ﺍﻟﺠﻠﻮﺓ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ

   ﺷﺒﺎﺑﻴﺔ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻭﻓﺘﻮﺗﻪ

    ﺇﻥّ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻗﺪ ﺣﺎﻓﻆ ﻋﻠﻰ ﺷﺒﺎﺑﻴﺘﻪ ﻭﻓﺘﻮﺗﻪ ﺣﺘﻰ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﻨﺰﻝ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻋﺼﺮ ﻧﻀﺮﺍ ﻓﺘﻴﺎ.

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ لأﻧﻪ ﺧﻄﺎﺏ ﺃﺯﻟﻲ ﻳﺨﺎﻃﺐ ﺟﻤﻴﻊ ﻃﺒﻘﺎﺕ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻓﻲ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻌﺼﻮﺭ ﺧﻄﺎﺑﺎ ﻣﺒﺎﺷﺮﺍ ﻳﻠﺰﻡ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻟﻪ ﺷﺒﺎﺑﻴﺔ ﺩﺍﺋﻤﺔ ﻛﻬﺬﻩ. ﻓﻠﻘﺪ ﻇﻬﺮ ﺷﺎﺑﺎ ﻭﻫﻮ ﻛﺬﻟﻚ ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻥ. ﺣﺘﻰ ﺇﻧﻪ ﻳﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻛﻞ ﻋﺼﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺼﻮﺭ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ ﻓﻲ ﺍلأﻓﻜﺎﺭ ﻭﺍﻟﻤﺘﺒﺎﻳﻨﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻄﺒﺎﺋﻊ ﻧﻈﺮﺍ ﻛﺄﻧﻪ ﺧﺎﺹ ﺑﺬﻟﻚ ﺍﻟﻌﺼﺮ ﻭﻭﻓﻖ ﻣﻘﺘﻀﻴﺎﺗﻪ ﻣﻠﻘﻨﺎ ﺩﺭﻭﺳَﻪ ﻣُﻠﻔﺘﺎ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺍلأﻧﻈﺎﺭ.

ﺇﻥّ ﺁﺛﺎﺭ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻭﻗﻮﺍﻧﻴﻨَﻪ ﺗﺸﻴﺐُ ﻭﺗﻬﺮَﻡ ﻣﺜﻠَﻪ، ﻭﺗﺘﻐﻴﺮ ﻭﺗُﺒﺪَّﻝ. ﺇلا ﺃﻥ ﺃﺣﻜﺎﻡ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻭﻗﻮﺍﻧﻴﻨَﻪ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺜﺒﺎﺕ ﻭﺍﻟﺮﺳﻮﺥ ﺑﺤﻴﺚ ﺗﻈﻬﺮ ﻣﺘﺎﻧﺘﻬﺎ ﺃﻛﺜﺮ ﻛﻠﻤﺎ ﻣﺮﺕ ﺍﻟﻌﺼﻮﺭ.

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥّ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﺼﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﺍﻏﺘﺮّ ﺑﻨﻔﺴﻪ ﻭﺃﺻﻢَّ ﺃﺫﻧﻴﻪ ﻋﻦ ﺳﻤﺎﻉ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺃﻛﺜﺮَ ﻣﻦ ﺃﻱ ﻋﺼﺮ ﻣﻀﻰ، ﻭﺃﻫﻞَ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ ﻣﻨﻬﻢ ﺧﺎﺻﺔ، ﺃﺣﻮﺝُ ﻣﺎ ﻳﻜﻮﻧﻮﻥ ﺇﻟﻰ ﺇﺭﺷﺎﺩ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺨﺎﻃﺒﻬﻢ ﺑ ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ ﺣﺘﻰ ﻛﺄﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﻣﻮﺟّﻪ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﺼﺮ ﺑﺎﻟﺬﺍﺕ ﺇﺫ ﺇﻥ ﻟﻔﻆ ﴿ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ﴾ ﻳﺘﻀﻤﻦ ﻣﻌﻨﻰً: ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺍﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﺃﻳﻀﺎ!

ﻓﺎﻟﻘﺮﺁﻥ ﻳُﻄﻠﻖ ﻧﺪﺍﺀﻩ ﻳﺪﻭّﻱ ﻓﻲ ﺃﺟﻮﺍﺀ ﺍلآﻓﺎﻕ ﻭﻳﻤـلأ ﺍلأﺭﺽ ﻭﺍﻟﺴﺒﻊَ ﺍﻟﻄﺒﺎﻕ ﺑﻜﻞ ﺷﺪﺓ ﻭﻗﻮﺓ ﻭﺑﻜﻞ ﻧﻀﺎﺭﺓ ﻭﺷﺒﺎﺏ ﻓﻴﻘﻮﻝ: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ..﴾ (ﺁﻝ ﻋﻤﺮﺍﻥ:64).

ﻓﻤﺜـلا: ﺇﻥّ ﺍلأﻓﺮﺍﺩ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺎﺕ ﻣﻊ ﺃﻧﻬﻢ ﻗﺪ ﻋﺠﺰﻭﺍ ﻋﻦ ﻣﻌﺎﺭﺿﺔ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺇلا ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺣﺼﻴﻠﺔُ ﺃﻓﻜﺎﺭ ﺑﻨﻲ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻭﺭﺑﻤﺎ ﺍﻟﺠﻦّ ﺃﻳﻀﺎ، ﻗﺪ ﺍﺗﺨﺬﺕ ﻃﻮﺭﺍ ﻣﺨﺎﻟﻔﺎ ﻟﻪ، ﻭﺃﺧﺬﺕ ﺗﻌﺎﺭﺽ ﺇﻋﺠﺎﺯَﻩ ﺑﺄﺳﺎﻟﻴﺒﻬﺎ ﺍﻟﺴﺎﺣﺮﺓ. ﻓـلأﺟﻞ ﺇﺛﺒﺎﺕ ﺇﻋﺠﺎﺯ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺑﺪﻋﻮﻯ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ..﴾ (ﺍلإﺳﺮﺍﺀ:٨٨) ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﻤﻌﺎﺭِﺽ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ ﺍﻟﺮﻫﻴﺐ ﻧﻀﻊ ﺍلأﺳﺲ ﻭﺍﻟﺪﺳﺎﺗﻴﺮ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺗﺖ ﺑﻬﺎ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔُ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮﺓ ﺃﻣﺎﻡ ﺃﺳﺲ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ.

ﻓﻔﻲ ﺍﻟﺪﺭﺟﺔ ﺍلأﻭﻟﻰ: ﻧﻀﻊ ﺍﻟﻤﻮﺍﺯﻧﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﻋُﻘﺪﺕ ﻭﺍﻟﻤﻮﺍﺯﻳﻦ ﺍﻟﺘﻲ ﻧُﺼﺒﺖ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﻠﻤﺎﺕ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﺔ، ﺍﺑﺘﺪﺍﺀً ﻣﻦ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍلأﻭﻟﻰ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺨﺎﻣﺴﺔ ﻭﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ، ﻭﻛﺬﺍ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺍﻟﻤﺘﺼﺪﺭﺓ ﻟﺘﻠﻚ ﺍﻟﻜﻠﻤﺎﺕ ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺗﺒﻴﻦ ﺣﻘﻴﻘﺘَﻬﺎ، ﺗﺜﺒﺖُ ﺇﻋﺠﺎﺯَ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻭﻇﻬﻮﺭَﻩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮﺓ ﺑﻴﻘﻴﻦ لا ﻳﻘﺒﻞ ﺍﻟﺸﻚ ﻗﻄﻌﺎ.

ﻭﻓﻲ ﺍﻟﺪﺭﺟﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ: ﻧﻮﺭﺩ ﺇﺟﻤﺎلا ﻗﺴﻤﺎ ﻣﻦ ﺩﺳﺎﺗﻴﺮ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﺘﻲ ﻭﺿّﺤﺘﻪ ﻭﺃﺛﺒﺘﺘﻪ «ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻋﺸﺮﺓ».

ﻓﺎﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮﺓ ﺗﺆﻣﻦ ﺑﻔﻠﺴﻔﺘﻬﺎ ﺃﻥ ﺭﻛﻴﺰﺓ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍلاﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﻫﻲ «ﺍﻟﻘﻮﺓ» ﻭﻫﻲ ﺗﺴﺘﻬﺪﻑ «ﺍﻟﻤﻨﻔﻌﺔ» ﻓﻲ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ. ﻭﺗﺘﺨﺬ «ﺍﻟﺼﺮﺍﻉ» ﺩﺳﺘﻮﺭﺍ ﻟﻠﺤﻴﺎﺓ. ﻭﺗﻠﺘﺰﻡ ﺑ «ﺍﻟﻌﻨﺼﺮﻳﺔ» ﻭ«ﺍﻟﻘﻮﻣﻴﺔ ﺍﻟﺴﻠﺒﻴﺔ» ﺭﺍﺑﻄﺔً ﻟﻠﺠﻤﺎﻋﺎﺕ. ﻭﻏﺎﻳﺘُﻬﺎ ﻫﻲ «ﻟﻬﻮ ﻋﺎﺑﺚ» لإﺷﺒﺎﻉ ﺭﻏﺒﺎﺕ ﺍلأﻫﻮﺍﺀ ﻭﻣﻴﻮﻝ ﺍﻟﻨﻔﺲ، ﺍﻟﺘﻲ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻬﺎ ﺗﺰﻳﻴﺪ ﺟﻤﻮﺡ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻭﺇﺛﺎﺭﺓ ﺍﻟﻬﻮﻯ. ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻡ ﺇﻥ ﺷﺄﻥ  «ﺍﻟﻘﻮﺓ» ﻫﻮ «ﺍﻟﺘﺠﺎﻭﺯ». ﻭﺷﺄﻥ «ﺍﻟﻤﻨﻔﻌﺔ» ﻫﻮ «ﺍﻟﺘﺰﺍﺣﻢ». ﺇﺫ ﻫﻲ لا ﺗﻔﻲ ﺑﺤﺎﺟﺎﺕ ﺍﻟﺠﻤﻴﻊ ﻭﺗﻠﺒﻴﺔ ﺭﻏﺒﺎﺗِﻬﻢ. ﻭﺷﺄﻥ «ﺍﻟﺼﺮﺍﻉ» ﻫﻮ «ﺍﻟﺘﺼﺎﺩﻡ» ﻭﺷﺄﻥ «ﺍﻟﻌﻨﺼﺮﻳﺔ» ﻫﻮ «ﺍﻟﺘﺠﺎﻭﺯ» ﺣﻴﺚ ﺗﻜﺒﺮ ﺑﺎﺑﺘـلاﻉ ﻏﻴﺮﻫﺎ.

ﻓﻬﺬﻩ ﺍﻟﺪﺳﺎﺗﻴﺮ ﻭﺍلأﺳﺲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﻨﺪ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮﺓ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺟﻌﻠَﺘﻬﺎ ﻋﺎﺟﺰﺓً -ﻣﻊ ﻣﺤﺎﺳﻨﻬﺎ- ﻋﻦ ﺃﻥ ﺗﻤﻨﺢَ ﺳﻮﻯ ﻋﺸﺮﻳﻦ ﺑﺎﻟﻤﺎﺋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﺳﻌﺎﺩﺓً ﻇﺎﻫﺮﻳﺔ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺃﻟﻘَﺖ ﺍﻟﺒﻘﻴﺔ ﺇﻟﻰ ﺷﻘﺎﺀ ﻭﺗﻌﺎﺳﺔ ﻭﻗﻠﻖ.

ﺃﻣﺎ ﺣﻜﻤﺔُ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻓﻬﻲ ﺗﻘﺒﻞ «ﺍﻟﺤﻖ» ﻧﻘﻄﺔَ ﺍﺳﺘﻨﺎﺩٍ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍلاﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺑﺪلا ﻣﻦ «ﺍﻟﻘﻮﺓ».. ﻭﺗﺠﻌﻞ «ﺭﺿﻰ ﺍﻟﻠﻪ» ﻭ«ﻧﻴﻞ ﺍﻟﻔﻀﺎﺋﻞ» ﻫﻮ ﺍﻟﻐﺎﻳﺔ ﻭﺍﻟﻬﺪﻑ، ﺑﺪلا ﻣﻦ «ﺍﻟﻤﻨﻔﻌﺔ».. ﻭﺗﺘﺨﺬ ﺩﺳﺘﻮﺭَ «ﺍﻟﺘﻌﺎﻭﻥ» ﺃﺳﺎﺳﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ، ﺑﺪلا ﻣﻦ ﺩﺳﺘﻮﺭ «ﺍﻟﺼﺮﺍﻉ».. ﻭﺗﻠﺘﺰﻡ ﺭﺍﺑﻄﺔ «ﺍﻟﺪﻳﻦ» ﻭﺍﻟﺼﻨﻒ ﻭﺍﻟﻮﻃﻦ ﻟﺮﺑﻂ ﻓﺌﺎﺕ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺎﺕ، ﺑﺪلا ﻣﻦ «ﺍﻟﻌﻨﺼﺮﻳﺔ» ﻭ«ﺍﻟﻘﻮﻣﻴﺔ ﺍﻟﺴﻠﺒﻴﺔ».. ﻭﺗﺠﻌﻞ ﻏﺎﻳﺎﺗﻬﺎ «ﺍﻟﺤﺪّ ﻣﻦ ﺗﺠﺎﻭﺯ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﺍلأﻣﺎﺭﺓ ﻭﺩﻓﻊ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺇﻟﻰ ﻣﻌﺎﻟﻲ ﺍلأﻣﻮﺭ ﻭﺗﻄﻤﻴﻦ ﻣﺸﺎﻋﺮﻫﺎ ﺍﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ﻟﺴَﻮﻕ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻧﺤﻮ ﺍﻟﻜﻤﺎﻝ ﻭﺍﻟﻤُﺜﻞ ﺍﻟﻌﻠﻴﺎ ﻟﺠﻌﻞ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺇﻧﺴﺎﻧﺎ ﺣﻘﺎ».

ﺇﻥّ ﺷﺄﻥَ «ﺍﻟﺤﻖ» ﻫﻮ «ﺍلاﺗﻔﺎﻕ».. ﻭﺷﺄﻥ «ﺍﻟﻔﻀﻴﻠﺔ» ﻫﻮ «ﺍﻟﺘﺴﺎﻧﺪ».. ﻭﺷﺄﻥ «ﺍﻟﺘﻌﺎﻭﻥ» ﻫﻮ «ﺇﻏﺎﺛﺔ ﻛﻞّ ﻟـلآﺧﺮ».. ﻭﺷﺄﻥ «ﺍﻟﺪﻳﻦ» ﻫﻮ «ﺍلأﺧﻮﺓ ﻭﺍﻟﺘﻜﺎﺗﻒ».. ﻭﺷﺄﻥ «ﺇﻟﺠﺎﻡ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻭﻛﺒﺢ ﺟﻤﺎﺣﻬﺎ ﻭﺇﻃـلاﻕ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﻭﺣﺜّﻬﺎ ﻧﺤﻮ ﺍﻟﻜﻤﺎﻝ» ﻫﻮ «ﺳﻌﺎﺩﺓ ﺍﻟﺪﺍﺭﻳﻦ».

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻏُﻠﺒﺖ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔُ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮﺓ ﺃﻣﺎﻡَ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ ﻣﻊ ﻣﺎ ﺃﺧﺬﺕ ﻣﻦ ﻣﺤﺎﺳﻦَ ﻣﻦ ﺍلأﺩﻳﺎﻥ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﺔ، ﻭلاﺳﻴﻤﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ.

ﻭﻓﻲ ﺍﻟﺪﺭﺟﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ: ﺳﻨﺒﻴﻦ -ﻋﻠﻰ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ- ﺃﺭﺑﻌﺔَ ﻣﺴﺎﺋﻞ ﻓﺤﺴﺐ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﺁلاﻑ ﺍﻟﻤﺴﺎﺋﻞ:

ﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ ﺍلأﻭﻟﻰ: ﺇﻥّ ﺩﺳﺎﺗﻴﺮ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻭﻗﻮﺍﻧﻴﻨَﻪ لأﻧﻬﺎ ﺁﺗﻴﺔ ﻣﻦ ﺍلأﺯﻝ، ﻓﻬﻲ ﺑﺎﻗﻴﺔ ﻭﻣﺎﺿﻴﺔ ﺇﻟﻰ ﺍلأﺑﺪ. لا ﺗﻬﺮَﻡ ﺃﺑﺪﺍ ﻭلا ﻳﺼﻴﺒُﻬﺎ ﺍﻟﻤﻮﺕُ، ﻛﻤﺎ ﺗﻬﺮﻡُ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﻭﺗﻤﻮﺕ، ﺑﻞ ﻫﻲ ﺷﺎﺑّﺔ ﻭﻗﻮﻳﺔ ﺩﺍﺋﻤﺎ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺯﻣﺎﻥ.

ﻓﻤﺜـلا: ﺇﻥ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﺑﻜﻞ ﺟﻤﻌﻴﺎﺗِﻬﺎ ﺍﻟﺨﻴﺮﻳﺔ، ﻭﺃﻧﻈﻤﺘﻬﺎ ﺍﻟﺼﺎﺭﻣﺔ ﻭﻧُﻈُﻤﻬﺎ ﺍﻟﺠﺒﺎﺭﺓ، ﻭﻣﺆﺳﺴﺎﺗِﻬﺎ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ ﺍلأﺧـلاﻗﻴﺔ ﻟﻢ ﺗﺴﺘﻄﻊ ﺃﻥ ﺗﻌﺎﺭﺽ ﻣﺴﺄﻟﺘﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ، ﺑﻞ ﺍﻧﻬﺎﺭﺕ ﺃﻣﺎﻣَﻬﻤﺎ ﻭﻫﻲ ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿وَآَتُوا الزَّكَاةَ﴾ (ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ:43) ﻭ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ (ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ:275).

ﺳﻨﺒﻴﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻈﻬﻮﺭَ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻲ ﺍﻟﻤﻌﺠﺰ ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﻐﺎﻟﺒﻴﺔ ﺑﻤﻘﺪﻣﺔ: ﺇﻥّ ﺃﺱّ ﺃﺳﺎﺱ ﺟﻤﻴﻊ ﺍلاﺿﻄﺮﺍﺑﺎﺕ ﻭﺍﻟﺜﻮﺭﺍﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍلإﻧﺴﺎﻧﻲ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻛﻠﻤﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﻣﻨﺒﻊ ﺟﻤﻴﻊ ﺍلأﺧـلاﻕ ﺍﻟﺮﺫﻳﻠﺔ ﻛﻠﻤﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﺃﻳﻀﺎ. ﻛﻤﺎ ﺃﺛﺒﺖ ﺫﻟﻚ ﻓﻲ «ﺇﺷﺎﺭﺍﺕ ﺍلإﻋﺠﺎﺯ».

ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍلأﻭﻟﻰ: «ﺇﻥ ﺷﺒﻌﺖُ، ﻓـلا ﻋﻠﻲّ ﺃﻥ ﻳﻤﻮﺕَ ﻏﻴﺮﻱ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻮﻉ».

ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ: «ﺍﻛﺘﺴﺐْ ﺃﻧﺖَ، لآﻛﻞ ﺃﻧﺎ، ﻭﺍﺗﻌﺐْ ﺃﻧﺖ لأﺳﺘﺮﻳﺢ ﺃﻧﺎ».

ﻧﻌﻢ، ﺇﻧﻪ لا ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻟﻌﻴﺶُ ﺑﺴـلاﻡ ﻭﻭﺋﺎﻡ ﻓﻲ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﺇلا ﺑﺎﻟﻤﺤﺎﻓﻈﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻮﺍﺯﻥ ﺍﻟﻘﺎﺋﻢ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺨﻮﺍﺹ ﻭﺍﻟﻌﻮﺍﻡ، ﺃﻱ ﺑﻴﻦ ﺍلأﻏﻨﻴﺎﺀ ﻭﺍﻟﻔﻘﺮﺍﺀ. ﻭﺃﺳﺎﺱ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﻮﺍﺯﻥ ﻫﻮ ﺭﺣﻤﺔُ ﺍﻟﺨﻮﺍﺹ ﻭﺷﻔﻘﺘُﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﻮﺍﻡ، ﻭﺇﻃﺎﻋﺔُ ﺍﻟﻌﻮﺍﻡ ﻭﺍﺣﺘﺮﺍﻣُﻬﻢ ﻟﻠﺨﻮﺍﺹ.

ﻓﺎلآﻥ، ﺇﻥ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍلأﻭﻟﻰ ﻗﺪ ﺳﺎﻗﺖ ﺍﻟﺨﻮﺍﺹَّ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻈﻠﻢ ﻭﺍﻟﻔﺴﺎﺩ، ﻭﺩﻓﻌﺖ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔُ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﻌﻮﺍﻡَ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻘﺪ ﻭﺍﻟﺤﺴﺪ ﻭﺍﻟﺼﺮﺍﻉ. ﻓﺴُﻠﺒﺖ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﺍﻟﺮﺍﺣﺔَ ﻭﺍلأﻣﺎﻥ ﻟﻌﺼﻮﺭ ﺧﻠﺖ، ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﺼﺮ، ﺣﻴﺚ ﻇﻬﺮﺕ ﺣﻮﺍﺩﺙ ﺃﻭﺭﺑﺎ ﺍﻟﺠﺴﺎﻡ ﺑﺎﻟﺼﺮﺍﻉ ﺍﻟﻘﺎﺋﻢ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻌﺎﻣﻠﻴﻦ ﻭﺃﺻﺤﺎﺏ ﺭﺃﺱ ﺍﻟﻤﺎﻝ ﻛﻤﺎ لا ﻳﺨﻔﻰ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺪ.

ﻓﺎﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﺑﻜﻞ ﺟﻤﻌﻴﺎﺗﻬﺎ ﺍﻟﺨﻴﺮﻳﺔ ﻭﻣﺆﺳﺴﺎﺗﻬﺎ ﺍلأﺧـلاﻗﻴﺔ ﻭﺑﻜﻞ ﻭﺳﺎﺋﻞ ﻧﻈﺎﻣﻬﺎ ﻭﺍﻧﻀﺒﺎﻃﻬﺎ ﺍﻟﺼﺎﺭﻡ ﻋﺠﺰﺕْ ﻋﻦ ﺃﻥ ﺗﺼﻠﺢ ﺑﻴﻦ ﺗﻴﻨﻚ ﺍﻟﻄﺒﻘﺘﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺸﺮ، ﻛﻤﺎ ﻋﺠﺰﺕ ﻋﻦ ﺃﻥ ﺗﻀﻤﺪ ﺟﺮﺣَﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﺍﻟﻐﺎﺋﺮَﻳﻦ.

ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻘﻠﻊ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔَ ﺍلأﻭﻟﻰ ﻣﻦ ﺟﺬﻭﺭﻫﺎ، ﻭﻳﺪﺍﻭﻳﻬﺎ ﺑﻮﺟﻮﺏ ﺍﻟﺰﻛﺎﺓ. ﻭﻳﻘﻠﻊ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔَ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻣﻦ ﺃﺳﺎﺳﻬﺎ ﻭﻳﺪﺍﻭﻳﻬﺎ ﺑﺤﺮﻣﺔ ﺍﻟﺮﺑﺎ. ﻧﻌﻢ، ﺇﻥ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ ﺗﻘﻒ ﻋﻠﻰ ﺑﺎﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟَﻢ ﻗﺎﺋﻠﺔ ﻟﻠﺮﺑﺎ: «ﺍﻟﺪﺧﻮﻝ ﻣﻤﻨﻮﻉ». ﻭﺗﺄﻣﺮ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ: «ﺃﻭﺻﺪﻭﺍ ﺃﺑﻮﺍﺏ ﺍﻟﺮﺑﺎ ﻟﺘﻨﺴﺪ ﺃﻣﺎﻣَﻜﻢ ﺃﺑﻮﺍﺏ ﺍﻟﺤﺮﻭﺏ». ﻭﺗﺤﺬّﺭ ﺗـلاﻣﻴﺬ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﺧﻮﻝ ﻓﻴﻬﺎ.

ﺍلأﺳﺎﺱ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ: ﺇﻥّ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮﺓ لا ﺗﻘﺒﻞ ﺗﻌﺪﺩَ ﺍﻟﺰﻭﺟﺎﺕ، ﻭﺗﺤﺴﺐ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺤﻜﻢَ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻲ ﻣﺨﺎﻟﻔﺎ ﻟﻠﺤﻜﻤﺔ ﻭﻣﻨﺎﻓﻴﺎ ﻟﻤﺼﻠﺤﺔ ﺍﻟﺒﺸﺮ.

ﻧﻌﻢ، ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔُ ﻣﻦ ﺍﻟﺰﻭﺍﺝ ﻗﺎﺻﺮﺓً ﻋﻠﻰ ﻗﻀﺎﺀ ﺍﻟﺸﻬﻮﺓ ﻟﻠﺰﻡ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺍلأﻣﺮُ ﻣﻌﻜﻮﺳﺎ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻫﻮ ﺛﺎﺑﺖ ﺣﺘﻰ ﺑﺸﻬﺎﺩﺓ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﺎﺕ ﻭﺑﺘﺼﺪﻳﻖ ﺍﻟﻨﺒﺎﺗﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺰﺍﻭﺟﺔ؛ ﺇﻥّ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺰﻭﺍﺝ ﻭﺍﻟﻐﺎﻳﺔَ ﻣﻨﻪ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻜﺎﺛﺮ ﻭﺇﻧﺠﺎﺏ ﺍﻟﻨﺴﻞ. ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻠﺬﺓُ ﺍﻟﺤﺎﺻﻠﺔ ﻣﻦ ﻗﻀﺎﺀ ﺍﻟﺸﻬﻮﺓ ﻓﻬﻲ ﺃﺟﺮﺓ ﺟﺰﺋﻴﺔ ﺗﻤﻨﺤﻬﺎ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔُ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﻟﺘﺄﺩﻳﺔ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻬﻤﺔ. ﻓﻤﺎ ﺩﺍﻡ ﺍﻟﺰﻭﺍﺝُ ﻟﻠﺘﻜﺎﺛﺮ ﻭﺇﻧﺠﺎﺏ ﺍﻟﻨﺴﻞ ﻭﻟﺒﻘﺎﺀ ﺍﻟﻨﻮﻉ ﺣﻜﻤﺔً ﻭﺣﻘﻴﻘﺔً، ﻓـلا ﺷﻚ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ ﺍﻟﺘﻲ لا ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﺗﻠﺪ ﺇلا ﻣﺮﺓً ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻨﺔ، ﻭلا ﺗﻜﻮﻥ ﺧﺼﺒﺔ ﺇلا ﻧﺼﻒ ﺃﻳﺎﻡ ﺍﻟﺸﻬﺮ ﻭﺗﺪﺧﻞ ﺳﻦ ﺍﻟﻴﺄﺱ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﻤﺴﻴﻦ ﻣﻦ ﻋﻤﺮﻫﺎ، لا ﺗﻜﻔﻲ ﺍﻟﺮﺟﻞَ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻪ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓُ ﻋﻠﻰ ﺍلإﺧﺼﺎﺏ ﻓﻲ ﺃﻏﻠﺐ ﺍلأﻭﻗﺎﺕ ﺣﺘﻰ ﻭﻫﻮ ﺍﺑﻦ ﻣﺎﺋﺔ ﺳﻨﺔ. ﻟﺬﺍ ﺗﻀﻄﺮ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔُ ﺇﻟﻰ ﻓﺘﺢ ﺃﻣﺎﻛﻦ ﺍﻟﻌﻬﺮ ﻭﺍﻟﻔﺤﺶ.

ﺍلأﺳﺎﺱ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ: ﺇﻥّ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ لا ﺗﺘﺤﺎﻛﻢ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻨﻄﻖ ﺍﻟﻌﻘﻠﻲ، ﺗﻨﺘﻘﺪ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ (ﺍﻟﻨﺴﺎﺀ:١١) ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﻨﺢ ﺍﻟﻨﺴﺎﺀ ﺍﻟﺜُﻠﺚ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻴﺮﺍﺙ (ﺃﻱ ﻧﺼﻒ ﻣﺎ ﻳﺄﺧﺬﻩ ﺍﻟﺬﻛﺮ).

ﻭﻣﻦ ﺍﻟﺒﺪﻳﻬﻲ ﺃﻥ ﺃﻏﻠﺐ ﺍلأﺣﻜﺎﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍلاﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺇﻧﻤﺎ ﺗُﺴﻦّ ﺣﺴﺐ ﺍلأﻛﺜﺮﻳﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ﻓﻐﺎﻟﺒﻴﺔُ ﺍﻟﻨﺴﺎﺀ ﻳﺠﺪﻥ ﺃﺯﻭﺍﺟﺎ ﻳﻌﻴﻠﻮﻧَﻬﻦ ﻭﻳﺤﻤﻮﻧَﻬﻦ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺟﺎﻝ ﻣﻀﻄﺮﻭﻥ ﺇﻟﻰ ﺇﻋﺎﻟﺔ ﺯﻭﺟﺎﺗﻬﻢ ﻭﺗﺤﻤّﻞ ﻧﻔﻘﺎﺗﻬﻦ. ﻓﺈﺫﺍ ﻣﺎ ﺃﺧﺬﺕ ﺍلأﻧﺜﻰ ﺍﻟﺜُﻠﺚ ﻣﻦ ﺃﺑﻴﻬﺎ (ﺃﻱ ﻧﺼﻒ ﻣﺎ ﺃﺧﺬﻩ ﺍﻟﺰﻭﺝ ﻣﻦ ﺃﺑﻴﻪ) ﻓﺈﻥ ﺯﻭﺟَﻬﺎ ﺳﻴﺴﺪُّ ﺣﺎﺟﺘَﻬﺎ. ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺇﺫﺍ ﺃﺧﺬ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺣﻈَّﻴﻦ ﻣﻦ ﺃﺑﻴﻪ، ﻓﺈﻧﻪ ﺳﻴُﻨﻔﻖ ﻗﺴﻄﺎ ﻣﻨﻪ ﻋﻠﻰ ﺯﻭﺟﺘﻪ. ﻭﺑﺬﻟﻚ ﺗﺤﺼﻞ ﺍﻟﻤﺴﺎﻭﺍﺓُ، ﻭﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﻣﺴﺎﻭﻳﺎ لأﺧﺘﻪ. ﻭﻫﻜﺬﺍ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﺍﻟﻌﺪﺍﻟﺔُ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ. (حاشية) ﻫﺬﻩ ﻓﻘﺮﺓ ﻣﻦ ﺍﻟـلاﺋﺤﺔ ﺍﻟﻤﺮﻓﻮﻋﺔ ﺇﻟﻰ ﻣﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﺘﻤﻴﻴﺰ، ﺃﻟﻘﻴﺖ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﻤﺤﻜﻤﺔ، ﻓﺄﺳﻜﺘَﺘﻬﺎ ﻭﺃﺻﺒﺤﺖ ﺣﺎﺷﻴﺔ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ: ﻭﺃﻧﺎ ﺃﻗﻮﻝ ﻟﻤﺤﻜﻤﺔ ﻭﺯﺍﺭﺓ ﺍﻟﻌﺪﻝ ﺍﻟﻤﻮﻗﺮﺓ! ﺇﻥ ﺇﺩﺍﻧﺔَ ﻣﻦ ﻳﻔﺴّﺮ ﺃﻗﺪﺱ ﺩﺳﺘﻮﺭ ﺇﻟﻬﻲ ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺤﻖ ﺑﻌﻴﻨﻪ، ﻭﻳﺤﺘﻜﻢ ﺇﻟﻴﻪ ﺛـلاﺙ ﻣﺎﺋﺔ ﻭﺧﻤﺴﻮﻥ ﻣﻠﻴﻮﻧﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻋﺼﺮ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ ﺍلاﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﺧـلاﻝ ﺃﻟﻒ ﻭﺛـلاﺙ ﻣﺎﺋﺔ ﻭﺧﻤﺴﻴﻦ ﻋﺎﻣﺎ. ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻔﺴﺮُ ﺍﺳﺘﻨﺪ ﻓﻲ ﺗﻔﺴﻴﺮﻩ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﺍﺗﻔﻖ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺻﺪَّﻕ ﺑﻪ ﺛـلاﺙُ ﻣﺎﺋﺔ ﻭﺧﻤﺴﻮﻥ ﺃﻟﻒ ﻣﻔﺴﺮ، ﻭﺍﻗﺘﺪﻯ ﺑﺎﻟﻌﻘﺎﺋﺪ ﺍﻟﺘﻲ ﺩﺍﻥ ﺑﻬﺎ ﺃﺟﺪﺍﺩُﻧﺎ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﻮﻥ ﻓﻲ ﺃﻟﻒ ﻭﺛـلاﺙ ﻣﺎﺋﺔ ﻭﺧﻤﺴﻴﻦ ﺳﻨﺔ.. ﺃﻗﻮﻝ: ﺇﻥ ﺇﺩﺍﻧﺔَ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻔﺴﺮ ﻗﺮﺍﺭ ﻇﺎﻟﻢ لاﺑﺪ ﺃﻥ ﺗﺮﻓﻀﻪ ﺍﻟﻌﺪﺍﻟﺔ، ﺇﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎﻙ ﻋﺪﺍﻟﺔ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻪ ﺍلأﺭﺽ، ﻭلاﺑﺪ ﺃﻥ ﺗﺮﺩّ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﺼﺎﺩﺭ ﺑﺤﻘﻪ ﻭﺗﻨﻘﻀﻪ.

ﺍلأﺳﺎﺱ ﺍﻟﺮﺍﺑﻊ: ﺇﻥّ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﻤﻨﻊ ﺑﺸﺪﺓ ﻋﺒﺎﺩﺓَ ﺍلأﺻﻨﺎﻡ، ﻳﻤﻨﻊ ﻛﺬﻟﻚ ﺍﺗﺨﺎﺫ ﺍﻟﺼﻮﺭ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺷﺒﻴﻬﺔ ﺑﻨﻮﻉ ﻣﻦ ﺍﺗﺨﺎﺫ ﺍلأﺻﻨﺎﻡ. ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮﺓ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﻌﺪّ ﺍﻟﺼﻮﺭ ﻣﻦ ﻣﺰﺍﻳﺎﻫﺎ ﻭﻓﻀﺎﺋﻠﻬﺎ ﻭﺗﺤﺎﻭﻝ ﺃﻥ ﺗﻌﺎﺭﺽ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ. ﻭﺍﻟﺤﺎﻝ ﺃﻥ ﺍﻟﺼﻮَﺭ ﺃﻳﺎ ﻛﺎﻧﺖ، ﻇﻠﻴﺔً ﺃﻭ ﻏﻴﺮﻫﺎ، ﻓﻬﻲ ﺇﻣﺎ ﻇﻠﻢ ﻣﺘﺤﺠﺮ، ﺃﻭ ﺭﻳﺎﺀ ﻣﺘﺠﺴﺪ، ﺃﻭ ﻫﻮﻯ ﻣﺘﺠﺴّﻢ، ﺣﻴﺚ ﺗﻬﻴّﺞ ﺍلأﻫﻮﺍﺀَ ﻭﺗﺪﻓﻊ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻈﻠﻢ ﻭﺍﻟﺮﻳﺎﺀ ﻭﺍﻟﻬﻮﻯ.

ﺛﻢ ﺇﻥ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻳﺄﻣﺮ ﺍﻟﻨﺴﺎﺀ ﺃﻥ ﻳﺤﺘﺠِﺒﻦ ﺑﺤﺠﺎﺏ ﺍﻟﺤﻴﺎﺀ، ﺭﺣﻤﺔً ﺑﻬﻦ ﻭﺻﻴﺎﻧﺔً ﻟﺤﺮﻣﺘﻬﻦ ﻭﻛﺮﺍﻣﺘﻬﻦ، ﻭﻟﻜﻲ لا ﺗُﻬﺎﻥ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻌﺎﺩﻥ ﺍﻟﺜﻤﻴﻨﺔ ﻣﻌﺎﺩﻥ ﺍﻟﺸﻔﻘﺔ ﻭﺍﻟﺮﺃﻓﺔ، ﻭﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺼﺎﺩﺭ ﺍﻟﻠﻄﻴﻔﺔ ﻟﻠﺤﻨﺎﻥ ﻭﺍﻟﺮﺣﻤﺔ، ﺗﺤﺖ ﺃﻗﺪﺍﻡ ﺍﻟﺬﻝ ﻭﺍﻟﻤﻬﺎﻧﺔ. ﻭﻟﻜﻲ لا ﻳﻜﻦّ ﺁﻟﺔً ﻟﻬﻮﺳﺎﺕ ﺍﻟﺮﺫﻳﻠﺔ ﻭﻣﺘﻌﺔ ﺗﺎﻓﻬﺔ لا ﻗﻴﻤﺔ ﻟﻬﺎ. (حاشية) ﺇﻥ ﺍﻟﻠﻤﻌﺔ ﺍﻟﺮﺍﺑﻌﺔ ﻭﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ ﺗﺜﺒﺖ ﺑﻘﻄﻌﻴﺔ ﺗﺎﻣﺔ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﺠﺎﺏ ﺃﻣﺮ ﻓﻄﺮﻱ ﺟﺪﺍ ﻟﻠﻨﺴﺎﺀ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺭﻓﻊُ ﺍﻟﺤﺠﺎﺏ ﻳﻨﺎﻓﻲ ﻓﻄﺮﺗَﻬﻦ.. ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻗﺪ ﺃﺧﺮﺟﺖ ﺍﻟﻨﺴﺎﺀ ﻣﻦ ﺃﻭﻛﺎﺭﻫﻦ ﻭﺑﻴﻮﺗﻬﻦ ﻭﻣﺰّﻗﺖ ﺣﺠﺎﺑَﻬﻦ ﻭﺃﺩَّﺕ ﺑﺎﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﺃﻥ ﻳﺠﻦّ ﺟﻨﻮﻧُﻬﺎ. ﻋﻠﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻌﺎﺋﻠﻴﺔ ﺇﻧﻤﺎ ﺗﺪﻭﻡ ﺑﺎﻟﻤﺤﺒﺔ ﻭﺍلاﺣﺘﺮﺍﻡ ﺍﻟﻤﺘﺒﺎﺩﻝ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺰﻭﺝ ﻭﺍﻟﺰﻭﺟﺔ. ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﺘﻜﺸﻒ ﻭﺍﻟﺘﺒﺮﺝ ﻳﺰﻳـلاﻥ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﺍﻟﺨﺎﻟﺼﺔ ﻭﺍلاﺣﺘﺮﺍﻡ ﺍﻟﺠﺎﺩ ﻭﻳﺴﻤﻤﺎﻥ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻌﺎﺋﻠﻴﺔ؛ ﻭلاﺳﻴﻤﺎ ﺍﻟﻮﻟﻊُ ﺑﺎﻟﺼﻮﺭ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻔﺴﺪ ﺍلأﺧـلاﻕَ ﻭﻳﻬﺪِﻣﻬﺎ ﻛﻠﻴﺎ، ﻭﻳﺆﺩﻱ ﺇﻟﻰ ﺍﻧﺤﻄﺎﻁ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﻭﺗﺮﺩّﻳﻬﺎ. ﻭﻳﻤﻜﻦ ﻓﻬﻢ ﻫﺬﺍ ﺑﺎلآﺗﻲ:

ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﻨﻈﺮَ ﺑﺪﺍﻓﻊ ﺍﻟﻬﻮﻯ ﻭﺑﺸﻬﻮﺓ ﺇﻟﻰ ﺟﻨﺎﺯﺓِ ﺍﻣﺮﺃﺓ ﺣﺴﻨﺎﺀ ﺗﻨﺘﻈﺮ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔَ ﻭﺗﺮﺟﻮﻫﺎ، ﻳﻬﺪِﻡ ﺍلأﺧـلاﻕ ﻭﻳﺤﻄّﻬﺎ، ﻛﺬﻟﻚ ﺍﻟﻨﻈﺮُ ﺑﺸﻬﻮﺓ ﺇﻟﻰ ﺻﻮَﺭ ﻧﺴﺎﺀ ﻣﻴّﺘﺎﺕ ﺃﻭ ﺇﻟﻰ ﺻﻮﺭ ﻧﺴﺎﺀ ﺣﻴّﺎﺕ -ﻭﻫﻲ ﻓﻲ ﺣُﻜﻢ ﺟﻨﺎﺋﺰَ ﻣﺼﻐﺮﺓ ﻟﻬﻦ- ﻳﺰﻋﺰﻉ ﻣﺸﺎﻋﺮ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻭﻳﻌﺒَﺚ ﺑﻬﺎ، ﻭﻳﻬﺪﻣﻬﺎ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺴﺎﺋﻞ ﺍلأﺭﺑﻊ ﻓﺈﻥ ﻛﻞ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﻣﻦ ﺁلاﻑ ﺍﻟﻤﺴﺎﺋﻞ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ ﺗﻀﻤﻦ ﺳﻌﺎﺩﺓَ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ، ﻛﻤﺎ ﺗﺤﻘﻖ ﺳﻌﺎﺩﺗﻪ ﺍلأﺑﺪﻳﺔ ﻓﻲ ﺍلآﺧﺮﺓ. ﻓَﻠﻚَ ﺃﻥ ﺗﻘﻴﺲ ﺳﺎﺋﺮ ﺍﻟﻤﺴﺎﺋﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﺎﺋﻞ ﺍﻟﻤﺬﻛﻮﺭﺓ.

ﻭﺃﻳﻀﺎ، ﻓﻜﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮﺓ ﺗﺨﺴﺮ ﻭﺗُﻐﻠَﺐ ﺃﻣﺎﻡَ ﺩﺳﺎﺗﻴﺮ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻤﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺤﻴﺎﺓ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍلاﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻓﻴُﻈﻬﺮ ﺇﻓـلاﺳَﻬﺎ  -ﻣﻦ ﺯﺍﻭﻳﺔ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ- ﺇﺯﺍﺀ ﺇﻋﺠﺎﺯ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻱ، ﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈﻥ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﺃﻭﺭﺑﺎ ﻭﺣﻜﻤﺔ ﺍﻟﺒﺸﺮ (ﻭﻫﻲ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ) ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻤﻮﺍﺯﻧﺔ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﻭﺑﻴﻦ ﺣﻜﻤﺔ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺑﻤﻮﺍﺯﻳﻦ ﺍﻟﻜﻠﻤﺎﺕ ﺍﻟﺨﻤﺲ ﻭﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﺔ، ﻇﻬﺮﺕْ ﻋﺎﺟﺰﺓً ﻭﺣﻜﻤﺔُ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻣﻌﺠﺰﺓ، ﻭﺇﻥ ﺷﺌﺖ ﻓﺮﺍﺟﻊ «ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻋﺸﺮﺓ» ﻭ«ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﻋﺸﺮﺓ» ﻟﺘﻠﻤﺲ ﻋﺠﺰَ ﺣﻜﻤﺔ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻭﺇﻓـلاﺳَﻬﺎ ﻭﺇﻋﺠﺎﺯ ﺣﻜﻤﺔ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻭﻏﻨﺎﻫﺎ.

ﻭﺃﻳﻀﺎ، ﻓﻜﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔَ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮﺓ ﻏُﻠﺒﺖْ ﺃﻣﺎﻡ ﺇﻋﺠﺎﺯ ﺣﻜﻤﺔ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻌﻠﻤﻲ ﻭﺍﻟﻌﻤﻠﻲ، ﻛﺬﻟﻚ ﺁﺩﺍﺏُ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﻭﺑـلاﻏﺘُﻬﺎ ﻓﻬﻲ ﻣﻐﻠﻮﺑﺔ ﺃﻣﺎﻡ ﺍلأﺩﺏ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻲ ﻭﺑـلاﻏﺘﻪ. ﻭﺍﻟﻨﺴﺒﺔ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﺃﺷﺒﻪُ ﻣﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﺑﺒﻜﺎﺀ ﻳﺘﻴﻢ ﻓَﻘَﺪ ﺃﺑﻮَﻳﻪ ﺑﻜﺎﺀً ﻣﻠﺆﻩ ﺍﻟﺤﺰﻥُ ﺍﻟﻘﺎﺗﻢ ﻭﺍﻟﻴﺄﺱُ ﺍﻟﻤﺮﻳﺮ، ﺇﻟﻰ ﺇﻧﺸﺎﺩ ﻋﺎﺷﻖ ﻋﻔﻴﻒ ﺣﺰﻳﻦٍ ﻋﻠﻰ ﻓﺮﺍﻕ ﻗﺼﻴﺮِ ﺍلأﻣﺪ ﻏﻨﺎﺀً ﻣﻠﺆﻩ ﺍﻟﺸﻮﻕُ ﻭﺍلأﻣﻞ.. ﺃﻭ ﻧﺴﺒﺔ ﺻﺮﺍﺥِ ﺳﻜﻴﺮٍ ﻳﺘﺨﺒﻂ ﻓﻲ ﻭﺿﻊ ﺳﺎﻓﻞ، ﺇﻟﻰ ﻗﺼﺎﺋﺪَ ﺣﻤﺎﺳﻴﺔ ﺗﺤﺾّ ﻋﻠﻰ ﺑﺬﻝ ﺍﻟﻐﻮﺍﻟﻲ ﻣﻦ ﺍلأﻧﻔﺲ ﻭﺍلأﻣﻮﺍﻝ ﻭﺑﻠﻮﻍ ﺍﻟﻨﺼﺮ. لأﻥ ﺍلأﺩﺏ ﻭﺍﻟﺒـلاﻏﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺗﺄﺛﻴﺮ ﺍلأﺳﻠﻮﺏ، ﺇﻣﺎ ﻳﻮﺭﺛﺎﻥ ﺍﻟﺤُﺰﻥ ﻭﺇﻣﺎ ﺍﻟﻔﺮﺡ. ﻭﺍﻟﺤﺰﻥُ ﻧﻔﺴﻪ ﻗﺴﻤﺎﻥ:

ﺇﻣﺎ ﺃﻧﻪ ﺣﺰﻥ ﻣﻨﺒﻌﺚ ﻣﻦ ﻓَﻘْﺪ ﺍلأﺣﺒﺔ، ﺃﻱ ﻣﻦ ﻋﺪﻡ ﻭﺟﻮﺩ ﺍلأﺣﺒﺔ ﻭﺍلأﺧـلاﺀ، ﻭﻫﻮ ﺣﺰﻥ ﻣﻈﻠﻢ ﻛﺌﻴﺐ ﺗﻮﺭﺛﻪ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔُ ﺍﻟﻤﻠﻮﺛﺔ ﺑﺎﻟﻀـلاﻟﺔ ﻭﺍﻟﻤﺸﻮﺑﺔ ﺑﺎﻟﻐﻔﻠﺔ ﻭﺍﻟﻤﻌﺘﻘﺪﺓ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ. ﻭﺇﻣﺎ ﺃﻧﻪ ﻧﺎﺷﺊ ﻣﻦ ﻓﺮﺍﻕ ﺍلأﺣﺒﺔ، ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻥ ﺍلأﺣﺒﺔَ ﻣﻮﺟﻮﺩﻭﻥ، ﻭﻟﻜﻦ ﻓﺮﺍﻗَﻬﻢ ﻳﺒﻌﺚ ﻋﻠﻰ ﺣﺰﻥ ﻳﻨﻢّ ﻋﻦ ﻟﻮﻋﺔ ﺍلاﺷﺘﻴﺎﻕ. ﻓﻬﺬﺍ ﺍﻟﺤﺰﻥ ﻫﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻮﺭﺛﻪ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻬﺎﺩﻱ ﺍﻟﻤﻨﻴﺮ.

ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻔﺮﺡ ﻭﺍﻟﺴﺮﻭﺭ ﻓﻬﻮ ﺃﻳﻀﺎ ﻗﺴﻤﺎﻥ:

ﺍلأﻭﻝ: ﻳﺪﻓﻊ ﺍﻟﻨﻔﺲَ ﺇﻟﻰ ﺷﻬﻮﺍﺗﻬﺎ، ﻫﺬﺍ ﻫﻮ ﺷﺄﻥ ﺁﺩﺍﺏ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﻣﻦ ﺃﺩﺏ ﻣﺴﺮﺣﻲ ﻭﺳﻴﻨﻤﺎﺋﻲ ﻭﺭﻭﺍﺋﻲ.

ﺃﻣﺎ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ: ﻓﻬﻮ ﻓﺮﺡ ﻟﻄﻴﻒ ﺑﺮﻱﺀ ﻧﺰﻳﻪ، ﻳﻜﺒﺢُ ﺟﻤﺎﺡ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻭﻳُﻠﺠﻤﻬﺎ ﻭﻳﺤﺚ ﺍﻟﺮﻭﺡَ ﻭﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﺍﻟﺴﺮ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻌﺎﻟﻲ ﻭﻋﻠﻰ ﻣﻮﻃﻨﻬﻢ ﺍلأﺻﻠﻲ، ﻋﻠﻰ ﻣﻘﺮﻫﻢ ﺍلأﺑﺪﻱ، ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺒﺘﻬﻢ ﺍلأﺧﺮﻭﻳﻴﻦ. ﻭﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﺮﺡ ﻫﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻤﻨﺤﻪ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥُ ﺍﻟﻤﻌﺠﺰ ﺍﻟﺒﻴﺎﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺤﺾّ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻭﻳﺸﻮّﻗﻪ ﻟﻠﺠﻨّﺔ ﻭﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ ﺍلأﺑﺪﻳﺔ ﻭﻋﻠﻰ ﺭﺅﻳﺔ ﺟﻤﺎﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ.

ﻭﻟﻘﺪ ﺗﻮﻫﻢ ﺑﻌﺾُ ﻗﺎﺻﺮﻱ ﺍﻟﻔﻬﻢ ﻭﻣﻤﻦ لا ﻳﻜﻠﻔﻮﻥ ﺃﻧﻔﺴﻬﻢ ﺩﻗﺔَ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻭﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻜﺒﺮﻯ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻔﻴﺪﻫﺎ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (ﺍلإﺳﺮﺍﺀ:٨٨) ﻇﻨّﻮﻫﺎ ﺻﻮﺭﺓ ﻣﺤﺎﻟﺔ ﻭﻣﺒﺎﻟﻐﺔ ﺑـلاﻏﻴﺔ! ﺣﺎﺵَ ﻟﻠﻪ! ﺑﻞ ﺇﻧﻬﺎ ﺑـلاﻏﺔ ﻫﻲ ﻋﻴﻦ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ، ﻭﺻﻮﺭﺓ ﻣﻤﻜﻨﺔ ﻭﻭﺍﻗﻌﺔ ﻭﻟﻴﺴﺖ ﻣﺤﺎﻟﺔ ﻗﻂ.

ﻓﺄﺣَﺪ ﻭﺟﻮﻩ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﻫﻮ ﺃﻧﻪ ﻟﻮ ﺍﺟﺘﻤﻊ ﺃﺟﻤﻞ ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ ﺍلإﻧﺲ ﻭﺍﻟﺠﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻢ ﻳﺘﺮﺷﺢ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻭلا ﻫﻮ ﻣﻦ ﻣﺘﺎﻋﻪ، ﻓـلا ﻳﻤﺎﺛﻞ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥَ ﻗﻂ ﻭﻟﻦ ﻳﻤﺎﺛﻠﻪ. ﻟﺬﺍ ﻟﻢ ﻳﻈﻬﺮ ﻣﺜﻴﻠﻪ.

ﻭﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍلآﺧﺮ: ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﻭﺣﻜﻤﺔ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻭﺍلآﺩﺍﺏ ﺍلأﺟﻨﺒﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﺃﻓﻜﺎﺭ ﺍﻟﺠﻦ ﻭﺍلإﻧﺲ ﻭﺣﺘﻰ ﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ ﻭﺣﺼﻴﻠﺔ ﺃﻋﻤﺎﻟﻬﻢ، ﻫﻲ ﻓﻲ ﺩﺭﻛﺎﺕ ﺍﻟﻌﺠﺰ ﺃﻣﺎﻡ ﺃﺣﻜﺎﻡ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻭﺣﻜﻤﺘﻪ ﻭﺑـلاﻏﺘﻪ. ﻛﻤﺎ ﻗﺪ ﺑﻴّﻨﺎ ﺃﻣﺜﻠﺔ ﻣﻨﻬﺎ.