فقد ترى هذا النمط في كلمتين فقط: ﴿ربك﴾ و﴿رَبِّ الْعَالَمينَ﴾ إذ يعلّم الأحدية بتعبير ﴿ربك﴾ ويعلّم الواحدية بـ﴿رَبِّ الْعَالَمينَ﴾، علما أن الواحدية تتضمن الأحدية.

بل قد ترى ذلك النمط من البلاغة في جملة واحدة فيريك في آية واحدة مثلا نفوذَ علمه إلى موضع الذرة في بؤبؤ العين وموقعَ الشمس في كبد السماء، وإحاطة قدرته التي تضع بالآلة الواحدة كلا في مكانه، جاعلةً من الشمس كأنها عين السماء فيعقب: ﴿وَهُوَ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بعد آيةِ ﴿يُولِجُ الَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ ﴾ (الحديد:6) أي يعقب نفوذَ علمه سبحانه إلى خفايا الصدور بعد ذكره عظمةَ الخلق في السماوات والأرض وبَسْطها أمام الأنظار، فيقرّ في الأذهان أنه يعلم خواطر القلوب وخوافي شؤونها ضمن جلال خلّاقيته للسماوات والأرض وتدبيره لشؤونها. فهذا التعقيب:
﴿وَهُوَ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ لون من البيان يحول ذلك الأسلوب السهل الواضح الفطري -القريب إلى أفهام العوام- إلى إرشاد سامٍ وتبليغ عام جذاب.

سؤال: إن النظرة السطحية العابرة لا تستطيع أن ترى ما يورده القرآن الكريم من حقائق ذات أهمية، فلا تعرف نوع المناسبة والعلاقة بين فذلكةٍ تعبّر عن توحيد سام أو تفيد دستورا كليا، وبين حادثة جزئية معتادة؛ لذا يتوهم البعضُ أن هناك شيئا من قصورٍ في البلاغة، فمثلا لا تظهر المناسبةُ البلاغية في ذكر الدستور العظيم: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذي عِلْمٍ عَليمٌ﴾ تعقيبا على حادثة جزئية وهي إيواء يوسف عليه السلام أخاه إليه بتدبير ذكي. فيرجى بيان السر في ذلك وكشف الحجاب عن حكمته؟

الجواب: إنّ أغلب السور المطولة والمتوسطة -التي كلّ منها كأنها قرآن على حدة- لا تكتفي بمقصدين أو ثلاثة من مقاصد القرآن الأربعة (وهي: التوحيد، النبوة، الحشر، العدل مع العبودية) بل كل منها يتضمن ماهية القرآن كلها، والمقاصدَ الأربعة معا، أي كل منها:

كتابُ ذكر وإيمان وفكر، كما أنه كتاب شريعة وحكمة وهداية. فكل سورة من تلك السُوَر تتضمن كُتبا عدة، وترشد إلى دروس مختلفة متنوعة. فتجد أن كل مقام -بل حتى الصحيفة الواحدة- يفتح أمامَ الإنسان أبوابا للإيمان يحقق بها إقرارَ مقاصد أخرى، حيث إن القرآن يذكر ما هو مسطور في كتاب الكون الكبير ويبينه بوضوح، فيرسّخ في أعماق المؤمن إحاطةَ ربوبيتِه سبحانه بكل شيء، ويريه تجلياتِها المهيبة في الآفاق والأنفس. لذا فإن ما يبدو من مناسبة ضعيفة، يبنى عليها مقاصد كلية فتتلاحق مناسبات وثيقة وعلاقات قوية بتلك المناسبة الضعيفة ظاهرا، فيكون الأسلوب مطابِقا تماما لمقتضى ذلك المقام، فتتعالى مرتبته البلاغية.

سؤال آخر: ما حكمة سَوق القرآن ألوفَ الدلائل لإثبات أمور الآخرة وتلقين التوحيد وإثابة البشر؟ وما السر في لفته الأنظار إلى تلك الأمور صراحةً وضمنا وإشارةً في كل سورة بل في كل صحيفة من المصحف وفي كل مقام؟

الجواب: لأن القرآن الكريم ينبّه الإنسان إلى أعظم انقلاب يَحدُث ضمن المخلوقات ودائرة الممكنات في تاريخ العالم.. وهو الآخرة. ويرشده إلى أعظم مسألة تخصه وهو الحامل للأمانة الكبرى وخلافة الأرض.. تلك هي مسألة التوحيد الذي تدور عليه سعادتُه وشقاوتُه الأبديتان. وفي الوقت نفسه يزيل القرآن سيلَ الشبهات الواردة دون انقطاع، ويحطم أشدّ أنواع الجحود والإنكار المقيت.

لذا لو قام القرآنُ بتوجيه الأنظار إلى الإيمان بتلك الانقلابات المدهشة وحملِ الآخرين على تصديق تلك المسألة العظيمة الضرورية للبشر.. نعم، لو قام به آلافَ المرات وكرر تلك المسائل ملايين المرات، لا يعدّ ذلك منه إسرافا في البلاغة قط، كما أنه لا يولد سأما ولا مللا البتة، بل لا تنقطع الحاجة إلى تكرار تلاوتها في القرآن الكريم، حيث ليس هناك أهم ولا أعظم مسألة في الوجود من التوحيد والآخرة.

فمثلا: إن حقيقة الآية الكريمة: ﴿اِنَّ الَّذينَ اٰمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْاَنْهَارُ ذٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبيرُ﴾ (البروج:11) هي بشرى السعادة الخالدة تزفّها هذه الآية الكريمة إلى الإنسان المسكين الذي يلاقي حقيقةَ الموت كل حين، فتنقذه هذه البشرى من تصور الموت إعداما أبديا، وتنجيه -وعالَمَه وجميعَ أحبته- من قبضة الفناء، بل تمنحه سلطنة أبدية، وتكسبه سعادة دائمة.. فلو تكررت هذه الآية الكريمة مليارا من المرات لا يعد تكرارُها من الإسراف قط، ولا يمس بلاغتَها شيء.

وهكذا ترى أن القرآن الكريم الذي يعالج أمثال هذه المسائل القيمة ويسعى لإقناع المخاطبين بها بإقامة الحجج الدامغة، يعمّق في الأذهان والقلوب تلك التحولات العظيمة والتبدلات الضخمة في الكون، ويجعلها أمامهم سهلة واضحة كتبدل المنـزل وتغير شكله. فلابد أن لفت الأنظار إلى أمثال هذه المسائل -صراحةً وضمنا وإشارةً- بألوف المرات ضروري جدا بل هو كضرورة الإنسان إلى نعمة الخبز والهواء والضياء التي تتكرر حاجته إليها دائما.

ومثلا: إن حكمة تكرار القرآن الكريم:  ﴿وَالَّذينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ﴾ (فاطر:36) ﴿اِنَّ الظَّالِمينَ لَهُمْ عَذَابٌ اَليمٌ﴾ (إبراهيم:22) وأمثالها من آيات الإنذار والتهديد. وسَوْقها بأسلوب في غاية الشدة والعنف، هي -مثلما أثبتناها في رسائل النور إثباتا قاطعا-: أنّ كفرَ الإنسان إنما هو تجاوز -أيّ تجاوز- على حقوق الكائنات وأغلب المخلوقات، مما يثير غضبَ السماوات والأرض، ويملأ صدورَ العناصر حنقا وغيظا على الكافرين، حتى تقوم تلك العناصر بصفع أولئك الظالمين بالطوفان وغيره. بل حتى الجحيمُ تغضب عليهم غضبا تكاد تتفجر من شدته كما هو صريح الآية الكريمة: ﴿اِذَٓا اُلْقُوا فيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهيقًا وَهِيَ تَفُورُ ﴿7﴾ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ (الملك:7-8). فلو كَرَّرَ سلطانُ الكون في أوامره تلك الجنايةَ العظمى «الكفر» وعقوبتَها بأسلوب في غاية الزجر والشدة ألوف المرات، بل ملايين المرات، بل مليارات المرات لما عُدّ ذلك إسرافا مطلقا ولا نقصا في البلاغة، نظرا لضخامة تلك الجناية العامة وتجاوز الحقوق غير المحدودة، وبناء على حكمة إظهار أهمية حقوق رعيته سبحانه وإبراز القبح غير المتناهي في كفر المنكرين وظلمهم الشنيع. إذ لا يكرر ذلك لضآلة الإنسان وحقارته بل لهول تجاوز الكافر وعظم ظلمه.

ثم إننا نرى أن مئات الملايين من الناس منذ ألف ومئات من السنين يتْلون القرآن الكريم بلهفة وشوق وبحاجة ماسة إليه دون ملل ولا سأم.

نعم، إن كل وقت وكل يوم إنما هو عالَم يمضي وباب ينفتح لعالم جديد، لذا فإن تكرار: «لا إله إلّا الله» بشوقِ الحاجةِ إليها ألوفَ المرات لأجل إضاءة تلك العوالم السيارة كلها وإنارتِها بنور الإيمان، يجعل تلك الجملة التوحيدية كأنها سراج منير في سماء تلك العوالم والأيام. فكما أن الأمر هكذا في: «لا إله إلّا الله»، كذلك تلاوة القرآن الكريم، فهي تبدد الظلام المخيم على تلك الكثرة الكاثرة من المَشاهِد السارية، وعلى تلك العوالم السيارة المتجددة، وتزيل التشوه والقبح عن صورها المنعكسة في مرآة الحياة، وتجعل تلك الأوضاع المقبلة شهودا له يوم القيامة لا شهودا عليه. وترقّيه إلى مرتبةِ معرفةِ عِظَم جزاء الجنايات، وتجعله يدرك قيمة النُّذُرِ المخفية لسلطان الأزل والأبد التي تشتت عناد الظالمين الطغاة، وتشوّقه إلى الخلاص من طغيان النفس الأمارة بالسوء.. فلأجل هذه الحِكَم كلِّها يكرر القرآن الكريم ما يكرر في غاية الحكمة، مظهرا أن النذر القرآنية الكثيرة إلى هذا القدر، وبهذه القوة والشدة والتكرار حقيقة عظمى، ينهزم الشيطانُ من توهمها باطلا، ويهرب من تخيلها عبثا.

نعم، إنّ عذاب جهنم لهو عينُ العدالة لأولئك الكفار الذين لا يعيرون للنذر سمعا.

ومن المكررات القرآنية «قصص الأنبياء» عليهم السلام، فالحكمة في تكرار قصة موسى عليه السلام -مثلا- التي لها من الحِكم والفوائد ما لعصا موسى، وكذا الحكمةُ في تكرار قصص الأنبياء إنما هي لإثبات الرسالة الأحمدية، وذلك بإظهار نبوة الأنبياء جميعهم حجةً على أحقية الرسالة الأحمدية وصدقها؛ حيث لا يمكن أن ينكرها إلّا من ينكر نبوتهم جميعا، فذكرُها إذن دليل على الرسالة.

ثم إن كثيرا من الناس لا يستطيعون كل حين ولا يوفّقون إلى تلاوة القرآن الكريم كله، بل يكتفون بما يتيسر لهم منه. ومن هنا تبدو الحكمة واضحة في جعل كل سورة مطولة ومتوسطة بمثابة قرآن مصغر، ومن ثم تكرار القصص فيها بمثل تكرار أركان الإيمان الضرورية. أي إن تكرار هذه القصص هو مقتضى البلاغة وليس فيه إسراف قط. زد على ذلك فإن فيه تعليما بأن حادثةَ ظهورِ محمد ﷺ أعظم حادثة للبشرية وأجلّ مسألة من مسائل الكون.

نعم، إنّ مَنْحَ ذات الرسول الكريم ﷺ أعظمَ مقام وأسماه في القرآن الكريم، وجَعْل «محمدٌ رسولُ الله» -الذي يتضمن أربعة من أركان الإيمان- مقرونا بـ«لا إله إلّا الله» دليل -وأي دليل- على أن الرسالة المحمدية هي أكبر حقيقة في الكون، وأن محمدا ﷺ لهو أشرف المخلوقات طُرا، وأن الحقيقة المحمدية التي تمثل الشخصية المعنوية الكلية لمحمد ﷺ هي السراج المنير للعالمين كليهما، وأنه ﷺ أهل لهذا المقام الخارق، كما قد أثبت ذلك في أجزاء رسائل النور بحجج وبراهين عديدة إثباتا قاطعا. نورد هنا واحدا من ألف منها. كما يأتي:

إنّ كل ما قام به جميعُ أمة محمد ﷺ من حسنات في الأزمنة قاطبة يُكتب مثلها في صحيفة حسناته ﷺ، وذلك حسب قاعدةِ: «السبب كالفاعل»… وإنّ تنويره لجميع حقائق الكائنات بالنور الذي أتى به لا يجعل الجنّ والإنس والملائكة وذوي الحياة في امتنان ورضى وحدهم، بل يجعل الكونَ برمّته والسماوات والأرض جميعا راضية عنه محدّثةً بفضائله… وإنّ ما يبعثه صالحو الأمة يوميا من ملايين الأدعية ومع الروحانيين من مليارات الأدعية الفطرية المستجابة التي لا تُرد -بدلالة القبول الفعلي المُشاهَد لأدعية النباتات بلسان الاستعداد، وأدعية الحيوانات بلسان حاجة الفطرة- ومن أدعية الرحمة بالصلاة والسلام عليه، وما يرسلونه بما ظفروا من مكاسب معنوية وحسنات هدايا، إنما تقدم إليه أولا. فضلا عما يدخل في دفتر حسناته ﷺ من أنوارٍ لا حدود لها بما تتلوه أمتُه -بمجرد التلاوة- من القرآن الكريم الذي في كل حرف من حروفه -التي تزيد على ثلاثمائة ألف حرف- عشرُ حسنات وعشر ثمار أخروية، بل مائة بل ألف من الحسنات..

نعم، إنّ علام الغيوب سبحانه قد سبق علمه وشاهد أن الحقيقة المحمدية التي هي الشخصية المعنوية لتلك الذات المباركة ﷺ ستكون كمثال شجرة طوبى الجنة، لذا أولاه في قرآنه تلك الأهمية العظمى حيث هو المستحِق لذلك المقام الرفيع. وبيّن في أوامره بأن نيل شفاعته إنما هو باتباعه والاقتداء بسنته الشريفة وهو أعظم مسألة من مسائل الإنسان. بل أَخَذَ بنظر الاعتبار -بين حين وآخر- أوضاعه الإنسانية البشرية التي هي بمثابة بذرة شجرة طوبى الجنة.

وهكذا فلأن حقائق القرآن المكررة تملك هذه القيمة الراقية وفيها من الحِكَم ما فيها، فالفطرة السليمة تشهد أن في تكراره معجزةً معنويةً قوية وواسعة، إلّا مَن مَرِض قلبُه وسَقم وجدانُه بطاعون المادية، فتشمله القاعدة المشهورة:

قد ينكر المرءُ ضوءَ الشمس من رَمدٍ   وينكر الفمُ طعمَ الماءِ من سَقَم

خاتمة هذه المسألة العاشرة في حاشيتين

الحاشية الأولى: طَرَق سمعي قبل اثنتي عشرة سنة، أن زنديقا عنيدا، قد فضح سوءَ طويته وخبثَ قصده بإقدامه على ترجمة القرآن الكريم، فحاك خطةً رهيبة، للتهوين من شأنه بمحاولة ترجمته. وصرح قائلا: ليُترجَم القرآن لتظهر قيمته؟ أي ليرى الناس تكراراته غير الضرورية! ولتُتلى ترجمتُه بدلا منه! إلى آخره من الأفكار السامة. إلّا أن رسائل النور -بفضل الله- قد شَلّت تلك الفكرةَ وأجهضت تلك الخطة بحججها الدامغة وبانتشارها الواسع في كل مكان، فأثبتت إثباتا قاطعا أنه لا يمكن قطعا ترجمةُ القرآن الكريم ترجمةً حقيقية.. وأن أية لغة غير اللغة العربية الفصحى عاجزة عن الحفاظ على مزايا القرآن الكريم ونُكته البلاغية اللطيفة.. وإن الترجمات العادية الجزئية التي يقوم بها البشر لن تَحُل -بأي حال- محلَّ التعابير الجامعة المعجزة للكلمات القرآنية التي في كل حرف من حروفها حسنات تتصاعد من العشرة إلى الألف، لذا لا يمكن مطلقا تلاوة الترجمة بدلا منه.

بيد أن المنافقين الذين تتلمذوا على يد ذلك الزنديق، سعوا بمحاولات هوجاء في سبيل الشيطان ليطفئوا نورَ القرآن الكريم بأفواههم. ولكن لَمَّا كنتُ لا ألتقي أحدا، فلا علم لي بحقيقة ما يدور من أوضاع، إلّا أن أغلب ظني أن ما أوردتُه آنفا هو السبب الذي دعا إلى إملاء هذه «المسألة العاشرة» عليّ، رغم ما يحيط بي من ضيق.

الحاشية الثانية: كنت جالسا ذات يوم في الطابق العلوي من فندق «شهر» عقب إطلاق سراحنا من سجن «دنيزلي» أتأمل فيما حوالي من أشجار الحَوَر (الصفصاف) الكثيرة في الحدائق الغنّاء والبساتين الجميلة، رأيتُها جذلى بحركاتها الراقصة الجذابة، تتمايل بجذوعها وأغصانها، وتهتز أوراقها بأدنى لمسة من نسيم. فبدت أمامي بأبهى صورة وأحلاها، وكأنها تسبّح لله في حلقات ذكر وتهليل.

مسّت هذه الحركات اللطيفة أوتارَ قلبي المحزون من فراق إخواني، وأنا مغموم لانفرادي وبقائي وحيدا.. فخطر على البـال -فجأةً- موسـمَا الخريف والشتاء وانتابتني غفلة، إذ ستتناثر الأوراق وسيذهب الرواء والجمال.. وبدأتُ أتألم على تلك الحَوَر الجميلة، وأتحسر على سائر الأحياء التي تتجلى فيها تلك النشوة الفائقة تألما شديدا حتى اغرورقت عيناي واحتشدت على رأسي أحزانٌ تدفقت من الزوال والفراق تملأ هذا الستار المزركش البهيج للكائنات!

وبينما أنا في هذه الحالة المحزنة إذا بالنور الذي أتت به الحقيقةُ المحمدية ﷺ يغيثني -مثلما يغيث كل مؤمن ويسعفه- فبدّل تلك الأحزانَ والغموم التي لا حدود لها مسراتٍ وأفراحا لا حد لها، فبتُّ في امتنان أبديّ ورضى دائم من الحقيقة المحمدية التي أنقذني فيض واحد من فيوضات أنوارها غير المحدودة، فنشر ذلك الفيض السلوان في أرجاء نفسي وأعماق وجداني، وكان ذلك كالآتي:

إن تلك النظرة الغافلة أظهرت تلك الأوراق الرقيقة والأشجار الفارعة الهيفاء من دون وظيفة ولا مهمة، لا نفعَ لها ولا جدوى، وأنها لا تهتز اهتزازها اللطيف من شدة الشوق والنشوة بل ترتعد من هول العدم والفراق.. فتبّاً لها من نظرة غافلة أصابت صميمَ ما هو مغروز فيّ -كما هو عند غيري- من عشق للبقاء، وحب الحياة، والافتتان بالمحاسن، والشفقة على بني الجنس.. فحولت الدنيا إلى جهنم معنوية، والعقلَ إلى عضو للشقاء والتعذيب. فبينما كنتُ أقاسي هذا الوضع المؤلم، إذا بالنور الذي أنار به محمد ﷺ البشريةَ جمعاء يرفع الغطاء ويزيل الغشاوة ويبرز حِكَما ومعاني ووظائف ومهمات غزيرة جدا تبلغ عدد أوراق الحَوَر. وقد أَثبتت رسائلُ النور أن تلك الوظائف والحِكَم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: وهو المتوجّه إلى الأسماء الحسنى للصانع الجليل. فكما أن صانعا ماهرا إذا ما قام بصنع ماكنة بديعة، يثني عليه الجميعُ ويقدرون صنعته ويباركون إبداعه، فإن تلك الماكنة هي بدورها كذلك تبارك صانعَها وتثني عليه بلسان حالها، وذلك بإراءتها النتائج المقصودة منها إراءة تامة.

أما القسم الثاني: فهو المتوجه إلى أنظار ذوي الحياة وذوي الشعـور من المخلوقات أي يكون موضعَ مطالعةٍ حلوة وتأمل لذيذ، فيكون كلُّ شيء كأنه كتاب معرفة وعلم، ولا يغادر هذا العالَم -عالم الشهادة- إلّا بعد وضع معانيه في أذهان ذوي الشعور، وطبع صوَره في حافظتهم، وانطباع صورته في الألواح المثالية لسجلات علم الغيب، أي لا ينسحب من عالَم الشهادة إلى عالم الغيب إلاّ بعد دخوله ضمن دوائرِ وجودٍ كثيرة ويكسب أنواعا من الوجود المعنوي والغيبي والعلمي بدلاً عن وجود صوري ظاهري.

نعم ما دام الله موجودا، وعلمُه يحيط بكل شيء، فلابد أن لا يكون هناك في عالم المؤمن عدم وإعدام وانعدام وعبث ومحو وفناء من زاوية الحقيقة.. بينما دنيا الكفار زاخرة بالعدم والفراق والانعدام ومليئة بالعبث والفناء. ومما يوضح هذه الحقيقة ما يدور على الألسنة من قولٍ مشهور هو: «مَن كان له الله، كان له كل شيء، ومَن لم يكن له الله لم يكن له شيء».

الخلاصة: إنّ الإيمان مثلما ينقذ الإنسان من الإعدام الأبدي أثناء الموت، فهو ينقذ دنيا كل شخص أيضا من ظلمات العدم والانعدام والعبث. بينما الكفر -ولاسيما الكفر المطلق- فإنه يُعدم ذلك الإنسان، ويعدم دنياه الخاصة به بالموت. ويلقيه في ظلمات جهنم معنوية محوّلا لذائذ حياته آلاما وغصصا.

فلْترنّ آذان الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، وليأتوا بعلاج لهذا الأمر إن كانوا صادقين، أو ليَدخلوا حظيرة الإيمان ويخلصوا أنفسهم من هذه الخسارة الفادحة.

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

أخوكم الراجي دعواتِكم والمشتاق إليكم

سعيد النُّورْسِيّ