النكتة الخامسة

اسم الله الأعظم الحي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿فَانْظُرْ اِلٰٓى اٰثَارِ رَحْمَتِ اللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتٰى وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ (الروم:50)

﴿اَللّٰهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَ اَلْحَيُّ الْقَيُّومُۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ (البقرة:255)

لقد تراءت في أفق عقلي نكتةٌ من النكات الدقيقة للآيتين المذكورتين، وتجلٍ من تجليات نور الاسم الأعظم «الحي» أو أحد نورَيه، أو أحد أنواره الستة، وذلك في شهر شوال عندما كنت في سجن أسكي شهر. فلم أتمكن من أن أثبّتها في حينه، ولم استطع أن أقتنص ذلك الطائر السامي، ولكن بعدما تباعد ذلك القَبسُ الوضيئ اضطررت إلى الإشارة إليه بوضع رموزٍ ترمز إلى أشعةِ تلك الحقيقة الكبرى، وذلك النور الأعظم.

وسأشير إليها هنا باختصار:

الرمز الأول:

ما الحياة التي هي تجلٍ أعظم لاسم الله الحي المحيي؟ وما ماهيتها؟ وما مهمتها؟

جواب هذا السؤال نُدرجه على صورة فهرس، على النحو الآتي:

الحياة هي لهذه الكائنات:

أهم غاية.. وأعظمُ نتيجة.. وأسطع نور.. وألطفُ خميرة.. وأصفى خلاصة.. وأكملُ ثمرة.. وأسمى كمال.. وأزهى جمال.. وأبهى زينة.. وهي سرُّ وحدتها.. ورابطةُ اتحادها.. ومنشأ كمالاتها.. وهي أبدعُ ذاتِ روحٍ فيها، من حيث الإتقان والماهية.. وهي حقيقتُها المعجزة؛ تُصيِّر أصغرَ مخلوقٍ عالَماً بحدّ ذاته..

وهي أروعُ معجزات القدرة الإلهية؛ بجعلها الكائن الحي بمثابة كونٍ مصغر، فكأنها -أي الحياة- وسيلةٌ لانطواء الكائنات في ذلك الكائن الحي الصغير؛ بما تُظهر فيه ما يشبه فهرسَ الكون العظيم، كما تجعله في رباطٍ وثيق مع معظم الموجودات..

وهي صنعةٌ إلهية خارقة؛ تكبِّر الجزءَ الضئيل إلى أكبر كلٍّ، حتى إنها تجعل الفردَ بحكم العالَم وكأنه كلّي. وتَعرض الكونَ -من حيث الربوبية- في حكم الكلّ والكلّي الذي لا يقبل التجزئة والاشتراك والانقسام..

وهي أسطعُ برهانٍ ضمن ماهيات الكائنات، وأثبتُه وأكملُه، يشهد على وجوب وجوده سبحانه، وعلى أنه «الحي القيوم» ويدل على وحدته وأحديته جل وعلا..

وهي أبلغُ صورة لصنعة ربانية حكيمة -ضمن المصنوعات الإلهية- وأخفاها وأظهرُها وأثمنُها وأزهدها وأنزهُها وألمعها..

وهي ألطفُ تجلٍ للرحمة الإلهية وأرقُّها وأدقها؛ تجعل الموجودات خادمة لها..

وهي أجمعُ مرآةٍ تعكس الشؤون الإلهية للأنظار..

وهي أعجوبةُ الخلقة الربانية؛ إذ تجمع تجليات اسم «الرحمن، الرزاق، الرحيم، الكريم، الحكيم وأمثالِها من الأسماء الحسنى» وتجعل الحقائق الكثيرة والمشاهَدة كالرزق والحكمة والعناية والرحمة تابعةً لها، فتقودها، مثلما هي منشأ جميع المشاعر ومعدن الحواس العامة كالبصر والسمع والشعور..

وهي ماكنةُ تنظيفٍ عظيمة، وجهازُ استحالةٍ عجيبة في مصنع الكائنات حيث تقوم بالتصفية والتطهير في كل نواحيه؛ فتطهِّر الشيء وتمنحُه الرقيَ وتنوّره، وكأن الجسدَ الذي هو عشّ الحياة – دارُ ضيافةٍ لقوافل الذرات ومدرستُها ومعسكرُها؛ تتعلم فيه وظائفَها، وتتدرب على أعمالها، فتتنور وتضيء ..

وهي وسيلة ينوّر بها «الحيُّ المحيي» سبحانه عالَم الدنيا المظلم الفاني السافل ويمنحه نوعاً من البقاء، ويجعله بماكنة الحياة لطيفاً مهيئاً للمضي إلى العالم الباقي ..

ثم إن وجهَي الحياة، أي المُلك والملكوت، صافيان طاهران لا نقص فيهما، ساميان، وهي مخلوق خاص متميز عن كل خلق آخر لم توضَع لها الأسبابُ الظاهرية حُجباً لتصرفات القدرة الإلهية -كما هي في سائر الأشياء- وذلك ليكون أمرُ صدورها من يد القدرة الربانية مباشرة دون حُجب أو وسائط..

وحقيقة الحياة تتطلع إلى الأركان الإيمانية الستة وتثبتها معنىً ورمزاً، أي إنها تثبت وجودَ واجب الوجود سبحانه وحياته السرمدية.. والدارَ الآخرة وحياتها الدائمة.. ووجودَ الملائكة.. وتتوجه توجهاً كاملاً إلى إثبات سائر الأركان الإيمانية وتقتضيها..

وهي أصفى خلاصة مترشحة من الكائنات كلِّها كما أنها أعظم سِرّ يولّد الشكر والعبادة والحمد والمحبة التي هي أهم المقاصد الإلهية في الكون وأهم نتيجة لخلق العالم هذا.

تأمل هذه الخصائص المهمة القيّمة للحياة والبالغة تسعاً وعشرين خاصية، ودقق النظر في مهماتها السامية الشاملة، ثم انظر من وراء اسم «المحيي» إلى عظمة اسم «الحي» وأدرك كيف أن اسم «الحي» هو اسم الله الأعظم من حيث هذه الخصائص العظيمة للحياة، ومن حيث ثمارها ونتائجها، وافهم أيضاً أن للحياة غايةً كبرى كبرَ الكون ونتيجةً عظمى بعظمته ما دامت هي أعظم نتيجة لهذه الكائنات وأعظم غاية وأثمن ثمرة؟ لأن الثمرة مثلما هي نتيجة الشجرة، فنتيجة الثمرة شجرة قادمة بوساطة بذرتها.

نعم، إن غاية هذه الحياة ونتيجتَها هي الحياة الأبدية، كما أن ثمرة من ثمارها هي الشكر والعبادة والحمد والمحبة تجاه واهب الحياة «الحي المحيي» وإن هذا الشكر والمحبة والحمد والعبادة هي ثمرة الحياة كما أنها غاية الكائنات.

فاعلم من هذا: أن الذين يحصرون غاية هذه الحياة في: «عيشٍ برفاه، وتمتّع بغفلة، وتنعّم بهوى» إنما يستخفّون -بجهل مستهجَن قبيح- بهذه النعمة الغالية الكبرى، نعمة الحياة، وهدية الشعور، وإحسان العقل، ويحقرونها وينكرونها بل يكفرون بها فيرتكبون كفراناً عظيماً وإثماً مبيناً.

الرمز الثاني:

الحياة التي هي أعظمُ تجلٍّ لاسم الله «الحي» وألطفُ تجلٍ لاسم الله «المحيي» يحتاج في بيان مراتبها وصفاتها ووظائفها -المذكور فهرستُها في الرمز الأول- إلى كتابة رسائل عدة بعدد تلك المزايا والخصائص. لذا سنشير إشارة مختصرة إلى بضعٍ منها محيلين تفاصيلها إلى أجزاء «رسائل النور»، حيث بَيّنت قسماً من تلك الخصائص والمراتب والمهمات. فلقد ذكر في الخاصية الثالثة والعشرين من الخصائص التسعة والعشرين للحياة: أن وجْهَي الحياة صافيان، شفافان، رائقان. فلم تضع القدرةُ الربانية أسباباً ظاهرية لتصرفاتها فيها. وسرّ هذه الخاصية هو ما يأتي:

«إنَّ كل شيء في الكون ينطوي على خير، وفيه جمالٌ وحُسن، أما الشر والقبح فهما جزئيان جداً، وهما بحُكم وحدتين قياسيتين، أي إنهما وُجدا لإظهار ما في الخير وما في الجمال من مراتب كثيرة وحقائق عديدة؛ لذا يُعَدُّ الشرُّ خيراً والقبحُ حُسناً من هذه الزاوية. أي من زاوية كونهما وسائل لإبراز المراتب والحقائق. ولكن ما يبدو لذوي الشعور من مظاهر القبح والشر والبلاء والمصائب قد تدفعهم إلى السخط والشكوى والامتعاض. فوُضعَت الأسبابُ الظاهرية ستاراً لتصرف القدرة الإلهية، لئلا تتوجه تلك الشكاوى الظالمة والسخط الباطل إلى «الحي القيوم» جلّ وعلا. زد على ذلك فإن العقل أيضاً بنظره الظاهري القاصر، قد يرى منافاةً بين أمور يراها خسيسةً، خبيثةً، قبيحة، وبين مباشرةِ يد القدرة المنـزّهة المقدسة لها. فوُضِعَت الأسبابُ الظاهرية ستاراً لتصرف القدرة الربانية لتُنَـزِّه عزةَ القدرة الإلهية عن تلك المنافاة الظاهرية».

هذا علماً أن الأسباب نفسهَا لا يمكنها أن توجِد شيئاً بحد ذاتها قط. بل هي موضوعةٌ لصيانة عزة القدرة الإلهية وتنـزيهها، ولتظل هي هدفاً مباشراً للشكاوى الظالمة والاعتراضات الباطلة.

ولقد ذكرنا في مقدمة المقام الثاني من «الكلمة الثانية والعشرين» أن مَلَك الموت «عزرائيل» عليه السلام وجد أن مهمة قبض الأرواح التي أوكلَتْ إليه مهمةٌ بغيضة لبني آدم، وسيكون من جرائها موضعَ سخطهم ومثار امتعاضهم، فناجى ربَّ العزة بشأن مهمته قائلاً:

يا رب إن عبادَك سيسخطون عليّ!

وجاءه الجواب: سأضع ستار الأمراض وحجابَ المصائب بين مهمتك وبينهم، فلا تُصوَّب سهام الشكاوى والاعتراضات إليك، بل إلى الحُجُب.

فحسب مضمون هذه المناجاة نقول:

إن الذين لا يرون الوجه الصبوح الحقيقي للموت -المطل على أهل الإيمان- ولا يدركون ما فيه من رحمةٍ مدّخرة، يبدون اعتراضات وشكاوى، فتبرز أمامَهم مهمةُ عزرائيل عليه السلام حجاباً وستاراً، فلا تتوجه تلك الشكاوى الباطلة والاعتراضات المجحفة إلى الذات المقدسة للحي القيوم. ومثلما أن مهمة عزرائيل عليه السلام ستارٌ، فإن الأسباب الظاهرية الأخرى هي أيضاً حُجُب وأستار.

نعم، إنَّ العزة والعظمة تقتضيان أن تكون الأسبابُ حُجُباً بين يدي القدرة الإلهية أمام نظر العقل، إلّا أن الجلال والوحدانية يقتضيان أن تسحب الأسبابُ أيديها وترفعها عن التأثير الحقيقي.

أما وجها الحياة الظاهر والباطن، المُلك والملكوت، فهما صافيان كاملان مبرّءان من النقص والتقصير، فمثلما لا يوجد فيهما ما يستدعي الشكوى أو الاعتراض، فليس فيهما كذلك ما ينافي عزة القدرة ونزاهتها من دَنَس مستهجَن أو قبح ظاهر؛ لذا فقد سُلِّم وجهاها مباشرةً إلى اسم «المحيي» لذات الله «الحي القيوم» من دون إسدال أستار الأسباب وحُجُبها.

ومِثل الحياة؛ النورُ، وكذلك الوجودُ والإيجاد.. وعليه نرى أن الإيجاد والخَلق يتوجهان مباشرةً من دون حُجُب وأستار إلى قدرة الخالق سبحانه، بل حتى المطر -وهو نوع من الحياة ورحمة مهداة منه سبحانه- فلا يحكُمه قانون مطّرد يحدد وقتَ نزوله؛ وذلك لئلا تُحرَم أكفُّ الضراعة أمام باب الرحمة من الرجاء والاسترحام وقت الحاجة؛ إذ لو كان المطر ينـزل حسب قانون مطّرد -بمثل شروق الشمس وغروبها- لَمَا كان الخلقُ يتوسلون ويستغيثون كل حين استنـزالاً لنعمة الحياة تلك.

الرمز الثالث:

لقد ذكر في الخاصية التاسعة والعشرين أن: الحياة هي نتيجة الكائنات مثلما أن نتيجة الحياة هي: الشكر والعبادة، فهما سببُ خلق الكائنات وعلةُ غايتها، ونتيجتُها المقصودة.

نعم، إن خالق الكون سبحانه «الحي القيوم» إذ يعرِّف نفسَه لذوي الحياة ويحبّبها إليهم بنِعَمه التي لا تعد ولا تحصى، يطلب منهم شكرَهم تجاه تلك النعم، ومحبَّتهم إزاء تلك المحبة، وثناءهم واستحسانهم مقابل بدائع صُنعه، وطاعتَهم وعبوديتَهم تجاه أوامره الربانية. فيكون الشكر والعبادة -حسب سرّ الربوبية هذا- أعظمَ غاية لجميع أنواع الحياة، وبدورها يكون غاية الكون بأسره.. ومن هنا نرى أن القرآن الكريم يحث بحرارة ويسوق برفق وعذوبة إلى الشكر والعبادة؛ فيكرر كثيراً ويبيّن ويوضح أن العبادة خاصّة لله وحده، وأن الشكر والحمد لا يليقان حقاً إلّا به سبحانه، وأن ما في الحياة من شؤون وأمور هي في قبضة تصرفه وحده، فينفي بهذا وبصراحة تامة الوسائطَ والأسباب، مسلِّماً الحياة بما فيها إلى يد القدرة للحي القيوم
فيقول مثلاً:

﴿وَهُوَ الَّذي يُحْي وَيُميتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ اَفَلَا تَعْقِلُونَ (المؤمنون:80)

﴿هُوَ الَّذي يُحْي وَيُميتُ فَاِذَا قَضٰٓى اَمْرًا فَاِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (غافر:68)

﴿فَيُحْي بِهِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا (الروم:24)

نعم، إن الذي يدعو إلى الشكر والحمد والامتنان، والذي يثير الشعور إلى المحبة والثناء -بعد نعمة الحياة- إنما هو الرزق والشفاء والغيث، وأمثالُها من دواعي الشكر والحمد.

وهذه الوسائل أيضاً محصورةٌ كلياً بيد الرزاق الشافي سبحانه، فليست الأسباب إلّا أستار وحُجب ووسائط فحسب؛ إذ إن علامة الحصر والتخصيص -حسب قواعد اللغة العربية- «هو الرزاق»، «هو الذي»، واضحة في الآيات الكريمة الآتية:

﴿هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتينُ (الذاريات:58)

﴿وَاِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفينِ (الشعراء:80)

﴿وَهُوَ الَّذي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا (الشورى:28)

فهذه الآيات الكريمة وأمثالها تبين: أنَّ الرزق والشفاء والغيث خاصةٌ به سبحانه وتعالى، وتنحصر كلياً بيد قدرة الحي القيوم. فالذي وهب خواصَّ الأدوية والعلاج هو ذلك الشافي الحقيقي سبحانه الذي خلقها وليس غيره.