إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لقد ورد الآن في الصلاة إلى القلب الآتي:

إنه بناء على حُسن الظن المفرط الذي يحمله الإخوة الأعزاء ينتظرون منك درسا وإرشادا لهم، وهمّة ومددا ماديا ومعنويا. فمثلما وكّلتَ الإخوة الخواص في أمورك الدنيوية وأودعتها إلى الشورى فيما بين الأركان، وحَسَناً فعلتَ. كذلك بتوكيلك الشخص المعنوي للخواص الخالصين في أعمالك الأخروية والقرآنية والإيمانية والعلمية فإنهم يؤدون تلك الوظيفة مع وظيفتهم وعلى أفضل وجه وأكمله. وهم فعلا يؤدونها الآن وعلى الدوام.

مثلا: إن كان الذي يواجهك ويسترشد بنصيحةٍ ودرسٍ منك مُوَقّتاً بمقدار درهم، فإنه يستطيع أن يأخذ مائة درهم من النصيحة والدرس والإرشاد من جزء من أجزاء رسائل النور فضلا عن أنه يصاحبها وينتصح منها بدلا منك. ثم إن الخواص من طلاب النور يؤدون وظيفتك هذه كل وقت. ونسأل الله أن يكون شخصهم المعنوي المالك لمقام رفيع والدعاء المقبول ظهيرا لهم وأستاذا ومعينا. هكذا ورد الإخطار فأَوْرَثَ السلوان لروحي وزفَّ لها البشرى والراحة.

* * *

إخوتي الأعزاء الأوفياء:

إن وقوع حادثتَي الانفجار في غضون اليومين الماضين من دون أن يكون هناك سبب ظاهري، لا تشبهان المصادفة وتنمان عن مغزى عميق.

أولاها: انفجار المدفأة الحديدية القوية الموجودة في ردهتي فجأة، وأحدثت صوتا قويا حطمت القطعة الفولاذية التي تحتها، فهلع منها «الخياط حمدي»، وأوقعنا في حيرة. علما أنها تتحمل حرارة الفحم الحجري في عزّ الشتاء.

ثانيتها: تهشم القدح الموضوع على مشربة الماء تهشما عجيبا في ردهةِ «فيضي» من دون سبب ظاهري وذلك في اليوم التالي لانفجار المدفأة.

والذي يرد إلى الخاطر أن القنابل الموضوعة لِتنفجرَ علينا قد فجرتها نُسَخُ الدفاع المرسلةُ إلى دواوين المسؤولين الستة في «أنقرة». وأن مدفأة الغضب التي تستعر لِتَحْرِقَنا بنارها قد تحطمت دون أن يُلحقَ بنا الضرر.

ولعل تلك المدفأة المباركة التي كانت أنيسة نافعة وتستمع إلى آهاتي وتضرعاتي تخبرني قائلةً: لا حاجة إليّ وسترحل من هذا السجن.

* * *

إخوتي الأعزاء الصديقين!

انتابني اليوم قلق وحزن لأجلكم بإخطار معنوي ورَدَ إلى القلب، فلقد حزنت لأحوال إخواننا الذين يرغبون في الخروج حالا من السجن من جراء قلقهم على هموم العيش. وفي الدقيقة التي فكرت في هذا، وردت خاطرة ميمونة إلى القلب مع حقيقة وبشرى هي أنه:

ستحل الشهور الثلاثة المباركة جدا الحاملة لأثوبة عظيمة بعد خمسة أيام فالعبادات مثابة فيها بأضعافها، إذ الحسنة إن كانت بعشر أمثالها في سائر الأوقات ففي شهر رجب تتجاوز مائة حسنة وفي شهر شعبان تزيد على ثلاثمائة حسنة، وفي شهر رمضان المبارك ترتفع إلى الألف حسنة، وفي ليالي الجمع فيه إلى الآلاف، وفي ليلة القدر تصبح ثلاثين ألف حسنة. نعم، إن الشهور الثلاثة سُوق أخروية سامية رفيعة للتجارة، بحيث تُكسِب المرء هذه الأرباحَ والفوائد الأخروية الكثيرة جدا.. وهي مشهر عظيم ومعرض ممتاز لأهل الحقيقة والعبادة.. وهي التي تَضْمن عمرا لأهل الإيمان بثمانين سنة خلال ثلاثة شهور.. فقضاء هذه الشهور الثلاثة في المدرسة اليوسفية التي تُكسب ربحا بعشرة أمثالها. لا شك أنه ربح كبير وفوز عظيم. فمهما كانت المشقات فهي عين الرحمة.

فكما أن الأمر هكذا من حيث العبادة، فهي كذلك من حيث الخدمة النورية والعملِ لنشر رسائل النور، إذ تتضاعف الخدمات إلى خمسة أضعافها باعتبار النوعية إن لم تكن باعتبار الكمية، لأن القادمين والمغادرين لدار الضيافة هذه (السجن) يصبحون وسائط لنشر دروس النور، وقد ينفع أحيانا إخلاصُ شخص واحد بمقدار عشرين شخصا. ثم إن كان هناك شيء من المشقات والمضايقات فلا أهمية له إزاء انتشار سر الإخلاص الموجود في رسائل النور بين صفوف المسجونين الذين هم أحوج الناس إلى ما في الرسائل من سلوان ولاسيما ممن تسري في عروقهم بطولات سياسية.

أما من حيث هموم العيش، فمن المعلوم أن هذه الشهور هي سُوق الآخرة وقد دخل بعضكم هذا السجن بدلا عن الكثيرين من الطلاب، بل إن بعضكم قد دخله بدلا عن الألف. فلا شك أنه ستكون لهم مساعدات وإمدادات لأعمالكم الخارجية.

هكذا وردت الخاطرة وفرحتُ بها فرحا تاما وعلمت أن البقاء هنا إلى العيد نعمة إلهية عظيمة.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

إلى رئاسة الوزارة ووزارة العدل ووزارة الداخلية

(حاشية) كتب هذه العريضة محامو الأستاذ وبإذنه وأُرسلت إلى الدوائر العليا المذكورة. (صونغور).

إن جميع رجال الدولة يعرفونني عن كثب، ولاسيما أولئك الذين عاصروا الظروف الجسام التي مرت على البلاد منذ إعلان الحرية (الدستور) وفي أثناء الحرب العالمية الأولى، وخلال غزو الحلفاء للبلاد ودخولهم «إسطنبول»، وما أعقبته من أحداث لحين تشكلِ الحكومة الوطنية، وفترة إعلان الجمهورية.. فالذين يحيطون علما بتلك الظروف ممن يتولون الآن مناصب في الدولة يعرفونني معرفة جيدة.. ومع هذا فاسمحوا لي أن أعرض مَشاهِدَ من حياتي أمامكم عرضا سريعا:

«ولدتُ في قرية «نورس» التابعة لولاية «بتليس»، وطوالَ فترة حياة التلمذة وتحصيلِ العلوم دخلتُ في مناقشات علمية حادة مع كل مَن قابلته من العلماء، كنت أتغلب عليهم بفضل العناية الربانية. حتى بلغتُ «إسطنبول». وهناك في جوها المشوب بآفة الشهرة والصيت لم أنقطع عن مناظراتي العلمية. إلا أن وشاية الحاسدين والخُصَماء، أدّت بي أن أُساق إلى مستشفى المجاذيب بأمر السلطان عبد الحميد -رحمه الله رحمة واسعة- ثم استقطبتُ نظر حكومة الاتحاد والترقي، بناءً على خدماتي أثناء إعلان الدستور وحادثة 31 مارت. طرحتُ عليهم مشروع بناء جامعة في مدينة «وان» باسم «مدرسة الزهراء» على غرار الأزهر الشريف.. حتى إنني وضعت حجرها الأساس بنفسي، ولكن ما إن اندلعت الحرب العالمية الأولى حتى شكلتُ من طلابي والمتطوعين «فرق الأنصار» وتوليت قيادتهم، فخضنا معارك ضارية في جبهة القفقاس مع الروس المعتدين في «بتليس».. وقعت أسيرا بيدهم، إلّا أن العناية الربانية أنجتني من الأسر. وأتيت «إسطنبول». وعُينتُ فيها عضوا في «دار الحكمة الإسلامية»، وبادرت إلى مجاهدة الغزاة المحتلين لإسطنبول في تلك الظروف الحرجة، وبكل ما وهبني الله من طاقة.. إلى أن انتهت حروب الاستقلال وتشكلت الحكومة الوطنية في «أنقرة»، فنظرتْ من جديد -تثمينا لخدماتي تلك- إلى مشروع تأسيس الجامعة في «وان».

إلى هنا كانت حياتي طافحة بخدمة البلاد، وفق ما كنت أحمله من فكرة خدمة الدين عن طريق السياسة. ولكن بعد هذه الفترة وَلَّيْتُ وجهي كليا عن الدنيا، وأقبرتُ «سعيدا القديم» -حسب اصطلاحي- وأصبحت «سعيدا جديدا» يعيش كليا للآخرة، فانسللت من حياة المجتمع ونفضتُ يدي عن كل ما يخصهم فاعتزلت الناس تماما واعتكفت في «تل يوشع» في «إسطنبول» ومن ثم في مغارات في جبال «وان» و«بتليس». بتُّ في مجاهدة مستديمة مع روحي ووجداني. انفردت إلى عالمي الروحي رافعا شعار «أعوذ بالله من الشيطان والسياسة». صرفت كل همي ووقتي إلى تدبّر معاني القرآن الكريم. وبدأت أعيش حياة «سعيد الجديد».. أخذتني الأقدار نفيا من مدينة إلى أخرى.. وفي هذه الأثناء تولدتْ من صميم قلبي معانٍ جليلة نابعة من فيوضات القرآن الكريم.. أمليتها على مَن حولي من الأشخاص، تلك الرسائل التي أطلقت عليها اسم «رسائل النور». إنها انبعثت حقا من نور القرآن الكريم. لذا نبع هذا الاسم من صميم وجداني، فأنا على قناعة تامة ويقين جازم بأن هذه الرسائل ليست مما مضغته أفكاري وإنما هي إلهام إلهيّ أفاضه الله سبحانه على قلبي من نور القرآن الكريم، فباركتُ كل من استنسخها، لأنني على يقين أن لا سبيل إلى حفظ إيمان الآخرين غير هذه السبيل فلا تُمنَع تلك الفيوضات عن المحتاجين إليها. وهكذا تلقفتْها الأيدي الأمينة بالاستنساخ والنشر، فأيقنت أن هذا تسخير رباني وسَوق إلهي لحفظ إيمان المسلمين. فلا يستطيع أحد أن يمنع ذلك التسخير والسوق الإلهي، فاستشعرت بضرورة تشجيع كل مَن يعمل في هذه السبيل امتثالا بما يأمرني به ديني. فهذه الرسائل التي تربو على المائة والثلاثين رسالة لا تبحث بحثا مقصودا عن أمور الدنيا والسياسة، وإنما تخص كليا أمور الآخر ة والإيمان. وعلى الرغم من كل هذا فقد أصبحت الشغل الشاغل للانتهازيين والمتصيدين في الماء العكر حتى أوقفتني السلطات في كل من «أسكي شهر» و«قسطموني» و«دنيزلي».. وأجرت المحاكمُ تدقيقات علمية على الرسائل. قام بها خبراء متخصصون، إلّا أن الحقيقة -بفضل الله سبحانه- كانت تتجلى بنصاعتها دوما، وتتبوأ العدالة مكانتها اللائقة بها. بيد أن هؤلاء المتربصين للفرص المتصيدين في الماء العكر لم يسأموا أبدا، بل تسببوا في اعتقالي في هذه المرة، وأتوا بي إلى «أفيون» يسندون إليَّ التهم الآتية وأنا رهن التوقيف للاستجواب:

1– إنك قد شكلت جمعية سياسية.

2– إنك تنشر أفكارا تعادى النظام.

3– إنك تستهدف غاية سياسية.

والأسباب الموجبة لهذه الاتهامات ودلائلها هي بضع عشرة جملة في عدد من رسائلي.

أيها الوزير المحترم!

«آتوني جملة لا يمكن تأويلها، وأنا أحكم بها عليكم بالإعدام». قالها نابليون. تُرى أية جملة يتفوّه بها الإنسان لا تكون سببا للتأويلات والجرم والذنب؟ ولاسيما من كان مثلي بالغا الخمس والسبعين من العمر وقد تخلى عن أمور الدنيا ونفض يده عنها كليا وحصر حياته كلَها للآخرة. فلا بد أن تكون كتاباتُ مثل هذا الشخص حرة طليقة، لأنها مقرونة بحُسن النية وحُسن الظن، فليس فيها تردد ولا تحرّج. لذا فإنّ تحري الجرم والتنقيب عن التهمة بالتدقيق تحت سطور هذه الكتابات، ظلم واضح فاضح لا غير.

وبناءً على هذا فإن رسائل النور البالغة ثلاثين ومائة رسالة، لا تتضمن -قصدا- ما يتعلق بأمور الدنيا قط، بل كلها تتعلق بالآخرة والإيمان، فلا غرو أنها مقتبسةٌ من فيض نور القرآن الكريم، وليس فيها أية غاية وقصد دنيوي ولا سياسي قط. فما من محكمة تناولت أمور هذه الرسائل إلّا وقررت تبرئتها بالقناعة نفسها. ولهذا فإن إشغال المحاكم بما ليس ضروريا لها ولا يلزمها وعزلَ أهل العمل المؤمنين الأبرياء عن أعمالهم وأشغالهم أمر مؤسف بحق البلاد والعباد.

نعم، إن «سعيدا القديم» الذي بذل كل حياته في سبيل إسعاد هذه الأمة ونشرِ الأمن والسعادة في ربوع البلاد، وانسحب انسحابا كليا عن الدنيا بأسرها وكفّ يده عن أمورها كليا، أيمكن له أن يشتغل بالسياسة بعد أن أصبح «سعيدا جديدا» وبلغ من العمر الخامسة والسبعين؟ أعتقد أنكم مقتنعون كذلك بهذا قناعة تامة.

لي غاية واحدة وهي:

أنني في هذا الوقت الذي أتقرب فيه إلى القبر.. وفي هذا الوطن الذي هو بلاد إسلامية، نسمع نعيق أبوام البلاشفة.. هذا النعيق يهدد أسس الإيمان في العالم الإسلامي، ويشدّ الشعب ولاسيما الشباب إليه، بعد سلب الإيمان منهم.

إنني بكل ما أملك من وجود، أُجاهد هؤلاء، وأدعو المسلمين وبخاصة الشباب إلى الإيمان، فأنا في جهاد دائم مع هذه المجموعة الملحدة. وسأمثل إن شاء الله في ديوان حضوره سبحانه وأنا رافع راية هذا الجهاد. وكل عملي ينحصر في هذا. وأخشى ما أخشاه أن يكون الذين يحولون بيني وبين غايتي هذه هم بلاشفة أيضا.

فغايتي المقدسة هي التكاتف والتساند والترابط مع كل من يجاهد أعداء الإيمان هؤلاء. أعطُوني حريتي وأطلِقوا يديّ كي أعمل بالتكاتف مع القوى المجاهدة في سبيل إعلان التوحيد وترسيخ الإيمان في هذه البلاد وإصلاح الشباب المتسمم بالشيوعية.

الموقوف

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

باسمه سبحانه

إخوتي الأعزاء الصدّيقين!

إن أنجع علاج في هذه الدنيا، ولا سيما في هذا الزمان، وبخاصة للمبتلَين بالمصائب، ولطلاب النور الذين انتابهم ضجر شديد ويأس قاتم هو تسلية أحدهم الآخر، وإدخال السرور في قلبه، وإمداد قوته المعنوية وضماد جراحات الضيق والحزن والسأم، وتلطيف قلبه المغموم، كأخ حقيقي مضح. إذ الأخوة الحقة والأخروية التي تربطكم لا تتحمل التحيز والإغاظة.

فأنا أعتمد عليكم كليا وأستند إليكم، وأنتم على علم بقراري وعزمي بأنني عازم على أن أضحى مسرورا لأجلكم أنتم بروحي، لا براحتي وشرفي فحسب، بل قد تشاهدون هذا مني فعلا، حتى إنني أقسم لكم: إنه منذ ثمانية أيام يتألم قلبي من عذاب شديد، من جراء حادثة تافهة سببت دلالا ظاهريا بين ركنين من أركان النور فأحزن أحدُهما الآخرََ بدلا من أن يكونا مبعث سلوان. فصرختْ روحي وقلبي وعقلي معا، وبكت قائلة: «أواه! أواه! الغوث الغوث يا أرحم الراحمين، احفظنا وأجرنا من شياطين الجن والإنس، واملأ قلوب إخواني بالوفاء التام والمحبة الخالصة والأخوّة الصادقة والشفقة الكاملة».

فيا إخوتي الثابتين الصلبين صلابة الحديد! أعينوني في مهمتي! فإن قضيتنا في منتهى الدقة والحساسية، فلقد سلمتُ إلى شخصكم المعنوي جميعَ مهماتي، لشدة ثقتي واطمئناني بكم، فعليكم إذن أن تسعوا -ما وسعكم- لإمدادي وعوني، فعلى الرغم من أن الحادثة تافهة جزئية، فإن وقوع شعرة، مهما كانت صغيرة في عيننا تؤلم، وفي ساعتنا توقفها إن هذه الحادثة الجزئية تعد كبيرة حيث أخبرتْ عنها الانفجاراتُ الثلاثة المادية والمُشاهَدات الثلاث المعنوية.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

إن انفجار مدفأتي وتهشّم أقداح «فيضي» و«خسرو» ينبئان عن وقوع مصيبة ستحل بنا.

نعم، إنه ينبغي التساند الحقيقي والترابط الصادق الذي هو أقوى مرتكز ونقطة استناد لنا مع غض النظر عن أخطاء بعضنا البعض وعدمُ الاستياء من «خسرو» الذي هو بطل النور والممثل لشخصه المعنوي وفي موقعي أنا.

وقد كنت أشعر قبل بضعة أيام ضيقا شديدا في صدري وأقول في قلق: «لقد وجد أعداؤنا وسيلة للتغلب علينا»..

حذار..! حذار..! حذار..! اعملوا فورا على رأب الصدع في ترابطكم الوثيق الفولاذي.. أُقسم بالله إن هذه الحادثة -ولاسيما في هذه الفترة- تُلحق الضرر بالعمل للقرآن وخدمة الإيمان أكثر من دخولنا السجن.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

باسمه سبحانه

إخوتي الأعزاء الصديقين!

إن «ليلة المعراج» بمثابة «ليلة قدر» ثانية. فكسب الثواب بالعمل المتواصل -كلما أمكن- يرتفع في هذه الليلة من الواحد إلى الألف. وكذا بالسر الكامن في الاشتراك المعنوي ستؤدون عبادات وتدعون دعوات في هذه الليلة المباركة، ولاسيما في هذا المعكتف المُثاب عليه كثيرا، بأربعين ألف لسان كبعض الملائكة المسبّحة بأربعين ألف لسان. ومن ثم تشكرون ربكم بعبادات هذه الليلة، إزاء عدم تضررنا بواحد من ألف من الأضرار التي كانت تلحق بنا نتيجة العاصفة المقبلة.

إننا نبارك أخذكم الحذر التام، ونبشركم في الوقت نفسه أن العناية الربانية قد تجلت بحقنا تجليا واضحا.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

إخوتي الأعزاء الصديقين!

أولا: أبارك ليلتكم، ليلةَ المعراج، بكل ما أملك من روح وجسد.

ثانيا: إن دعوانا منذ عشرين سنة هي أن طلاب النور لا يتعرضون -ما أمكن- لنظام البلاد ولا يمسّون أمنَها بسوء. إلّا أن قضية سجننا هذه يمكن أن تُعد أمارة قوية وحُجة على جرح دعوانا تلك، حيث إن الذين يهاجموننا يزعمون أننا نخلّ بأمن البلاد ونظامِها أولا. إلّا أن العناية الإلهية قد ظهرت بشكل خارق بكرامة إخلاصكم ووفائكم، إذ قد خَفَّت شدة المصيبة من المائة إلى الواحد وغدت القُبة حَبة بفضله تعالى. وإلّا فإن الذين يستهولون الأمور ويجعلون الحَبة قُبة بحقنا يستغلون هذه الفرصة لبثّ الافتراءات ضدَّنا وربما يحملون الناس على تصديقها.

ثالثا: لا تفكروا فيّ ولا تقلقوا عليّ أبدا. فإن وجودي معكم في بناية واحدة يزيل كل صعابي ومشقاتي ومضايقاتي.. وحقا إن اجتماعنا هنا له أهمية عظيمة من جهات شتى، وفوائد جمة لخدمة الإيمان حتى إن إرسال تلك الحقائق المهمة التي تتضمنها «تتمة الاعتراض» إلى الدوائر العليا الست هذه المرة، وجلبَها أنظارهم وإجرائَها حكمها فيهم -إلى حدّ ما- أزال جميعَ مشقاتنا وأتعابنا.

رابعا: إن الانشغال برسائل النور -حسب الإمكان- يزيل الضجر والضيق، ويمكن أن يعدّ خمسة أنواع من العبادة.

خامسا: لقد خفّت المصيبة السابقة من شدتها من المائة إلى الواحد بفضل دروس رسائل النور، وإلّا لكانت تصبح -من حيث الظرف الدقيق زمانا ومكانا- الحبةُ قبابا كثيرة، أي هي بمثابة إلقاء الشرارة في البارود. حتى إن فريقا من الموظفين الرسميين قالوا: «إن الذين استمعوا إلى دروس النور لم يتدخلوا في الأمر» فلو كان الجميع يستمعون إليها لمَا حدث شيء قط.

فلا تفسحوا يا إخوتي المجال -قدر المستطاع- إلى الثنائية والتفرقة، لئلا يُضاف شيء آخر إلى ضيق السجن وضجره. وليكن المسجونون أيضا إخوة متحابين كطلاب النور ولا يهجرنّ بعضهم بعضا.

سعيد النُّورْسِيّ


إخواني الأوفياء المخلصين!

لقد تَحتّم علينا بدرجة الوجوب استعمالُ دساتيرِ لمعةِ الإخلاص وسرِ الإخلاص الحقيقي فيما بيننا وتجاه بعضنا للبعض الآخر، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وبكل ما نملك من قوة. إذ علمتُ بخبر يقينيّ أنه قد عُيّن ثلاثة أشخاص، منذ ثلاثة شهور، ليُلقوا الفتور فيما بين الإخوة الأوفياء هنا باستغلال اختلاف الأفكار والمشارب فيما بينهم، وعاملين على تثبيط عزائم الأقوياء منكم، وبث الشبهات والأوهام والخوف في قلوب الرقيقين منهم، القليلي الصبر والتحمل، لِجَعْلِهم يتخلون عن القيام بخدمة النور ليمددوا مدةَ محاكمتنا دون سبب.

فحذار.. حذار! وإياكم أن تهتز تلك المحبة الصميمية الصادقة التي ربطت قلوبكم، إذ إن اهتزازا طفيفا في الأخوّة والمحبة بقدر ذرة واحدة تضرنا أيّما ضرر. لأن بعض علماء الدين في «دنيزلي» قد ابتعدوا عنا بسبب تزعزع طفيف ونحن نضحي بأرواحنا رخيصةً في سبيل أخوّتنا إن استوجب الأمر، وهذا ما تقتضيه خدمتنا القرآنية والإيمانية. لذا فلا يضجرنّ أحد من الآخر مما يسببه توتر الأعصاب الناجم عن الضيق الشديد ومن أي سبب آخر، بل ليسعَ كل منكم بزيادة محبته لأخيه وزيادة صميميته وإخلاصه له وليحمّل نفسه التقصيرَ بكمال التواضع والتسليم، وإلا فسوف نتضرر عظيمَ الضرر، إذ تصبح الحبة الصغيرة قبة عظيمة تستعصي على الإصلاح. أختصر الكلام هنا مُحيلاً الموضوعَ إلى فراستكم.

* * *

إخوتي الأعزاء الصديقين!

بناءً على إخطار معنوي مهم، إنّ لكم مهمة أو مهمتين نوريتين، تلك هي السعي بكل ما أوتيتم من قوة بدروس رسائل النور، لئلا يحدث بين المسجونين المبتلين المساكين في هذه «المدرسة اليوسفية الثالثة»، الانحيازُ إلى جهة والانشقاق، حيث إن مفسدين خطرين يتربصون تحت الستار ليستغلوا الاختلاف والأغراض الشخصية والحقد والعناد.

فما دام معظم أصحابنا في السجن يحملون روح البطولة والتضحية بروحهم لأجل بلادهم وأمتهم وأحبتهم إن استوجب الأمر، فلاشك أن الواجب على أولئك الرجال الشهام أن يضحّوا بعنادهم وأغراضهم الشخصية وعداواتهم لأجل سلامة الأمة وراحة المسجونين والنجاة من إفساد المتسترين الذين يعملون بخفاء لصالح الفوضى والإرهاب ويلقحون أفكار الناس بالشيوعية، فيضحون بتلك العداوة التي لا فائدة فيها قطعا بل فيها ضرر كبير ولاسيما في هذا الوقت العجيب.

وإلّا، (أي بخلاف هذا)، سيكون الأمر في هذا الوقت العصيب كمن يُلقي الشرارة في البارود وسيلحق الضرر بمائة سجين ضعفاء وبطلاب النور الأبرياء، وبولاية «أفيون» هذه، بل ربما يكون وسيلة لطرف أصابع منظمة أجنبية دخلت البلاد.

وحيث إننا قد دخلنا السجن لأجل أولئك بالقدر الإلهي، بل قِسمٌ منا لا يريد مغادرةَ السجن، لاستدامة سعادتهم وراحتهم المعنوية، ونحن مستعدون للتضحية براحتنا وهنائنا في سبيل راحة الآخرين من إخواننا، وتحمُّلِ كل ضيق وضجر بالصبر الجميل، فلابد أن إخواننا الجدد أولئك أيضا يصبحون كمسجونِي سجن «دنيزلي»، فلا يضجر بعضهم من بعض ولا يهجره ولا يسأم منه ويستاء، بل عليهم -وهذا ضروري- أن يتصالحوا فيما بينهم إخوانا متحابين تلطيفا لمشاعر إخواننا ولأجل حرمة شهر شعبان وشهر رمضان المبارك.

وبدورنا نحن جميعا -وأنا كذلك- نعدّهم ضمن دائرة طلاب النور حتى إنهم قد دخلوا ضمن دعواتنا.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

إخواني الأعزاء الصادقين.

أولا: إن في تأجيل موعد محاكمتنا وحضور إخواننا الذين أُخلُوا منها هنا يوم المحاكمة، فيه خير كثير.. والخير فيما اختاره الله.

نعم، لما كانت قضية رسائل النور تهم العالم الإسلامي كله وبخاصة هذا البلد، لذا تستدعي أمثال هذه الاجتماعات الصاخبة المثيرة الجالبة لأنظار الناس عامة إلى حقائق رسائل النور. وهكذا تلقي رسائل النور دروسَها الرائعة وبصراحة تامة على الأصدقاء والأعداء، حتى أظهرت أخفى أسرارها إلى أعدى أعدائها دون إحجام ولا تردد، في مثل هذه الاجتماعات التي هي فوق حسباننا وخارج حذرنا وخلاف إخفائنا للرسائل وتضادد تهوين معارضينا لشأنها، فضلا عن أنها خارج طوقنا وإرادتنا.

فمادامت الحقيقة هذه، فينبغي لنا أن نعدّ مضايقاتنا التي نعانيها هنا -وهي جزئية وقليلة جدا- علاجا مرا نتناوله بالصبر والشكر قائلين: «كل حال يزول».

ثانيا: لقد كتبتُ لمدير هذه «المدرسة اليوسفية»:

عندما كنت أسيرا في «روسيا» قامت الثورة البلشفية أولَ ما قامت من السجون، كما أن الثورة الفرنسية قد اندلعت من السجون أيضا، وحملها أولئك المسجونون المذكورون في التاريخ باسم الفوضويين. لذا نحن طلاب النور قد سعينا في كل مرة في سجن «أسكي شهر» و«دنيزلي»، وكذلك هنا (في أفيون) قدر المستطاع لإصلاح المسجونين، وقد تكلل ذلك السعيُ الجميل في «أسكي شهر» و«دنيزلي» بالثمرات الطيبة وستثمر هنا إن شاء الله فوائدَ أكثر. حتى إنه في هذا الوقت الدقيق والمكان الحرج مضت تلك الزوبعة (حاشية) المقصود العصيان الذي دب في صفوف المسجونين في سجن «أفيون» ولم يشترك فيه طلاب النور قط.  وخفت شدتها من المائة إلى الواحد بفضل دروس النور. إذ لولا ذلك لكانت التيارات الخارجة المفسدة تتمنى الفرصَ لتستغل الاختلافات وأمثالَ هذه الحوادث. ولكانت تلقي الشرارة في البارود وتشب الحريق..

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

باسمه سبحانه

إخوتي الأعزاء الصدّيقين الثابتين في خدمة القرآن، يا من لا يتهربون منا من شدة الضيق!

أحزنتني نفسي الآن في التفكير لأجلكم، جراء ضيق مادي ومعنوي، ولكن.. إذا بخاطر يَرِد إلى القلب، وهو أنكم لو تحملتم عشرةَ أضعافِ هذه المشقات والمتاعب وبصورة أخرى لكانت زهيدة في سبيل لقاء أحد من الإخوة هنا لقاء عن قرب.

ثم من الضرورة بمكان أن يكون لطلاب النور كلَّ بضعِ سنين اجتماعٌ يجتمعون فيه دفعة واحدة، كما كان أهل الحقيقة سابقا يجتمعون مرة أو مرتين كل سنة ويديمون فيه مسامراتِهم ومحاوراتهم على وفق مشرب رسائل النور المكلل بالتقوى والرياضة الروحية، ومسلكِها المتسم بإلقاء الدروس إلى الناس كافة وإلى المحتاجين خاصة بل حتى إلى المعارضين، ولأجل إنطاق الشخص المعنوي في دائرتها. فالمدرسة اليوسفية هذه أفضل مكان لطلاب النور وملائم جدا لهذه الأغراض، بحيث تَهُون أمامه المشقاتُ حتى لو كانت ألف مشقة وضيق.

إن اجتناب بعض إخوتنا الضعفاء وانسحابَهم من ميدان العمل للنور لسآمتهم في سجوننا السابقة كان خسارة جسيمة لحقت بهم، بينما لم يلحق أي ضرر برسائل النور وطلابها، بل انضم بدلا منهم من هو أكثر ثباتا وإخلاصا منهم.

وحيث إن امتحان الدنيا عابر ويمضي بسرعة ويسلّم لنا ثوابه وثمراته، فعلينا الاطمئنان إلى العناية الإلهية شاكرين ربنا من خلال الصبر.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

باسمه سبحانه

إخوتي الأعزاء الصدّيقين!

أولا: عندما تسلّمون القطعتين الأخيرتين إلى رئيس المحكمة، بوساطة شخص فاضل تختارونه ليطّلع عليها اطلاعا غير رسمي، ليكن ذلك بعد طبعهما بالحروف الجديدة أو بالحروف القديمة، وقدِّموا معهما إليه مذكرة أخرى تكتبون فيها:

إن «سعيدا» يقدم لكم شكرَه الجزيل ويقول: لقد فتح الحراس الشبابيك إلّا أن المدعي العام لا يسمح لأي واحد من إخوتي بالمجيء إليَّ. وإنه يرجو منكم رجاءً حارا أن تعيدوا إليه المصحف الشريف المحجوز في المحكمة والمكتوب بخط نفيس معجز كي يتلو فيه هذه الشهور المباركة، علما أنه قد أُرسلت ثلاثة أجزاء من ذلك المصحف إلى رئاسة الشؤون الدينية ليسعوا في طبعه بالصورة. وعلاوة على ذلك يرجو منكم أن تسلموا إليه إحدى المجموعات التي سُلّمت إلى المحكمة، كي تكون له مدارَ تسلٍ في تجريده المطلق وضيقه الشديد وليأنسَ بمطالعتها ويصاحبها في عزلته هذه عن الناس. علما أن تلك المجموعات قد مرت على ثلاث محاكم أو أربع دون أن يعترضوا عليها. فضلا عن تقدير الكثير من علماء مكة المكرمة والمدينة المنورة والشام وحلب وكبار علماء الأزهر بمصر، بل إعجابهم بها من دون أن ينتقدوا منها ولا يعترضوا عليها وذلك بشهادة الحجاج القادمين.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *