الرجاء الخامس

في بداية شيخوختي ومستهلها، ورغبة منّى في الانـزواء والاعتزال عن الناس، بحثَت روحي عن راحة في الوحدة والعزلة على تل «يوشع» المطل على «البسفور». فلما كنت -ذات يوم- أَسرح بنظري إلى الأُفق من على ذلك التل المرتفع، رأيت بنذير الشيخوخة لوحةً من لوحات الزوال والفراق تتقطر حُزناً ورِقةً، حيث جُلتُ بنظري من قمة شجرة عمري، من الغصن الخامس والأربعين منها، إلى أن انتهيت إلى أعماق الطبقات السفلى لحياتي، فرأيت أن في كل غصن من تلك الأغصان الكائنة هناك ضمن كل سنة، جنائزَ لا تحصَر من جنائز أحبابي وأصدقائي وكل مَن له علاقة معي. فتأثرت بالغ التأثر من فراق الأحباب وافتراقهم، وترنمت بأنين «فضولي البغدادي» عند مفارقته الأحباب قائلاً:

  كلّما حنَّ الوصـال    عَذبٌ دمعي مادام الشهيق

لقد بحثتُ من خلال تلك الحسرات الغائرة عن باب رجاء، وعن نافذة نور، أُسلّى بها نفسي. فإذا بنور الإيمان بالآخرة يغيثني ويمدّني بنورٍ باهر. إنه منحني نوراً لا ينطفئ أبداً، ورجاءً لا يخيب مطلقاً.

أجل يا إخواني الشيوخ ويا أخواتي العجائز! ما دامت الآخرةُ موجودةً، وما دامت هي باقية خالدة، وما دامت هي أجمل من الدنيا، وما دام الذي خلقنا حكيماً ورحيماً؛ فما علينا إذن إلّا عدم الشكوى من الشيخوخة، وعدم التضجر منها؛ ذلك لأن الشيخوخة المشرّبة بالإيمان والعبادة، والموصلة إلى سنّ الكمال، ما هي إلّا علامة انتهاء واجبات الحياة ووظائفها، وإشارة ارتحال إلى عالم الرحمة للخلود إلى الراحة. فلابدّ إذن من الرضا بها أشدّ الرضا.

نعم، إنَّ إخبار مائة وأربعة وعشرين ألفاً من المصطَفين الأخيار وهم الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام -كما نص عليه الحديث- إخباراً بالإجماع والتواتر مستندين إلى الشهود عند بعضهم وإلى حق اليقين عند آخرين، عن وجود الدار الآخرة، وإعلانهم بالإجماع أن الناس سيُساقون إليها، وأنَّ الخالق سبحانه وتعالى سيأتي بالدار الآخرة بلا ريب، مثلما وعد بذلك وعداً قاطعاً.

وإن تصديق مائةٍ وأربعة وعشرين مليوناً من الأولياء كشفاً وشهوداً ما أخبر به هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، وشهادتهم على وجود الآخرة بعلم اليقين، دليلٌ قاطع وأيّ دليل على وجود الآخرة..

وكذا، فإن تجليات جميع الأسماء الحسنى لخالق الكون المتجلّية في أرجاء العالم كله، تقتضي بالبداهة وجود عالم آخر خالد، وتدل دلالة واضحة على وجود الآخرة.

وكذا القدرةُ الإلهية وحكمتُها المطلقة، التي لا إسراف فيها ولا عبث، والتي تحيي جنائز الأشجار الميتة وهياكلها المنتصبة، تحييها وهي لا تعد ولا تحصى على سطح الأرض في كل ربيع، وفي كل سنة، بأمر ﴿كُنْ فَيَكُونُ وتجعلها علامة على «البعث بعد الموت» فتحشر ثلاثمائة ألف نوع من طوائف النباتات وأمم الحيوانات وتنشرها، مظهرةً بذلك مئات الألوف من نماذج الحشر والنشور ودلائل وجود الآخرة.

وكذا الرحمة الواسعة التي تديم حياة جميع ذوي الأرواح المحتاجة إلى الرزق، وتعيّشها بكمال الرأفة عيشة خارقة للغاية. والعناية الدائمة التي تظهر أنواع الزينة والمحاسن بما لا يُعد ولا يحصى، في فترة قصيرة جداً في كل ربيع. لا شك أنهما تستلزمان وجود الآخرة بداهة.

وكذا عشق البقاء، والشوق إلى الأبدية وآمال السرمدية المغروزة غرزاً لا انفصام لها في فطرة هذا الإنسان الذي هو أكملُ ثمرة لهذا الكون، وأحب مخلوق إلى خالق الكون، وهو أوثق صلة مع موجودات الكون كله، لاشك أنه يشير بالبداهة إلى وجود عالم باقٍ بعد هذا العالم الفاني، وإلى وجود عالم الآخرة ودار السعادة الأبدية.

فجميع هذه الدلائل تثبت بقطعية تامة -إلى حدّ يستلزم القبول- وجود الآخرة بمثل بداهة وجود الدنيا. (حاشية) إن مدى السهولة في إخبار «الأمر الثبوتي» ومدى الصعوبة والإشكال في نفي وإنكار ذلك، يظهر في المثال الآتي:

       إذا قال أحدهم: إن هناك -على سطح الأرض- حديقة خارقة جداً ثمارها كعلب الحليب، وأنكر عليه الآخر قوله هذا قائلاً: لا، لا توجد مثل هذه الحديقة. فالأول يستطيع بكل سهولة أن يثبت دعواه، بمجرد إراءة مكان تلك الحديقة أو بعض ثمارها. أما الثاني (أي المنكر) فعليه أن يرى ويُري جميع أنحاء الكرة الأرضية لأجل أن يثبت نفيه، وهو عدم وجود مثل هذه الحديقة.

       وهكذا الأمر في الذين يخبرون عن الجنة، فإنهم يُظهرون مئات الآلاف من ترشحاتها، ويبيّنون ثمارها وآثارها، علماً أن شاهدَين صادقين منهم كافيان لإثبات دعواهم، بينما المنكرون لوجودها، لا يسعهم إثبات دعواهم إلّا بعد مشاهدة الكون غير المحدود، والزمن غير المحدود، مع سبر غورهما بالبحث والتفتيش، وعند عدم رؤيتهم لها، يمكنهم إثبات دعواهم!

  فيا من بلغ به الكبر عتياً ويا أيها الاخوة! اعلموا ما أعظم قوة الإيمان بالآخرة وما أشد رصانته!.

فما دام أهم درس يلقننا القرآن إيّاه هو «الإيمان بالآخرة» وهذا الدرس رصين ومتين إلى هذه الدرجة، وفي ذلك الإيمان نورٌ باهر ورجاء شديد وسلوان عظيم ما لو اجتمعت مائةً ألف شيخوخة في شخص واحد لكفاها ذلك النور، وذلك الرجاء، وذلك السلوان النابع من هذا الإيمان؛ لذا علينا نحن الشيوخ أن نفرح بشيخوختنا ونبتهج قائلين: «الحمد لله على كمال الإيمان».

الرجاء السادس

حينما كنت في منفاي ذلك الأسر الأليم بقيت وحدي منفرداً منعزلاً عن الناس على قمة جبل «جام» المطلة على مراعي «بارلا».. كنت أبحث عن نور في تلك العزلة. وذات ليلة، في تلك الغرفة الصغيرة غير المسقفة، المنصوبة على شجرة صنوبر عالية على قمة ذلك المرتفع، إذا بشيخوختي تشعرني بألوان وأنواع من الغربة المتداخلة -كما جاء ذلك في «المكتوب السادس» بوضوح- ففي سكون تلك الليلة حيث لا أثر ولا صوت سوى ذلك الصدى الحزين لحفيف الأشجار وهمهمتها.. أحسست بأن ذلك الصدى الأليم قد أصاب صميم مشاعري، ومس أعماق شيخوختي وغربتي، فهمَست الشيخوخةُ في أذني منذرةً:

إنَّ النهار قد تبدل إلى هذا القبر الحالك، ولبست الدنيا كفنَها الأسود، فسوف يتبدل نهارُ عمرك إلى ليل، وسوف ينقلب نهار الدنيا إلى ليل البرزخ، وسوف يتحول نهار صيف الحياة إلى ليل شتاء الموت.

فأجابتها نفسي على مضض:

نعم، كما أنني غريبةٌ هنا عن بلدتي ونائية عن موطني، فإن مفارقتي لأحبائي الكثيرين خلال عمري الذي ناهز الخمسين ولا أملك سوى تذراف الدموع وراءهم هي غربةٌ تفوق غربتي عن موطني.. وإني لأشعر في هذه الليلة غربةً أكثر حزناً وأشد ألماً من غربتي على هذا الجبل الذي توشّح بالغربة والحزن، فشيخوختي تنذرني بدنوي من موعد فراقٍ نهائي عن الدنيا وما فيها، ففي هذه الغربة المكتنفة بالحزن، ومن خلال هذا الحزن الذي يمازجه الحزن، بدأتُ أبحث عن نور، وعن قبس أمل، وعن باب رجاء، وسرعان ما جاء «الإيمان بالله» لنجدتي ولشدّ أزرى، ومنحني أُنساً عظيماً بحيث لو تضاعفت آلامي ووحشتي أضعافاً مضاعفة لكان ذلك الأنس كافياً لإزالتها.

نعم، أيها الشيوخ، ويا أيتها العجائز!.. فما دام لنا خالقٌ رحيم، فلا غربة لنا إذن أبداً.. وما دام سبحانه موجوداً فكل شيء لنا موجود إذن، وما دام هو موجوداً وملائكته موجودة.

فهذه الدنيا إذن ليست خالية لا أنيس فيها ولا حسيس، وهذه الجبال الخاوية، وتلك الصحارى المقفرة كلُّها عامرة ومأهولة بعباد الله المكرمين، بالملائكة الكرام. نعم، إن نور الإيمان بالله سبحانه، والنظرة إلى الكون لأجله، يجعل الأشجار بل حتى الأحجار كأنها أصدقاءٌ مؤنسون فضلاً عن ذوي الشعور من عباده، حيث يمكن لتلك الموجودات أن تتكلم معنا -بلسان الحال- بما يسلّينا ويروّح عنا.

نعم، إنَّ الدلائل على وجوده سبحانه بعدد موجودات هذا الكون، وبعدد حروف كتاب العالم الكبير هذا، وهناك دلائل وشواهد على رحمته بعدد أجهزة ذوي الأرواح وما خصهم من نِعَمه ومطعوماته التي هي محور الشفقة والرحمة والعناية، فجميعُها تدل على باب خالقنا الرحيم والكريم، وصانعنا الأنيس، وحامينا الودود، ولا شك أن العجز والضعف هما أرجى شفيعين عند ذلك الباب السامي. وأن عهد الشيب أوانُهما، ووقتُ ظهورهما، فعلينا إذن أن نودّ الشيخوخة، وأن نحبها، لا أن نعرض عنها؛ إذ هي شفيع مرتجى أمام ذلك الباب الرفيع.

الرجاء السابع

حينما تبدلت نشوة «سعيد القديم» وابتساماته إلى نحيب «سعيد الجديد» وبكائه، وذلك في بداية المشيب، دعاني أربابُ الدنيا في «أنقرة» إليها، ظناً منهم أنني «سعيد القديم» فاستجبت للدعوة.

فذات يوم من الأيام الأخيرة للخريف، صعدت إلى قمّة «قلعة أنقرة»، التي أصابها الكبر والبلى أكثر مني، فتمثّلت تلك القلعة أمامي كأنها حوادث تاريخية متحجرة، واعتراني حزن شديد وأسى عميق من شيب السنة في موسم الخريف، ومن شيبي أنا، ومن هرم القلعة، ومن هرم البشرية ومن شيخوخة الدولة العثمانية العلية، ومن وفاة سلطنة الخلافة، ومن شيخوخة الدنيا. فاضطرتني تلك الحالة إلى النظر من ذروة تلك القلعة المرتفعة إلى أودية الماضي وشواهق المستقبل، أنقب عن نور، وأبحث عن رجاء وعزاء ينير ما كنت أحسّ به من أكثف الظلمات التي غشيت روحي هناك وهي غارقة في ليل هذا الهرم المتداخل المحيط. (حاشية) وردت هذه الحالة الروحية على صورة مناجاة إلى القلب باللغة الفارسية، فكتبتها كما وردت، ثم طبعت ضمن رسالة «حباب» في أنقرة.

فحينما نظرت إلى اليمين الذي هو الماضي باحثاً عن نور ورجاء، بدت لي تلك الجهة من بعيد على هيئة مقبرة كبرى لأبي وأجدادي والنوع الإنساني، فأوحشتني بدلاً من أن تسلّيني .

ثم نظرت إلى اليسار الذي هو المستقبل مفتشاً عن الدواء، فتراءى لي على صورة مقبرة كبرى مظلمة لي ولأمثالي وللجيل القابل، فأدهشني عوضاً من أن يؤنسني.

ثم نظرت إلى زمني الحاضر بعد أن امتلأ قلبي بالوحشة من اليمين واليسار، فبدا ذلك اليوم لنظري الحسير ونظرتي التاريخية على شكل نعش لجنازة جسمي المضطرب كالمذبوح بين الموت والحياة.

فلما يئست من هذه الجهة أيضاً، رفعت رأسي ونظرت إلى قمة شجرة عمري، فرأيت أن على تلك الشجرة ثمرة واحدة فقط، وهي تنظر إليّ، تلك هي جنازتي، فطأطأت رأسي ناظراً إلى جذور شجرة عمري، فرأيت أن التراب الذي هناك ما هو إلّا رميم عظامي، وتراب مبدأ خلقتي قد اختلطا معاً وامتزجا، وهما يُداسان تحت الأقدام، فأضافا إلى دائي داءً من دون أن يمنحاني دواءً.

ثم حوّلتُ نظري على مضض إلى ما ورائي، فرأيت أن هذه الدنيا الفانية الزائلة تتدحرج في أودية العبث وتنحدر في ظلمات العدم، فسكبتْ هذه النظرة السمَّ على جروحي بدلاً من أن تواسيها بالمرهم والعلاج الشافي.

ولما لم أجد في تلك الجهة خيراً ولا أملاً، ولّيت وجهي شطر الأمام ورنوت بنظري بعيداً، فرأيت أن القبر واقفٌ لي بالمرصاد على قارعة الطريق، فاغراً فاه، يحدق بي، وخلفَه الصراط الممتد إلى حيث الأبد، وتتراءى القوافل البشرية السائرة على ذلك الصراط من بعيد. وليس لي من نقطة استناد أمام هذه المصائب المدهشة التي تأتيني من الجهات الست، ولا أملك سلاحاً يدفع عني غيرَ جزء ضئيل من الإرادة الجزئية. فليس لي إذن أمام كل أولئك الأعداء الذين لا حصر لهم، والأشياء المضرة غير المحصورة، سوى السلاح الإنساني الوحيد وهو الجزء الاختياري. ولكن لما كان هذا السلاح ناقصاً وقاصراً وعاجزاً، ولا قوة له على إيجاد شيء، وليس في طوقه إلّا الكسب فحسب، حيث لا يستطيع أن يمضي إلى الزمان الماضي ويذبّ عني الأحزانَ ويسكتها، ولا يمكنه أن ينطلق إلى المستقبل حتى يمنع عنّي الأهوالَ والمخاوف الواردة منه، أيقنت ألّا جدوى منه فيما يحيط بي من آلام وآمال الماضي والمستقبل.

وفيما كنت مضطرباً وسط الجهات الست تتوالى عليّ منها صنوف الوحشة والدهشة واليأس والظلمة، إذا بأنوار الإيمان المتألقة في وجه القرآن المعجز البيان، تمدّني وتضيء تلك الجهات الست وتنورها بأنوار باهرة ساطعة ما لو تضاعف ما انتابني من صنوف الوحشة وأنواع الظلمات مائةَ مرة، لكانت تلك الأنوار كافيةً ووافية لإحاطتها.

فبدّلت -تلك الأنوارُ- السلسلة الطويلة من الوحشة إلى سلوان ورجاء، وحوّلت كلَّ المخاوف إلى أُنس القلب، وأمل الروح الواحدة تلو الأخرى.

نعم، إنَّ الإيمان قد مزق تلك الصورة الرهيبة للماضي وهي كالمقبرة الكبرى، وحوّلها إلى مجلس منوّر أنوس وإلى ملتقى الأحباب، وأظهر ذلك بعين اليقين وحق اليقين…

ثم إن الإيمان قد أظهر بعلم اليقين أن المستقبل الذي يتراءى لنا بنظر الغفلة، كقبر واسع كبير ما هو إلّا مجلس ضيافة رحمانية أُعدّت في قصور السعادة الخالدة.

ثم إنَّ الإيمان قد حطّم صورة التابوت والنعش للزمن الحاضر التي تبدو هكذا بنظر الغفلة، وأشهدني أن اليوم الحاضر إنما هو متجر أخروي، ودار ضيافة رائعة للرحمن.

ثم إنَّ الإيمان قد بصّرني بعلم اليقين أن ما يبدو بنظر الغفلة من الثمرة الوحيدة التي هي فوق شجرة العمر على شكل نعش وجنازة. أنها ليست كذلك، وإنما هي انطلاق لروحي -التي هي أهل للحياة الأبدية ومرشحة للسعادة الأبدية- من وكرها القديم إلى حيث آفاق النجوم للسياحة والارتياد.

ثم إن الإيمان قد بيّن بأسراره أن عظامي ورميمها وترابَ بداية خِلقَتي، ليسا عظاماً حقيرة فانية تداس تحت الأقدام، وإنما ذلك التراب باب للرحمة، وستار لسرادق الجنة.

ثم إن الإيمان أراني بفضل أسرار القرآن الكريم أنَّ أحوال الدنيا وأوضاعها المنهارة في ظلمات العدم بنظر الغفلة، لا تتدحرج هكذا في غياهب العدم -كما ظُنّ في بادئ الأمر- بل إنها نوع من رسائل ربانية ومكاتيب صمدانية، وصحائف نقوش للأسماء السبحانية قد أتمّت مهامَّها، وأفادت معانيها، وأخلفت عنها نتائجها في الوجود، فأعلمني الإيمان بذلك ماهيةَ الدنيا علم اليقين.

ثم إنَّ الإيمان قد أوضح لي بنور القرآن أنَّ ذلك القبر الذي أَحدَق بي ناظراً ومنتظراً ليس هو بفوهة بئر، وإنما هو بابٌ لعالم النور. وأن ذلك الطريق المؤدي إلى الأبد ليس طريقاً ممتداً ومنتهياً بالظلمات والعدم، بل إنه سبيل سَويّ إلى عالم النور، وعالم الوجود وعالم السعادة الخالدة.. وهكذا أصبحت هذه الأحوال دواءً لدائي، ومرهماً له، حيث قد بدت واضحة جلية فأقنعتني قناعة تامة.

ثم، إنَّ الإيمان يمنح ذلك الجزء الضئيل من الجزء الاختياري الذي يملك كسباً جزئياً للغاية، وثيقة يستند بها إلى قدرة مطلقة، وينتسب بها إلى رحمة واسعة، ضد تلك الكثرة الكاثرة من الأعداء والظلمات المحيطة، بل إن الإيمان نفسَه يكون وثيقة بيد الجزء الاختياري. ثم إن هذا الجزء الاختياري الذي هو السلاح الإنساني، وإن كان في حد ذاته ناقصاً عاجزاً قاصراً، إلّا أنه إذا استعمل باسم الحق سبحانه، وبُذل في سبيله، ولأجله، يمكن أن يُنال به -بمقتضى الإيمان- جنة أبدية بسعة خمسمائة سنة. مَثَلُ المؤمن في ذلك مثل الجندي إذا استعمل قوته الجزئية باسم الدولة فإنه يسهل له أن يؤدي أعمالاً تفوق قوته الشخصية بألوف المرات.

وكما أن الإيمان يمنح الجزءَ الاختياري وثيقة، فإنه يسلب زمامه من قبضة الجسم الذي لا يستطيع النفوذ في الماضي ولا في المستقبل، ويسلّمه إلى القلب والروح، ولعدم انحصار دائرة حياة الروح والقلب في الزمن الحاضر كما هو في الجسد، ولدخول سنوات عدة من الماضي وسنوات مثلها من المستقبل في دائرة تلك الحياة، فإن ذلك الجزء الاختياري ينطلق من الجزئية مكتسباً الكلية. فكما أنه يدخل بقوة الإيمان في أعمق أودية الماضي مبدداً ظلمات الأحزان، كذلك يصعد محلقاً بنور الإيمان إلى أبعد شواهق المستقبل مزيلاً أهواله ومخاوفه.

فيا أيها الإخوان الشيوخ، ويا أيتها الأخوات العجائز، ويا من تتألمون مثلي من تعب المشيب! ما دمنا والحمد لله من أهل الإيمان، والإيمان فيه خزائن حلوة نيرة لذيذة محبوبة إلى هذا الحد، وأن شيبنا يدفعنا إلى هذه الخزائن دفعاً أكثر، فليس لنا التشكي من الشيخوخة إذن، بل يجب علينا أن نقدم ألف شكر وشكر إلى الله عزّ وجلّ، وأن نحمده تعالى على شيبنا المنوّر بالإيمان.