ثمرة التوحيد الثانية

هذه الثمرة تتوجه إلى ذات الكون وماهيته، كما كانت الثمرة الأولى متوجهةً إلى الذات المقدسة لرب العالمين جلّ وعلا.

نعم، إنه بسر التوحيد تتحقق مزايا الكون وكمالاته، وتُدرَك الوظائفُ الراقية للموجودات، وتتقرر نتيجةُ خلق المخلوقات، وتُعرَف أهميةُ المصنوعات. وتُبرَز ما في هذا العالم من مقاصد إلهية، وتَظهر حكمةُ خلق ذوي الحياة وسرُّ وجود ذوي المشاعر، وتبدو الوجوه المليحة البشوشة للرحمة والحكمة وراء السيماء الغاضبة الكالحة لهذه الحوادث القاهرة المدمِّرة ضمن التحولات المثيرة للدهشة، وتُعرَف أن الموجودات التي تغيب وراء الزوال والفناء وترحل من هذا العالم عالمِ الشهادة، تدَع أنواعا كثيرة من الوجود بدلا عنها، أمثالَ نتائجها وهوياتها وماهياتها وأرواحها وتسبيحاتها ثم ترحل من هذا العالم.

وبسر التوحيد يُفهم أن الكون برمّته كتاب صمداني ينطوي على معانيَ عميقة غزيرة، وأن الموجودات بأسرها مجموعةُ مكاتيبَ سبحانيةٍ في منتهى الإعجاز، وأن المخلوقات بجميع طوائفها جنودٌ ربانية في غاية الانتظام والهيبة، وأن المصنوعات بجميع قبائلها -ابتداء من الميكروب والنمل إلى الكركدن والنسر وإلى الكواكب السيارة- موظفاتٌ دؤوبات مأمورات جادات تأتمر بأمر السلطان الأزلي.

وبسرّ التوحيد يكتسب كلُّ شيء من حيث انتسابه وأداؤه لوظيفة المرآة قيمةً أعظمَ من قيمته الذاتية بألوف المرات، وينكشف السرُّ المغلق للأسئلة المحيّرة: من أين يأتي سيلُ الموجودات وقافلة المخلوقات، وإلى أين المصير، ولمَ جاء وماذا يعمل؟

كل ذلك لا يتم إلّا بسر التوحيد، إذ لولا التوحيد لانكسفت جميعُ مزايا الكون وكمالاته المذكورة آنفا، ولانقلبت تلك الحقائق السامية الراقية إلى أضدادها.

وهكذا، فالشرك والكفر جريمة بشعة تتعدى على جميع كمالات الكائنات وتتجاوز على جميع حقوقها الرفيعة وتتعرض لجميع حقائقها السامية. لذا تغضب الكائناتُ على أهل الشرك والكفر، وتستشيط السماواتُ والأرض غضبا عليهم، وتتفق عناصرُ الكون على إبادتهم، فتُغرِق قومَ نوح عليه السلام وتُهلِك قومَ عاد بالطاغية وثمود بالعاصفة وفرعونَ وأمثالَهم بالغرق.. بل تغضب جهنمُ عليهم غضبا شديدا حتى ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ (الملك:8) كما نصّت عليه الآية الكريمة.

نعم، إن الشرك استهانة بشعة بالكون، وتعدٍّ عظيم عليه، وحطٌّ من قيمته وتهوين من شأنه، لإنكاره حكمةَ الخلق وردّه وظائفَ المخلوقات، تلك الوظائف الجليلة.

نشير إلى هذه الحقيقة بمثالٍ واحد من بين أُلوف أمثلتها:

إن الكون -بسر التوحيد- هو بمثابة مَلَكٍ مجسّم عظيم جدا بحيث له مئاتُ الألوف من الرؤوس، بل بعدد أنواع الموجودات، في كل رأس مئاتُ الألوف من الأفواه، بل بعدد أفراد ذلك النوع، وفي كل فم مئاتُ الألوف من الألسنة، بل بعدد أجهزة ذلك الفرد وعدد أجزائه وأعضائه وحُجيراته. فهذا الكون الهائل والمخلوق العجيب، هذا المَلَك العظيم يقدّس الصانعَ الجليل بهذه الألسنة التي لا تعد ولا تحصى ويسبّحه بها جلّ وعلا. فهو إذن في مقام رفيع يتسربل عبوديةً عظيمةً شبيهة بعبودية إسرافيل عليه السلام.

وكذا الكون بسر التوحيد، بمثابة مزرعةٍ تهيئ محاصيلَ وفيرةً جدا لعالم الآخرة ومنازلها.. وهو بمثابة مصنعٍ عظيم يهيئ لوازمَ لطبقات دار السعادة من أعمال بشرية غنية بمحاصيلها.. وهو بمثابةِ جهازِ تصويرٍ سينمائي دائب عظيم يضم مئات الألوف من أجهزة الالتقاط لالتقاط صور من الدنيا، وعرضها مناظرَ سرمديةً لأهل عالَم البقاء ولأهل الشهود في الجنة.

فبينما الكون -بسر التوحيد- على هذه الهيئة العجيبة كملَك مطيع جسماني مالك للحياة، يحوّله الشركُ إلى أشتاتٍ واهية جامدة، لا روح لها ولا حياة، ولا بقاء لها ولا وظيفة، هالكةٍ لا معنى لها، تتدحرج في خضم ظلمات العدم وأهوال الأحداث التافهة والانقلابات. فالشركُ يجعل هذا المصنع العظيم -الذي يدرُّ النفعَ الكثير- شيئا لا فائدة له ولا يُكسَب منه شيء، معطَّلا عن كل عمل، مختلطا ومتشابكا تلعب به المصادفاتُ العشوائية والطبيعة الصماء والقوى العمياء، ومأتما حزينا لذوي الشعور كافة، ومذبحة ومسلخة أليمة لذوي الحياة كافة.

وهكذا كم يكون الشرك إذن مبعثَ جرائمَ كبرى وجناياتٍ عظمى! ألا يستحق عذابا أبديا في جهنم مع أنه سيئةٌ واحدة؟ وصدق الله العظيم: ﴿اِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظيمٌ﴾ (لقمان:13).

وعلى كل حال، ففي مجموعةِ «سراج النور» إيضاحاتٌ أكثر لهذه الثمرة الثانية مع حججها المكررة. لذا اختصرنا هذه الحقيقة الطويلة.

والذي ساقني إلى هذه الثمرة الثانية وأوصلني إليها شعورٌ عجيب وذوق غريب، وهو على النحو الآتي:

عندما كنت أتأمل في يوم من أيام الربيع شاهدتُ أن الموجودات التي تملأ سطح الأرض وتسيل قافلةً إثر قافلة مُظهرةً مئات الألوف من نماذج الحشر والنشور.. هذه الموجودات ولاسيما المخلوقات الحية منها وبخاصة الأحياء الصغيرة منها، ما إن تظهر حتى تختفي عقِبه.. فتتعاقب مناظرُ الموت والزوال باستمرار وفي فعالية دائمة. وبدت أمامي حزينةً أليمةً مسّت أوتارَ عواطفي وأثارت رقّتي حتى دفعتني إلى البكاء. وكنت كلما شاهدتُ موت تلك الأحياء الصغيرة اللطيفة اعتصر قلبي ألما وتأففتُ قائلا: يا حسرتاه.. أواه.. آه.. فأستشعر ضراما روحيا منبعثا من الأعماق حتى رأيت الحياة التي تَؤول إلى هذه النتيجة عذابا أليما دونه الموت.

وكذا رأيت في عالم النباتات والحيوانات، أن تلك الأحياء الجميلة جدا والمحبوبة جدا وهي في أتم إتقان وإبداع، ما إن تفتح عينيها للحياة في لحظات وتشاهِد هذا المهرجان الكوني العظيم إلّا وتُمحى وتُفنى. فكلما شاهدت هذه الحالة تَفطَّر كبدي حزنا وكمدا، وكأنه يشكو باكيا وهو يقول: لِمَ أتوا إذن إلى هذا العالم ولِمَ يرحلون دون أن يمكثوا فيه؟ فكان قلبي يطرح أسئلةً مخيفة إزاء الدهر والمقدّرات. إذ مثل هذه المصنوعات اللطيفة تذهب دون جدوى ولا غاية ولا نتيجة، وتُعدَم بسرعة متناهية، مع أننا نرى اهتماما عظيما بها ودقةً متناهية في صنعها وإتقانا في إبداعها، مع توفير الأجهزة اللازمة لها والرعاية التامة في تربيتها وتنشئتها والتدبيرِ الكامل لشؤونها وخلقها على أتم صورة. ولكن بعد كل هذا نرى تمزُّقَها وتشتّتها وفناءها ومحوها وقذفَها في ظلمات العدم.. هذا المنظرُ الأليم، كلما تأملتُه صرختْ جميعُ لطائفي المفتونةُ بأنواع الكمال والمبتلاة بأنماط الجمال، والعاشقةُ للأشياء النفيسة القيّمة، واستغاثت قائلة: لِمَ لا تُرحم هذه المخلوقات؟ يا لهفتاه! من أين يأتي هذا الفناءُ والزوال ضمن الدوران والتجوال المحيّر للعقول، ويسلط على هذه الصغار اللطاف؟.. وما إن بدأت الاعتراضاتُ المخيفة تتوجهُ نحو القَدر لما يُرى في ظاهر المقدّرات الحياتية من أحوال أليمة حزينة، إذا بنور القرآن والإيمان والتوحيد ولطفِ الرحمن يسعفني ويعينني؛ وينوِّر تلك الظلمات، ويَقلب بكائي ونحيبي وحَسَراتي إلى سرور وفرح وإلى النطق بـ«ما شاء الله، بارك الله»، بدلا من التلهف والتحسر وإطلاق الزفرات، حتى دفعني إلى القول بـ: «الحمد لله على نور الإيمان» حيث رأيت -بسر التوحيد- أنَّ كلَ مخلوق -ولاسيما كل كائن حيٍّ- له نتائج كثيرة جدا ومنافع شتى.

فمثلا:  إن كل ذي حياة -وليكن هذه الزهرة الزاهية، وهذه الحشرة الحلوياتي- هو قصيدة صغيرة إلهية تحمل من المعاني العميقة والغزيرة بحيث يطالعها ما لا يُحد من ذوي الشعور بمتعة كاملة.. وهو معجزة ثمينة قيّمة للقدرة الإلهية.. وهو لوحة تعلن عن حكمته تعالى حيث تَعرض إتقانَ الصانع الجليل في منتهى الجاذبية أمام أنظار من لا يحدّ من أهل التقدير والاستحسان.

وكذا فإن أجلَّ نتيجة لخلق الكائن الحي هو الحظوة بالظهور أمام نظر الفاطر الجليل الذي يريد أن يَرى -بذاته- جمالَ صنعته وجمالَ فطرته وجمالَ تجليات أسمائه في المرايا الصغيرة. زد على ذلك فإن وظيفةً سامية لفطرة الكائن الحي هي أداؤه بخمسة وجوه -كما ذُكر في «المكتوب الرابع والعشرين»- مهمةَ إظهار الربوبية المطلقة والكمال الإلهي الذي يقتضي هذه الفعاليةَ المطلقة في الكون.

ولكني رأيت أن الكائن الحي على الرغم مما له من مثل هذه الفوائد والنتائج فإنه يدَع روحَه في موضعه -إن كان ذا روح- ويترك صورتَه وهويته في الأذهان وسائر الألواح المحفوظة، ويضع قوانينَ ماهيته ونوعا من حياته المستقبلية في بذوره وبويضاته، ويُودع مزايا الكمال والجمال التي عَكَسها كالمرآة، يودعها في عالَم الغيب ودائرة الأسماء. وبعد كل هذا يدخل تحت ستار الزوال فرحا جذلا بموتٍ ظاهري -يعني التسريح من الوظائف- ويستتر عن الأنظار الدنيوية وحدَها!

نعم، هكذا رأيت ماهيةَ الكائن الحي فقلت من الأعماق: «الحمد لله..».

فهذه الأنواع من الجمال والضروبُ من الحسن المشاهَدة في جميع طبقات الكون وفي جميع أنواع الطوائف والممتدة عروقُها في كل الأرجاء والتي لها أسس عريقة قوية لا نقصَ فيها ولا قصورَ، وهي في منتهى السطوع والبهاء.. لاشك أنها تبين أن ما يقتضيه الشرك -كما هو في الوضع الأول- من قبح مشين ودمامةٍ مُنفرة محالٌ وموهومٌ قطعا. لأن جمالا بهذا العمق في وجود الكون لا يمكن أن يستتر تحتَه قبحٌ مشين إلى هذه الدرجة المخيفة، بل لا يمكن أن يوجد أصلا. ولو وُجد فذلك الجمالُ إذن لا حقيقة له ولا أصل، وهو واهٍ ووهمي.

بمعنى أنه لا حقيقةَ للشرك إطلاقا، وطريقُه مسدود، بل لا يجد له موضعا إلّا في المستنقعات الآسنة، فحكمُه محالٌ وممتنع. وقد وضحت هذه الحقيقة الإيمانية المذكورة وهي حقيقة شعورية في عديد من رسائل «سراج النور» بالتفصيل. لذا نكتفي هنا بهذه الإشارة المختصرة.

ثمرة التوحيد الثالثة

هذه الثمرة متوجهة إلى ذوي الشعور، ولاسيما إلى الإنسان.

نعم، إن الإنسان بسر التوحيد، صاحبُ كمال عظيم بين جميع المخلوقات، وهو أثمنُ ثمراتِ الكون، وألطفُ المخلوقات وأكملُها، وأسعدُ ذوي الحياة ومخاطبُ رب العالمين وأهلٌ ليكون خليلَه ومحبوبه. حتى إن جميعَ المزايا الإنسانية وجميعَ مقاصد الإنسان العليا مرتبطةٌ بالتوحيد وتتحقق بسر التوحيد، فلولا التوحيد لأصبح الإنسان أشقى المخلوقات وأدنى الموجودات وأضعفَ الحيوانات وأشدَّ ذوي المشاعر حزنا وأكثرَهم عذابا وألما. ذلك لأن الإنسان يحمل عَجزا غير متناه، وله أعداء لا نهاية لهم، وينطوي على فقر دائم لا حدود له وحاجات لا حدود لها. ومع هذا فإن ماهيتَه مجهّزة بآلاتٍ ومشاعرَ متنوعة وكثيرة إلى درجة يستطيع أن يستشعر بها مائة ألف نوع من الآلام وينشد مئات الألوف من أنواع اللذائذ. فضلا عن أن له من المقاصد والرغبات ما لا يمكن تلبيتُها إلّا من قِبَل مَن ينفذ حكمُه في الكون بأسره.

فمثلا: في الإنسان رغبةٌ ملحّةٌ شديدةٌ للبقاء. فلا يحقق له هذه الرغبة إلّا من يتصرف في الكون كله بسهولة مطلقة، يفتح بابَ دار الآخرة بعد أن يسد بابَ دار الدنيا كفتح بابِ منـزلٍ وغلقِ آخرَ.

ففي الإنسان أُلوفٌ من الرغبات الإيجابية والسلبية أمثال هذه الرغبة، رغبة البقاء. تلك الرغبات ممتدةٌ إلى جهة الأبد والخلود ومنتشرةٌ في أقطار العالم كله. فالذي يُطَمئِن هذه الرغباتِ ويهدهدُها ويضمد جرحَي الإنسان الغائرَين؛ العجزَ والفقر، ليس إلّا الواحد الأحد الذي بيده مقاليد كل شيء.

وكذا في الإنسان من المطالب الدقيقة الجزئية والخفية جدا تخص راحةَ قلبه وسلامته، وله أيضا من المقاصد الكلية المحيطة ما هو مدارٌ لبقاء روحه وسعادتها، بحيث لا يمكن أن يحققها له إلّا من يبصر ما لا يُرى من أرقِّ حجب القلب ويهتم بها، ويسمع ما لا يُسمَع من أخفى الأصوات ويستجيب لها، ومن له القدرةُ على تسخير السماوات والأرض في وظائفَ جليلة كتسخير الجندي المنقاد للأوامر. وكذا فإن جميع أجهزة الإنسان ومشاعره تأخذ مكانةً رفيعة بسر التوحيد، في حين تسقط إلى هاوية سحيقة بالكفر والشرك.

فمثلا: العقل الذي هو أفضلُ أجهزة الإنسان وأرقاها، إنْ استُعمل بسر التوحيد، فإنه يصبح مفتاحا ثمينا بحيث يفتح الكنوزَ الإلهية السامية وألوفا من خزائن الكون؛ بينما إذا تخبّط ذلك العقل في وحل الضلالة والكفر فإنه يصبح آلةَ تعذيبٍ ووسيلةَ إزعاج، بما يجمع من آلام الماضي الحزينة ومخاوف المستقبل الرهيبة.

ومثلا: الشفقةُ والحنان، وهي ألطفُ سجية من سجايا الإنسان وأحلاها، إن لم يسعفها سرُّ التوحيد، تتحول إلى ألم الحُرقة وعذاب الفراق وجرح العطف، فتتحول إلى مصيبة كبرى تدفع بالإنسان إلى درك الشقاء.

نعم، إن الوالدة الغافلة عن الله والفاقدة لوحيدها إلى الأبد تستشعر هذه الحرقة شعورا كاملا.

ومثلا: المحبة التي هي ألذُّ شعور في الإنسان وأطيبُه وأسماه، إذا ما أعانها سرُّ التوحيد يجعل الإنسانَ الصغير واسعا سعةَ الكون وعظيما وكبيرا كبرَه حتى يجعله سلطانا محبوبا على المخلوقات كافة؛ بينما المحبةُ نفسها إذا ما تردت إلى الشرك والكفر -والعياذ بالله- فإنها تنقلب إلى مصيبة عظيمة بحيث تمزّق قلبَ الإنسان الضعيف كل حين وآن بفراق أحبته غير المعدودين فراقا أبديا حيث يمحوهم الزوالُ والفناء دائما. بيد أن أنواع اللهو والغفلة تحُول دون استشعار الإنسان بهذا الألم، إذ تُبطل شعورَه وحسّه مؤقتا وظاهرا.

فإذا ما قِسْتَ المئات من أجهزة الإنسان ومشاعره على هذه الأمثلة الثلاثة، تدرك عندئذٍ إلى أيّ مدى يكون التوحيدُ محورا للكمالات الإنسانية.

نكتفي بهذه الإشارة القصيرة إلى هذه الثمرة الثالثة حيث إنها فُصّلت تفصيلا وافيا مع دلائلها في أكثرَ من عشرين رسالة من «سراج النور».

إن الذي أوصلني إلى هذه الثمرة وساقني إليها هو الشعور الآتي:

كنتُ يوما على قمة جبل، تراءى لي القبرُ بكل معناه، وبدا لي الموتُ بكل حقائقه، وظهر لي الزوالُ والفناء بلوحاته الحزينة المبكية، وذلك بوساطةِ يقظةٍ روحية بددت ظلمةَ الغفلة. فاحتدّ عشقُ البقاء المغروز في فطرتي -كما هو في الآخرين- احتدّ غاضبا أمام هذا المنظر، فشق عصا الطاعة إزاء الزوال. وفار ما فيّ من العطف على بني الجنس والرأفة على نوع البشر وطغى إزاء القبر وفناءِ الأنبياء المكرّمين وأهل الفضل الموقرين من الأولياء والأصفياء، الذين أكنّ لهم حبا شديدا وتبجيلا عظيما وتقديرا لائقا وأرتبط بهم بعلاقة وثيقة.

وإزاء هذا الأمر توجهتُ إلى الجهات الست لأستمدّ منها العونَ، فلم أجد ما يسلّيني أبدا؛ حيث إن جهة الماضي قد تحولت إلى مقبرة كبرى واسعة، وجهةَ المستقبل مظلم مخيف، وجهة الفوق مخيفةٌ رهيبة، وجهةَ الأسفل وكذا اليمين والشمال كلها جهاتٌ تورث حالات أليمة حزينة. فرأيت كأن الأشياء المضرة التي لا تحد تَنقضّ عليّ انقضاضا، فأغاثني سرُّ التوحيد من حالتي التي كنت فيها ورَفَع السـتار من أمام بصيرتي وأراني حقيقةَ هذه الجهات قائلا: «انظر». فنظرتُ أولَ ما نظرت إلى وجه الموت المخيف، ورأيت أن الموت لأهل الإيمان تسريحٌ من الوظيفة، والأجَل هو بطاقته. فالموتُ إذن تبديلُ مكان، ومقدمةُ حياة باقية، وبابٌ إليها. وهو انطلاق من سجن الدنيا إلى بساتين الآخرة. وهو انتظارُ زمن الوصول إلى ديوان الرحمن الرحيم لاستلام أجرة العمل، وهو دعوة إلى دار السعادة..

ولمّا فهمتُ حقيقةَ الموت فهما يقينا أحببتُه.

ثم نظرت إلى الزوال والفناء، ورأيت أن زوالَ الأشياء إنما هو تجديدٌ لها ولأمثالها، فهو تجديد ممتعٌ ملذّ، شبيهٌ بتجدد مشاهد السينما، وشبيه بتجدد جمال حباب النهر الجاري تحت ضوء الشمس. لذا علمت يقينا أن زوال الأشياء وفناءها إنما هو تجديد للتجليات الجميلة للأسماء الحسنى، ووظيفة يؤديها ضمن سيرٍ وتجوال في عالم الشهادة بعد مجيئها من عالم الغيب، وهو مظاهر حكيمة لجمال الربوبية، فالموجودات تؤدي به وظيفةَ المرآة إزاء الحسن السرمدي.

ثم نظرت إلى الجهات الست ورأيت أنها نورانية بسرّ التوحيد بل نورانية إلى حد يكاد سنا نورِها يخطف الأبصار، حتى رأيت أن الزمان الماضي لم يعُد مقبرةً عظيمة بل انقلب إلى المستقبل ليكون مجالسَ نورانية ومجامعَ أحبابٍ ومناظرَ نورانيةً تزيد على الألوف.

وهكذا على غرار هاتين المادتين نظرت إلى الوجوه الحقيقية لألوف المواد، ورأيت أنها لا تورِث إلّا السرورَ والشكر.

إن شعوري هذا وتذوقي الروحيَّ هذا في الثمرة الثالثة قد وضّحا مع الدلائل القاطعة الكلية والجزئية في «سراج النور» بل في أربعين من أجزائها ولا سيما في «اللمعة السادسة والعشرين» (رسالة الشيوخ) في رجاياها الثلاث عشرة. إذ قد وضّحت هناك وضوحا كافيا لا إيضاح فوقه، لذا اختصرت هذه المسألة الطويلة في هذا المقام.

*  *  *