ورأى صاحبنا السائح في المنـزل الثاني:

الحقيقة الخامسة: الانتظام الأكمل ووحدة المواد

أي وحدة الانتظام الأكمل في مجموع الكون وأركانه وأجزائه بل في كل موجود فيه، ووحدة موظفي ومواد الكـون الواسع التي هـي محور إدارته ومتعلقة بهيئته العامة. وكون الأسماء والأفعال المصرِّفة لتلك المدينة العظيمة والمحشر العجيب محيطةً وشاملة كل شيء، فالاسم هو نفسه والفعل هو نفسه والماهية هي نفسها في كل مكان، رغم تداخل بعضه في البعض الآخر، وكون العناصر والأنواع التي هي الأساس في بناء ذلك القصر الفخم وفي إدارته وفي إضفاء البهجة عليه، محيطةً بسطح الأرض بانتشارها في أكثر بقاعها، مع بقاء العنصر نفسه، والنوع نفسه واحدا، وذا ماهية واحدة في كل مكان رغم تداخل بعضه في البعض الآخر.. كل ذلك يقتضي بداهة، ويدل ضرورة ويُشهد ويُري أن صانع هذا الكون ومدبّرَه، وأن سلطان هذه المملكة ومربيها، وأن صاحب هذا القصر وبانيه، واحدٌ أحد فرد، ليس كمثله شيء، لا وزير له ولامعين، لا شريك له ولا ندّ، منـزّهٌ عن العجز، متعالٍ عن القصور.

نعم، إن الانتظام التام إنما هو دليل بذاته على الوحدة؛ إذ يستدعى منظما واحدا، فلا يسعه الشرك الذي هو محور المجادلة والمشاكسة.

فما دام هناك انتظام حكيم ودقيق في الكون كله -كليا كان الشيء أم جزئيا- ابتداءً من دوران الأرض اليومي والسنوي، إلى سيماء الإنسان، وإلى منظومة شعوره، وإلى دوران الكريات الحمر والبيض وجريانهما في الدم، فلا يمكن لشيء أن يمدّ يده ويتدخل قصدا وإيجادا سوى القادر المطلق والحكيم المطلق، بل يبقى كل شيء سواه منفعلا ومتلقيا ومَظهرا للقبول ليس إلّا.

وما دام القيام بالتنظيم ومنحُ النظام وبخاصة تعقّب الغايات وتتبعها وتنظيمها بإبراز المصالح، لا يكون إلّا بالعلم والحكمة، وإلّا بالإرادة النافذة والاختيار، فلابد أنَّ هذا الانتظام الذي يدور مع الحكمة، وهذه الأنواع المتنوعة من الانتظام في المخلوقات غير المحدودة التي تتراءى أمام أنظارنا والدائرة حول المصالح، يدل بداهة ويشهد بكل حال أن خالق هذه الموجودات ومدبّرها واحد، وهو الفاعل، وهو الذي بيده الاختيار، فكل شيء يخرج إلى الوجود إنما يخرج بقدرته هو، ويأخذ وضعا خاصا بإرادته هو، ويتخذ صورة منتظمة باختياره هو.

ومادام السراجُ الوهاج لهذه الدنيا المَضيفِ واحدا، وأن قنديلَها المتدلي لعدّ الأيام واحد، وأن معصراتها ذاتَ الرحمة واحدة، وأن مطبخها ذا الموقد واحد، وأن شرابها الذي يبعث على الحياة واحد، وأن مزرعتها المحمية واحدة.. واحد.. واحد.. واحد إلى ألفٍ وواحدٍ، فلابد أن هذه الآحاد الواحدة تشهد بداهةً أن صانع هذا المَضيف وصاحبَه، واحد، وهو كريم لضيوفه في منتهى الكرم والسخاء حتى إنه يُسخِّر كبارَ موظَفيه هؤلاء ويجعلهم خدما طائعين لضمانِ راحة ضيوفه الأحياء.

وما دامت واحدةً تلك الأسماءُ الحسنى والشؤون الإلهية والأفعال الربانية التي تصرّف أمور الكون والتي تَظهر تجلياتُها ونقوشها وآثارها في كل أنحاء العالم.. فالأسماء الحسنى: «الحكيم، المصور، المدبر، المحيي، المربي» وأمثالُها هي نفسها في كل مكان.. وشؤون «الحكمة والرحمة والعناية» وأمثالها هي نفسها في كل مكان.. وأفعال «التصوير والإدارة والتربية» وأمثالها هي نفسها في كل مكان.. وكل منها متداخلٌ بعضُه في البعض الآخر، وكل منها في أسمى مرتبةٍ وأوسعِ إحاطة وهيمنة، كما أن كلا منها يكمل نقشَ الآخر حتى لكأنَّ تلك الأسماء والأفعال تتحد مع بعضها اتحادا، فتُصبح القدرةُ عينَ الحكمة والرحمة، وتصبح الحكمةُ عينَ العناية والحياة. فعندما يظهر -مثلا- تصرفُ اسمِ «المحيي» في شيء ما، يظهر تصرّف اسم «الخالق والمصور والرزاق» وأسماءٍ أخرى كثيرةٍ كذلك في الوقت نفسه، في كل مكان وبالنظام نفسه. فلابد ولا محالة أن ذلك يشهد بداهة على أن مسمّى تلك الأسماء المحيطة، وفاعلَ تلك الأفعال الشاملة والظاهرة في كل مكان بالطراز نفسه، إنما هو فاعل واحد أحد فرد.. آمنـا وصدّقنا!

ومادامت العناصر التي هي مكوّنات المصنوعات وجواهرها وأسسها، تحيط سطح الأرض وتتوزع عليه، وكل نوع من أنواع المخلوقات -الحاملة لأختام مختلفة تظهر الوحدانية- قد انتشر على ظهر الأرض واستولى عليه، رغم كونه نوعا واحدا، فلابد أن تلك العناصر بمشتملاتها، وتلك الأنواع بأفرادها، إنما هي ملك لواحد، ومصنوعاتٌ مأمورةٌ لدى ذلك الواحد القادر الذي يَستخدِم بقدرته المطلقة تلك العناصرَ الضخمة المستولية كأنها خَدَمة طائعات، ويسخِّر تلك الأنواعَ المتفرقة في كل جهة من الأرض كأنها جنود نظاميون.

وحيث إن رسائل النور قد أثبتت هذه الحقيقة وأوضحتْها، نقتصر عليها بهذه الإشارة القصيرة.

فلقد أحسّ صاحبُنا السائح المسافر بنشوة إيمانية بعد أن اكتسب الفيض الإيماني والتذوق التوحيدي من فهمه لهذه الحقائق الخمس، فأنشأ يترجم ملخصا انطباعاتِه ومشاهداته مخاطِبا قلبَه:

انظر إلى الصحيفة الملونة الزاهية لكتاب الكون الوسيع.

كيف جرى قلمُ القدرة وصوّر البديع..

لم تبق نقطة مظلمة لأرباب الشعور..

لكأن الرب قد حرّر آياتِه بالنور.

واعلم أيضا بأن:

هذه الأبعاد غير المحدودة صحائف كتاب العالم

وهذه الآثار غير المعدودة سطور حادثات الدهر

 قد سُطّر في لوح الحقيقة المحفوظ:

كل موجود في العالم، لفظ مجسم حكيم

وأنصت كذلك: جو لا إله إلّا اللّه برابر ميزنند هرشي

دمادم جويدند ياحق سراسر كويدنند ياحي.

نعم،

وفي كل شيء له آية     تدل على أنه واحدٌ

وهكذا صدّق قلبُ السائح نفسَه، وقالا معا: نعم، نعم.

هذا وقد جاءت في المنـزل الثاني من الباب الثاني من المقام الأول إشارةٌ قصيرة إلى ما شاهده سائح الكون والضيف فيه من الحقائق التوحيدية الخمس، وهي:

[لا إله إلّا الله الواحد الأحد الذي دلّ على وحدته في وجوب وجوده مشاهدةُ حقيقةِ الكبرياء والعظمة في الكمال والإحاطة. وكذا مشاهدةُ حقيقة ظهور الأفعال بالإطلاق وعدم النهاية، لا تقيدها إلّا الإرادة والحكمة. وكذا مشـاهدةُ حقيقةِ إيجاد الموجودات بالكثرة المطلقة فـي السرعة المطلقة، وخلقِ المخلوقات بالسهولة المطلقة في الإتقان المطلق، وإبداعُ المصنوعات بالمبذولية المطلقة فـي غاية حسن الصنعة وغلو القيمة. وكذا مشاهدة حقيقةِ وجود الموجودات على وجه الكل والكلية والمعية والجامعية والتداخل والمناسبة. وكـذا مشاهدةُ حقيقة الانتظامات العامة المنافية للشركة. وكذا مشاهدةُ وحدة مدارات تدابير الكائنات الدالة علـى وحدة صانعها بالبداهة. وكذا وحدةُ الأسماء والأفعال المتصرفة المحيطة، وكـذا وحدة العناصر والأنواع المنتشرة المستولية على وجه الأرض].

وحينما كان ذلك السائح في العالم يجول في العصور صادَف مدرسةَ مجدّدِ الألف الثاني الإمامِ الرباني أحمد الفاروقي فدخلها وبدأ يصغي إليه. كان الإمام يقول في ثنايا درسه: «إن أهم نتيجة للطرق الصوفية كافة هي انكشاف الحقائق الإيمانية وانجلاؤها، وإن وضوح مسألة واحدة وانكشافَها لهو أرجح من ألفٍ من الكرامات».

وكان يقول أيضا: «لقد قال بعض العظماء في السابق: إنه سيأتي أحد من المتكلمين ومن علماء علم الكلام وسيثبت بدلائل عقلية إثباتا واضحا جميعَ الحقائق الإيمانية والإسلامية، ويا ليتني أنا ذلك الشخص، بل ربما هو أنا؛ (حاشية) لقد أثبت الزمن أن ذلك الشخص ليس شخصا ولا رجلا وإنما هو رسائل النور. وربما شاهد أهل الكشف في كشفياتهم رسائلَ النور في شخصِ مترجمها ومبلّغها الذي لا قيمة له ولا أهمية، فقالوا: إنه شخص. حيث إن الإيمان والتوحيد هما أساس جميع الكمالات الإنسانية وجوهرها ونورها وحياتها، وأن دستورَ: «تفكر ساعة خير من عبادة سنة» يخص التفكر الإيماني، وما الذكر الخفي في الطريقة النقشبندية وأهميته إلّا نوع من أنواع هذا التفكر السامي».

هكذا كان الإمام يعلّم، والسائح ينصت ويصغي بكل اهتمام. ثم رجع إلى نفسه وخاطبها:

لما كان هذا الإمام الهمام يقول كذا، وأن ازدياد قوة الإيمان ولو بمقدار ذرة هو أثمن من أطنان من كسب المعارف والكمالات، بل هو ألذ وأطيب مائةَ مرة من حلاوة الأذواق والوجد. وحيث إن الاعتراضات والشبهات المتراكمة حول الإيمان والقرآن -التي تثيرها فلاسفة أوروبا منذ ألف سنة- قد وجدت سبيلها إلى قلوب المؤمنين، فيهاجمون بها أهل الإيمان، ويحاولون بذلك زعزعة الأركان الإيمانية التي هي أساس السعادة الأبدية ومدار الحياة الباقية ومفتاح الجنة الخالدة، فلابد إذن -وقبل كل شيء- أن نزيد إيماننا قوةً ونحوّله من إيمان تقليدي إلى إيمان تحقيقي.

فهيا بنا أيتها النفس لنسرْ قُدُما مع هذه المراتب الإيمانية التسع والعشرين التي وجدناها، والتي كل منها راسخة رسوخ الجبل الأشم، قاصدين إيصالها إلى عدد الأذكار والتسبيحات المباركات للصلاة وهي الثلاث والثلاثون. فلنطرق باب الإدارة والإعاشة الربانية في عالم الأحياء الذي يترقرق عِبرا وعظات، ونفتحه بمفتاحِ  بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ  كي نرى المنـزل الثالث ونشاهد ما فيه.

فطرق السائح باب المنـزل الثالث الذي هو محشر العجائب ومجمع الغرائب، طرقَه بكل استرحام ورفق ولطف، ومن ثم فتحه بـ«بسم الله الفتّاح»، فبدا له المنـزل الثالث ودخل فيه، ووجد أن هناك أربع حقائق عظمى محيطة تنير ذلك المنـزل وتكشف التوحيد وتبينها كالشمس الساطعة.

الحقيقة الأولى:  وهي حقيقة «الفتاحية»

أي انفتاح ما لا يحد من الصور المنتظمة المتنوعة المختلفة بتجلي اسم «الفتاح»، من مادة بسيطة جدا، وانكشافها معا في كل طرف من أنحاء العالم، وفي آن واحد، وبفعل واحد.

نعم، كما أن القدرة الفاطرة قد فتحت الموجوداتِ المختلفة غير المحدودة، في رياض الكائنات كتفتح الأزهار؛ فأعطت باسم «الفتاح» كلا منها طرزا منتظما يناسبه، وشخصيةً منفردة تميّزه. فقد منحت كذلك -بشكل أكثر إعجازا- صورةً موزونة، مزينة، ومتميزة، لكل ذي حياة من أربعمائة ألف نوع من أنواع الأحياء في حديقة الأرض، وهي في غاية الإتقان والحكمة..

نعم، إن فتحَ الصور هذا أقوى دليل على التوحيد، وأعجبُ معجزة للقدرة الإلهية، حسب ما تفيده الآيات الكريمة: ﴿يَخْلُقُكُمْ في بُطُونِ اُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ في ظُلُمَاتٍ ثَلٰثٍ ذٰلِكُمُ اللّٰهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَ فَاَنّٰى تُصْرَفُونَ﴾ (الزمر:6). ﴿اِنَّ اللّٰهَ لَا يَخْفٰى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْاَرْضِ وَلَا فِي السَّمَٓاءِ * هُوَ الَّذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْاَرْحَامِ كَيْفَ يَشَٓاءُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ﴾ (آل عمران:5-6).

فبناءً على هذه الحكمة، ونظرا لإفاضة رسائل النور في بيان حقيقة فتح الصور بصورة متنوعة (وبخاصة في المرتبة السادسة والسابعة من الباب الأول من هذه الرسالة). فنحن نحيل إليها ونكتفي هنا بالقول:

لقد ظهرت نتيجةَ الدراسات المتواصلة والبحوث الدقيقة لعلمَي النبات والحيوان وبشهادتهما، أنَّ فتح الصور هذا له من الإحاطة والشمول والإتقان ما لا يمكن أن يملك هذا الفعل الجامع المحيط سوى الواحد الأحد القادر المطلق الذي يرى كل شيء، ويصنعه؛ ذلك لأنَّ فعل فتح الصور هذا يحتاج إلى وجود منتهى الحكمة، ومنتهى الدقة، ومنتهى الإحاطة ضمن قدرة مطلقة تهيمن في كل مكان وفي كل آن. فقدرةٌ كهذه لا يملكها إلّا الواحد الأحد الذي بيده مقاليد الأرض والسماوات.

نعم، فكما جاء في الآية الكريمة المذكورة ﴿في ظُلُمَاتٍ ثَلٰثٍ﴾ فإن خلق الإنسان، وفتح صوره، واحدةً واحدةً، في أرحام الوالدات بميزان وزينة، وبانتظام وتميّز، دون خلط أو اختلاط، أو خطأ أو نقص، من مادة بسيطة، دليل قاطع على الوحدانية. ومن ثم إحاطةُ هذه الحقيقة -فتحُ الصور- وشمولُها بالقدرة نفسها، والحكمة نفسها، والصنعة نفسها، للناس كافة، وللحيوانات كافة، وللنباتات كافة، على أرجاء الأرض كافة، لهي أقوى برهان على الوحدانية؛ ذلك لأن فعلَ الإحاطة هو بذاته وحدةٌ واحدة لا يترك مجالا للشرك.

ومثلما إن الحقائق التسع عشرة في الباب الأول قد شهدت (بوجودها) على وجوب وجود الخالق سبحانه، فهي تشهد كذلك (بإحاطتها) على الوحدة والوحدانية..

والحقيقة التي رآها صاحبُنا السائح في المنـزل الثالث هي:

الحقيقة الثانية:  وهي حقيقة «الرحمانية»

وهي تعني أن هناك واحدا جعل لنا الأرض -كما هي ظاهرةٌ أمام أعيننا- مضيفا رائعا، وغمر وجهَها بآلاف هدايا الرحمة، وفرش لنا بتلك الرحمة مأدبةً تحوي مئات الآلاف من مختلف الأطعمة اللذيذة المعدّة على تلك المائدة، وجعل لنا جوف الأرض -برحمته وحكمته- مخزنا عظيماً جامعاً لآلاف إحساناته وآلائه القيمة. ويقوم بتربيتنا تربيةً في منتهى الرحمة، بتحميله الأرض من عالم الغيب في دورتها السنوية -كأنها باخرة تجارية- بمئات الآلاف من أجود أنواع صنوف اللوازم الانسانية والحياتية وأجملها، ويرسلها كل سنة كأنها سفينة مشحونة أو قطار معبأ، فكل ربيع فيها بمثابة قطار تقلّ أرزاقَنا وملابسنا. ولأجل أن ننتفع من تلك الهدايا والنعم كلها فقد وهبنا المئات بل الآلاف من الاشتهاء والحاجات والرغبات والمشاعر، والحواس..

نعم، لقد وضح في «الشعاع الرابع» الذي يشرح الآية الكريمة: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾ (آل عمران:173)، وأُثبت هناك أنه سبحانه قد وهبنا معدةً بحيث نستطيع بها هضم أطعمة غير محدودة والتلذذ بها. وأحسن إلينا سبحانه حياةً بحيث نستفيد بحواسها نعما غير محدودة مبثوثة في أرجاء هذا العالم المشهود الكبير وكأنه سُفرة مفروشة للنعم. وأكرمنا سبحانه بإنسانية بحيث نتذوق بآلاتها العديدة -كالعقل والقلب- من هدايا غير متناهية لعالم المادة ولعالم المعنى ما نتذوق. وعلّمنا إسلاما بحيث يأخذ النور من خزائن غير متناهية لعالم الغيب ولعالم الشهادة. وهدانا إلى إيمانٍ بحيث نستفيد به ونتنور بما لا يُحصر من أنوار عوالم الدنيا والآخرة وهداياهما. فكأن هذه الكائنات قصر عامر منيف قد زيّن من لدن الرحمة الواسعة بأنفس الأشياء والموجودات، وسَلّمت بيد الإنسان مفاتيح خزائنه ومنازله التي لا تعد ولا تحصى، وأودعت في فطرته جميع الاحتياجات والمشاعر اللازمة للاستفادة من كل ما في القصر.

فرحمةٌ كهذه التي تحيط بالدنيا وبالآخرة معا، وبكل شيء. لابد أنها تجلٍ من تجليات «الأحدية» في تلك «الواحدية». أي كما أن إحاطةَ ضياء الشمس وشموله جميعَ الأشياء المقابلة لها مثال بارز على «الواحدية» فإن أخذ كل شيء شفاف ولماع حسب قابليته ضياءَ الشمس وحرارتها والألوان السبعة التي فيها وانعكاساتها، مثال على «الأحدية». لذا فإن الذي يرى ضياء الشمس المحيط للعالم يحكم بأن شمس الأرض واحدة، وأنه بمشاهدته انعكاس ضياء الشمس ذي الحرارة من كل شيء بَرَّاق، حتى من القطرات، يتمكن أن يقول بأحدية الشمس، أي أنها قريبة من كل شيء بصفاتها، فهي في مرآة قلب كل شيء.

فكما أن الأمر في المثال هكذا – ﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾ – فإن إحاطة رحمة الرحمن ذي الجمال إحاطة شاملة، كالضياء، تُظهر واحديةَ ذلك الرحمن وعدمَ وجود شريك له في أية جهة من الجهات، وإن وجود تجليات أنوار أكثر أسماء ذلك الرحمن، ونوعا من تجلٍ لذاته المقدسة في كل شيء، ولاسيما في كل ذي حياة، وبخاصة في الإنسان -بما منحه الرحمن تحت ستار رحمته الواسعة الجامعة من حياة جامعة لكل فرد، بحيث تمكنه من أن يتوجه بها إلى الكائنات كافة وينسج علاقات وروابط معها- يثبت أحدية ذلك الرحمن سبحانه، وحضوره لدى كل شيء، وأنه «هو» الذي يعمل كل شيء لأي شيء كان.

نعم، كما أن ذلك الرحمن بواحدية تلك الرحمة وبإحاطتها يظهر هيبةَ جلاله وبهائه على الكون كله، على الأرض كلها، فإنه بتجلي أحديته في كل ذي حياة، وبخاصة في الإنسان، وبجمعه جميع نماذج تلك النعم وغرزها في أعضاء ذلك الكائن الحي، وفي أجهزته وتنظيمها، وبجعله ذلك الفرد الواحد يتخذ -من جهة- الكائنات كافة دون تشتت مسكنه ومأواه، كأنه يعلن رأفة جماله، ويعرّف تمركز أنواع إحسانه في الإنسان.

فلو أخذنا البطيخ مثالا، فإن في كل بذرة من بذوره يوجد البطيخ نفسه. فخالق تلك البذرة الواحدة لابد أنه هو خالق ذلك البطيخ. إذ يستدرّ تلك النواة منه ويجمعها ويجعلها تتجسم بموازين علمه الخاصة وبقوانين حكمته التي تخصه. فليس هناك شيء قط يستطيع أن يصنع تلك النواة سوى البديع الواحد لذلك البطيخ، بل إن إيجاد غيره له محال أصلا. وبناءً على هذا فقد أصبح الكون -بتجلي الرحمانية- بمثابة شجرة وبستان، وغدت الأرض كالثمرة وكالبطيخ، وصار ذوو الحياة والإنسان كالبذرة، لذا ينبغي أن يكون خالقُ أصغر الأحياء هو خالق الأرض قاطبة، ورب أدق الأحياء هو رب الكون كله.

نحصل مما سبق: أن إيجادَ جميع الصور المنتظمة لجميع الموجودات وفتحَها من مادة بسيطة -بحقيقة الفتاحية التي هي محيطة- يُثبت الوحدة بداهة.. وأن تربية جميع الأحياء كذلك التي أتت إلى الوجود ودخلت الحياة الدنيا وبخاصة القادمين الجدد -بحقيقة الرحمانية التي تحيط بكل شيء- تربيةً في غاية الانتظام، وإيصالَ لوازم حياتها وتوفيرها لها دون نسيانِ أحدٍ، وشمولَ الرحمة نفسها ووصولها إلى كل فرد في كل مكان وفي كل آن، تُظهرُ الوحدة بداهة، وتُري الأحدية في تلك الوحدة كذلك.

وحيث إن رسائل النور هي من مظاهر اسمَي «الحكيم» و«الرحيم» من الأسماء الحسنى وأن إيضاح لطائف «حقيقة الرحمة» وتجلياتها مع إثباتها قد وردَ في مواضع عدة من الرسائل. لذا اقتصرنا هنا على الإشارة إليها بهذه القطرة من ذلك البحر الواسع.