من بين مئات الأمثلة الدالة على الحوادث الغيبية سيُبيَّن -في الوقت الحاضر- بعناية الله وتوفيقه ثلاث وعشرون مسألة -بيانا مختصرا جدا- تلك المسائل التي دأب الملحدون على إشاعتها بغية إفساد عقائد عوام المسلمين. ألَا خاب ظنُّهم، فإن إظهارَ لمعةِ إعجاز نبوي كريم في كل مسألة من تلك المسائل وإثباتَ تأويلاتها الحقيقية وإبرازَها، سيكون بإذن الله داعيا قويا وسببا مهما لإسناد عقيدة العوام وترسيخ إيمانهم. هذا ما أرجوه من رحمة ربي الرحيم، وأتضرع إليه سبحانه أن يستر ذنوبي وأخطائي بمغفرته الواسعة، إنه سميع مجيب.

المقام الثاني

مسائل الشعاع الخامس

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المسألة الأولى

ورد أن «السفياني» -وهو من أشخاص آخر الزمان- ستنخرق كفه.

إن أحد أوجه التأويل لهذا، والله أعلم:

لا يبقى المال في يده، لكثرة إسرافه وتبذيره في السفاهة واللهو والعبث. فالمال يجري من كفه إلى الإسراف، وفي المثل: «فلان منخرق الكف». أي مبذّر مسرف. فــ«السفياني» بحضّه الناس على الإسراف، يثير فيهم حرصا شديدا ويهيّج طمعا غالبا. فيسخّرهم لمآربه من نواحي ضعفهم تلك. هذا ما ينبه إليه الحديث الشريف ويخبرنا: أن المسرف يكون في أسره، فيتوسل إليه ويتذلل له.

المسألة الثانية

ورد: أن شخصا رهيبا -من أشخاص آخر الزمان- يُصبح وإذا على جبينه مكتوب: «هذا كافر».

إن تأويل هذا، والله أعلم بالصواب، هو أن ذلك «السفياني» سيلبس قبعة الإفرنج، ويُكرِه الناس على لبسها. ولكن لأنه يعمم لبسَها بالإكراه والقانون، وتلك القبعة ستهتدي بإذن الله، حيث تهوي إلى السجود، لذا لا يكون كافرا من لبسها مكرها عليها غيرَ راغب فيها.

المسألة الثالثة

ورد: أن لحكام آخر الزمان المستبدين، ولاسيما الدجال جنةً وجهنم زائفتين.

إن أحد أوجه التأويل لهذا -والعلم عند الله- هو أنه إشارة إلى ما في الدوائر الحكومية من أوضاع متقابلة متناظرة. كالمدرسة الإعدادية مع السجن، إحداهما صورة مشوّهة للحور والغلمان، والأخرى موضع عذاب وسجن.

المسألة الرابعة

ورد: أنه لا يبقى من يقول: «الله.. الله» في آخر الزمان.

إن تأويلا لهذا -ولا يعلم الغيب إلّا الله- هو أن الزوايا التي يُذكر فيها: «الله.. الله.. الله»، والتكايا وأماكن الذكر والمدارس الدينية ستُغلَق أبوابُها، وسيُوضع اسمٌ آخر بدلا من اسم الله في الشعائر الإسلامية كالأذان والإقامة. وإلّا فليس معنى هذه الرواية أن الناس كلهم سيتردون في الكفر المطلق؛ لأن إنكار الله أبعد عن العقل من إنكار الكون، فالعقل لا يقبل وقوعَ معظم الناس في هذا الإنكار، فضلا عن كلهم. علما إن الكفار لا ينكرون وجود الله وإنما تزل عقولُهم في مباحث صفاته الجليلة سبحانه.

وتأويله الآخر هو: أن أرواحَ المؤمنين تُقبض قبيل قيام الساعة كيلا يروا هول أحداثها فتندلعُ القيامة على رؤوس الكفار وحدهم.

المسألة الخامسة

ورد: أن الدجال وأمثاله سيدّعون الألوهية في آخر الزمان ويُكرهون الناسَ على السجود لهم.

أحد أوجه التأويل لهذا، والله أعلم هو: كما أن قائدا جاهلا ينكر وجود الملك، يتصور في نفسه والآخرين نوعا من الملكية، كل حسب حاكميته، كذلك الذين يقودون مذهب الطبيعيين والماديين يتخيلون في أنفسهم نوعا من الربوبية، كل حسب درجته. فيسوق الدجال رعيته لخدمة قوته ويخضعهم خضوعَ عبودية له ولتماثيله، أي يجعلهم يُحْنون رؤوسهم لها.

المسألة السادسة

ورد: أن فتنة آخر الزمان عظيمة إلى حد لا يملك أحد نفسه حتى استعاذت الأمة منها منذ ثلاثة عشر قرنا، كما أمر بها الرسول ﷺ فجعلتها الأمة قرينةً لاستعاذتها من عذاب القبر.

إن تأويلا لهذا -والله أعلم بالصواب- هو أن تلك الفتن تستميل النفوسَ وتغريها وتجذبها إليها، وتجعلها مفتونةً بها، فيرتكب الناس الآثام باختيارهم، بل ربما يتلذذون بها، كاختلاط النساء بالرجال عرايا في حمامات روسيا. إذ النساء يرتمين إلى هذه الفتنة برغبة منهن، فيضلِلن ويغوَين لما يحملن من ميل فطري لإظهار جمالهن. أما الرجال الذين يعشقون الجمال فطرة، فيُصرَعون أمام طيش النفس فيقعون في تلك النار المتأججة، ويحترقون، وهم نشاوى من الفرح والسرور.

وهكذا تجلب فتنةُ ذلك الزمان -بملاهيها ومسارحها ومراقصها وأماكن البدع وارتكاب الكبائر فيها- عُبَّادَ النفس الأمارة، فيحومون حول تلك الأماكن كالفراش حول النار، وينجذبون إليها حيارى مشدوهين. وإلّا لو كان بالإكراه والإرغام والجبر المطلق، فلا اختيار إذن، ومن ثَم فلا إثم.

المسألة السابعة

ورد: أن «السفياني» سيكون عالما عظيما، ويُضل الناسَ بالعلم، ويتبعه علماء كثيرون.

إن تأويلا لهذا -والعلم عند الله- هو: أنه بدهائه وفنونه وعلمه السياسي يحصل على ذلك الموقع، إذ ليس له من الوسائل التي توصله إلى السلطة كما هو الحال لدى حكام آخرين من وجود العصبة أو القدرة أو الانتساب إلى قبيلة وعشيرة، أو الشجاعة أو الثروة وغيرها. فيسخّر بعقله عقولَ كثير من العلماء، ويجعلهم يدورون في فلكه ويصدرون له الفتاوى، ويجعل كثيرا من المعلمين موالين له. ويسعى حثيثا لتعميم التعليم المجرد من دروس الدين وجعله نهجا رائدا.

المسألة الثامنة

تبين الروايات: أنَّ فتنة الدجال الرهيبة ستقع في صفوف المسلمين حتى استعاذت منها الأمة كلها. إن تأويلا لهذا -ولا يعلم الغيب إلّا الله- هو: أنَّ دجال المسلمين غيرُ دجال الكفار، حتى إن قسما من العلماء المحققين قد قالوا مثلما قال الإمام علي رضي الله عنه بأن دجال المسلمين هو «السفياني» وسيظهر بين المسلمين ويفتنهم بالخداع والتمويه. بينما دجال الكفار الكبير غير «السفياني». وإلّا فالذي لا يرضخ لجبروت الدجال الكبير المطلق يصبح شهيدا، ومن يتبعه مرغما وكارها لا يكون كافرا، وربما لا يكون آثما أيضا.

المسألة التاسعة

لقد صُوّرت في الروايات وقائع «السفياني» وحوادث فتن آخر الزمان أنها تقع حول الشام أو في الجزيرة العربية.

إن تأويلا لهذا -والله أعلم- هو: أن مركز الخلافة في السابق كان في العراق والشام والمدينة، لذا فسر الرواة -باجتهادهم الشخصي- وصوَّروا تلك الأحداث التي تقع حول مركز الدولة الإسلامية -وكأن الخلافة ستظل هكذا- فقالوا: في الشام.. حلب. ففصلوا باجتهادهم الشخصي ما ورد مجملا في الأحاديث.

المسألة العاشرة

لقد ذكرَت الرواياتُ القدرةَ الهائلة الخارقة لأشخاص آخر الزمان.

إن تأويلا لهذا -والعلم عند الله- هو: أنه كناية عن عظمة الشخصية المعنوية التي يمثلونها. مثلما صُوِّر في حينه القائدُ الياباني الذي دحر روسيا، بأن أحد قدميه في البحر المحيط والأخرى في قلعة بورت آرثر. أي إن عظمة الشخص المعنوي الرهيبة، تصور في ممثل تلك الشخصية وفي تماثيل ذلك الممثل الضخمة. أما قدراتهم الفائقة وقوتُهم الخارقة، فلكون أكثر إجراءاتهم من قبيل التخريب وإثارة الشهوات وتحريك الرغبات، مما تُظهر اقتدارا فوق المعتاد، إذ التخريب سهل. فعُودُ ثقاب واحد يمكنه أن يحرق قريةً كاملة، وإثارة الشهوات وتحريك الرغبات تَسري سريعا لميل النفوس إليها.

المسألة الحادية عشرة

ورد: أن في آخر الزمان يكون لأربعين امرأة قيّم واحد.

إن لهذا تأويلين والله أعلم بالصواب:

الأول: أنَّ الزواج الشرعي يقل في ذلك الزمان أو يُرفع، كما حدث في روسيا؛ فالرجل السائب الذي تجنب من الارتباط بامرأة واحدة، يكون قيِّما على أربعين امرأة شقية.

الثاني: أنه كناية عن هلاك أغلب الرجال في الحروب التي تقع في تلك الفتنة. وعن كون أكثر الولادات من الإناث بناءً على حكمة إلهية. وربما يُلهب تحررُ النساء تحررا كليا شهواتِهن فيتغلبن بغلبة الشبق فطرة على أزواجهن. مما يسبب نـزوع الطفل إلى صورتها فتصبح الإناث كثيرات جدا بأمر إلهيّ.

المسألة الثانية عشرة

ورد في الروايات: أنَّ اليوم الأول للدجال سنة، والثاني شهر، والثالث أسبوع، والرابع كسائر الأيام.

لهذا تأويلان، -ولا يعلم الغيب إلّا الله-:

الأول: أنه إشارة وكناية عن ظهور الدجال الكبير في دائرة القطب الشمالي وجهة الشمال من العالم؛ لأن السنة في منطقة القطب الشمالي عبارة عن يوم وليلة. فلو سافر أحدهم من هناك متجها نحونا بالقطار يوما كاملا يرى الشمس لا تغرب شهرا كاملا في الصيف. وإذا اقترب بالسيارة يوما آخر يرى الشمس أسبوعا كاملا. ولقد كنت في مكان قريب من هذا عندما كنت أسيرا هناك. بمعنى أن هذا إخبارٌ معجِز بأن الدجال الكبير سيتعدى من الشمال إلى هذه الجهة.

أما تأويله الثاني: فهو أنَّ هناك أياما ثلاثة بمعنى الأدوار الثلاثة الاستبدادية للدجال الكبير ودجال المسلمين:

يومه الأول: أي في دورة حكومته، يقوم بإجراءات عظيمة ما لا يُنجز في ثلاثمائة سنة.

يومه الثاني، أي دورته الثانية: أنه يُجري في سنة واحدة من الإجراءات ما لا يُجرى في ثلاثين سنة.

يومه الثالث ودورته: ينفّذ من التغييرات في سنة واحدة ما لا ينفَّذ في عشر سنوات.

يومه الرابع ودورته: يكون اعتياديا لا يقوم بشيء سوى سعيه للحفاظ على الوضع.

وهكذا أخبر الرسول الكريم ﷺ أمته ببلاغته الفائقة عما سيقع من أحداث المستقبل.

المسألة الثالثة عشرة

في رواية صحيحة: أن عيسى عليه السلام يقتل الدجال الأكبر.

ولهذا أيضا وجهان والعلم عند الله:

الوجه الأول: أن الدجال الذي يحافظ على نفسه بأموره الخارقة التي يستدرج بها الناسَ ويسخرهم باستخدام السحر والتنويم المغناطيسي والأرواح وأمثالها، لا يقدر على قتله وتغيير مسلكه إلّا مَن هو خارق، وذو معجزات ومرضيّ لدى الجميع ومَن هو أكثر علاقة وارتباطا، ويعتقد بنبوته أغلبُ الناس، ذلك النبي عيسى عليه السلام.

الوجه الثاني هو: أن الذي سيقتل الشخصيةَ المعنوية لشخص الدجال -المقتول بسيف شخص عيسى عليه السلام- ويبيد كيانَ الإلحاد الهائل والمادية الرهيبة التي كوّنها، ويُفني ما يدعو إليه من الكفر بإنكار الألوهية، هم الروحانيون النصارى، فهؤلاء الروحانيون يهلكونه -ويقتلونه معنىً- بقوة نابعة من مزجهم حقيقةَ النصرانية مع حقائق الإسلام. حتى إن ما ورد بأن عيسى عليه السلام سينـزل ويقتدي بالمهدي في الصلاة، يشير إلى هذا الاتفاق، وإلى ريادة الحقيقة القرآنية وهيمنتِها.

المسألة الرابعة عشرة

ورد: أن اليهود هم القوة العظيمة للدجال ويتبعونه طوعا.

فيمكننا أن نقول -والله أعلم-: إن جزءا من تأويل هذه الرواية قد تَحقق في روسيا، إذ اليهود الذين قاسوا مظالمَ بيد الحكومات كلها تجمّعوا بكثرة في ألمانيا، لأجل أن ينتقموا من الدول والشعوب، فكانت لـ«تروتسكي» اليهودي اليد الطولى في تأسيس المنظمة الشيوعية، حتى أوصلوه إلى القيادة العامة، ومن بعد ذلك جعلوه في رئاسة الحكومة في روسيا خَلَفا لـ«لينين» الذي ربّوه، فدمروا روسيا دمارا رهيبا وأبادوا محاصيلها لألف سنة. وأظهروا -أي اليهود- بهذا أنهم منظمةٌ من منظمات الدجال الكبير ومنفذو أعماله، وقد زعزعوا كيان سائر الحكومات أيضا وأثاروا فيها الاضطرابات والقلاقل.

المسألة الخامسة عشرة

إن القرآن الكريم الذي يورد حوادث يأجوج ومأجوج مجمَلا يذكرها الحديث الشريف بشيء من التفصيل، ولكن تلك التفصيلات ليست بمثل إجمال القرآن الكريم محكَمة بل ربما تُعد من المتشابهات إلى حد ما، فتحتاج إلى تأويل بل إلى تعبير لاختلاط اجتهادات الرواة فيها.

إن تأويلا لهذا ولا يعلم الغيب إلّا الله هو أنه كناية وإشارة إلى أن قبائل المانجور والمغول -الذين يطلِق عليهم القرآن بلغته السماوية «يأجوج ومأجوج»- سيدمّرون العالم كله في الأزمان المقبلة مثلما أغاروا -عدة مرات- على آسيا وأوروبا مع قبائل من الصين وما حولها، وأحلّوا فيهما الهرج والمرج. حتى إن الإرهابيين المشهورين في المنظمات الشيوعية الآن ينتمون إليهم.

نعم، إن الفكر الاشتراكي تولَّد في الثورة الفرنسية وترعرع بدعوتها إلى التحرر، ولما كان هذا الفكر الاشتراكي يدعو إلى تدمير قسم من المقدسات فقد انقلب أخيرا إلى البلشفية. وقد نشرت البلشفية أيضا بذورَ الإفساد لتحطيم كثير من المقدسات والمُثُل الأخلاقية والإنسانية. وستثمر تلك البذورُ حتما حناظلَ الفوضوية والإرهاب التي لا تعرف حدودا لشيء، ولا تقيم وزنا له. إذ القلب الإنساني إذا انتُزع منه الرأفةُ والرحمة والاحترام فإن العقل والذكاء يسيطران -عندئذ- على زمام الإنسان ويجعلان أولئك الناس كالوحوش الضارية والكلاب المسعورة، فلا يجدي معهم الضبطُ السياسي.

إن أخصب مرتع للفكر الفوضوي الإرهابي هو الأماكن المزدحمة بالمظلومين، والقبائلِ البعيدة عن الحضارة وعن الحكومة والدولة، والتي اعتادت النهب والإغارة، فهذه الشروط تنطبق على قبائل المانجور والمغول وقسمٍ من قبائل القرغيز الذين كانوا السبب في بناء سد الصين بطول أربعين يوما والذي يُعد أحد عجائب الدنيا السبع.

وهكذا فالرسول الكريم ﷺ الذي يفسر ما أجمَله القرآن الكريم قد أخبر عنهم إخبارا معجِزا محققا.

المسألة السادسة عشرة

في سياق قتل عيسى عليه السلام الدجالَ تُبين الرواياتُ أن للدجال جسما خارقا في الضخامة والعلو حتى يعلو على المنارة، وأن عيسى عليه السلام بالنسبة له صغير جدا.

إن أحد أوجه تأويل هذا، ولا يعلم الغيب إلّا الله ينبغي أن يكون هكذا: إنه كناية وإشارة إلى أن الذين يعرفون عيسى عليه السلام ويتبعونه بنور الإيمان -وهم جماعة الروحانيين المجاهدين- هم قلةٌ قليلة بالنسبة لجنود الدجال العلمية والمادية أي الثقافية والعسكرية.