ﺍﻟﻨﻘﻄﺔ ﺍﻟﺮﺍﺑﻌﺔ

ﺍﻟﻔﺼﺎﺣﺔ ﺍﻟﺨﺎﺭﻗﺔ ﻓﻲ ﻟﻔﻈﻪ: ﻧﻌﻢ، ﺇﻥ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﺑﻠﻴﻎ ﺧﺎﺭﻕ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺃﺳﻠﻮﺑﻪ ﻭﺑﻴﺎﻥ ﻣﻌﻨﺎﻩ، ﻓﻬﻮ ﻓﺼﻴﺢ ﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﺴـلاﺳﺔ ﻓﻲ ﻟﻔﻈﻪ. ﻭﺍﻟﺪﻟﻴﻞ ﺍﻟﻘﺎﻃﻊ ﻋﻠﻰ ﻓﺼﺎﺣﺘﻪ ﻫﻮ ﻋﺪﻡ ﺇﻳﺮﺍﺛﻪ ﺍﻟﺴﺄﻡ ﻭﺍﻟﻤَﻠَﻞ. ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺷﻬﺎﺩﺓ ﻋﻠﻤﺎﺀ ﻓﻦ ﺍﻟﺒﻴﺎﻥ ﻭﺍﻟﻤﻌﺎﻧﻲ ﺑﺮﻫﺎﻥ ﺑﺎﻫﺮ ﻋﻠﻰ ﺣﻜﻤﺔ ﻓﺼﺎﺣﺘﻪ.

ﻧﻌﻢ، ﻟﻮ ﻛُﺮّﺭ ﺃﻟﻮﻑَ ﺍﻟﻤﺮﺍﺕ ﻓـلا ﻳﻮﺭﺙ ﺳﺄﻣﺎ ﻭلا ﻣﻠـلا. ﺑﻞ ﻳﺰﻳﺪُ ﻟﺬﺓً ﻭﺣـلاﻭﺓً.. ﺛﻢ ﺇﻧﻪ لا ﻳﺜﻘﻞ ﻋﻠﻰ ﺫﻫﻦ ﺻﺒﻲ ﺑﺴﻴﻂ ﻓﻴﺴﺘﻄﻴﻊ ﺣﻔﻈﻪ.. ﻭلا ﺗﺴﺄﻡ ﻣﻨﻪ ﺃُﺫﻥُ ﺍﻟﻤﺼﺎﺏ ﺑﺪﺍﺀ ﻋﻀﺎﻝ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺘﺄﺫﻯ ﻣﻦ ﺃﺩﻧﻰ ﻛـلاﻡ، ﺑﻞ ﻳﺘﻠﺬﺫ ﺑﻪ.. ﻭﻛﺄﻧﻪ ﺍﻟﺸﺮﺍﺏ ﺍﻟﻌﺬﺏ ﻓﻲ ﻓﻢ ﺍﻟﻤﺤﺘﻀﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺘﻘﻠّﺐ ﻓﻲ ﺍﻟﺴَﻜﺮﺍﺕ، ﻭﻫﻮ ﻟﺬﻳﺬ ﻓﻲ ﺃﺫﻧﻪ ﻭﺩﻣﺎﻏﻪ ﻟﺬﺓ ﻣﺎﺀ ﺯﻣﺰﻡ ﻓﻲ ﻓﻤﻪ.

ﻭﺍﻟﺤﻜﻤﺔُ ﻓﻲ ﻋﺪﻡ ﺍﻟﻤﻠﻞ ﻭﺍﻟﺴﺄﻡ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻫﻮ ﺃﻥّ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻗﻮﺕ ﻭﻏﺬﺍﺀ ﻟﻠﻘﻠﻮﺏ، ﻭﻗﻮّﺓ ﻭﻏَﻨﺎﺀ ﻟﻠﻌﻘﻮﻝ، ﻭﻣﺎﺀ ﻭﺿﻴﺎﺀ ﻟـلأﺭﻭﺍﺡ، ﻭﺩﻭﺍﺀ ﻭﺷﻔﺎﺀ ﻟﻠﻨﻔﻮﺱ، ﻟﺬﺍ لا ﻳُﻤَﻞّ. ﻣﺜﺎﻟُﻪ ﺍﻟﺨﺒﺰ ﺍﻟﺬﻱ ﻧﺄﻛﻠﻪ ﻳﻮﻣﻴﺎ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻧﻤﻞّ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻟﻮ ﺗﻨﺎﻭﻟﻨﺎ ﺃﻃﻴﺐ ﻓﺎﻛﻬﺔ ﻳﻮﻣﻴﺎ ﻟﺸﻌﺮﻧﺎ ﺑﺎﻟﻤﻠﻞ. ﻓﺈﺫﻥ لأﻥ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺣﻖ ﻭﺣﻘﻴﻘﺔ ﻭﺻﺪﻕ ﻭﻫﺪﻯ ﻭﺫﻭ ﻓﺼﺎﺣﺔ ﺧﺎﺭﻗﺔ ﻓـلا ﻳﻮﺭﺙ ﺍﻟﻤﻠﻞ ﻭﺍﻟﺴﺂﻣﺔ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻳﺤﺎﻓﻆ ﻋﻠﻰ ﺷﺒﺎﺑﻴﺘﻪ ﺩﺍﺋﻤﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﺤﺎﻓﻆ ﻋﻠﻰ ﻃﺮﺍﻭﺗﻪ ﻭﺣـلاﻭﺗﻪ، ﺣﺘﻰ ﺇﻥ ﺃﺣﺪ ﺭﺅﺳﺎﺀ ﻗﺮﻳﺶ ﻭﺑﻠﻐﺎﺋﻬﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺫﻫﺐ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻟﻴﺴﻤﻊ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ، ﻗﺎﻝ ﺑﻌﺪ ﺳﻤﺎﻋﻪ ﻟﻪ: «ﻭﺍﻟﻠﻪ ﺇﻥ ﻟﻪ ﻟﺤـلاﻭﺓ ﻭﺇﻥ ﻋﻠﻴﻪ ﻟﻄـلاﻭﺓ.. ﻭﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ ﺑﺸﺮ. ﺛﻢ ﻗﺎﻝ ﻟﻘﻮﻣﻪ: ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﻓﻴﻜﻢ ﺭﺟﻞ ﺃﻋﻠﻢُ ﺑﺎﻟﺸﻌﺮ ﻣﻨﻲ.. ﻭلا ﺑﺄﺷﻌﺎﺭ ﺍﻟﺠﻦ، ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻘﻮﻝ ﺷﻴﺌﺎ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ».

ﻓﻠﻢ ﻳﺒﻖ ﺃﻣﺎﻣﻬﻢ ﺇلا ﺃﻥ ﻳﻘﻮﻟﻮﺍ ﺇﻧﻪ ﺳﺎﺣﺮ، ﻟﻴﻐﺮﺭﻭﺍ ﺑﻪ ﺃﺗﺒﺎﻋﻬﻢ ﻭﻳﺼﺪﻭﻫﻢ ﻋﻨﻪ. ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻳﺒﻘﻰ ﺣﺘﻰ ﺃﻋﺘﻰ ﺃﻋﺪﺍﺀِ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻣﺒﻬﻮﺗﺎ ﺃﻣﺎﻡ ﻓﺼﺎﺣﺘﻪ.

ﺇﻥ ﺇﻳﻀﺎﺡ ﺃﺳﺒﺎﺏ ﺍﻟﻔﺼﺎﺣﺔ ﻓﻲ ﺁﻳﺎﺕ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻭﻓﻲ ﻛـلاﻣﻪ ﻭﻓﻲ ﺟﻤﻠﻪ ﻳﻄﻮﻝ ﻛﺜﻴﺮﺍ، ﻓﺘﻔﺎﺩﻳﺎ ﻣﻦ ﺍلإﻃﺎﻟﺔ ﻧُﻘﺼﺮ ﺍﻟﻜـلاﻡ ﻋﻠﻰ ﺇﻇﻬﺎﺭ ﻟﻤﻌﺔ ﺇﻋﺠﺎﺯ ﺗﺘﻠﻤﻊ ﻣﻦ ﺃﻭﺿﺎﻉ ﺍﻟﺤﺮﻭﻑ ﺍﻟﻬﺠﺎﺋﻴﺔ ﻭﻛﻴﻔﻴﺎﺗﻬﺎ ﻓﻲ ﺁﻳﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻓﻘﻂ، ﻋﻠﻰ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﻭﻫﻲ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (ﺁﻝ ﻋﻤﺮﺍﻥ:154).

ﻟﻘﺪ ﺟﻤﻌﺖ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ ﺟﻤﻴﻊَ ﺣﺮﻭﻑ ﺍﻟﻬﺠﺎﺀ ﻭﺃﺟﻨﺎﺱَ ﺍﻟﺤﺮﻭﻑ ﺍﻟﺜﻘﻴﻠﺔ، ﻭﻣﻊ ﺫﻟﻚ ﻟﻢ ﻳﻔﻘﺪﻫﺎ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺠﻤﻊ ﺳـلاﺳﺘَﻬﺎ ﺑﻞ ﺯﺍﺩﻫﺎ ﺑﻬﺎﺀً ﺇﻟﻰ ﺟﻤﺎﻟﻬﺎ ﻭﻣﺰﺝ ﻧﻐﻤﺔً ﻣﻦ ﺍﻟﻔﺼﺎﺣﺔ ﻧﺒﻌﺖ ﻣﻦ ﺃﻭﺗﺎﺭ ﻣﺘﻨﺎﺳﺒﺔ ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ.

ﻓﺄﻧﻌِﻢْ ﺍﻟﻨﻈﺮَ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻠﻤﻌﺔ ﺫﺍﺕ ﺍلإﻋﺠﺎﺯ ﻭﻫﻲ ﺃﻥ ﺍلأﻟِﻒ ﻭﺍﻟﻴﺎﺀ لأﻧﻬﻤﺎ ﺃﺧﻒُّ ﺣﺮﻭﻑ ﺍﻟﻬﺠﺎﺀ ﻭﺗﻨﻘﻠﺐ ﺇﺣﺪﺍﻫُﻤﺎ ﺑﺎلأﺧﺮﻯ ﻛﺄﻧﻬﻤﺎ ﺃﺧﺘﺎﻥ، ﺗﻜﺮّﺭ ﻛﻞّ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﺇﺣﺪﻯ ﻭﻋﺸﺮﻳﻦ ﻣﺮﺓ.. ﻭﺃﻥ ﺍﻟﻤﻴﻢ ﻭﺍﻟﻨﻮﻥ (حاشية) ﻭﺍﻟﺘﻨﻮﻳﻦ ﺃﻳﻀﺎ ﻧﻮﻥ. لأﻧﻬﻤﺎ ﺃﺧﺘﺎﻥ، ﻭﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﺗﺤﻞ ﺇﺣﺪﺍﻫﻤﺎ ﻣﺤﻞ ﺍلأﺧﺮﻯ ﻓﻘﺪ ﺫُﻛﺮ ﻛﻞّ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﺛـلاﺛﺎ ﻭﺛـلاﺛﻴﻦ ﻣﺮﺓً.. ﻭﺃﻥ ﺍﻟﺼﺎﺩ ﻭﺍﻟﺴﻴﻦ ﻭﺍﻟﺸﻴﻦ ﻣﺘﺂﺧﻴﺔ ﺣﺴﺐ ﺍﻟﻤﺨﺮﺝ ﻭﺍﻟﺼﻔﺔ ﻭﺍﻟﺼﻮﺕ ﻓﺬُﻛﺮ ﻛﻞ ﻭﺍﺣﺪ ﻣﻨﻬﺎ ﺛـلاﺙ ﻣﺮﺍﺕ.. ﻭﺃﻥ ﺍﻟﻌﻴﻦ ﻭﺍﻟﻐﻴﻦ ﻣﺘﺂﺧﻴﺘﺎﻥ ﻓﺬُﻛﺮ ﺍﻟﻌﻴﻦ ﺳﺖ ﻣﺮﺍﺕ ﻟﺨﻔﺘﻬﺎ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻐﻴﻦ ﻟﺜﻘﻠﻬﺎ ﺫﻛﺮﺕ ﺛـلاﺙ ﻣﺮﺍﺕ ﺃﻱ ﻧﺼﻔﻪ.. ﻭﺃﻥ ﺍﻟﻄﺎﺀ ﻭﺍﻟﻈﺎﺀ ﻭﺍﻟﺬﺍﻝ ﻭﺍﻟﺰﺍﻱ، ﻣﺘﺂﺧﻴﺔ ﺣﺴﺐ ﺍﻟﻤﺨﺮﺝ ﻭﺍﻟﺼﻔﺔ ﻭﺍﻟﺼﻮﺕ، ﻓﺬُﻛﺮ ﻛﻞ ﻭﺍﺣﺪ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﺮﺗﻴﻦ.. ﻭﺃﻥ ﺍﻟـلاﻡ ﻭﺍلأﻟﻒ ﻣﺘﺤﺪﺗﺎﻥ ﻓﻲ ﺻﻮﺭﺓ «لا»، ﻭﺃﻥ ﺣﺼﺔ ﺍلأﻟﻒ ﻧﺼﻒ ﻓﻲ ﺻﻮﺭﺓ «لا» ﻓﺬُﻛﺮﺕ ﺍﻟـلاﻡ ﺍﺛﻨﺘﻴﻦ ﻭﺃﺭﺑﻌﻴﻦ ﻣﺮﺓ، ﻭﺫُﻛﺮﺕ ﺍلأﻟﻒ -ﻧﺼﻔﻬﺎ- ﺇﺣﺪﻯ ﻭﻋﺸﺮﻳﻦ ﻣﺮﺓ.. ﻭﺃﻥ ﺍﻟﻬﻤﺰﺓ ﻭﺍﻟﻬﺎﺀ ﻣﺘﺂﺧﻴﺘﺎﻥ ﺣﺴﺐ ﺍﻟﻤﺨﺮﺝ ﻓﺬﻛﺮﺕ ﺍﻟﻬﻤﺰﺓ ﺛـلاﺙ ﻋﺸﺮﺓ ﻣﺮﺓ (حاشية) ﺍﻟﻬﻤﺰﺓ ﺍﻟﻤﻠﻔﻮﻇﺔ ﻭﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﻠﻔﻮﻇﺔ ﻫﻲ ﺧﻤﺲ ﻭﻋﺸﺮﻭﻥ. ﻭﻫﻲ ﻓﻮﻕ ﺃﺧﺘﻬﺎ ﻭﻫﻲ ﺍلأﻟﻒ ﺍﻟﺴﺎﻛﻨﺔ ﺑﺜـلاﺙ ﺩﺭﺟﺎﺕ، لأﻥ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ ﺛـلاﺛﺔ. ﻭﺍﻟﻬﺎﺀ ﺃﺭﺑﻊ ﻋﺸﺮﺓ ﻣﺮﺓ ﻟﻜﻮﻧﻬﺎ ﺃﺧﻒّ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺪﺭﺟﺔ.. ﻭﺃﻥ ﺍﻟﻘﺎﻑ ﻭﺍﻟﻔﺎﺀ ﻭﺍﻟﻜﺎﻑ ﻣﺘﺂﺧﻴﺔ، ﻓﺬُﻛﺮﺕ ﺍﻟﻘﺎﻑ ﻋﺸﺮ ﻣﺮﺍﺕ ﻟﺰﻳﺎﺩﺓ ﻧﻘﻄﺔ ﻓﻴﻬﺎ، ﻭﺫﻛﺮﺕ ﺍﻟﻔﺎﺀ ﺗﺴﻊ ﻣﺮﺍﺕ ﻭﺍﻟﻜﺎﻑ ﺗﺴﻊ.. ﻭﺃﻥ ﺍﻟﺒﺎﺀ ﺫُﻛﺮﺕ ﺗﺴﻊ ﻣﺮﺍﺕ، ﻭﺍﻟﺘﺎﺀ ﺫﻛﺮﺕ ﺍﺛﻨﺘﻲ ﻋﺸﺮﺓ ﻣﺮﺓ، لأﻥ ﺩﺭﺟﺘﻬﺎ ﺛـلاﺛﺔ.. ﻭﺃﻥ ﺍﻟﺮﺍﺀ ﺃﺧﺖ ﺍﻟـلاﻡ. ﻭﻟﻜﻦ ﺍﻟﺮﺍﺀ ﻣﺌﺘﺎﻥ ﻭﺍﻟـلاﻡ ﺛـلاﺛﻮﻥ ﺣﺴﺐ ﺣﺴﺎﺏ «ﺃﺑﺠﺪﻳﺔ ﺍﻟﺠﻤﻞ» ﺃﻱ ﺇﻥ ﺍﻟﺮﺍﺀ ﻓﻮﻕ ﺍﻟـلاﻡ ﺑﺴﺖ ﺩﺭﺟﺎﺕ ﻓﺎﻧﺨﻔﻀﺖ ﻋﻨﻬﺎ ﺑﺴﺖ ﺩﺭﺟﺎﺕ. ﻭﺃﻳﻀﺎ ﺍﻟﺮﺍﺀ ﺗﺘﻜﺮﺭ ﻛﺜﻴﺮﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻠﻔﻆ، ﻓﻴﺜﻘﻞ، ﻓﺬُﻛﺮﺕ ﺳﺖ ﻣﺮﺍﺕ ﻓﻘﻂ.. ﻭلأﻥ ﺍﻟﺨﺎﺀ ﻭﺍﻟﺤﺎﺀ ﻭﺍﻟﺜﺎﺀ ﻭﺍﻟﻀﺎﺩ ﺛﻘﻴﻠﺔ ﻭﺑﻴﻨﻬﺎ ﻣﻨﺎﺳﺒﺎﺕ ﺫُﻛﺮ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﺮﺓ ﻭﺍﺣﺪﺓ.. ﻭلأﻥ ﺍﻟﻮﺍﻭ ﺃﺧﻒ ﻣﻦ «ﺍﻟﻬﺎﺀ ﻭﺍﻟﻬﻤﺰﺓ» ﻭﺃﺛﻘﻞ ﻣﻦ «ﺍﻟﻴﺎﺀ ﻭﺍلأﻟﻒ» ﺫُﻛﺮﺕ ﺳﺒﻊ ﻋﺸﺮﺓ ﻣﺮﺓ ﻓﻮﻕ ﺍﻟﻬﻤﺰﺓ ﺍﻟﺜﻘﻴﻠﺔ ﺑﺄﺭﺑﻊ ﺩﺭﺟﺎﺕ ﻭﺗﺤﺖ ﺍلأﻟﻒ ﺍﻟﺨﻔﻴﻔﺔ ﺑﺄﺭﺑﻊ ﺩﺭﺟﺎﺕ ﺃﻳﻀﺎ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻓﺈﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﺮﻭﻑ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﻮﺿﻊ ﺍﻟﻤﻨﺘﻈﻢ ﺍﻟﺨﺎﺭﻕ، ﻣﻊ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺎﺕ ﺍﻟﺨﻔﻴﺔ، ﻭﺍلاﻧﺘﻈﺎﻡ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ، ﻭﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺪﻗﻴﻖ، ﻭﺍلاﻧﺴﺠﺎﻡ ﺍﻟﻠﻄﻴﻒ ﺗﺜﺒﺖ ﺑﻴﻘﻴﻦ ﺟﺎﺯﻡ ﻛﺤﺎﺻﻞ ﺿﺮﺏ ﺍﺛﻨﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﺛﻨﻴﻦ ﻳﺴﺎﻭﻱ ﺃﺭﺑﻌﺎ ﺃﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺷﺄﻥ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻭلا ﻳﻤﻜﻨﻪ ﺃﻥ ﻳﻔﻌﻠﻪ. ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻤﺼﺎﺩﻓﺔ ﻓﻤﺤﺎﻝ ﺃﻥ ﺗﻠﻌﺐ ﺑﻪ.

ﻫﺬﺍ ﻓﺈﻥ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺃﻭﺿﺎﻉ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﺮﻭﻑ ﻣﻦ ﺍلاﻧﺘﻈﺎﻡ ﺍﻟﻌﺠﻴﺐ ﻭﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﻐﺮﻳﺐ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﺪﺍﺭ ﻟﻠﻔﺼﺎﺣﺔ ﻭﺍﻟﺴـلاﺳﺔ ﺍﻟﻠﻔﻈﻴﺔ، ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻟﻪ ﺣِﻜﻢ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﺃﺧﺮﻯ. ﻓﻤﺎ ﺩﺍﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺮﻭﻑ ﻫﺬﺍ ﺍلاﻧﺘﻈﺎﻡ، ﻓـلا ﺷﻚ ﺃﻧﻪ ﻗﺪ ﺭﻭﻋﻲ ﻓﻲ ﻛﻠﻤﺎﺗﻬﺎ ﻭﺟﻤﻠﻬﺎ ﻭﻣﻌﺎﻧﻴﻬﺎ ﺍﻧﺘﻈﺎﻡ ﺫﻭ ﺃﺳﺮﺍﺭ، ﻭﺍﻧﺴﺠﺎﻡ ﺫﻭ ﺃﻧﻮﺍﺭ، ﻟﻮ ﺭﺃﺗﻪ ﺍﻟﻌﻴﻦُ ﻟﻘﺎﻟﺖ ﻣﻦ ﺇﻋﺠﺎﺑﻬﺎ: «ﻣﺎ ﺷﺎﺀ ﺍﻟﻠﻪ»، ﻭﺇﺫﺍ ﺃﺩﺭﻛﻪ ﺍﻟﻌﻘﻞُ ﻟﻘﺎﻝ ﻣﻦ ﺣﻴﺮﺗﻪ: «ﺑﺎﺭﻙ ﺍﻟﻠﻪ».

   ﺍﻟﻨﻘﻄﺔ ﺍﻟﺨﺎﻣﺴﺔ

ﺑﺮﺍﻋﺔ ﺍﻟﺒﻴﺎﻥ: ﺃﻱ ﺍﻟﺘﻔﻮﻕ ﻭﺍﻟﻤﺘﺎﻧﺔ ﻭﺍﻟﻬﻴﺒﺔ، ﺇﺫ ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﻓﻲ ﻧﻈﻢ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺟﺰﺍﻟﺔً، ﻭﻓﻲ ﻟﻔﻈﻪ ﻓﺼﺎﺣﺔً، ﻭﻓﻲ ﻣﻌﻨﺎﻩ ﺑـلاﻏﺔً، ﻭﻓﻲ ﺃﺳﻠﻮﺑﻪ ﺇﺑﺪﺍﻋﺎ، ﻓﻔﻲ ﺑﻴﺎﻧﻪ ﺃﻳﻀﺎ ﺑﺮﺍﻋﺔ ﻓﺎﺋﻘﺔ. ﻧﻌﻢ، ﺇﻥ ﺑﻴﺎﻥَ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻟﻬﻮ ﻓﻲ ﺃﻋﻠﻰ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﻣﻦ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﻃﺒﻘﺎﺕ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﻭﺃﻗﺴﺎﻡ ﺍﻟﻜـلاﻡ: ﻛﺎﻟﺘﺮﻏﻴﺐ ﻭﺍﻟﺘﺮﻫﻴﺐ، ﻭﺍﻟﻤﺪﺡ ﻭﺍﻟﺬﻡ، ﻭﺍلإﺛﺒﺎﺕ ﻭﺍلإﺭﺷﺎﺩ، ﻭﺍلإﻓﻬﺎﻡ ﻭﺍلإﻓﺤﺎﻡ.

ﻓﻤﻦ ﺑﻴﻦ ﺁلاﻑ ﺃﻣﺜﻠﺔ ﻣﻘﺎﻡ «ﺍﻟﺘﺮﻏﻴﺐ ﻭﺍﻟﺘﺸﻮﻳﻖ» ﺳﻮﺭﺓ «ﺍلإﻧﺴﺎﻥ»، ﺇﺫ ﺑﻴﺎﻥ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺴﻮﺭﺓ ﺳﻠﺲ ﻳﻨﺴﺎﺏ ﻛﺎﻟﺴﻠﺴﺒﻴﻞ، ﻭﻟﺬﻳﺬ ﻛﺜﻤﺎﺭ ﺍﻟﺠﻨﺔ، ﻭﺟﻤﻴﻞ ﻛﺤﻠﻞ ﺍﻟﺤﻮﺭ ﺍﻟﻌﻴﻦ. (حاشية) ﻫﺬﺍ ﺍلأﺳﻠﻮﺏ ﻗﺪ ﻟﺒﺲ ﺣﻠﻞ ﻣﻌﺎﻧﻲ ﺍﻟﺴﻮﺭﺓ ﻧﻔﺴﻬﺎ.

ﻭﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﺍلأﻣﺜﻠﺔ ﺍﻟﺘﻲ لا ﺗﺤﺪ ﻟﻤﻘﺎﻡ «ﺍﻟﺘﺮﻫﻴﺐ ﻭﺍﻟﺘﻬﺪﻳﺪ»، ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺳﻮﺭﺓ «ﺍﻟﻐﺎﺷﻴﺔ». ﺇﺫ ﺑﻴﺎﻥ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺴﻮﺭﺓ ﻳﺆﺛﺮ ﺗﺄﺛﻴﺮَ ﻏﻠﻴﺎﻥ ﺍﻟﺮﺻﺎﺹ ﻓﻲ ﺻﻤﺎﺥ ﺍﻟﻀﺎﻟﻴﻦ، ﻭﻟﻬﻴﺐَ ﺍﻟﻨﺎﺭ ﻓﻲ ﻋﻘﻮﻟﻬﻢ، ﻭﻛﺎﻟﺰﻗﻮﻡ ﻓﻲ ﺣﻠﻮﻗﻬﻢ، ﻭﻛﻠﻔﺢ ﺟﻬﻨﻢ ﻓﻲ ﻭﺟﻮﻫﻬﻢ، ﻭﻛﺎﻟﻀﺮﻳﻊ ﺍﻟﺸﺎﺋﻚ ﻓﻲ ﺑﻄﻮﻧﻬﻢ. ﻧﻌﻢ، ﺇﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺄﻣﻮﺭﺓُ ﺍﻟﻌﺬﺍﺏ ﺟﻬﻨﻢ ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ (ﺍﻟﻤﻠﻚ:٨) ﻓﻜﻴﻒ ﻳﻜﻮﻥ ﺗﻬﺪﻳﺪ ﻭﺗﺮﻫﻴﺐ ﺁﻣﺮﻫﺎ ﺑﺎﻟﻌﺬﺍﺏ؟

ﻭﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﺁلاﻑ ﺃﻣﺜﻠﺔ ﻣﻘﺎﻡ «ﺍﻟﻤﺪﺡ»، ﺍﻟﺴﻮَﺭ ﺍﻟﺨﻤﺲ ﺍﻟﻤﺴﺘﻬﻠﺔ ﺑ«ﺍﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ»؛ ﺇﺫ ﺑﻴﺎﻥ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺴﻮﺭ ﺳﺎﻃﻊ ﻛﺎﻟﺸﻤﺲ، (حاشية) ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻌﺒﺎﺭﺍﺕ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﻟﻤﻮﺿﻮﻋﺎﺕ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺴﻮﺭ. ﻣﺰّﻳﻦ ﻛﺎﻟﻨﺠﻮﻡ، ﻣﻬﻴﺐ ﻛﺎﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻭﺍلأﺭﺽ، ﻣﺤﺒﻮﺏ ﻣﺄﻧﻮﺱ ﻛﺎﻟﻤـلاﺋﻜﺔ، ﻟﻄﻴﻒ ﺭﺅﻭﻑ ﻛﺎﻟﺮﺣﻤﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺼﻐﺎﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ، ﻭﺟﻤﻴﻞ ﺑﻬﻴﺞ ﻛﺎﻟﺠﻨﺔ ﺍﻟﻠﻄﻴﻔﺔ ﻓﻲ ﺍلآﺧﺮﺓ.

ﻭﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﺁلاﻑ ﺃﻣﺜﻠﺔ ﻣﻘﺎﻡ «ﺍﻟﺬﻡ ﻭﺍﻟﺰﺟﺮ» ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ (ﺍﻟﺤﺠﺮﺍﺕ:12)

ﺗﻨﻬﻰ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﻋﻦ ﺍﻟﻐﻴﺒﺔ ﺑﺴﺖ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﻭﺗﺰﺟﺮ ﻋﻨﻬﺎ ﺑﺸﺪﺓ ﻭﻋﻨﻒ، ﻭﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﺧﻄﺎﺏ ﺍلآﻳﺔ ﻣﻮﺟّﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻐﺘﺎﺑﻴﻦ، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﻛﺎلآﺗﻲ: ﺇﻥّ ﺍﻟﻬﻤﺰﺓ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺪﺍﻳﺔ، ﻟـلاﺳﺘﻔﻬﺎﻡ ﺍلإﻧﻜﺎﺭﻱ، ﺣﻴﺚ ﻳﺴﺮﻱ ﺣُﻜﻤﻪ ﻭﻳﺴﻴﻞُ ﻛﺎﻟﻤﺎﺀ ﺇﻟﻰ ﺟﻤﻴﻊ ﻛﻠﻤﺎﺕ ﺍلآﻳﺔ، ﻓﻜﻞ ﻛﻠﻤﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﺗﺘﻀﻤﻦ ﺣُﻜﻤﺎ؛

ﻓﻔﻲ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍلأﻭﻟﻰ ﺗﺨﺎﻃﺐ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺑﺎﻟﻬﻤﺰﺓ: ﺃﻟﻴﺲ ﻟﻜﻢ ﻋﻘﻞ -ﻭﻫﻮ ﻣﺤﻞ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﻭﺍﻟﺠﻮﺍﺏ- ﻟﻴَﻌﻲ ﻫﺬﺍ ﺍلأﻣﺮَ ﺍﻟﻘﺒﻴﺢ؟

ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ: ﴿أَيُحِبُّ﴾ ﺗﺨﺎﻃﺐ ﺍلآﻳﺔ ﺑﺎﻟﻬﻤﺰﺓ: ﻫﻞ ﻓﺴﺪ ﻗﻠﺒُﻜﻢ -ﻭﻫﻮ ﻣﺤﻞ ﺍﻟﺤﺐ ﻭﺍﻟﺒﻐﺾ- ﺣﺘﻰ ﺃﺻﺒﺢ ﻳﺤﺐ ﺃﻛﺮﻩَ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻭﺃﺷﺪَّﻫﺎ ﺗﻨﻔﻴﺮﺍ.

ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ: ﴿أَحَدُكُمْ﴾ ﺗﺨﺎﻃﺐ ﺑﺎﻟﻬﻤﺰﺓ: ﻣﺎﺫﺍ ﺟﺮﻯ ﻟﺤﻴﺎﺗﻜﻢ ﺍلاﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ -ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﻤﺪ ﺣﻴﻮﻳﺘَﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﻮﻳﺔ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ- ﻭﻣﺎ ﺑﺎﻝ ﻣﺪﻧﻴﺘِﻜﻢ ﻭﺣﻀﺎﺭﺗِﻜﻢ ﺣﺘﻰ ﺃﺻﺒﺤﺖ ﺗﺮﺿﻰ ﺑﻤﺎ ﻳﺴﻤِّﻢ ﺣﻴﺎﺗَﻜﻢ ﻭﻳﻌﻜّﺮ ﺻﻔﻮَﻛﻢ.

ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺮﺍﺑﻌﺔ: ﴿أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ﴾ ﺗﺨﺎﻃﺐ ﺑﺎﻟﻬﻤﺰﺓ: ﻣﺎﺫﺍ ﺃﺻﺎﺏَ ﺇﻧﺴﺎﻧﻴﺘَﻜﻢ؟ ﺣﺘﻰ ﺃﺻﺒﺤﺘﻢ ﺗﻔﺘﺮﺳﻮﻥ ﺻﺪﻳﻘﻜﻢ ﺍﻟﺤﻤﻴﻢ.

ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺨﺎﻣﺴﺔ: ﴿أَخِيهِ﴾ ﺗﺨﺎﻃﺐ ﺑﺎﻟﻬﻤﺰﺓ: ﺃﻟﻴﺲ ﺑﻜﻢ ﺭﺃﻓﺔ ﺑﺒﻨﻲ ﺟﻨﺴِﻜﻢ، ﺃﻟﻴﺲ ﻟﻜﻢ ﺻﻠﺔُ ﺭﺣﻢ ﺗﺮﺑﻄُﻜﻢ ﻣﻌﻬﻢ، ﺣﺘﻰ ﺃﺻﺒﺤﺘﻢ ﺗﻔﺘﻜﻮﻥ ﺑﻤﻦ ﻫﻮ ﺃﺧﻮﻛﻢ ﻣﻦ ﻋﺪﺓ ﺟﻬﺎﺕ، ﻭﺗﻨﻬﺸﻮﻥ ﺷﺨﺼَﻪ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻱ ﺍﻟﻤﻈﻠﻮﻡ ﻧﻬﺸﺎ ﻗﺎﺳﻴﺎ، ﺃﻳﻤﻠﻚ ﻋﻘـلا ﻣﻦ ﻳﻌﺾّ ﻋﻀﻮﺍ ﻣﻦ ﺟﺴﻤﻪ؟ ﺃﻭَﻟﻴﺲ ﻫﻮ ﺑﻤﺠﻨﻮﻥ؟.

ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺴﺎﺩﺳﺔ: ﴿مَيْتًا﴾ ﺗﺨﺎﻃﺐ ﺑﺎﻟﻬﻤﺰﺓ: ﺃﻳﻦ ﻭﺟﺪﺍﻧُﻜﻢ؟ ﺃﻓَﺴﺪَﺕ ﻓﻄﺮﺗُﻜﻢ ﺣﺘﻰ ﺃﺻﺒﺤﺘﻢ ﺗﺠﺘﺮﺣﻮﻥ ﺃﺑﻐﺾَ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻭﺃﻓﺴﺪَﻫﺎ، ﻭﻫﻮ ﺃﻛﻞ ﻟﺤﻢ ﺃﺧﻴﻜﻢ، ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺟﺪﻳﺮ ﺑﻜﻞ ﺍﺣﺘﺮﺍﻡ ﻭﺗﻮﻗﻴﺮ.

ﻳﻔﻬﻢ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ -ﻭﺑﻤﺎ ﺫﻛﺮﻧﺎﻩ ﻣﻦ ﺩلاﺋﻞ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻓﻲ ﻛﻠﻤﺎﺗﻬﺎ- ﺃﻥّ ﺍﻟﻐﻴﺒﺔ ﻣﺬﻣﻮﻣﺔ ﻋﻘـلا ﻭﻗﻠﺒﺎ ﻭﺇﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻭﻭﺟﺪﺍﻧﺎ ﻭﻓﻄﺮﺓ ﻭﻣﻠﺔً.

ﻓﺘﺪﺑّﺮ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ، ﻭﺍﻧﻈﺮ ﻛﻴﻒ ﺃﻧﻬﺎ ﺗﺰﺟُﺮ ﻋﻦ ﺟﺮﻳﻤﺔ ﺍﻟﻐﻴﺒﺔ ﺑﺈﻋﺠﺎﺯ ﺑﺎﻟﻎ ﻭﺑﺈﻳﺠﺎﺯ ﺷﺪﻳﺪ ﻓﻲ ﺳﺖ ﻣﺮﺍﺗﺐ.

ﻭﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﺁلاﻑ ﺃﻣﺜﻠﺔ ﻣﻘﺎﻡ «ﺍلإﺛﺒﺎﺕ» ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (ﺍﻟﺮﻭﻡ:50) ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﺜﺒﺖ ﺍﻟﺤﺸﺮَ ﻭﺗﺰﻳﻞ ﺍﺳﺘﺒﻌﺎﺩﻩ ﺑﺒﻴﺎﻥٍ ﺷﺎﻑٍ ﻭﻭﺍﻑ لا ﺑﻴﺎﻥ ﻓﻮﻗَﻪ. ﻭﺫﻟﻚ ﻛﻤﺎ ﺃﺛﺒﺘﻨﺎ ﻓﻲ «ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺘﺎﺳﻌﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﻌﺎﺷﺮﺓ» ﻭﻓﻲ «ﺍﻟﻠﻤﻌﺔ ﺍﻟﺴﺎﺩﺳﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ» ﺑﺄﻧﻪ ﻛﻠﻤﺎ ﺣﻞّ ﻣﻮﺳﻢُ ﺍﻟﺮﺑﻴﻊ، ﻓﻜﺄﻥ ﺍلأﺭﺽ ﺗُﺒﻌﺚُ ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ ﺑﺎﻧﺒﻌﺎﺙ ﺛـلاﺛﻤﺎﺋﺔ ﺃﻟﻒ ﻧﻮﻉ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﺤﺸﺮ ﻭﺍﻟﻨﺸﻮﺭ، ﻓﻲ ﺍﻧﺘﻈﺎﻡ ﻣﺘﻘﻦ ﻭﺗﻤﻴﻴﺰ ﺗﺎﻡ، ﻋﻠﻤﺎ ﺃﻧﻬﺎ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍلاﺧﺘـلاﻁ ﻭﺍﻟﺘﺸﺎﺑﻚ، ﺣﺘﻰ ﻳﻜﻮﻥ ﺫﻟﻚ ﺍلإﺣﻴﺎﺀ ﻭﺍﻟﺒﻌﺚ ﻇﺎﻫﺮﺍ ﻟﻜﻞ ﻣﺸﺎﻫﺪ، ﻭﻛﺄﻧﻪ ﻳﻘﻮﻝ ﻟﻪ: ﺇﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﺣﻴﺎ ﺍلأﺭﺽ ﻫﻜﺬﺍ ﻟﻦ ﻳﺼﻌﺐَ ﻋﻠﻴﻪ ﺇﻗﺎﻣﺔُ ﺍﻟﺤﺸﺮ ﻭﺍﻟﻨﺸﻮﺭ. ﺛﻢ ﺇﻥ ﻛﺘﺎﺑﺔ ﻫﺬﻩ ﺍلأﻟﻮﻑ ﺍﻟﻤﺆﻟﻔﺔ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍلأﺣﻴﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺻﺤﻴﻔﺔ ﺍلأﺭﺽ ﺑﻘﻠﻢ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﺩﻭﻥ ﺧﻄﺄ ﻭلا ﻧﻘﺺ ﻟﻬﻲ ﺧﺘﻢ ﻭﺍﺿﺢ ﻟﻠﻮﺍﺣﺪ ﺍلأﺣﺪ، ﻓﻜﻤﺎ ﺃﺛﺒﺘﺖ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺍﻟﺘﻮﺣﻴﺪَ، ﺗﺜﺒﺖ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔَ ﻭﺍﻟﺤﺸﺮ ﺃﻳﻀﺎ ﻣﺒﻴﻨﺔً ﺃﻥ ﺍﻟﺤﺸﺮ ﻭﺍﻟﻨﺸﻮﺭ ﺳﻬﻞ ﻋﻠﻰ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﻭﻗﻄﻌﻲ ﺛﺎﺑﺖ ﻛﻘﻄﻌﻴﺔ ﺛﺒﻮﺕ ﻏﺮﻭﺏ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﺷﺮﻭﻗﻬﺎ.

ﺛﻢ ﺇﻥ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺇﺫ ﺗﺒﻴﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑﻠﻔﻆ ﴿ﻛَﻴْﻒَ﴾ ﺃﻱ ﻣﻦ ﺯﺍﻭﻳﺔ ﺍﻟﻜﻴﻔﻴﺔ ﻓﺈﻥ ﺳﻮﺭﺍ ﺃﺧﺮﻯ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﻗﺪ ﻓﺼّﻠﺖ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻜﻴﻔﻴﺔ؛ ﻣﻨﻬﺎ: ﺳﻮﺭﺓ «ﻕ» ﻣﺜـلا، ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﺜﺒﺖ ﺍﻟﺤﺸﺮ ﻭﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﺑﺒﻴﺎﻥ ﺭﻓﻴﻊ ﺟﻤﻴﻞ ﺑﺎﻫﺮ ﻳﻔﻴﺪ ﺃﻧﻪ لا ﺭﻳﺐ ﻓﻲ ﻣﺠﻲﺀ ﺍﻟﺤﺸﺮ ﻛﻤﺎ لا ﺭﻳﺐ ﻓﻲ ﻣﺠﻲﺀ ﺍﻟﺮﺑﻴﻊ. ﻓﺘﺄﻣﻞ ﻓﻲ ﺟﻮﺍﺏ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﻔﺎﺭَ ﺍﻟﻤﻨﻜﺮﻳﻦ ﻭﺗﻌﺠّﺒﻬﻢ ﻣﻦ ﺇﺣﻴﺎﺀ ﺍﻟﻌﻈﺎﻡ ﻭﺗﺤﻮﻟﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺧﻠﻖ ﺟﺪﻳﺪ، ﺇﺫ ﻳﻘﻮﻝ ﻟﻬﻢ: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ (ﻕ:٦-١١).

ﻓﻬﺬﺍ ﺍﻟﺒﻴﺎﻥُ ﻳﺴﻴﻞ ﻛﺎﻟﻤﺎﺀ ﺍﻟﺮﻗﺮﺍﻕ، ﻭﻳﺴﻄﻊ ﻛﺎﻟﻨﺠﻮﻡ ﺍﻟﺰﺍﻫﺮﺓ، ﻭﻫﻮ ﻳُﻄﻌﻢُ ﺍﻟﻘﻠﺐَ ﻭﻳﻐﺬّﻳﻪ ﺑﻐﺬﺍﺀٍ ﺣﻠﻮ ﻃﻴﺐ ﻛﺎﻟﺮُﻃَﺐ. ﻓﻴﻜﻮﻥ ﻏﺬﺍﺀً ﻭﻳﻜﻮﻥ ﻟﺬﺓً ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ.

ﻭﻣﻦ ﺃﻟﻄﻒِ ﺃﻣﺜﻠﺔ ﻣﻘﺎﻡ «ﺍلإﺛﺒﺎﺕ» ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ: ﴿يس * وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (ﻳﺲ:١-٣). ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘَﺴَﻢ ﻳﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺣﺠّﻴﺔ ﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﻭﺑﺮﻫﺎﻧِﻬﺎ ﺑﻴﻘﻴﻦ ﺟﺎﺯﻡ ﻭﺣﻖ ﻭﺍﺿﺢ ﺣﺘﻰ ﺑﻠﻐﺖْ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻘﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﺼﺪﻕ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺘﻌﻈﻴﻢ ﻭﺍلإﺟـلاﻝ، ﻓﻴُﻘْﺴَﻢ ﺑﻪ.

ﻳﻘﻮﻝ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺑﻬﺬﻩ ﺍلإﺷﺎﺭﺓ: ﺇﻧﻚ ﺭﺳﻮﻝ لأﻥ ﻓﻲ ﻳﺪﻙ ﻗﺮﺁﻧﺎ ﺣﻜﻴﻤﺎ، ﻭﺍﻟﻘﺮﺁﻥُ ﻧﻔﺴُﻪ ﺣﻖ ﻭﻛـلاﻡ ﺍﻟﺤﻖ، لأﻥ ﻓﻴﻪ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﺤﻘﺔ ﻭﻋﻠﻴﻪ ﺧﺘﻢَ ﺍلإﻋﺠﺎﺯ.

ﻭﻧﺬﻛﺮ ﻣﻦ ﺃﻣﺜﻠﺔ ﻣﻘﺎﻡ «ﺍلإﺛﺒﺎﺕ» ﺫﺍﺕ ﺍلإﻋﺠﺎﺯ ﻭﺍلإﻳﺠﺎﺯ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ (ﻳﺲ:78-79).

ﻓﻔﻲ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺘﺎﺳﻌﺔ ﻟﻠﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﻌﺎﺷﺮﺓ ﺗﺼﻮﻳﺮ ﻟﻄﻴﻒ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ، ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺤﻮ ﺍلآﺗﻲ: ﺇﻥّ ﺷﺨﺼﺎ ﻋﻈﻴﻤﺎ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻳﺸﻜّﻞ ﺃﻣﺎﻡ ﺃﻧﻈﺎﺭﻧﺎ ﺟﻴﺸﺎ ﺿﺨﻤﺎ ﻓﻲ ﻳﻮﻡ ﻭﺍﺣﺪ. ﻓﺈﺫﺍ ﻗﺎﻝ ﺃﺣﺪُﻫﻢ: ﺇﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﻳﻤﻜﻨُﻪ ﺃﻥ ﻳﺠﻤﻊ ﺟﻨﻮﺩَ ﻃﺎﺑﻮﺭﻩ ﺍﻟﻤﺘﻔﺮﻗﻴﻦ ﻟـلاﺳﺘﺮﺍﺣﺔ ﺑﺒﻮﻕ ﻋﺴﻜﺮﻱ ﻓﻴﻨﺘﻈﻢ ﻟﻪ ﺍﻟﻄﺎﺑﻮﺭ ﺣﺎلا. ﻭﺃﻧﺖ ﺃﻳﻬﺎ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺇﻥ ﻗﻠﺖ: لا ﺃﺻﺪّﻕ!! ﺗﺪﺭﻙ ﻋﻨﺪﺋﺬٍ ﻣﺪﻯ ﺑُﻌﺪ ﺇﻧﻜﺎﺭﻙ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﻘﻞ.

ﻭﺍلأﻣﺮ ﻛﺬﻟﻚ -ﻭﻟﻠﻪ ﺍﻟﻤﺜﻞ ﺍلأﻋﻠﻰ-: ﺃﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺒﻌﺚ ﺃﺟﺴﺎﺩَ ﺍلأﺣﻴﺎﺀ ﻗﺎﻃﺒﺔ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺷﻲﺀ، ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺃﻓﺮﺍﺩُ ﺟﻴﺶ ﺿﺨﻢ ﺑﻜﻤﺎﻝ ﺍلاﻧﺘﻈﺎﻡ ﻭﺑﻤﻴﺰﺍﻥ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ، ﻭﻳﺠﻤﻊ ﺫﺭﺍﺕ ﺗﻠﻚ ﺍلأﺟﺴﺎﺩ ﻭﻟﻄﺎﺋﻔَﻬﺎ ﻭﻳﺤﻔﻈُﻬﺎ ﺑﺄﻣﺮ ﴿ﻛُﻦ ﻓَﻴَﻜُﻮﻥ﴾ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻗﺮﻥ، ﺑﻞ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺭﺑﻴﻊ، ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻪ ﺍلأﺭﺽ ﻛﺎﻓﺔ، ﻭﻳﻮﺟِﺪ ﻣﺌﺎﺕ ﺍلأﻟﻮﻑ ﻣﻦ ﺃﻣﺜﺎﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺫﻭﻱ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ. ﺇﻥ ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ ﺍﻟﻌﻠﻴﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻔﻌﻞ ﻫﺬﺍ ﻫﻞ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳُﺴﺘَﺒﻌﺪ ﻣﻨﻪ ﺟﻤﻊَ ﺍﻟﺬﺭﺍﺕ ﺍلأﺳﺎﺳﻴﺔ ﻭﺍلأﺟﺰﺍﺀَ ﺍلأﺻﻠﻴﺔ ﺍﻟﻤﺘﻌﺎﺭﻓﺔ ﺗﺤﺖ ﻧﻈﺎﻡ ﺍﻟﺠﺴﺪ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺃﻓﺮﺍﺩُ ﺟﻴﺶ ﻣﻨﻈﻢ، ﺑﺼﻴﺤﺔٍ ﻣﻦ ﺻﻮﺭ ﺇﺳﺮﺍﻓﻴﻞ؟ ﺇﻥ ﺍﺳﺘﺒﻌﺎﺩ ﻫﺬﺍ ﻣﻦ ﺫﻟﻜﻢ ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ ﺍﻟﻌﻠﻴﻢ لا ﻣﺤﺎﻟﺔَ ﺟﻨﻮﻥ!

ﻭﻓﻲ ﻣﻘﺎﻡ «ﺍلإﺭﺷﺎﺩ» ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺒﻴﺎﻧﺎﺕ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ ﻣﺆﺛﺮﺓ ﻭﺭﻓﻴﻌﺔ ﻭﻣﺆﻧﺴﺔ ﻭﺭﻗﻴﻘﺔ ﺣﺘﻰ ﺇﻧﻬﺎ ﺗﻤـلأ ﺍﻟﺮﻭﺡَ ﺷﻮﻗﺎ ﻭﺍﻟﻌﻘﻞَ ﻟﻬﻔﺔً ﻭﺍﻟﻌﻴﻦ ﺩﻣﻌﺎ. ﻓﻠﻨﺄﺧﺬ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﺁلاﻑ ﺃﻣﺜﻠﺘﻪ: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ:74) ﻓﻜﻤﺎ ﺃﻭﺿﺤﻨﺎ ﻭﺃﺛﺒﺘﻨﺎ ﻓﻲ ﻣﺒﺤﺚ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﻣﻦ «ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﺍلأﻭﻝ ﻟﻠﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ» ﻓﺈﻥ ﺍلآﻳﺔ ﻫﺬﻩ ﺗﺨﺎﻃﺐ ﺑﻨﻲ ﺇﺳﺮﺍﺋﻴﻞ ﻗﺎﺋﻠﺔ: ﻣﺎﺫﺍ ﺃﺻﺎﺑﻜﻢ ﻳﺎ ﺑﻨﻲ ﺇﺳﺮﺍﺋﻴﻞ ﺣﺘﻰ لا ﺗﺒﺎﻟﻮﻥ ﺑﺠﻤﻴﻊ ﻣﻌﺠﺰﺍﺕ ﻣﻮﺳﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴـلاﻡ، ﻓﻌﻴﻮﻧُﻜﻢ ﺷﺎﺧﺼﺔ ﺟﺎﻓﺔ لا ﺗﺪﻣﻊُ، ﻭﻗﻠﻮﺑُﻜﻢ ﻗﺎﺳﻴﺔ ﻏﻠﻴﻈﺔ لا ﺣﺮﺍﺭﺓَ ﻓﻴﻬﺎ ﻭلا ﺷﻮﻕ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﺤﺠﺎﺭﺓُ ﺍﻟﺼﻠﺪﺓ ﺍﻟﻘﺎﺳﻴﺔ ﻗﺪ ﺫﺭﻓَﺖ ﺍﻟﺪﻣﻮﻉَ ﻣﻦ ﺍﺛﻨﺘﻲ ﻋﺸﺮﺓَ ﻋﻴﻨﺎ ﺑﻀﺮﺑﺔٍ ﻣﻦ ﻋﺼﺎ ﻣﻮﺳﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴـلاﻡ، ﻭﻫﻲ ﻣﻌﺠﺰﺓ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻣﻦ ﻣﻌﺠﺰﺍﺗﻪ!

ﻧﻜﺘﻔﻲ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﻫﻨﺎ ﻭﻧﺤﻴﻞ ﺇﻟﻰ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺣﻴﺚ ﻭُﺿّﺢ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍلإﺭﺷﺎﺩﻱ ﺇﻳﻀﺎﺣﺎ ﻛﺎﻓﻴﺎ.