄﻮﻓﺎﻥ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻋﺎﻣﺔ ﻭﺷﺎﻣﻠﺔ ﻣﻊ ﺟﻤﻴﻊ ﻧﺘﺎﺋﺠﻬﺎ ﻭﺣﻘﺎﺋﻘﻬﺎ. ﻓﻘﺲ ﻗﻄﺮﺍﺕ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍلأﺧﺮﻯ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻘﻄﺮﺓ.

ﻭﺍلآﻥ ﺍﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺍلأﺳﻠﻮﺏ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺮﻳﻪ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻣﻦ ﻧﻮﺍﻓﺬ ﺍﻟﻜﻠﻤﺎﺕ: ﻓﻤﺜـلا ﺇﻟﻰ ﻛﻠﻤﺔ ﴿كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ ﻓﻲ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ (ﻳﺲ:39) ﻛﻴﻒ ﺗﻌﺮﺽ ﺃﺳﻠﻮﺑﺎ ﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﻠﻄﻒ.

ﻭﺫﻟﻚ: ﺃﻥّ ﻟﻠﻘﻤﺮ ﻣﻨﺰلا ﻫﻮ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﺜﺮﻳﺎ. ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻘﻤﺮُ ﻫـلالا ﻓﻴﻪ ﻳﺸﺒﻪ ﻋﺮﺟﻮﻧﺎ ﻗﺪﻳﻤﺎ ﺃﺑﻴﺾ ﺍﻟﻠﻮﻥ. ﻓﺘﻀﻊ ﺍلآﻳﺔُ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﺘﺸﺒﻴﻪ ﺃﻣﺎﻡ ﻋﻴﻦ ﺧﻴﺎﻝ ﺍﻟﺴﺎﻣﻊ، ﻛﺄﻥ ﻭﺭﺍﺀ ﺳﺘﺎﺭ ﺍﻟﺨﻀﺮﺍﺀ ﺷﺠﺮﺓ ﺷﻖَّ ﺃﺣﺪُ ﺃﻏﺼﺎﻧِﻬﺎ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺔ ﺍﻟﻤﺪﺑﺒﺔ ﺍﻟﺒﻴﻀﺎﺀ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺴﺘﺎﺭَ ﻭﻣﺪّ ﺭﺃﺳﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ، ﻭﺍﻟﺜﺮﻳﺎ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻋﻨﻘﻮﺩ ﻣﻌﻠﻖ ﻓﻴﻪ. ﻭﺳﺎﺋﺮُ ﺍﻟﻨﺠﻮﻡ ﻛﺎﻟﺜﻤﺮﺍﺕ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺔ ﻟﺸﺠﺮﺓ ﺍﻟﺨﻠﻘﺔ ﺍﻟﻤﺴﺘﻮﺭﺓ. ﻭلا ﺟﺮﻡ ﻓﺈﻥ ﻋﺮﺽَ ﺍﻟﻬـلاﻝ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﺘﺸﺒﻴﻪ لأﻭﻟﺌﻚ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻣﺼﺪﺭُ ﻋﻴﺸﻬﻢ ﻭﻣﻌﻈﻢُ ﻗﻮﺗِﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺨﻴﻞ ﻫﻮ ﺃﺳﻠﻮﺏ ﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﺤُﺴﻦ ﻭﺍﻟﻠﻄﺎﻓﺔ ﻭﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺘﻨﺎﺳﻖ ﻭﺍﻟﻌﻠﻮ. ﻓﺈﻥ ﻛﻨﺖ ﺻﺎﺣﺐ ﺫﻭﻕ ﺗﺪﺭﻙْ ﺫﻟﻚ.

ﻭﻣﺜـلا: ﻛﻠﻤﺔ ﴿تَجْرِي﴾ ﻓﻲ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ﴾( ﻳﺲ:38) ﺗﻔﺘﺢ ﻧﺎﻓﺬﺓ لأﺳﻠﻮﺏ ﻋﺎﻝٍ -ﻛﻤﺎ ﺃﺛﺒﺖ ﻓﻲ ﺧﺘﺎﻡ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺘﺎﺳﻌﺔ ﻋﺸﺮﺓ- ﻭﺫﻟﻚ:

ﺇﻥ ﻟﻔﻆ ﴿تَجْرِي﴾ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌﻨﻰ ﺩﻭﺭﺍﻥ ﺍﻟﺸﻤﺲ، ﻳﻔﻬّﻢ ﻋﻈﻤﺔَ ﺍﻟﺼﺎﻧﻊ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺑﺘﺬﻛﻴﺮﻩ ﺗﺼﺮﻓﺎﺕ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﺍﻟﻤﻨﺘﻈﻤﺔ ﻓﻲ ﺩﻭﺭﺍﻥ ﺍﻟﺼﻴﻒ ﻭﺍﻟﺸﺘﺎﺀ ﻭﺗﻌﺎﻗﺐ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻭﺍﻟﻨﻬﺎﺭ، ﻭﻳﻠﻔﺖ ﺍلأﻧﻈﺎﺭَ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻜﺘﻮﺑﺎﺕ ﺍﻟﺼﻤﺪﺍﻧﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺘﺒﻬﺎ ﻗﻠﻢُ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﻓﻲ ﺻﺤﺎﺋﻒ ﺍﻟﻔﺼﻮﻝ، ﻓﻴﻌﻠّﻢ ﺣﻜﻤﺔَ ﺍﻟﺨﺎﻟﻖ ﺫﻱ ﺍﻟﺠـلاﻝ.

ﻭﺇﻥ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ (ﻧﻮﺡ:16) ﺃﻱ ﻣﺼﺒﺎﺣﺎ، ﻳﻔﺘﺢ ﺑﺘﻌﺒﻴﺮ ﴿سِرَاجًا﴾ ﻧﺎﻓﺬﺓً ﻟﻤﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍلأﺳﻠﻮﺏ.

ﻭﻫﻮ ﺃﻧﻪ ﻳُﻔﻬِّﻢ ﻋﻈﻤﺔَ ﺍﻟﺼﺎﻧﻊ ﻭﺇﺣﺴﺎﻥ ﺍﻟﺨﺎﻟﻖ ﺑﺘﺬﻛﻴﺮﻩ ﺃﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﺄﻧﻪ ﻗﺼﺮ، ﻭﺃﻥ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﻟﻮﺍﺯﻡ ﻭﺃﻃﻌﻤﺔ ﻭﺯﻳﻨﺔ ﻗﺪ ﺃﻋﺪﺕ ﻟـلإﻧﺴﺎﻥ ﻭﺫﻭﻱ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ، ﻭﺃﻥ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺃﻳﻀﺎ ﻣﺎ ﻫﻲ ﺇلا ﻣﺼﺒﺎﺡ ﻣﺴﺨﺮ. ﻓﻴﺒﻴﻦ ﺑﻬﺬﺍ ﺩﻟﻴـلا ﻟﻠﺘﻮﺣﻴﺪ، ﺇﺫ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺘﻮﻫﻤﻬﺎ ﺍﻟﻤﺸﺮﻛﻮﻥ ﺃﻋﻈﻢ ﻣﻌﺒﻮﺩ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻭﺃﻟﻤﻌَﻬﺎ ﻣﺎ ﻫﻲ ﺇلا ﻣﺼﺒﺎﺡ ﻣﺴﺨّﺮ ﻭﻣﺨﻠﻮﻕ ﺟﺎﻣﺪ.

ﻓﺈﺫﻥ ﺑﺘﻌﺒﻴﺮ ﴿سِرَاجًا﴾ ﻳﺬﻛّﺮ ﺭﺣﻤﺔَ ﺍﻟﺨﺎﻟﻖ ﻓﻲ ﻋﻈﻤﺔ ﺭﺑﻮﺑﻴﺘﻪ، ﻭﻳﻔﻬّﻢ ﺇﺣﺴﺎﻧﻪ ﻓﻲ ﺳﻌﺔ ﺭﺣﻤﺘﻪ، ﻭﻳُﺸﻌﺮ ﺑﺬﻟﻚ ﺍلإﻓﻬﺎﻡ، ﺑﻜﺮﻣﻪ ﻓﻲ ﻋﻈﻤﺔ ﺳﻠﻄﺎﻧﻪ، ﻭﻳﻔﻬّﻢ ﺍﻟﻮﺣﺪﺍﻧﻴﺔ ﺑﻬﺬﺍ ﺍلإﺷﻌﺎﺭ. ﻭﻛﺄﻧﻪ ﻳﻘﻮﻝ: ﺇﻥ ﻣﺼﺒﺎﺣﺎ ﻣﺴﺨﺮﺍ ﻭﺳﺮﺍﺟﺎ ﺟﺎﻣﺪﺍ لا ﻳﺴﺘﺤﻖ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ ﺑﺄﻱ ﺣﺎﻝ ﻣﻦ ﺍلأﺣﻮﺍﻝ.

ﺛﻢ ﺇﻥ ﺟﺮﻳﺎﻥَ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺑﺘﻌﺒﻴﺮ ﴿تَجْرِي﴾ ﻳﺬﻛّﺮ ﺑﺘﺼﺮﻓﺎﺕ ﻣﻨﺘﻈﻤﺔ ﻣﺜﻴﺮﺓ ﻟـلإﻋﺠﺎﺏ ﻓﻲ ﺩﻭﺭﺍﻥ ﺍﻟﺼﻴﻒ ﻭﺍﻟﺸﺘﺎﺀ ﻭﺍﻟﻠﻴﻞ ﻭﺍﻟﻨﻬﺎﺭ، ﻭﻳﻔﻬّﻢ ﺑﺬﻟﻚ ﺍﻟﺘﺬﻛﻴﺮ ﻋﻈﻤﺔَ ﻗﺪﺭﺓ ﺍﻟﺼﺎﻧﻊ ﺍﻟﻤﺘﻔﺮﺩ ﻓﻲ ﺭﺑﻮﺑﻴﺘﻪ. ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻧﻪ ﻳﺼﺮِﻑ ﺫﻫﻦَ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﺍﻟﻘﻤﺮ ﺇﻟﻰ ﺻﺤﺎﺋﻒ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻭﺍﻟﻨﻬﺎﺭ ﻭﺍﻟﺼﻴﻒ ﻭﺍﻟﺸﺘﺎﺀ، ﻭﻳﺠﻠﺐ ﻧﻈﺮَﻩ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺼﺤﺎﺋﻒ ﻣﻦ ﺳﻄﻮﺭ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺎﺕ ﺍﻟﻤﻜﺘﻮﺑﺔ.

ﺃﺟﻞ، ﺇﻥ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ لا ﻳﺒﺤﺚ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻟﺬﺍﺕ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺑﻞ ﻟﻤﻦ ﻧﻮَّﺭﻫﺎ ﻭﺟﻌﻠﻬﺎ ﺳﺮﺍﺟﺎ، ﻭلا ﻳﺒﺤﺚ ﻓﻲ ﻣﺎﻫﻴﺘﻬﺎ ﺍﻟﺘﻲ لا ﻳﺤﺘﺎﺟﻬﺎ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ، ﺑﻞ ﻓﻲ ﻭﻇﻴﻔﺘﻬﺎ، ﺇﺫ ﻫﻲ ﺗﺆﺩﻱ ﻭﻇﻴﻔﺔَ ﻧﺎﺑﺾٍ «ﺯﻧﺒﺮﻙ» لاﻧﺘﻈﺎﻡ ﺍﻟﺼﻨﻌﺔ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ، ﻭﻣﺮﻛﺰٍ ﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺨﻠﻘﺔ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ، ﻭﻣﻜّﻮﻙٍ لاﻧﺴﺠﺎﻡ ﺍﻟﺼﻨﻌﺔ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ، ﻓﻲ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻨﺴﺠﻬﺎ ﺍﻟﻤﺼﻮّﺭ ﺍلأﺯﻟﻲ ﺑﺨﻴﻮﻁ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻭﺍﻟﻨﻬﺎﺭ.

ﻭﻳﻤﻜﻨﻚ ﺃﻥ ﺗﻘﻴﺲ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺳﺎﺋﺮَ ﺍﻟﻜﻠﻤﺎﺕ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ ﻓﻬﻲ ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺒﺪﻭ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻛﻠﻤﺎﺕ ﻣﺄﻟﻮﻓﺔ ﺑﺴﻴﻄﺔ، ﺇلا ﺃﻧﻬﺎ ﺗﺆﺩﻱ ﻣﻬﻤﺔ ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ ﻟﻜﻨﻮﺯ ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﻲ ﺍﻟﻠﻄﻴﻔﺔ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻓﻠﻌﻠﻮّ ﺃﺳﻠﻮﺏ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ -ﻛﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﻮﻩ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻓﻲ ﺍلأﻏﻠﺐ- ﻛﺎﻥ ﺍلأﻋﺮﺍﺑﻲ ﻳﻌﺸﻖُ ﻛـلاﻣﺎ ﻭﺍﺣﺪﺍ ﻣﻨﻪ ﺃﺣﻴﺎﻧﺎ، ﻓﻴﺴﺠﺪ ﻗﺒﻞَ ﺃﻥ ﻳﺆﻣﻦ، ﻛﻤﺎ ﺳﻤﻊ ﺃﺣﺪﻫﻢ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ (ﺍﻟﺤﺠﺮ:94)  ﻓﺨﺮَّ ﺳﺎﺟﺪﺍ، ﻓﻠﻤﺎ ﺳُﺌﻞ: «ﺃﺃﺳﻠﻤﺖ؟» ﻗﺎﻝ: «لا، ﺑﻞ ﺃﺳﺠﺪ ﻟﺒـلاﻏﺔ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜـلاﻡ!»