الحقيقة الثانية: ظهور الأفعال الربانية ظهورا مطلقا ومحيطا

وهي التي يشاهَد تصرّفُها في الكون قاطبة وتَظهر ظهورا مطلقا محيطا، ولا يحدد تلك الأفعالَ إلّا الحكمةُ الربانية والإرادة الإلهية وقابلياتُ المظاهر. فالمصادفةُ العشواء والطبيعة الصماء والقوة العمياء والأسباب الجامدة والعناصر المبعثرة، لن تمتد يدُها أو تتدخل في تلك الأفعال التي هي في منتهى الدقة والميزان والحكمة، والتي تُنجَز بكل بصيرة وحيوية وانتظام وإحكام. وليست الأسباب إلّا حجابا ظاهريا فحسب، تستخدمها القدرةُ الفاعلة لذي الجلال والعزة وتسخّرها على وفق أمره وإرادته وقوته.

نودّ هنا بيان ثلاثة أمثلة عن الأفعال الربانية -من بين الآلاف منها- مما تشير إليها الآيات الثلاث المتصلة بعضها ببعض في سورة النحل. ومع أن كل فعل منها يحتوي على نكات لا حصر لها إلّا أننا نذكر منها هنا ثلاثا فقط.

الآية الأولى: ﴿وَاَوْحٰى رَبُّكَ اِلَى النَّحْلِ اَنِ اتَّخِذي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا﴾ (النحل:68).

نعم، إن النحلة معجزةُ القدرة الربانية فطرةً ووظيفةً، ويا لها من معجزة عظيمة حتى سُمّيت باسمها سورةٌ جليلة في القرآن الكريم؟! ذلك لأن تسجيلَ البرامج الكاملة لوظيفتها الجسيمة في رأسٍ صغير جدا لِماكنةِ عسلٍ صغيرة، ووضْعَ أطيب الأطعمة وألذّها في جوفها الصغير وطبخها فيه، واختيارَ المكان المناسب لوضع سمّ قاتل مهدم لأعضاء حية في رميحته دون أن يؤثر في الأعضاء الأخرى للجسم.. لا يمكن أن يتم -كل هذا- إلا بمنتهى الدقة والعلم وبمنتهى الحكمة والإرادة وغايةِ الموازنة والانتظام؛ لذا لن يتدخل مطلقا ما لا شعورَ له ولا نظام ولا ميزان من أمثال الطبيعة الصماء أو المصادفة العمياء في مثل هذه الأفعال البديعة.

وهكذا نرى ثلاث معجزاتٍ في هذه الصنعة الإلهية، ونشاهد ظهور هذا الفعل الرباني أيضا فيما لا يحد من النحل في أرجاء المعمورة كافة. فبروز هذا الفعل الرباني وإحاطته بالجميع، وبالحكمة نفسها، والدقة نفسها، والميزان نفسه، وفي الوقت عينه، وبالنمط عينه، يدل على الوحدة بداهة ويثبت الوحدانية.

الآية الثانية: ﴿وَاِنَّ لَكُمْ فِي الْاَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقيكُمْ مِمَّا في بُطُونِه مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَٓائِغًا لِلشَّارِبينَ﴾ (النحل:66).

إن هذا الأمر الإلهي لَيتقطّر عِبَرا ودروسا. نعم، إن إسقاء اللبن الأبيض الخالص، النظيف الصافي، المغذي اللذيذ، من مصانع الحليب المغروزة في أثداء الوالدات، وفي مقدمتها البقرة والناقة والمعز والنعجة، الذي يتدفق بسخاء من بين فرثٍ ودم دون أن يختلط بهما أو يتعكر.. وإنّ غرس ما هو ألذّ من اللبن وأحلى منه وأطيبُ وأثمن، في أفئدة تلك الوالدات وهو الحنان والشفقة التي تصل حد الفداء والإيثار.. ليحتاج حتما إلى مرتبة من الرحمة والحكمة والعلم والقدرة والاختيار والدقة مما لا يكون قطعا من فعل المصادفات العشوائية والعناصر التائهة والقوى العمياء، لذا فإنّ تصرف هذه الصنعة الربانية، وإحاطةَ هذا الفعل الإلهي، وتجليَها في الحكمة نفسها والدقةِ نفسها والإعجاز نفسه وفي آن واحد وطراز واحد في أفئدة تلك الآلاف المؤلفة من أضراب الوالدات وفي أثدائها وعلى وجه الأرض كافة، يُثبت الوحدة بداهة ويدل على الوحدانية.

الآية الثالثة: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخيلِ وَالْاَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا اِنَّ في ذٰلِكَ لَاٰيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (النحل:67).

تَـلفـت هذه الآية الكريمة النظـرَ والانتباه إلى النخيل والأعناب، فتنبّه الإنسان إلى أن في هاتين الثمرتين آية عظيمة لأولي الألباب، وحجة باهرة على التوحيد.

نعم، إن الثمرتين المذكورتين تُعتَبَران غذاءً وقوتا، وثمرة وفاكهة في الوقت نفسه، وهما منشأ كثيرٍ من المواد الغذائية اللذيذة، رغم أنَّ شجرة كلٍ منهما تنمو في تراب جامد، وتترعرع في أرض قاحلة. فكلٌ منهما معجزة من معجزات القدرة الإلهية، وخارقةٌ من خوارق الحكمة الربانية. وكل منهما مصانعُ سُكَّرٍ وحلويات، ومعامل شراب معسّل، وصنائعُ ذاتُ ميزانٍ دقيق حساس وانتظام كامل، ومهارة حكيمة، وإتقان تام، بحيث إن الذي يملك مقدار ذرة من عقل وبصيرة يضطر إلى القول: «إن الذي خلق هذه الأشياء هكذا، هو الذي أوجد الكائنات قاطبة»؛ لأنَّ ما نراه أمام أعيننا -مثلا- من تدلي ما يقارب عشرين عنقودا من العنب، من هذا الغصن الصغير النحيف، كل عنقود منه يحمل ما يقارب المائة من الحبات اللطيفة واللباب المعسلة، وكل حبَّة من تلك الحبَّات مغلفةٌ بغلاف رقيق لطيف ملوّن زاهٍ، وتضم في جوفها الناعم نوى صلدةً حاملة لتواريخ الحياة ومنهاجها.. نعم، إن خلق كل هذا وغيره في جميع العنب وأمثاله -وهي لا تعد ولا تحصى- على وجه البسيطة كافة، بالدقة نفسها، والحكمة عينها، وإيجاد تلك الصنعة الخارقة المعجزة بأعدادها الهائلة في وقت واحد، وعلى نمط واحد، لَيُثبِتُ بالبداهة أنَّ الذي يقوم بهذا الفعل إنْ هو إلّا خالق جميع الكائنات، وأنَّ هذا الفعل الذي اقتضى تلك القدرة المطلقة والحكمة البالغة، ليس إلّا من فعل ذلك الخالق الجليل.

نعم، إن القوى العمياء والطبيعة الصماء والأسباب التائهة المشتتة، لا يمكن لها أن تمدّ أيديها وتتدخل في ذلك الميزان الدقيق الحساس، بالمهارة البالغة، والانتظام الحكيم لتلك الصنعة، بل هي تُستخدم وتسخّر بأمر رباني في الأفعال الربانية، فهي ذات مفعولية وقبول، بل ليست إلّا ستائرَ وحجبا مسخرةً بيده سبحانه.

وهكذا، فكما تشير هذه الآياتُ الثلاث إلى حقائق ثلاث، وتدلّ كل منها على التوحيد بثلاث نكات، فهناك ما لا يُحدّ من الأفعال الربانية وما لا يُحد من تجليات التصرفات الربانية، تدل متفقةً على الواحد الأحد وتشهد شهادة صادقة على ذات الواحد الأحد ذي الجلال والإكرام.

الحقيقة الثالثة: حقيقة الإيجاد والإبداع

أي إيجاد الموجودات -وبخاصة النباتات والحيوانات- بكثرة مطلقة، في سرعة مطلقة، مع انتظام مطلق.. وخلقُ المخلوقات بسهولة مطلقة، في غاية الحسن والجمال مع المهارة المتقنة والانتظام الكامل.. وإبداعُ المصنوعات في غاية النفاسة والجودة والتمييز الواضح مع منتهى الوفرة وغاية الاختلاط والامتزاج.

نعم، إن إيجاد الأشياء في منتهى الكثرة بمنتهى السرعة، وفي منتهى السهولة واليسر بمنتهى الإتقان والمهارة وبالدقة والانتظام، وفي منتهى الجودة وغلاء القيمة والتميز مع منتهى الوفرة والمبذولية دون خلط أو لبس أو اختلال رغم كثافة الفروق والتباينات.. لا يمكن أن يتم هذا الإيجاد -ولن يتم- إلّا بقدرةِ قادر واحد أحد لا يؤوده شيء ولا يصعب على قدرته شيء.

نعم، ولكي ندرك ما نراه ونشاهده بأعيننا ينبغي أن تكون النجوم والذرات على حد سواء أمام تلك القدرة، وأكبرُ الأشياء كأصغرها، والأفراد غير المحدودة للنوع كالفرد الواحد منه، والكل المحيط العظيم كالجزء الصغير الخاص، وإحياء الأرض الهائلة كإحياء شجرة واحدة، وإنشاء الشجرة الشاهقة كإيجاد بذرة متناهية في الصغر.

وبهذا السر المهم لكلمة التوحيد التي تتضمنه هذه المرتبة التوحيدية، وهذه الحقيقة الثالثة، أي كون أكبر «كل» كأصغر «جزء» أمام القدرة الربانية دون أن يكون أدنى فرق بين الكثير والقليل، تنكشف الأسرارُ الدقيقة الخفية للقرآن الكريم. وببيان وتوضيح هذه الحكمة المحيرة واللغز العظيم الذي هو خارج طور العقل -مع أنه أهم أساس للإسلام وأعمقُ مدار للإيمان واللبنة الكبرى للتوحيد- يُدرَك أخفى الأسرار المجهولة لحقيقة خلق الكون التي عجزت الفلسفة عن إدراكها. فألف شكر وشكر، وألف حمدٍ وثناء لخالقِي الرحيم أرفعه بعدد حروف رسائل النور، أن تمكنتْ رسائل النور حلّ هذا السر العجيب، وكشفت هذا الذي يظنه الجاهل غموضا غريبا، بل أثبتته ببراهين قاطعة. وبخاصة في بحثِ «وهو على كل شيء قدير» الموجودِ في نهاية «المكتوب العشرين» وفي بحثِ: «الفاعل مقتدر» من «الكلمة التاسعة والعشرين» فأثبتت سعةَ القدرة الإلهية وطلاقتَها بالبراهين القاطعة بدرجة حاصل ضرب الاثنين في اثنين يساوي أربعا، وذلك في مراتب «الله أكبر» من «اللمعة التاسعة والعشرين» التي أُلّفت باللغة العربية.. فمع إحالة الإيضاح والتفصيل إلى هناك أردتُ أن أبين هنا بيانا مجملا، كفهرست مختصر تلك الأسسَ والأدلة التي تعالج هذا السر وتكشفه وتوضحه، ثم الإشارة إلى ثلاثة عشر سرا بثلاث عشرة مرتبة، وبدأتُ بكتابة السر الأول والثاني، ولكن مانعَين قويين ماديين ومعنويين حالا -مع الأسف- بيني وبين كتابة بقية الأسرار في الوقت الحاضر.

السر الأول: إذا كان الشيء ذاتيا، فلا يكون ضده عارضا له، لأنه اجتماع الضدين وهو محال.

فبناءً على هذا السر: مادامت القدرةُ الإلهية ذاتية وهي الضرورة اللازمة للذات المقدسة، فلا يمكن أن يكون العجزُ الذي هو ضد تلك القدرة عارضا للذات القادرة. وما دام وجودُ المراتب في الشيء الواحد يكون بتداخل ضدِّه -مثلما تتكون مراتبُ قوة الضياء وضعفه بمداخلة الظلمة، ودرجاتُ ارتفاع الحرارة وهبوطها بتداخل البرودة، ومقادير شدة القوة وضعفها بمقابلة المقاومة وممانعتها لها- فلا يمكن أن تحتوى تلك القدرةُ الذاتية على مراتب.. فهي تَخلق الأشياءَ وتوجِدها كالشيء الواحد. فمادامت تلك القدرة الذاتية متجردة من المراتب ومن الضعف ومن النقص، فلا جرم أن لا يقف أمامَها مانع ولا يصعب عليها إيجاد. وما دامت لا يشق عليها شيء فلابد أن يكون لديها إيجادُ الحشر الأعظم كسهولةِ إيجاد الربيع، وإيجادُ الربيع كبساطة إيجاد شجرة واحدة، وإيجاد الشجرة كيُسر إيجاد زهرة واحدة، وأنها تقوم بالإيجاد بهذه السهولة واليسر كما تقوم بها في أدق ما تكون الصنعة والإتقان. فنرى أنها تخلق الزهرة بإتقان الشجرة وبأهميتها وقيمتها، وتخلق الشجرة بإعجازِ صنعِ الربيع الهائل، وتخلق الربيع بشمولية الحشر وجامعيته وإعجازه، هكذا تخلق، وهكذا نشاهد خلقها أمام أعيننا.

وقد أثبتت رسائل النور ببراهين كثيرة قاطعة قوية أنه إن لم يُسنَد الخلقُ إلى الوحدة والوحدانية يصبح خلقُ زهرة واحدة صعبا كصعوبة خلقِ شجرة بل أصعب، ويصبح خلقُ الشجرة أعقد من خلق الربيع. وفوق ذلك سيسقط جميعُها من حيث القيمة والإتقان في الصنعة، فالكائن الذي يُخلق في دقيقة واحدة سيُصنع في سنة، بل يستحيل صنعه بالمرة.

فبناءً على هذا السر: فإن جميع الأثمار والأزهار والأشجار والأحياء الدقيقة المرتبطة بها، تخرج إلى الوجود في غاية الوفرة والكثرة مع أنها في منتهى الجودة والنفاسة، وتظهر في منتهى السرعة واليسر مع أنها في غاية الإتقان والصنعة، فتخرج إلى الوجود بانتظام، مؤديةً وظائفَها وتسبيحاتها، وموكلة بذورَها بديلة عنها، ماضيةً هي في سبيلها.

السر الثاني: كما أن شمسا واحدة تشعّ ضياءً إلى مرآة واحدة، بتجلٍ من القدرة الذاتية واستنادا إلى سر النورانية والشفافية والطاعة، فإنها تنعكس بسهولة بالصورة نفسها -ذات الضياء والحرارة- بالفعالية الواسعة لقدرتها غير المحددة بأمر إلهي، إلى ما لا يحد من المرايا والمواد اللماعة والقطرات.

وإذا نُطقتْ بكلمة واحدة، فإن هذه الكلمة تدخل بسهولة تامة إلى أذن شخص -استنادا إلى السعة المطلقة للخلاقية- وتدخل أذهان ملايينِ الأشخاص وآذانَهم ببساطة ويسر بالأمر الرباني، فأمامها آلاف المستمعين والمستمعُ الواحد سواء ولا فرق بينهما.

ومثلما تنظر العين إلى مكان واحد وآلاف الأمكنة بسهولة كاملة، فإن نورا أو نورانيا روحانيا -كجبريل عليه السلام- في الوقت الذي يشاهَد ويذهب ويحضر في مكان واحد بكل سهولة -استنادا إلى كمال سعة الفعالية الربانية في تجلي الرحمة- فهو كذلك يشاهد ويذهب ويحضر -بالقدرة الإلهية- بالسهولة نفسها في آلاف الأماكن. فلا فرق هنا بين القلة والكثرة.

وهكذا القدرة الذاتية الأزلية –﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾-. فلكونها ألطفَ نورٍ وأخصَّه بل هي نورُ الأنوار كلها، ولكون ماهية الأشياء وحقائقها وأوجه الملكوتية فيها شفافة لمّاعة كالمرايا، ولأن كل شيء -ابتداءً من الذرات إلى النباتات وإلى أنواع الأحياء قاطبة وإلى النجوم والشموس والأقمار- تابعٌ ومنقاد ومطيع على أتم وجه لحُكم تلك القدرة الذاتية ومسخّر ومجنّد وخاضع خضوعا مطلقا لأوامر تلك القدرة الأزلية.. فلا ريب أنها تُنشئ الأشياءَ غير المحدودة وتخلقها كالشيء الواحد، وتَحضر عند كل شيء في كل آن وفي كل مكان. فلا يمنع شيء شيئا، فالكبير والصغير، والكثير والقليل، والجزء والكل، سواء عندها؛ لا تعجز عن شيء ولا يصعب عليها شيء.

واستنادا إلى أسرار الانتظام والموازنة وامتثال الأوامر، والطاعة للأحكام -كما ذكرت في «الكلمة العاشرة» و«التاسعة والعشرين»- فإن سفينةً ضخمة جدا يمكن أن تُدار وتسيَّر بسهولةِ إدارةِ طفلٍ لدميته بإصبعه.. وإن قائدا مثلما يسوق جنديا واحدا بأمره: «هجوم»، فإنه بالأمر نفسه يسوق جيشا منتظما مطيعا، إلى الحرب.. وإذا كان هناك جبلان في حالة موازنة على طرفي ميزان عظيم حساس جدا ثم أُوتي بميزان آخر ووُضع في كلٍ من كفتيه بيضةٌ في معادلة تامة، فمثلما يمكن لجوزة واحدة أن ترفع إحدى الكفتين إلى الأعلى والأخرى إلى الأسفل، كذلك تستطيع تلك الجوزة نفسها -بقانون الحكمة- أن ترفع إحدى كفتي الميزان العظيم الحاملِ للجبل إلى قمة جبل وتُنـزل الأخرى إلى قعر الوادي.

فكما أن الأمر هكذا، كذلك الأمر في القدرة الربانية حيث إنها مطلقة غير متناهية، وهي نورانية، وهي ذاتية وهي سرمدية، وتوجد معها الحكمة المطلقة والعدالة التامة اللتان هما منشأ جميع الانتظام والأنظمة والموازنة ومنبعُها ومدارها ومصدرها، فالجزئي والكلي والكبير والصغير من أي شيء كان ومن كل شيء مسخر لحُكم تلك القدرة ومنقاد لتصرفها. لذا فإن تلك القدرة تسيِّر النجومَ والسيارات بسهولةِ إدارةِ الذرات وتحريكها؛ وذلك بسر نظام الحكمة. وكما أنها تحيي الذبابة في الربيع بسهولة، تسوق جميع طوائف الحشرات والنباتات والحيوانات إلى ميدان الحياة وتحييها بالسهولة نفسها وبالأمر نفسه، وبالحكمة المتضمنة فيها وبسر الميزان. وكما أنها تنبت شجرة في الربيع بسرعة فائقة فتنفخ الحياة في جذورها وجذوعها التي هي كالعظام، فهي تحيي بتلك القدرة المطلقة الحكيمة العادلة وبالأمر نفسه هذه الأرضَ الهائلة التي هي كجنازة ضخمة، مثلما أحيت تلك الشجرةَ في الربيع ببساطة، موجِدةً مئاتِ الآلاف من أنواع الأمثلة والنماذج الدّالة على الحشر والنشور. وكما أنه سبحانه يحيي الأرض بأمر تكويني فإنه بمضمون الآيات الجليلة الآتية:

 ﴿اِنْ كَانَتْ اِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَاِذَا هُمْ جَميعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ (يس:53).

 ﴿وَمَٓا اَمْرُ السَّاعَةِ اِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ اَوْ هُوَ اَقْرَبُ﴾ (النحل:77).

﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (لقمان:28).

يأتي بجميع الإنس والجن وما هو حيواني وروحاني وملائكي، يأتي بهم جميعا بالأمر نفسه بالسهولة نفسها إلى ميدان الحشر الأكبر وأمام الميزان الأعظم، فلا يمنع فعل فعلا قط.

هذا وقد أُجِّلتْ كتابة بقية الأسرار من السر الثالث إلى الثالث عشر خلافَ رغبتي إلى وقت آخر بمشيئة الله.

الحقيقة الرابعة: كلّيّة الموجودات وظهورها معا

إن وجود الموجودات وظهورها معا متداخلةً مشابها بعضُها البعضَ الآخر، وكونَ بعضها مثالا مصغرا للآخر أو نموذجا أكبر له، وكونَ قسم منها كلّا وكليّا وبقيةِ الأقسام أجزاءَه وأفراده، مع التشابه في ختم الفطرة وسكتها، والعلاقة الوثيقة في نقش الصنعة والإتقان، والتعاون فيما بينها، وإكمال كلٍ منها وظيفة الآخر الفطرية.. وأمثال هذه من النقاط العديدة لجهة الوحدة الكثيرة في الموجودات، تعلن التوحيدَ بداهة، وتثبت أن صانعها واحد أحد، وتُظهر -من جهة الربوبية المهيمنة- أن الكائنات قاطبة لا تقبل التجزئة والانقسام. فهي بحكم الكل والكلي.

مثال ذلك: أن إيجاد أفراد لا يحصرها العد لأربعمائة ألف نوع من أنواع النباتات والحيوانات في الربيع، وإدارتَها معا في آن واحد، وعلى نمط واحد، رغم تداخل بعضها في البعض الآخر، من دون خطأ أو خلل، وإعاشتَها بكمال الحكمة وحسن الصنعة والإتقان.. وكذا خلقُ أفراد غير محدودة لأنواع الطيور ابتداءً من مثالها المصغر (الحشرات) إلى مثالها الأكبر (الصقور) ومنحُها القدرةَ على السياحة والتجوال في الجو، وتجهيزُها بأجهزة تساعدها على المعيشة والحركة والتنـزّه ونثرِ البهجة في الجو، ووضعُ سكة الصنعة المعجزة وختمِها في وجوهها، وتركيبُ ختم الحكمة في أجسامها بكل تدبير، وإيداعُ طغراء الأحدية في ماهيتها بكل اعتناء وتربية.. وكذا إمدادُ خلايا الجسم بذرات الطعام، وإمداد الحيوانات بالنباتات، وإمداد الإنسان بالحيوانات، وإمداد الصغار العاجزين بحنان الوالدات ورعايتهن، وجعلُ هذا السعي والإمداد والمعاونة تتم في إطارِ حكمة تامة وضمنَ رحمة كاملة.. وكذا التصرفُ بالنظام نفسه والإبداعِ نفسه وبالفعل نفسه والحكمة نفسها، ابتداءً من مجرة درب التبانة -من الدوائر الكونية الهائلة- إلى المنظومة الشمسية، وإلى العناصر الأرضية بل حتى إلى حدقة العين وأوراق براعم الأوراد وأغلفة عرانيس الذُرة والبذور الكامنة في البطيخ -مثلا- كأنها دوائر متداخلة بعضها في البعض الآخر وبحكم الجزئي والكلي.. كل ذلك لَيُثبت بداهةً أنَّ الذي يقوم بهذه الأفعال إنما هو واحد أحد، وضعَ سكته وختمَه على ناصية كل شيء في الوجود، وكما لا يحدّه مكان فهو حاضر في كل مكان، وهو قريب إلى كل شيء رغم أن كل شيء بعيدٌ عنه، كالشمس. وكما يسهل عليه أصعب أمور الدوائر الكونية العظيمة والمنظومة الشمسية، لا تخفى عليه أيضا أصغر أمور الكريات في الدم، وأدق الخواطر القلبية. فلا شيء يبقى خارجَ إدارته ودائرة تصرفه. ومهما كان الشيء كبيرا أو كثيرا فهو سهل ويسير عليه كأصغر شيء وأقله، فيَخلق الحشرةَ الصغيرةَ في نظام الصقر وإتقانه، ويخلق الزهرةَ في ماهية الشجرة وانتظامها، ويخلق الشجرة في صورة الحديقة وإبداعها، ويخلق الحديقة في روعة الربيع وزهوه، ويخلق الربيع في عظمة الحشر وهيبته. وهو يقدّم إلينا أكثر الأشياء إتقانا وأغلاها ثمنا بسعرٍ بخس زهيد بل يُحسنه إلينا إحسانا، ثم لا يطلب منا إلّا: «بسم الله» و«الحمد لله» أي إن الثمن المقدّر لتلك النعم، هو «بسم الله الرحمن الرحيم» ابتداءً و«الحمد لله» ختاما.

نكتفي بهذا القدر نظراً لقيام رسائل النور بإيضاح هذه الحقيقة الرابعة وإثباتها بتفصيل أكثر.