إلى السادة رئيس محكمة أفيون والمدعي العام والأعضاء

أُقدّم لكم هنا نصَّ الدفاع الذي كنت قد قدمتُه إلى المراجع العدلية في «دنيزلي» والذي اشتمل على تسعة أُسس.

إنني -كما تعلمون- شخص قد ترك الحياة الاجتماعية ولاسيما الحياة الرسمية والسياسية التي لها نواحٍ دقيقة. لذا فإنني لا أعلم ما يجب عليّ عملُه حيالها، ولا أفكّر في ذلك، إذ إن التفكير فيه يؤلمني ألما شديدا، ولكني مضطر إلى أن أُدرج دفاعي هذا لأنني تعرضت في محكمة سابقة إلى أسئلة متكررة عديدة لا داعي لها من شخص لا يتصف بالإنصاف، وهذا الدفاع (الذي يعدّ بمثابةِ خاتمة للأجوبة التي قدمتها آنذاك) قد يَخرج أحيانا عن الصدد، وقد يكون فيه تكرارٌ لا لزوم له، وقد يخلو من النظام والاتساق، وقد يحوي على عبارات عنيفة يمكن أن تُستغل ضدي، أو جملا تخالف بعض القوانين الجديدة التي لا أعرفها، ولكن مادام هذا الدفاع يتوجّه نحو الحقيقة ويستهدفها لذا يمكن التجاوز عن جوانب القصور هذه من أجل الحقيقة. إن دفاعي كان يستند إلى تسعة أسس:

الأول

مادامت حكومة الجمهورية لا تتعرض لأهل الإلحاد ولأهل السفاهة وذلك تحت شعار حرية الوجدان السارية في الجمهورية، لذا فإن عليها -من باب أَولى- أن لا تتعرض لأهل الدين ولأهل التقوى.. ومادامت أيةُ أمة لا تستطيع العيشَ دون دين، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن أممَ قارة آسيا لا تشبه أمم أوروبا من ناحية الدين، وأن الإسلام لا يشبه النصرانية من زاوية الحياة الشخصية والحياة الأخروية. فالمسلم الملحد لا يشبه الملاحدة الآخرين. لذا أصبح هذا الدين حاجةً فطرية في أعماق هذه الأمة التي نَوّرتْ أرجاء الدنيا منذ ألف عام بدينها وبدفاعها البطولي عن تمسكها بهذا الدين تجاه جميع غارات العالم وهجومه عليه. وليس هناك أي تقدم وأية مدنية تستطيع الحلول محلَّ تعلّم الصلاح والدين وحقائق الإيمان في نفس هذه الأمة.. لا تستطيع أن تحل محله ولا أن تنسيها إياه: إذن فإن على أية حكومة تحكم أمة هذا الوطن وتأخذ العدالة والأمن بنظر الاعتبار أن لا تتعرض لرسائل النور، ويجب أن لا يسوقها أحد إلى ذلك.

الأساس الثاني

هناك فرق كبير بين أن ترفض وتردَّ شيئا ما وبين أن لا تعمل بذلك الشيء؛ ففي كل حكومة هناك جماعةٌ معارضة لها بشدة، فقد يكون هناك جماعة مسلمون تحت حكم مجوسي، وقد يكون هناك يهود أو نصارى تحت حكم إسلامي كما في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومع ذلك تصان الحرية الشخصية لمن لا يخلّ بالأمن ولا يتعرض لإدارة الحكومة، فالحكومات يهمها الظاهر ولا تنقّب ما في داخل القلوب. علما بأن أي شخص يروم التعرض للأمن وللسياسة ولإدارة الدولة لابد أن يطالع الجرائد ويتتبع ما يجري في الدنيا من أحداث لكي يحيط علما بالتيارات وبالأوضاع المساعدة له، لكي لا يخطأ في تصرفه ولا تزلّ قدمُه. أما رسائل النور فقد منعت طلابَها عن هذا منعا باتا، حتى إن أصدقائي المقربين يعلمون بأنني ومنذ خمس وعشرين سنة تركت الجرائد ولم أسأل ولم أستفسر عن أية جريدة ولم يكن لدي فضول أو رغبة فيها فضلا عن قراءتها. وأما الآن فلا أعرف (ومنذ عشر سنوات) أي شيء عن أخبار العالم وأوضاعها سوى عن هزيمة الألمان وانتصار البلاشفة.. إلى هذه الدرجة منعتني رسائل النور وأبعدتني عن الحياة الاجتماعية. إذن فمن المفروض ومن الواجب أن تَمنع حكمةُ الحكومة وقانونُ السياسة ودستورُ العدالة التعرضَ لي أو لإخواني من أمثالي. وكلُّ من يتعرض لا يفعل ذلك إلّا تحت تأثير أوهامه أو أحقاده أو عناده.

الأساس الثالث

لقد اضطُررت إلى تقديم الشرح الطويل التالي جوابا على اعتراضات خاطئة لا معنى لها ولا ضرورة لها، التي قدّمها المدعي العام في المحكمة السابقة حول ما جاء في «الشعاع الخامس». ولم يكن هذا المدّعي يستند إلى مادة في القانون، بل إلى حُبّ وتعصب لشخص ميت.

أولا: لقد كنا نحتفظ بـ«الشعاع الخامس» بشكل سري قبل أن تقع هذه الرسالة في يد الحكومة، ورغم التحريات التي أُجريت لم تعثر الحكومةُ عندي على نسخة منها. ولم تكن غاية هذه الرسالة إلّا إنقاذَ إيمان العوام وإزالةَ شبههم وإنقاذَهم من ردِّ وإنكار بعض الأحاديث المتشابهة. ولم تلتفت هذه الرسالة إلى شؤون الدنيا إلّا بالدرجة الثالثة أو الرابعة وكشيء عرضي. علما بأن ما أخبرَتْه كان صحيحا ولم تتعرض لأهل السياسة ولأهل الدنيا ولم تخاصمهم أو تبارزهم، بل اكتفت بسَوق الأخبار دون أن تعيِّن الأشخاصَ أو أن تسمِّي المسميات، بل تبين حقيقةَ حديث نبوي بشكل كلي وعام. ولكنهم قاموا بتطبيق هذه الحقيقة على شخص مدهش عاش في هذا العصر فانطبقت عليه تماما، لذا فقد أظهروا اعتراضهم لأنهم حسبوا أن هذه الرسالة أُلّفت في هذه السنوات، علما بأن تاريخ هذه الرسالة أَقْدَمُ من تاريخِ انتسابي إلى «دار الحكمة الإسلامية» ولكنها نسّقت فيما بعد ودخلت ضمن رسائل النور، وإليكم التفاصيل:

قدِمتُ إلى إسطنبول قبل أربعين سنة، أي قبل عام واحد فقط من إعلان الحرية، وكان القائد الياباني العام آنذاك قد وجّه إلى علماء الإسلام بعض الأسئلة الدينية، فوجّه علماءُ إسطنبول هذه الأسئلة إليّ كما طرحوا عليّ أسئلة أخرى عديدة بهذه المناسبة، ومن ضمن هذه الأسئلة ما ورد في أحد الأحاديث الشريفة أنه «يصبح شخص رهيب في آخر الزمان وقد كتب على جبينه: هذا كافر» فقلت: «سيتولى أمر هذه الأمة شخص عجيب، ويصبح وقد لبس قبعة على رأسه، ويُكره الناس على لبسها».

فسألوني بعد هذا الجواب: «ألا يكونُ من يلبسها آنذاك كافرا؟». قلت: «عندما تستقر القبعة على الرأس ستقول: لا تسجد، ولكن الإيمان الموجود في الرأس سيرغم تلك القبعة على السجود إن شاء الله، وسيدخلها الإسلام.

ثم قالوا: «وسيشرب هذا الشخص ماءً وستنثقب يدُه، وعند ذلك سيعلم الجميع أنه «السفياني». فأجبتهم: «هناك مَثل يُضرب للمسرف فيُقال عنه: أن يدَه مثقوبة وكفَّه منخرقةٌ، أي إن المال لا يبقى في يده، بل يسيل ويضيع».

وهكذا فإن ذلك الشخص المدهش والعجيب سيُبتلى بالإدمان على الخمر (وهو سائل) وسيمرض جراء هذا الإدمان مما سيقوده إلى إسرافات لا حدود لها، وسيعوّد غيرَه أيضا على الإسراف.

فسأل أحدهم: عندما يموت هذا الشخص سيهتف الشيطان في منطقة «ديكيلي طاش» في إستانبول للدنيا أن فلانا قد مات؟ فقلت له آنذاك: سيُعلَن هذا النبأ عن طريق البرقيات.

ولكني عندما سمعت فيما بعد باختراع الراديو علمتُ أن جوابي القديم لم يكن تاما.. وقلت بعد ثماني سنوات عندما كنت في دار الحكمة:

سيتم إعلان النبأ إلى العالم أجمع بوساطة الراديو.

ثم سألوا أسئلة عديدة حول سد ذي القرنين ويأجوج ومأجوج وحول دابة الأرض والدجال وعن نزول عيسى عليه السلام، فأجبت عنها، حتى إن قسما من هذه الأجوبة أدرج في بعض مؤلفاتي القديمة.

بعد مدة أرسَل «مصطفى كمال» رسالتين بالشفرة إلى صديقي «تحسين بك» الذي كان واليا سابقا على مدينة «وان» يستدعيني إلى «أنقرة» لكي يكافئني على قيامي بنشر رسالة «الخطوات الست» فذهبتُ إليها. فعرض عليّ -مصطفى كمال- تعييني في وظيفة الواعظ العام في الولايات الشرقية براتب قدره ثلاثمائة ليرة في محل الشيخ السنوسي وذلك لعدم معرفة الشيخ اللغة الكردية. وكذلك تعييني نائبا في مجلس المبعوثان (المجلس النيابي) وفي رئاسة الشؤون الدينية مع عضوية في «دار الحكمة الإسلامية». وكان يريد بذلك إرضائي وتعويضي عن وظيفتي السابقة. وكان السلطان «رشاد» قد خصص تسعة آلاف ليرة ذهبية لإنشاء مدرسة الزهراء – التي كنتُ قد وضعت أسسها – ودارِ الفنون في مدينة «وان» فقرر مجلس المبعوثان زيادة هذا المبلغ إلى مائة وخمسين ألف ليرة ورقية حيث وقّع ثلاث وستون ومائة نائبا من بين أعضاء المجلس البالغ عددهم مائتي نائب بالموافقة على ذلك.

ولكني عندما لاحظت أن قسما مما جاء من الأخبار في المتن الأصلي لرسالة «الشعاع الخامس» ينطبق على شخص شاهدته هناك، فقد اضطررت إلى ترك تلك الوظائف المهمة، إذ اقتنعت بأن من المستحيل التفاهم مع هذا الشخص أو التعامل معه أو الوقوف أمامه، فنبذت أمور الدنيا وأمور السياسة والحياة الاجتماعية، وحصرت وقتي في سبيل إنقاذ الإيمان فقط. ولكن بعض الموظفين الطاغين والبعيدين عن الإنصاف استكتبوني رسالتين أو ثلاثا من الرسائل المتوجهة إلى الدنيا ثم قمت -نـزولا عند رغبة بعض الذوات- بجمعِ وتنظيمِ أصولِ تلك الرسائل القديمة بمناسبة الأسئلة المتعلقة بالأحاديث النبوية المتشابهة حول علامات يوم القيامة، حيث أخذتْ هذه الرسالة اسم «الشعاع الخامس» من رسائل النور. وإن أرقام رسائل النور ليست مطّردة مع ترتيبِ أو تسلسل تأليفها، فـ«المكتوب الثالث والثلاثون» مثلا أُلّف قبل «المكتوب الأول»، كما أن أصل «الشعاع الخامس» هذا مع بعض أجزاء رسائل النور تم تأليفُها قبل رسائل النور. على أية حال فإن تعصب المدعي العام لمصطفى كمال وصداقته له -وهو يشغل مثل هذا المقام- أدّى إلى أسئلة واعتراضات غير قانونية وغير ضرورية وخاطئة مما ساقني إلى تقديم هذه الإيضاحات الخارجة عن الصدد، وأنا أبين هنا أحد أقواله كمثال على كلامه المشوب بالمزاج الشخصي الخارج عن القانون.

قال: ألم تندم من قلبك على ما أوردتَه في «الشعاع الخامس»؟ ذلك لأنك قمت بإهانته وتحقيره عندما قلت عنه: إنه أصبح مثل قربة الماء من كثرة شربه الخمرَ والشراب؟

وأنا أقول جوابا على تعصبه الذميم والخاطئ تماما الناشئ من صداقته له:

لا يمكن إسناد شرفِ انتصارِ الجيش البطل إليه وحده، ولكن تكون له حصة معينة فقط من هذا الانتصار. فمِن الظلم ومن الخروج على العدالة بشكل صارخ إعطاءُ غنائمِ الجيش وأمواله وأرزاقه إلى قائد واحد.

وكما قام ذلك المدعي العام البعيد عن الإنصاف باتهامي لكوني لا أحب ذلك الشخص ذا العيوب الكثيرة، إلى درجة أنه وضعني موضع الخائن للوطن، فإنني أتهمه أيضا بعدم حبه للجيش، ذلك لأنه عندما يعطي إلى صديقه ذاك كلَّ الشرف وكل المغانم المعنوية فإنه يكون بذلك قد جرد الجيش من الشرف، بينما الحقيقة هي وجوب توزيع الأمور الإيجابية والحسنات والأفضال على الجماعة وعلى الجيش، أما الأمور السلبية والتقصيرات والتخريبات فيجب توجيهها إلى القيادة وإلى الرأس المدبر وإلى الممسك بزمام الأمور. ذلك لأن وجود أي شيء لا يتحقق إلا بتحقق جميع شرائطه وأركان وجوده، والقائد هنا شرط واحد فقط من هذه الشروط. أما انتفاء أي شيء وفساده فيكفي له عدم وجود شرط واحد أو فساد ركن واحد فقط. لذا يمكن عزو ذلك الفساد إلى الرأس المدبر وإلى الرئيس لأن الحسنات والأمور الجيدة تكون عادة إيجابية ووجودية. فلا يمكن حصرها على من هم في رأس الدولة. بينما السيئات والتقصيرات عدمية وتخريبية ويكون الرؤساء هم المسؤولين عنها. ومادام هذا هو الحق وهو الحقيقة، فكيف يمكن أن يقال لرئيس عشيرة قامت بفتوحات: «أحسنت يا حسن آغا»؟ وإذا غُلبت تلك العشيرة، وجّهت إلى أفرادها الإهانة والتحقير؟.. إن مثل هذا التصرف يكون مجانبا للحق تماما ومعاكسا له.

وهكذا فإن ذلك المدعي العام الذي قام باتهامي قد جانب الحق والحقيقة وجانَبَ الصوابَ، ومع ذلك فهو بزعمه قد حكم باسم العدالة.

وعلى مثالِ خطأِ هذا الشخص فقد جاءني قُبيل الحرب العالمية السابقة في مدينة «وان» بعضُ الأشخاص المتدينين والمتقين وقالوا لي: «هناك بعض القواد تصدر منهم أعمالٌ ضد الدين. فاشترك معنا لأننا سنعلن العصيان عليهم».

قلت لهم: «إن تلك الأعمال اللادينية وتلك السيئات تعود إلى أمثال أولئك القواد. ولا يمكن أن نحمّل الجيش مسؤوليتها، ففي هذا الجيش العثماني قد يوجد مائة ألفٍ من أولياء الله. وأنا لا أستطيع أن أَمتشق سيفي ضد هذا الجيش، لذا لا أستطيع أن أشترك معكم». فتركني هؤلاء، وشهروا أسلحتهم، وكانت النتيجة حدوثَ واقعة «بتليس» التي لم تُحقق أي هدف. وبعد قليل اندلعت الحرب العالمية، واشترك ذلك الجيش في تلك الحرب تحت راية الدين ودخل حومة الجهاد، فارتقت منه مئات الآلاف من الشهداء إلى مرتبة الأولياء، فقد وقّعوا بدمائهم على شهادات الولاية. وكان هذا برهانا وتصديقا على صحة سلوكي وصواب تصرفي في تلك الدعوى.

على أية حال.. لقد اضطررت إلى الإطالة قليلا، وقد ساقتني إليها تصرفاتُ المدعي العام العجيبة والمتسمة بالإهانة تجاهي وتجاه رسائل النور، مع أن من الواجب عند مَنْ يتكلم باسم العدالة أن لا يَسمح لأية عواطف شخصية ولا لأية مؤثرات خارجية بالتأثير عليه وجرِّه إلى الخطأ وإن كان جزئيا أو إلى عدم الحياد وإلى الحكم بانفعالات
شخصية ونفسية.

الأساس الرابع

بعد أن قامت محكمة «أسكي شهر» بتدقيق مئات الرسائل والخطابات طوال أربعة أشهر، أعطت حكما بالسجن ستة أشهر لخمسة عشر شخصا فقط من بين مائة وعشرين متهما. أما بالنسبة لي فقد حكم عليّ بالسجن سنة واحدة. فمع أنهم دققوا مائة رسالةٍ (من رسائلي) فلم يجدوا فيها شيئا سوى خمسَ عشرة كلمة في رسالة أو في رسالتين. وصدر القرار ببراءتي في مسائل تشكيل الطرق الصوفية والجمعيات السياسية وفي موضوع القبعة، وقد قضينا مدة الحكم في السجن. وبعد ذلك وفي «قسطموني» لم يجدوا شيئا لإدانتي مع أنهم تحروا وبحثوا وفتشوا كثيرا ولعدة مرات. وقبل سنوات وَضَعَت الحكومة يدَها في «إسبارطة» على جميع أجزاء رسائل النور بلا استثناء، العلنية منها والسرية الخاصة، وبعد تدقيق هذه الرسائل لمدة ثلاثة أشهر أعادَتْها إلى أصحابها. وبعد عدة سنوات بقيتْ جميعُ الرسائل تحت تدقيق محكمة «دنيزلي» ومحكمة «أنقرة» لمدة سنتين، ثم أُعيدت جميعها إلينا.

إذن فما دامت هذه هي الحقيقة فإن القيام باتهامي واتهامِ رسائل النور و«طلبةِ رسائل النور» من قِبل أناس يتكلمون باسم القانون ولكنهم يتصرفون بحقد ويلوموننا تحت تأثيرِ أهواء ومشاعر شخصية وبشكل غير قانوني، لا يعني اتهامنا فقط بل يعني قبل ذلك اتهام محكمة «أسكي شهر» وكذلك اتهام حكومة «قسطموني» واتهام موظفي الأمن في تلك الولاية، ويعني أيضا اتهام جهاز العدالة في «إسبارطة» وكذلك محكمة «دنيزلي» ومحكمة الجنايات الكبرى في «أنقرة»، أي إنهم يقومون بإشراك كل هذه المؤسسات معنا في الذنب (إن كان لنا أي ذنب). لأنه لو كان لنا أي ذنب فمعنى ذلك أن الجهات الأمنية في تلك الولايات الثلاثة أو الأربعة لم تستطع أن ترى شيئا رغم مراقبتها الدقيقة، أو أنها رأت ولكنها أغمضت عيونها، كما أن تلك المحكمتين لم تستطيعا معرفة ذلك مع قيامهما بالفحص الدقيق طوال سنتين أو أنهما لم يُقرءا باهتمام. إذن فإن هذه الجهات تكون هي المتهَمة أكثر مما نكون نحن. هذا علما بأنه لو كانت لدينا رغبة في التوجه إلى الأمور الدنيوية، لما كان الصوت الصادر منا مثل طنين الذباب، بل لكان صوتا هادرا كدويّ المدافع.

أجل، إن رجلا دافع بكل شدة وصلابة دفاعا مؤثرا ودون خوف أو وجل أمام المحكمة العرفية العسكرية التي انعقدت بسبب أحداث 31 مارت، وفي مجلس المبعوثان دون أن يبالي بغضب مصطفى كمال وحدّته.. كيف يُتهم هذا الشخص بأنه يدير سرا خلال ثماني عشرة سنة ودون أن يشعر به أحد مؤامرات سياسية؟ إن من يقوم بمثل هذا الاتهام لا شك أنه شخص مغرض. وكما أملنا من المدعي العام لمحكمة «دنيزلي» فإننا نأمل من المدعي العام لمحكمة «أفيون» أن ينقذنا من اعتراضات هؤلاء المغرضين ومن أحقادهم، وأن يُظهر وجهَ العدالة وحقيقتَها.

الأساس الخامس

إن من الدساتير الأساسية لطلبة النور هو عدمُ التعرض قدر الإمكان للسياسة ولأمور الحكومة وشؤونها وإجراءاتها، ذلك لأن القيام بخدمة القرآن بإخلاص يكفيهم ويُغنيهم عن أي شيء آخر. ثم إن الداخلين الآن ساحةَ السياسة مع وجود تيارات قوية سائدة لا يستطيع أحد منهم أن يحافظ على استقلاليته وعلى إخلاصه، لأنَّ تيارا من هذه التيارات سيجرّه إليه ويجعله يعمل لحسابه ويستغله في مقاصده الدنيوية، مما يؤدي إلى الإخلال بقدسية عمله وخدمته. ثم إن أشد أنواع الظلم مع أشد أنواع الاستبداد قد أصبحا دستورا وقانونا من قوانين الصراع والنـزاع المادي في هذا العصر، وهذا يعني أن كثيرا من الأبرياء يذهبون ضحيةَ خطأِ فرد واحد، أو يقع هذا الفردُ مغلوبا على أمره. عند ذلك يَتوهم مَن هَجَر دينَه من أجل دنياه أو جعل دينَه وسيلةً لدنياه أن حقائق القرآن المقدسة -التي لا ينبغي أن تُستغل لأي شيء- قد تم استغلالُها في ساحة الدعاية السياسية. ثم إن أفرادَ الأمة بجميع طبقاتها.. المعارضين منهم أو المؤيدين، الموظفين منهم أو العامة.. جميعَهم لهم حصة في تلك الحقائق القرآنية وهم بحاجة إليها، لذا كان على طلبة النور أن يبقوا محايدين تماما، وكان من الضروري لهم عدمُ الخوض في السياسة وفي الصراع المادي وعدمُ الاشتراك فيه.

الأساس السادس

لا يجوز التهجم على رسائل النور بحجةِ وجود قصور في شخصي أو في بعض إخواني، ذلك لأن رسائل النور مرتبطة بالقرآن مباشرة، والقرآن مرتبط بالعرش الأعظم. إذن فمن ذا يجرُؤ أن يمد يده إلى هناك، وأن يحل تلك الحبال القوية؟ ثم إن رسائل النور لا يمكن أن تكون مسؤولة عن عيوبنا وعن قصورنا الشخصي، لا يمكن هذا ولا يجوز أن يكون أبدا، حيث إن بركتها المادية والمعنوية وخدماتها الجليلة لهذه البلاد قد تحققت بإشاراتِ ثلاث وثلاثين آية قرآنية وبثلاث كرامات غيبية للإمام علي رضى الله عنه وبالإخبار الغيبي للشيخ الكيلاني قدس سره. وإلا فإن هذا البلد سيواجه خسائر وأضرارا مادية ومعنوية لا يمكن تلافيها.

وسيرتد كيدُ الأعداء الخفيين لرسائل النور من الملاحدة إلى نحورهم وستفشل بإذن الله الخططُ الشيطانية التي يحوكونها والحملات التي يشنونها عليها. ذلك لأن طلبة النور ليسوا مثل الآخرين، فبعون الله تعالى وعنايته لا يمكن تشتيتهم ولا حملهم على ترك دعوتهم ولا التغلب عليهم. ولو لم يكن القرآن مانعا عن الدفاع المادي فإن طلبة النور -الذين كسبوا محبة جماهير هذه الأمة وتقديرها في حكم شريان في هذه الأمة- والذين هم موجودون في كل مكان، لن يشتركوا في حادثة جزئية كحادثة الشيخ سعيد أو حادثة «مَنَمَن» إذ لو وقع عليهم -لا سمح الله- ظلم شديد إلى درجة الضرورة القصوى وهوجمت رسائل النور فإن الملاحدة والمنافقين الذين خدعوا الحكومة سيندمون لا محالة ندما شديدا..

والخلاصة أنه مادمنا لا نتعرض لدنيا أهل الدنيا، فيجب عليهم أن لا يتعرضوا لآخرتنا ولا لخدماتنا الإيمانية.

[أدرج فيما يلي خاطرةً قديمة وقصةَ دفاع لطيفة حول محكمة «أسكي شهر» بقيت مخفيةً حتى الآن ولم تُدرج في المضابط الرسمية للمحكمة كما لم ترد في دفاعي أمام تلك المحكمة].

سألوني هناك:

ما رأيك حول النظام الجمهوري؟ فقلت لهم:

تستطيعون أن تتأكدوا من كتاب «تاريخ حياتي» الموجود لديكم بأنني كنت شخصا متدينا ومن أنصار النظام الجمهوري. وذلك قبل أن تأتوا أنتم إلى الدنيا.. هذا باستثناء رئيس المحكمة المتقدم في العمر. وخلاصة ذلك أنني كنت آنذاك منـزويا -كحالي الآن- تحت قبة خالية، فكانوا يأتون لي بالحساء، وكنت أقوم بإعطاء النمل حبات الحساء واكتفي بغمس الخبز في سائل الحسـاء. سألوني في محكمة «أسكي شهر» عن السبب فقلت: «إن أمة النمل وكذلك النحل تعيـش في نظام جمهوري، وأعطي النمل الحبات احتراما لنظامها الجمهوري».

ثم قالوا: «أنت تخالف بذلك السلف الصالح».

فأجبتهم: «لقد كان الخلفاء الراشدون خلفاء ورؤساء جمهورية في الوقت نفسه. فالصديق الأكبر رضي الله عنه كان دون شك بمثابة رئيس جمهورية للعشرة المبشرة وللصحابة الكرام. ولكن ليس تحت عنوان أو شكل فارغ، بل كل منهم رئيس جمهورية متدين يحمل معنى العدالة الحقيقية والحرية الشرعية.

إذن فيا أيها المدّعي العام ويا أعضاء المحكمة! أنتم تتهمونني الآن بمعاداة فكرٍ كنت أحمله منذ خمسين سنة.

أما إنْ كان سؤالُكم حول الجمهورية العلمانية فإن ما أعلمه هو أن معنى العلمانية هو البقاء على الحياد، فكما لا تتعرض مثلُ هذه الحكومة للملحدين ولأهل السفاهة بحجة حرية الضمير فيجب أن لا تتعرضَ لأهل الدين ولأهل التقوى. وإنني الآن لا أعلم الأوضاع السياسية والأحوال التي تعيش فيها الحكومةُ الجمهورية، لأنني قد اعتزلت الحياة الاجتماعية منذ خمس وعشرين سنة، فإن كانت قد دخلت في مرحلة مرعبة ومذهلة من العمل لحساب الملاحدة وبدأت بسنّ القوانين التي تدين من يعمل لآخرته ولإيمانه -والعياذ بالله- فإني أقول لكم دون خوف أو خشية أنه لو كان لي ألف نفس لما ترددت في التضحية بها في سبيل إيماني وفي سبيل آخرتي واعملوا أنتم ما بدا لكم، وسيكون آخر كلامي: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾

ولو قمتم بإعدامي ظلما أو بسجني مع الأشغال الشاقة فإنني سأردُّ عليكم بقولي:

إنني وبفضل ما كشفَته رسائل النور بصورة قاطعة لن أُعدَم، بل أُسرّح وأَذهب إلى عالم النور والسعادة. أما أنتم يا أعداءنا المتسترين والمتخفين الذين تسحقوننا لأجل الضلالة فأقول لكم بأنني متهيئٌ لكي أُسلّم الروح باطمئنان وبراحة قلب. لأنني أعلم وأرى أنه سيُحكم عليكم بالإعدام الأبدي وبالحبس الانفرادي المؤبَّد، لذا فإن انتقامي منكم سيكون تاما وكاملا. هذا ما قلتُه لهم.

الأساس السابع

استنادا إلى بعض التحقيقات السطحية -التي جرت في أماكن أخرى- فقد اتهمَتنا محكمةُ «أفيون» بالسعي لإنشاء جمعية سياسية.

وأنا أقول جوابا على هذا:

أولا: إن جميع مَن صادقني يشهد بأنني لم أقرأ جريدةً واحدة منذ تسعة عشر عاما ولم أستمع إليها ولم أسأل عنها، وفي ظرفِ عشرةِ أعوام وخمسةِ أشهر لم أعرف من الأخبار سوى هزيمةِ ألمانيا والخطر الشيوعي، لم أعرف أيّ خبر آخر ولم يكن عندي فضول أو رغبة للمعرفة.. إذن فمثل هذا الشخص لا يمكن أن تكون له أدنى علاقة بالسياسة ولا الجمعيات السياسية.

ثانيا: إن رسائل النور البالغَ عددُها مائة وثلاثين رسالة، موجودةٌ كلها في متناول اليد وأمام الأنظار، وقد اقتنعتْ محكمةُ «أسكي شهر» بأنه لا يوجد في رسائل النور أيّ هدف آخر وأية غاية دنيوية عدا حقائق الإيمان، لذا لم تتعرض إلّا لرسالة واحدة أو لرسالتين. أما محكمة «دنيزلي» فلم تتعرض لأية رسالة، كما أن جهاز الأمن الضخم في «قسطموني» بالرغم من قيامه بالترصّد والمراقبة الدائمة طوال ثمانية أعوام لم يجد من يتهمه سوى شخصين كانا يعاونانني في شؤوني وثلاثة أشخاص آخرين بأسباب واهية، وهذا حجةٌ قاطعة بأن طلاب النور لا يشكّلون بأي حال من الأحوال جمعيةً سياسية. أما إن كان مفهومُ الجمعية عند الادعاء العام هو جماعة إيمانية تعمل لآخرتها، فإننا نقول جوابا له: لو قمتم بإطلاق تسمية الجمعية على طلاب دار الفنون (الجامعة) وعلى أصحاب كل مهنة من المهن، عند ذاك يمكن إطلاق اسم الجمعية -بهذا المفهوم- علينا. أما إن كان المقصود هو جماعة تقوم بالإخلال بالأمن الداخلي ببواعث دينية فإننا نردّ على ذلك بأن عدم تورط طلاب النور طوال عشرين سنة بأية حادثة مخلّة بالأمن الداخلي في أي مكان، وعدمَ تسجيل أي شيء ضدهم في هذا الخصوص لا من قبل الحكومة ولا من قبل المحاكم، لَدليلٌ ساطع على بطلان هذه التهمة. أما إن كنتم تتوهمون أن تقوية المشاعر الدينية ستؤدي في المستقبل إلى الإخلال بالأمن الداخلي وأن هذا هو ما تقصدونه من توجيه تهمة الجمعية إلينا فإننا نقول:

أولا: إن جميع الوعاظ (وعلى رأسهم رئاسة الشؤون الدينية) يؤدون الخدمات نفسها.

ثانيا: إن طلبة النور ليسوا بعيدين فقط عن الإضرار بالأمن والإخلال بالاستقرار، بل إنهم يعملون بكل قواهم وبكل قناعاتهم لحفظ الأمة من الفوضى والفتن، ويحاولون بكل جهدهم تأمين الاستقرار والأمن والدليلُ على هذا هو ما جاء في الأساس الأول أعلاه.

أجل، نحن جماعة هدفُنا وبرنامجُنا إنقاذ أنفسنا أولا ثم إنقاذ أُمتنا من الإعدام الأبدي ومن السجن البرزخي الانفرادي المؤبّد ووقاية مواطنينا من حياة الفوضى والسفاهة ومحافظةُ أنفسنا (بالحقائق القوية الفولاذية الواردة في رسائل النور) من الإلحاد الذي يروم القضاء على حياتنا في الدنيا وفي الآخرة.

الأساس الثامن

إنهم يقومون بتوجيه التُّهم إلينا استنادا إلى بعض الجمل المؤثرة الواردة في رسائل النور واستنادا إلى بعض التحقيقات السطحية التي جرت في بعض الأماكن، ونقول نحن جوابا على هذا:

مادامت غايتُنا محصورةً في الإيمان وفي الآخرة وليست في الصراع والنـزاع والمبارزة مع أهل الدنيا.. ومادام التعرض الجزئي القليل جدا الوارد في رسالة أو رسالتين لم يكن مقصودا من قِبَلنا، بل ربما ارتطمنا بهم عرضا ونحن نسير نحو هدفنا، لذا لا يمكن عدّه غرضا سياسيا.. ومادامت الاحتمالاتُ والإمكانات تعدّ شيئا والوقائع شيئا آخر، ذلك لأن الاتهام الموجه ليس في أننا قمنا بالإخلال بالأمن بل هو «يُحتمل» أو من الممكن أن نخلّ بالأمن، وهو اتهام باطل ولا معنى له، ويشبه اتهام أي شخص باقتراف جريمةِ قتل لأن من الممكن أن يقوم بذلك، علما أن المحاكم في «أسكي شهر» وفي «قسطموني» وفي «إسبارطة» وفي «دنيزلي» لم تستطع العثور (بالرغم من تدقيقها الشديد) على أي دليلِ اتهام في آلاف النسخ من الرسائل والمكاتيب المتبادلة بين عشرات الآلاف من الأشخاص طوال عشرين عاما، ومع أن محكمة «أسكي شهر» لم تعثر على شيء سوى رسالةٍ صغيرة، فاضطرت باستعمالِ مادة قانونية مطاطة إلى إلقاء المسؤولية علينا، ومع أنها تصرفتْ بشكل يُدين كل من ألقى درسا دينيا إلّا أنها مع ذلك لم تستطع إلا إصدار الحكم بإدانة خمسة عشر شخصا فقط من بين مائة شخص ولمدة ستة أشهر، ولو افترضنا أنَّ شخصا مثلنا كان بينكم وتم القيام بتدقيق عشرين رسالة من رسائله الخاصة التي كتبها في ظرف سنة واحدة.. لو تم هذا ألا يمكن العثور في هذه الرسائل على عشرين جملة تضعه في موقف حرج وفي موقف المسؤولية؟ لذا فإن العجز عن العثور على عشرين جملة حقيقية تدين صاحبها من بين عشرين ألف نسخة من الرسائل والمكاتيب لعشرين ألف شخص طوال عشرين سنة برهان قاطع على أن الهدف المباشر لرسائل النور هو الآخرة، ولا علاقة لها بالدنيا.

الأساس التاسع

لقد سُجل في قرار الادعاء لمحكمة «أفيون» الموادُّ التي أوردها المدعى العام المنصف لمحكمة «دنيزلي»، وحكامُ التحقيق غير المنصفين والسطحيين في أماكن أخرى، وبدلالةِ ما عوملنا من معاملات أثناء التحقيق، والمواد هي نفسها وأبرزت المكاتيب من دون تاريخ يُذكر، والمراسلات التي تمت خلال عشرين أو خمس عشرة سنة أو عشر سنوات، فتلك المواد أُجيب عنها في الأساس الثالث والسؤال الثاني في ادعائي، والتي تدور حول الشعاع الخامس والرسائل البالغة مائة وثلاثين رسالة ومكاتيب مرت بالتدقيق في محكمة «أسكي شهر» وقضينا عقابه وشملَتها قوانينُ العفو، وبرأت ساحتَها محكمةُ «دنيزلي»، فالآن يحاولون أن يجدوا معاذير واهية من تلك الرسائل كي تكون موادَ اتهام لنا.

فيا تُرى إن الذي أخضع بخطاب منه ثمانيَ كتائبَ من الجيش في حادثةِ «31 مارت» مع أنهم لم يعيروا سمعا لشيخ الإسلام ولا لكلام العلماء، هل يمكن أن يُقنِع ويَستغفِل طوال ثماني سنوات أمثالَ هؤلاء الرجال فقط؟ فهل يمكن أن يُقال إنه تمكّن فحسب من استغفال خمسة رجال في ولاية عظيمة، ولايةِ قسطمونى؟

فلقد أخرجتم جميعَ كتبي والرسائل الخاصة والسرية منها والعلنية في «قسطمونى» وحوادث «دنيزلي». وبعد إجراء التدقيق عليها -لمدة ثلاثة أشهر- لم يعثروا في تلك الولاية العظيمة على غير فيضى وأمين وحلمي وتوفيق وصادق.

فهؤلاء الخمسة كانوا يعاونونني في أعمالي الشخصية ابتغاء وجه الله. وعثروا في ظرفِ ثلاث سنوات ونصف السنة في «أميرداغ» على ثلاثة أصدقاء، وبعثوهم إليّ.

فلو كنت أعمل كما ورد في تلك التحقيقات السطحية، لكنتُ أستطيع استغفال خمسمائة شخص لا خمسة أشخاص أو عشرة، بل لكنت أستطيع استغفال خمسة آلاف شخص بل خمسمائة ألف.

أُبيّن ما قلتُه في محكمة «دنيزلي» للحقيقة ولإظهار مدى خطئهم. وأدناه أُورِدُ نموذجا أو نموذجين منها:

إنهم يؤاخذوننا لقيامنا بجمع آيات كريمة من القرآن الكريم تُعين على التفكر في آيات الله -في الكون- تلك التي هي منبع رسائل النور، وذلك اتباعا لعادة إسلامية جرت منذ عصر النبوة. وسمّينا مجموعة تلك الآيات: «حزب القرآن» أيمكن أن يقال لمن يقوم بمثل هذا العمل: إنهم يحرفون الدين..

ثم إني رغم مقاساتي سنةً واحدة من العقاب النازل بي حول «رسالة الحجاب» التي عثروا عليها تحت أكوام الحطب والوقود، نراهم يريدون إدانتنا بها كأنها استنسخت ونشرت هذه السنة.

ثم إنني لما اعترضت بكلمات قاسية على ذلك الشخص المعروف الذي تولى رئاسة الحكومة بأنقرة، لم يقابلني بشيء، بل آثر الصمت. إلّا أن بعد موته أظهرت حقيقةُ حديثٍ شريف خطأَه -كنت قد كتبته قبل أربعين سنة- فتلك الحقيقة والانتقادات التي كانت فطرية وضرورية واتخذناها سرية، وعامة غير خاصة على ذلك الشخص قد طبقها المدعي العام بحذلقة على ذلك الشخص، وجعلها مدار مسؤولية علينا. فأين عدالة القوانين التي هي رمز الأمة وتذكارها وتجل من تجليات الله سبحانه، من محاباة شخص مات وانقطعت علاقته بالحكومة.

ثم إننا جعلنا حريةَ الوجدان والعقيدة التي اتخذتْها حكومةُ الجمهورية أساسا لها مدارَ استناد لنا. ودَافَعْنا عن حقوقنا بهذه المادة، ولكن اتخذتها المحكمةُ مدارَ مسؤولية وكأننا نعارض حرية الوجدان والعقيدة.

وفى رسالة أخرى انتقدتُ سيئات المدنية الحاضرة وبينت نواقصها، فأُسند إليّ في أوراق التحقيق شيء لم يخطر ببالي قط، وهو إظهاري بمظهر من يرفض استعمال الراديو (حاشية) لأجل تقديم الشكر لله تجاه نعمة الراديو، وهى نعمة إلهية عظمى، فقد قلت: «إن ذلك يكون بتلاوة القرآن الكريم من الراديو كي يُسمع ذلك الصوت الندي إلى العالم أجمع فيكون الهواء بذلك قارئا للقرآن الكريم» وركوبَ القطار والطائرة. فأكون مسؤولا عن كوني معارضا للرقي الحضاري الحاضر.!

فقياسا على هذه النماذج، يمكن تقدير مدى بُعد المعاملة عن العدالة. نأمل أن لا تهتم محكمة «أفيون» لما ورد في أوراق التحقيق من أوهام وشبهات كما لم تهتم بها محكمة «دنيزلي» العامة ومدعيها العام المنصف.

وأغرب من جميع ما ذكر هو أن الطائرة والقطار والراديو التي تعتبر من نعم الله العظيمة وينبغي أن تقابَل بالشكر لله، لم تقابِلها البشرية بالشكر فنـزلت على رؤوسهم قنابل الطائرات.

والراديو نعمة إلهية عظيمة بحيث ينبغي أن يكون الشكر المقدم لأجله في استخدامه جهازا حافظا للقرآن الكريم يُسمِع البشرية جمعاء. ولقد قلنا في «الكلمة العشرين»: إن القرآن الكريم يخبر عن خوارق المدنية الحاضرة، وبيّنّا فيها عند حديثنا عن إشارة من إشاراتِ آيةٍ كريمة، بأن الكفار سيَغلِبون العالم الإسلامي بوساطة القطار. ففي الوقت الذي أحثُّ المسلمين إلى مثل هذه البدائع الحضارية فقد جعلها بعض المدعين العامين لمحاكمَ سابقة مدارَ اتهام لنا وكأنني أعارض هذه الاختراعات.

ثم إن أحدهم قال: إن رسالة النور نابعة من نور القرآن الكريم، أي إلهام منه، وهي وارثة، تؤدي وظيفةَ الرسالة والشريعة. فأَورد المدعى العام معنى خطأ فاضحا ببيانه ما لا علاقة له أصلا وكأن «رسالة النور رسول» وجعلوا ذلك مادةَ اتهام لي.

ولقد أثبتنا في عشرين موضعا في الدفاع وبحجج قاطعة أننا لا نجعل الدين والقرآن ورسائل النور أداة ووسيلة لكسب العالم أجمع، ولا ينبغي أن تكون وسائل قطعا. ولا نستبدل بحقيقة منها سلطنةَ الدنيا كلها. ونحن في الواقع هكذا. وهناك ألوف من الأمارات على هذه الدعوى.

ولكن يبدو من سير الادعاء لمحكمة «أفيون» وفى قرارها المبني على تحقيقات أخرى: أننا نبتغي الدنيا ولا نسعى إلّا لحبك المؤامرات وكسب حطام الدنيا ونجعل الدين أداة لمواد خسيسة تافهة ونعمل على الحط من قيمته.. فيتهموننا على هذا الأساس.

فما دام الأمر هكذا فنحن نقول بكل ما نملك: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾ .

سعيد النُّورْسِيّ