ثم إن السائح والمسافر المذكور قد علم يقينا أن الإيمان الذي توصَّل إليه هو أعظمُ رأس مال الإنسان؛ إذ لا يُمَلِّكه -وهو الفقير- مزرعةً فانية ومسكنا مؤقتا، بل يملّكه الكونَ العظيم، ويجعله لائقا ليظفر بملك واسع باقٍ أوسعَ من الدنيا، ويوجِد له -وهو الإنسان الفاني- لوازم حياة أبدية خالدة؛ فينقذه -وهو المسكين المنتظر لمشنقة الأجَل- من النهاية المرعبة والإعدام الأبدي، فاتحا له خزائن السعادة السرمدية. لذا خاطب السائح نفسه قائلا: «هيا، تقدمي، لنفز بمرتبةٍ أخرى من مراتب الإيمان التي لا يحصرها حد.. فلنطّلع على مجموع الكون، ولننصتْ إليه لنرى ماذا يقول هو أيضا، كي نضفي نورا على تلك الدروس التي تلقيناها من أركان الكون وأجزائه».

فنظر السائح إلى مجموع الكون بمنظار واسع محيط قد استعاره من القرآن الكريم، فرأى أن هذا الكون منظم تنظيما بديعا، ومنطو على معاني جمّة وفيرة، بحيث يبدو على صورة كتاب سبحاني مجسم، أو قرآن رباني جسماني، أو قصر مزين صمداني، أو بلد منتظم رحماني؛ إذ إن جميع سور ذلك الكتاب وآياته وكلماته، بل حروفه وأبوابه وفصوله، وصحائفه وسطوره، وما يجري على الجميع من «المحو والإثبات» ذي المعنى اللطيف، ومن التحويل والتغيير ذي الحكمة والإبداع.. كل ذلك بالإجماع يفيد بداهة وجودَ عليم بكل شيء، قدير على كل شيء. ويعبّر عن وجود بارئٍ ذي جلال، ومصوّر ذي كمال، يرى كل شيء في كل شيء، ويعلم علاقة كل شيء بكل شيء، فيراعيه.

وهكذا، فإن جميع ما في الكون بأركانه، وأنواعه، وأجزائه، وجزئياته، وساكنيه، ومشتملاته، ووارداته، ومصاريفه، وتبديلاته ذاتِ المصلحة، وتجديداته ذات الحكمة، يفيد ويفهّم بالاتفاق وجودَ ووحدانيةِ خالقٍ رفيع الدرجات، وصانع ليس كمثله شيء، يعمل بقدرة لا حد لها، وبحكمة لا نهاية لها.

وتُثبت شهادةَ الكون العظيمة هذه على وجود الخالق ووحدانيته حقيقتان عظيمتان واسعتان متناسبتان مع سعة الكون وعظمته، وهما:

الحقيقة الأولى: وهي «حقيقة الحدوث والإمكان» التي رآها حكماء الإسلام والعلماءُ الدهاة لأصول الدين وعلم الكلام، وأثبتوها ببراهين دامغة. فقد قالوا: «لما كان في العالم وفي كل شيء تغيّرٌ وتبدل، فإنه فانٍ وحادث ولا يكون قديما. ولأنه حادثٌ فلابد له من صانع مُحدِث. ولما كان كل شيء على السواء إن لم يكن في ذاته سبب وجودي وعدمي فلن يكون واجبا ولا أزليا..». وقد أُثبت أيضا ببراهين قاطعة أنه لا يمكن إيجاد الأشياء بعضها للبعض الآخر بالدور والتسلسل الذي هو باطل ومحال. فيلزم إذن وجود واجب للوجود، يمتنع نظيرُه، ومحال مثيلُه، كلُ ما عداه ممكنٌ، وكل ما سواه مخلوق.

نعم، إن «حقيقة الحدوث» قد استولت على الكون، فالعين ترى أكثرها، والعقل يرى القسم الآخر منها؛ ذلك لأننا نشاهد أنه مع حلول الخريف في كل سنة يموت عالَم عظيم جدا، فتموت معه أفراد غير محدودة لمائة ألف نوع من النباتات والحيوانات الصغيرة، كل نوع منه بحكم كونٍ ذي حياة. ولكن ذلك الموت يجري في غاية الانتظام، بحيث تُودِع تلك الأفرادُ بذورَها ونواها وبويضاتها -التي تصبح مدارا لحشرها ونشورها، والتي هي بذاتها معجزات الرحمة والحكمة وخوارق القدرة والعلم- تُودعها أمانةً لدى حكمة الحفيظ ذي الجلال، وتحت رعايته وحمايته، مسلمةً إلى أيديها صحُف أعمالها، وبرامج ما قدمت من وظائف، وبعد ذلك تموت.. وبحلول موسم الربيع تُبعث بأعيانها تلك التي توفيت من الأشجار والأصول والحيوانات الصغيرة. وتُحيا وتخلق أمثالُ ومشابهات قسم آخر منها في أماكنها. فتمثل بذلك مائة ألف مثال ونموذج للحشر الأعظم ومائة ألف دليل عليه. فموجودات الربيع الماضي بنَشرها لصحائف ما قامت به من أعمال، وما أدت من وظائف، وإعلانها تلك الصحائف في هذا الربيع، تظهر بوضوح مثالا للآية الكريمة: ﴿وَاِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ (التكوير:10).

وكذا من جانب الكون ككل؛ ففي كل خريف وفي كل ربيع يموت عالَم كبير، ويأتي إلى الوجود عالم جديد، وما فيهما من الوفيات والمواليد لأنواع لا تحصى من الأحياء تجري في غاية الانتظام والميزان، حتى كأن الدنيا محط ومنـزل، يُستضاف فيه الكائنات الحية، فتأتيها عوالم سيّاحة ودُنىً سيارة تؤدي فيها وظائفَها، ثم ترحل عنها وتغادرها.

وهكذا فإن إحداث عوالمَ ذاتِ حياة، وإيجادَ كائناتٍ موظفة في هذه الدنيا، إحداثا وإيجادا بكل علم وحكمة، وميزانٍ وموازنة، وانتظامٍ ونظام، واستعمالَها بقدرة، واستخدامَها برحمة في المقاصد الربانية، وفي الغايات الإلهية، وفي الخدمات الرحمانية، يدل بالبداهة على وجوب وجودِ ذاتٍ مقدسة جليلة لا حدّ لقدرتها، ولا نهاية لحكمتها، ويظهرها للعقول واضحة كالشمس.

نغلق باب «مسائل الحدوث» ونحيلها إلى رسائل النور وكتبِ علماء الكلام.

أما جهة «الإمكان» فهو الآخر قد استولى على الكون وأحاط به، إذ نشاهد أن كل شيء سواء أكان كليا أم جزئيا كبيرا أم صغيرا، وكلَ موجود -من العرش إلى الفرش ومن الذرات إلى السيارات- إنما يُرسَل إلى الدنيا بذاتيةٍ خاصة وبصورة معينة وبشخصية متميزة وبصفات خاصة وبكيفيات حكيمة وبأجهزة ذات مصالح وفوائد. والحال أن إعطاء تلك الخصوصية، لتلك الذات الخاصة ولتلك الماهية، من بين إمكانات غير محدودة.. وكذا إكساءُ تلك الصورة المعينة ذات النقوش والعلامات الفارقة المتناسبة، من بين إمكانات واحتمالات عديدة بعدد الصور.. وكذا تخصيصُ تلك الشخصية اللائقة بانتقاء متميز لذلك الموجود المضطرب بين إمكانات بقدر أشخاص بني جنسه.. وكذا تمكينُ صفات خاصة ملائمة ذات مصالح في ذلك المصنوع الذي ليس له شكل والمتردد ضمن إمكانات واحتمالات بعدد أنواع الصفات ومراتبها.. وكذا تجهيزُ ذلك المخلوق بتلك الكيفيات ذات الحكمة، وتقليدُه بتلك الأجهزة ذات العناية التي من الممكن أن تكون في طرق شتى وطرز غير محدودة، وهو المتحير السائب بلا هدف، ضمن ما لا يحد من الإمكانات والاحتمالات.. إن جميع هذه الإشارات والدلالات والشهادات، الصادرة من حقيقة «الإمكان» تشكّل بلا شك أحد جناحي هذه الشهادة العظمى للكون؛ لأنه بعدد جميع الممكنات الكلية والجزئية، وبعدد إمكانات كل ممكن -مما ذُكر- من ماهية وهوية، وما له من هيئة وصورة، وما يتميز به من صفة ووضعية، هناك إشاراتٌ ودلالات وشهادات على وجود واجب الوجود سبحانه، الذي يخصّص ويُرجّح ويعيّن ويُحدِث، ولا حدَّ لقدرته ولا نهاية لحكمته ولا يخفى عليه شيء ولا شأن ولا يعجزه شيء ولا يعزب عنه شيء. فأكبرُ شيء عنده يسيرٌ كأصغره، وهو القادر على إيجاد ربيع بيُسرِ إيجادِ شجرة، وعلى إيجاد شجرة بسهولةِ إيجاد بذرة.

ولما كانت أجزاء رسائل النور -وبخاصة الكلمة الثانية والعشرون، والثانية والثلاثون، والمكتوب العشرون والثالث والثلاثون- قد أثبتت إثباتا كاملا، وأوضحت إيضاحا تاما شهادةَ الكون بكلا جناحيها وبكلتا حقيقتيها، لذا نختم هذه المسألة الطويلة جدا بإحالتها إلى تلك الرسائل.

أما الجناح الثاني للشهادة الكبرى الكلية الصادرة من مجموع الكون فهو:

الحقيقة الثانية: حقيقة «التعاون».

إن حقيقة التعاون تشاهَد فيما هو خارجٌ عن طوق المخلوقات الساعية لحفظ وجودِها ومهامها، وصيانةِ حياتها -إن كانت ذات حياة- وإيفاءِ وظيفتها ضمن هذه الانقلابات المضطربة المستمرة والتحولات المتلاطمة الدائمة. فمثلا: إن سعي العناصر لإمداد الأحياء، وبخاصة مدّ السحاب للنباتات، ومساعدة النباتات بدورها للحيوانات، ومعاونة الحيوانات للإنسان، واللبن السائغ في الأثداء والمتدفق لإطعام الصغار، وتسليم حاجات الأحياء وأرزاقها الكثيرة جدا والخارجة عن طاقتها وطوقها إلى أيديها من حيث لا تحتسب، وجري الذرات الغذائية لبناء خلايا البدن.. وما شابهها من الأمثلة الغزيرة لحقيقة التعاون الجارية بالتسخير الرباني وبالاستخدام الرحماني، تُظهِر بجلاء ربوبيةَ رب العالمين العامة المحيطة ورحيميته الواسعة الشاملة والذي يدير الكون الواسع برمته بسهولة إدارة قصر بسيط.

نعم، إن إظهار الأشياء المتعاونة -وهي جامدة وبلا شعور ولا شفقة- أوضاعا تنم عن الشفقة وتتسم بالشعور فيما بينها دليل وأيّ دليل على أنها تُدفَع دفعا للإمداد والمعاونة فتجري بقوةِ رب ذي جلال، وبرحمةِ رحيم مطلقِ الرحمة، وبأمرِ حكيم مطلق الحكمة.

وهكذا فإن «التعاون» العام الجاري في الكون و«الموازنةَ» العامة السارية بكمال الانتظام، و«المحافظةَ» الشاملة، ابتداءً من المجرات والسيارات إلى أجهزة الكائن الحي وأعضائه الدقيقة بل إلى ذرات جسمه، و«التزيين» الجاري قلمُه من وجه السماوات المتلألئ إلى وجه الأرض البهيج، بل إلى وجه الأزهار الجميلة، و«التنظيمَ» الحاكم ابتداءً من درب التبانة إلى المنظومة الشمسية وإلى ثمار الذُرة والرمان وأمثالهما، و«التوظيف» القائم ابتداءً من الشمس والقمر والعناصر والسحب إلى النحل والنمل.. وأمثالَها من الحقائق العظيمة جدا، والشاهدة شهادة متناسبة مع عظمتها، تشكّل الجناح الثاني لشهادة الكون على وجوده سبحانه ووحدانيته وتثبتها.

فما دامت رسائل النور قد أثبتت هذه الشهادة العظمى وبيّنتها، لذا نكتفي هنا بهذه الإشارة القصيرة جدا.

وهكذا ذُكرت في المرتبة الثامنة عشرة من المقام الأول إشارة قصيرة لما تلقاه سائح الدنيا من درس الإيمان من الكون:

[لا إله إلّا الله الواجب الوجود، الممتنعُ نظيرُه، الممكنُ كل ما سـواه، الواحد الأحد، الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته هذه الكائناتُ، الكتاب الكبير المجسم، والقرآن الجسماني المعظّم، والقصر المزين المنظم، والبلد المحتشم المنتظم، بإجماع سـورهِ وآياته وكلماتهِ وحروفهِ وأبوابه وفصولهِ وصحفهِ وسطورهِ، واتفاقِ أركانه وأنواعه وأجزائهِ وجزئياتهِ وسكنتهِ ومشتملاتهِ ووارداتهِ ومصارفهِ، بشهادة عظمةِ إحاطةِ حقيقة الحدوث والتغير والإمكان، بإجماع جميع علماء علم الكلام، وبشهادة حقيقة تبديل صـورتـهِ ومشتملاته بالحكمة والانتظام، وتجديدِ حروفهِ وكلماتهِ بالنظام والميزان.

وبشهادة عظمة إحاطةِ حقيقة: التعاون، والتجاوب، والتساند، والتداخل، والموازنة، والمحافظة، في موجوداته بالمشـاهدة والعيان].

ثم إن السائح الذي أتى إلى الدنيا وبحث عن خالقها وصعد في ثماني عشرة مرتبة وبلغ عرش الحقيقة بمعراج إيماني، ارتقى من مقام المعرفة الغيابية إلى مقام الحضور والمخاطبة. فخاطب هذا الولوعُ المشتاق روحَه قائلا:

إن الحمد والثناء الغيابيين من بدء سورة الفاتحة إلى كلمة «إيَّاكَ» يورثان طمأنينة تصعد بالإنسان وترقيه إلى مرتبة المخاطبة بـ«إيَّاكَ» فعلينا إذن أن نسأل مَن نبحث عنه، منه مباشرة، ونَدَع البحث الغيابي عنه، إذ ينبغي السؤال عن الشمس -التي تنوّر كل شيء- من الشمس نفسها، لأنَّ الذي يُظهرُ كلَ شيء ويوضحه لاشك أنه يُظهر نفسه أكثر من كل شيء؛ لذا فكما يمكننا أن نرى الشمس ونتعرف عليها من أشعتها وضيائها، يمكننا أيضا أن نسعى -حسب قابليتنا- في التعرف على خالقنا سبحانه وتعالى من تجليات أسمائه الحسنى ومن أنوار صفاته الجليلة.

وسنبين في هذه الرسالة بيانا مجملا ومختصرا حقيقتين فقط من بين الحقائق الغزيرة والتفصيلات المسهبة لمرتبتين من المراتب غير المتناهية لطريقين من الطرق الكثيرة لهذا المقصد:

الحقيقة الأولى: حقيقة الفعالية المستولية. تلك الفعالية المهيمنة على الكون، والمشاهَدة أمام أعيننا. وهي التي تدير، وتبدل، وتجدد، جميعَ الموجودات المحيطة والدائمة والمنتظمة والهائلة والسماوية والأرضية. والتي تفضي إلى الشعور بحقيقةِ تَظاهر الربوبية بداهة، ضمن حقيقة تلك الفعالية الحكيمة بجميع جهاتها. وهذا الشعور يسوق إلى إدراكِ تَبارُز الألوهية بالضرورة ضمن حقيقةِ تظاهُر الربوبية المشعة بالرحمة بجميع جهاتها.

أي يُستشعر -كأنه يُرى- أفعالُ فاعلٍ قدير وعليم، من هذه الفعالية الحكيمة المهيمنة الدائمة ومن وراء ستارها. ويُعلَم بداهةً -إلى درجة الإحساس- الأسماءُ الإلهية الحسنى المتجلية في كل شيء، من هذه الأفعال الربانية ذات التدبير والتربية ومن وراء ستارها، ويُعرف بعلم اليقين، بل بعين اليقين، بل بحق اليقين وجودُ الصفات السبعة القدسية وتحقُّقها من هذه الأسماء الحسنى المتجلية بالجلال والجمال ومن وراء ستارها. ويُعلم كذلك بعلم قاطع وبالبداهة والضرورة وبعلم اليقين وبشهادة جميع المصنوعات، من التجليات غير المتناهية لهذه الصفات السبعة القدسية، ذاتِ الحيوية والقدرة والعلم والسمع والبصر والإرادة والكلام، وجودُ موصوفٍ واجب الوجود، ومسمىً واحد أحد، وفاعلٍ فرد صمد. فيكون وجودُه سبحانه للبصيرة أظهرَ من الشمس للبصر وأسطع منها، فتُدركه حتى كأنها تراه؛ ذلك لأن الكتاب الجميل ذا المعنى اللطيف، والبناء المنتظم المتقن، يستدعيان بداهةً فِعْلَي الكتابة والبناء، وفعلا الكتابة الجميلة والبناء المنتظم يستدعيان أيضا بداهةً اسمَي الكاتب والبنّاء، واسما الكاتب والبنّاء يستدعيان أيضا بداهةً صنعةَ الكتابة والبناء وصفتيهما، وهذه الصنعة والصفات تستلزمان بداهة ذاتا تكون موصوفة وصانعة، ومسمىً، وفاعلة، إذ كما لا يمكن أن يكون هناك فعل دون فاعل، ولا اسم دون مسمى، كذلك لا يمكن أن تكون صفةٌ دون موصوف، ولا صنعة دون صانع.

وهكذا يتقرر بناءً على هذه الحقيقة والقاعدة أنّ هذا الكون -بموجوداته كافة- قد كُتب بقلم القدر، وبُني بمطرقة القدرة؛ فكُتب فيه ما لا يُحد مما هو بحكم الكتب والرسائل ذات المعاني اللطيفة، وبني فيه ما لا ينتهي مما هو بمثابة بنايات وقصور. فيشير كل واحدة منها إشاراتٍ لا حدّ لها بآلاف الأوجه، وتشهد معا بوجوه غير محدودة شهاداتٍ لا نهاية لها على وجوب وجودِ ووحدانية ذاتٍ جليلة أزلية أبدية، هي موصوفُ تلك الصفات السبعة المحيطة القدسية ومعدنها؛ بالأفعال الربانية والرحمانية غير المتناهية، وبجلواتٍ غير محدودة لألف اسم واسم من الأسماء الحسنى التي هي منشأ تلك الأفعال، وبالتجليات غير المتناهية للصفات السبعة السبحانية التي هي منبع تلك الأسماء الحسنى.. وكذا فإن ما في تلك الموجودات كلها من جميع أوجه الحسن والجمال وأنماط النفاسة والكمال، ومن جمال قدسي يليق بتلك الأفعال الربانية والأسماء الإلهية والصفات الصمدانية والشؤون السبحانية ويوافقها، كلٌ منه -بحد ذاته- يشهد وبمجموعه يشهد بداهة على الجمال المقدس والكمال المقدس لذاته سبحانه وتعالى.

وهكذا فإن حقيقةَ الربوبية المتظاهرة ضمن حقيقة الفعالية المستولية تعرّف نفسَها وتبيّنها بشؤونها وتصرّفِها في الخلق والإيجاد والصنع والإبداع التي تتم بالعلم والحكمة، وتظهرها في التقدير والتصوير والتدبير والإدارة التي تتسم بالنظام والميزان، وتبرز في التحويل والتبديل والتنـزيل والتكميل التي تنجز بالقصد والإرادة، وتوضحها في الإطعام والإنعام والإكرام والإحسان التي تُعطى بالشفقة والرحمة.

وإن حقيقةَ تَبارُز الألوهية أيضا التي تُحَسّ وتوجد بداهة ضمن حقيقةِ تَظاهُر الربوبية تعرّف نفسها وتفهّمها أيضا بتجليات الأسماء الحسنى ذات الرحمة والكرم، وبالتجليات الجلالية والجمالية للصفات الثبوتية السبعة التي هي: الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام.

نعم، فكما أن صفة «الكلام» تعرّف الذات الأقدس سبحانه وتعالى بالوحي والإلهامات، فإن صفة «القدرة» كذلك تعرّف ذاته جل وعلا بآثارها البديعة التي هي بمثابة كلماتها المجسّمة التي تصف قديرا ذا جلال، وتعرّفه بإظهارها الكون من أقصاه إلى أقصاه بماهية فرقان جسماني. وأن صفة «العلم» أيضا تعرّف ذات الواحد الأحد الموصوف، بقدر جميع المصنوعات الحكيمة المنتظمة الموزونة، وبعدد جميع المخلوقات التي تُدار وتُدبّر وتُزيّن وتمّيز بالعلم.

أما صفة «الحياة» فإن جميع الآثار الدالة على «القدرة» والصور والأحوال ذات الانتظام والحكمة والميزان والزينة، التي تنبئ عن وجود «العلم» وجميع الدلائل التي تخبر عن بقية الصفات الجليلة، مع دلائل صفات «الحياة» نفسها تدل على تحقق صفة «الحياة». والحياة نفسها كذلك مع جميع أدلتها تلك تبرز جميع ذوي الحياة التي هي بحكم مراياها، وتحوّل الكون برمته إلى صورة مرآة كبيرة جدا متكونة من مرايا غير محدودة متبدلة دائما ومتجددة باستمرار لأجل إظهار التجليات البديعة والنقوش الرائعة المتنوعة جديدة فتية في كل حين.

وقياسا على هذا فإن صفات «البصر» و«السمع» و«الإرادة» و«الكلام» كلٌ منها تعرّف الذات الأقدس تعريفا واسعا جدا بسعة الكون وتفهّمها. وإن تلك الصفات مثلما أنها تدل على وجود ذاته جل وعلا، فهي تدل كذلك بداهة على وجود الحياة وتحققها، وعلى أنه سبحانه وتعالى «حي»؛ ذلك لأن العلم علامةُ الحياة، والسمع أمارةُ الحيوية، والبصرَ يخصّ الأحياء، والإرادة تكون مع الحياة، والقدرة الاختيارية توجد في ذوي الحياة، أما التكلم فهو شأن الأحياء المُدركين.

وهكذا يُفهم من هذه النقاط: أن لصفة «الحياة» أدلة وبراهين تبلغ سبعة أضعاف سعة الكون، تعرّف وجودَها ووجود موصوفها «الحي» حتى أصبحت «الحياة» أساس جميع الصفات ومنبعها، ومصدر الاسم الأعظم ومداره.. وحيث إن رسائل النور قد أوضحت شيئا من هذه الحقيقة الأولى وأثبتتها ببراهين دامغة، نكتفي حاليا بهذه القطرة المذكورة من هذا البحر.

الحقيقة الثانية: هي التكلم الإلهي الصادر من صفة الكلام.

إن الكلام الإلهي سبحانه لا نهاية له، وذلك بسر الآية الكريمة:

﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبي﴾ (الكهف:109).

فالكلام أظهرُ دليل على معرفة وجود المتكلم، أي إن هذه الحقيقة (التكلم الإلهي) تشهد شهادات غير متناهية على وجود المتكلم الأزلي سبحانه وعلى وحدانيته. ولقد جاءت شهادتان قويتان لهذه الحقيقة بما بُيّن في المرتبتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة من هذه الرسالة من حيث الوحي والإلهام. وجاءت شهادة أخرى واسعة في المرتبة العاشرة منها حيث أشير إلى الكتب المقدسة السماوية، وهناك شهادة أخرى ساطعة وباهرة وجامعة هي في المرتبة السابعة عشرة حيث القرآن الكريم المعجز. فنحيل بيان هذه الحقيقة وشهادتها إلى تلك المراتب.

وهكذا فقد كانت أنوارُ وأسرار الآية الكريمة: ﴿شَهِدَ اللّٰهُ اَنَّهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَ وَالْمَلٰٓئِكَةُ وَاُو۬لُوا الْعِلْمِ قَٓائِمًا بِالْقِسْطِ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ﴾ (آل عمران:18) التي أعلنت هذه الحقيقة إعلانا معجزا، وأفادت شهادتها مع شهادة بقية الحقائق، كانت كافية ووافية لصاحبنا السائح حتى إنه لم يستطع أن يتجاوزها.

فذُكرت في المرتبة التاسعة عشرة من المقام الأول إشارة لِمعانٍ مختصرة لما تلقاه هذا المسافر من درس في هذا المقام القدسي:

[لا إله إلّا الله الواجب الوجود الواحد الأحد، له الأسماء الحسنى، وله الصفات العليا، وله المثل الأعلى، الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته الذاتُ الواجب الوجود، بإجماع جميع صفاتِهِ القدسيّةِ المحيطة، وجميع أسمائه الحسنى المتجلية، وباتفاق جميع شؤوناته وأفعاله المتصرفةِ، بشهادةِ عظمةِ حقيقةِ تَبارُزِ الألوهية في تظاهُر الربوبية، في دوام الفعالية المستولية، بفعل الإيجاد والخلق والصنع والإبداع بإرادة وقدرةٍ، وبفعلِ التقدير والتدبير والتدوير باختيار وحكمةٍ، وبفعل التصريف والتنظيم والمحافظة والإدارة والإعاشة بقصدٍ ورحمةٍ، وبكمال الانتظام والموازنةِ. وبشهادةِ عظمةِ إحاطةِ حقيقةِ أسرار: ﴿شَهِدَ اللّٰهُ اَنَّهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَ وَالْمَلٰٓئِكَةُ وَاُو۬لُوا الْعِلْمِ قَٓائِمًا بِالْقِسْطِ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ﴾].