ملحق

لقد ورد في ختام قرار التحقيقات الأخيرة التي أُجريَت من قِبَل محكمة التحقيقات ما يأتي:

«لقد قرر مجلس الوزراء قبل أربعة أشهر منعَ نشر رسالة «المعجزات القرآنية» أي «الكلمة الخامسة والعشرين» ومصادرةَ أعدادها من السوق نظرا لورود شرح لثلاث آيات قرآنية، وهذا الشرح يعارض القانون المدني الحالي ويصادم المدنية».

وجوابا على هذا نقول: إن رسالة «المعجزات القرآنية» موجودة الآن ضمن رسالة «ذو الفقار» هذه الرسالة يقارب عدد صفحاتها أربعمائة صفحة، كنت قد نشرتُها ردا على انتقادات المدنية الغربية للقرآن الكريم ردا قاطعا لا يمكن جرحه أو الاعتراض عليه. ويشغل هذا صفحتين منها في معرضِ تفسير لثلاث آيات قرآنية وموجود بصورة متفرقة في ثلاث رسائل قديمة لي. الآية الأولى كانت آية الحجاب، والآية الثانية كانت حول الإرث وهي آيةُ ﴿فَلِاُمِّهِ السُّدُسُ﴾ (النساء:11)

أما الآية الثالثة فكانت أيضا حول الإرث وهي آيةُ ﴿فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْاُنْثَيَيْنِ﴾ (النساء:176) ومع أنني قمت بشرح حِكَمِ حقائقِ هذه الآيات في صفحتين اثنتين وقبل عشرين عاما (بعضها قبل ثلاثين عاما) شرحا ألزم الفلاسفةَ، إلّا أنهم توهموا وكأنها كُتبت اليوم. وبدلا من منع رسالة «ذو الفقار» البالغة أربعمائة صفحة فقد كان في الإمكان إخراج هاتين الصفحتين فقط منها، ثم إعادتها إلينا، وهذا حق قانوني لنا؛ إذ لو وُجدت كلمةٌ واحدة أو كلمتان ضارتان في خطاب ما، حُذفت هاتان الكلمتان وسُمِح بنشر ذلك الخطاب، وقياسا على هذا فإننا نطالب بحقنا هذا من محكمتكم العادلة.

ولعدم وجود إمكانية مجيء أحدهم عندي ليقرأ لي لائحةَ الاتهام البالغةَ أربعين صفحة والصادرة قبل شهر، فقد قرؤوا هذه اللائحة لي اليوم (المصادف لليوم الحادي عشر من حزيران).. قرؤوا اللائحة واستمعتُ أنا فوجدت أن الدفاع الذي كتبتُه قبل شهرين وكذلك تتمة هذا الدفاع وملحقه الذي كتبتُه قبل شهر والذي أرسلته إلى مقامكم وإلى ست مراجع في أنقرة يردّ لائحةَ الاتهام هذه ردا قاطعا، لذا لا أجد أيّ مسوّغ لكتابة دفاع جديد. ولكني أُحب تذكيرَ مقام الادعاء عندكم بنقطتين أو ثلاث فأقول:

إن السبب الذي حدا بي إلى عدم الإجابة على هذه اللائحة يعود إلى أنني لم أشأ أن أطعنَ في كرامة ثلاث محاكم عادلة أصدرت قراراتها ببراءتنا ولم أشأ أن أهينها. ذلك لأن تلك المحاكم حققت بشكل دقيق جميعَ الأسس الواردة في لائحة الاتهام هذه ثم أصدرت قراراتها بالبراءة. إن عدمَ احترام هذه القرارات وعدَّها وكأنها لا شيء يُعدّ تجاوزا واعتداءً على شرف جهاز العدالة.

النقطة الثانية: لقد حاول مقام الادعاء بحذلقةٍ إعطاءَ معانيَ لم تخطر على بالنا لمسألتين أو ثلاث من بين آلاف المسائل لاتهامنا، بينما توجد هذه المسائل في أمهات رسائل النور وحازت على رضى وقبولِ المحققين من علماء الأزهر في مصر وعلماء الشام وحلب وعلماء مكة المكرمة والمدينة المنورة وخاصة على رضى وقبول العلماء المحققين لرئاسة الشؤون الدينية، لذا فقد دهشتُ واستغربتُ عندما رأيت المدعي العام يورد بعض الردود وبعض الاعتراضات العلمية في لائحة الاتهام وكأنه عالمٌ من علماء الدين وشيخٌ من شيوخه. ولنفرض جدلا أن لي بعضَ الأخطاء فلا يمكن أن تُعد ذنبا يحاسِب عليه القانون بل مجرد خطأ علمي، هذا مع العلم أن أي عالم من آلاف العلماء لم يرَ هذه الأخطاء التي يشير إليها المدعي العام ولم يعترض عليها.

ثم إن ثلاث محاكم برّأتنا وبرأت رسائل النور كلها سوى خمسَ عشرة كلمة واردة في «اللمعة الرابعة والعشرين» حول (الحجاب) حيث أصدرت محكمة «أسكي شهر» عقوبات خفيفة بحقي وبحق خمسة عشر بالمائة من أصدقائي. وكنت قد ذكرت في تتمة دفاعي التي قدمتها إليكم بأنه لو كانت هناك عدالة على سطح الأرض لما قَبِلتْ ذلك الحُكم ضدي بسبب تفسيري ذاك، الذي اتبعتُ فيه حُكم ثلاثمائة وخمسين ألف تفسير. وقد حاول المدعي العام بذكائه وبمعاذير شتى اختيارَ بعض الجمل لكتاب ولخطابات تعود إلى عشرين سنة مضت وتحويرَها ضدنا. بينما أصبحت خمس أو ست محاكم -وليست ثلاث محاكم فقط- من المحاكم التي برأتنا شريكةً لنا في هذا الذنب أو الجرم المزعوم. وأنا أذَكّر مقام الادعاء العام بضرورة عدم التعرض إلى كرامة تلك المحاكم العادلة.

النقطة الثالثة: إن نقدَ ومعارضةَ رئيس مات وانتهى أمره وانقطعت صلتُه بالحكومة، لكونه سببا في بعض السلبيات في الانقلاب لا يُعدُّ ذنبا أو جرما في نظر القانون. ولم يكن انتقادُنا له صريحا، بل قام المدعي العام -بحذلقته- بتطبيق ما جاء في بياننا بشكل عام وكلي، على ذلك الرئيس. فما كان سرا من المعاني التي لم نوضحها أظهره هذا المدعي العام على الجميع وفضحه وركّز عليه أنظارَ الناس جميعا. فإن كان هناك ذنبٌ في هذه المعاني فمن المفروض أن يكون المدعي العام شريكا فيه، ذلك لأنه جلب أنظار الجماهير لهذه المعاني وحرّضهم.

النقطة الرابعة: على الرغم من قيام ثلاث محاكم بإصدار قراراتها بتبرئتنا بشكل قاطع من تهمة تشكيل جمعية إلّا أن المدعي العام يحاول تكرار الأسطوانة القديمة حول الأوهام والمزاعم الخاصة بتشكيل جمعية سرية، ويجهد نفسه في البحث عن أي معاذير غير حقيقية في هذا المجال. ومع أن هناك عدة جمعيات سياسية ضارة لهذه الأمة ولهذا الوطن، فإنه يؤذَن لها ويسمح لها بأداء نشاطها، بينما يتم إلصاق تهمة «استغلال الدين لتحريض الناس على الإخلال بالأمن» بنا، مع أن هناك آلافَ الشهود وآلاف الشواهد وقراراتِ ستِ ولايات بعدم التعرض لنا، تُثبت بأن الصداقة الموجودة بين طلاب النور -وهي صداقة دراسة- هي في صالح الأمة وفي صالح الدين، وهي في سبيل تأمين السعادة الدنيوية والسعادة الأخروية، وأن هؤلاء الطلاب وقفوا وجاهدوا متساندين ضد جميع تيارات الإفساد سواء أكانت من الخارج أم من الداخل، لذا فإن إلصاقَ تهمةِ تشكيل جمعية سرية والإخلالِ بالأمن مع أنه لم يسجَّل في ظرف عشرين عاما أيّ حادثةِ إخلال للأمن ضد أي طالب من طلاب النور الذين يتجاوز عددهم مئات الآلاف.. إن مثل هذه التهم لا يحتدّ لها النوعُ الإنساني وحده بل يحق لهذه الأرض أيضا أن تحتدّ وتردّ هذه التهمة.. على أي حال فإنني لا أجد مبررا لإطالة الكلام، إذ إن دفاعي (الذي كتبتُه قبل لائحة الاتهام هذه) وتتمة دفاعي كافيتان للرد وللإجابة على المدعي العام.

الموقوف في سجن أفيون

سعيد النُّورْسِيّ


باسمه سبحانه

أوضّح لمحكمة أفيون ولرئيس محكمة الجنايات الكبرى أنه:

لقد قطعتُ علاقتي بالدنيا لأنني مفطور منذ البداية على عدم تحمل التحكم. وتبدو الحياة الآن أمام عيني ثقيلة جدا إلى درجة أنني أرى بأنني لا أستطيع العيش في مثل هذه الحياة المليئة بتحكمات لا معنى ولا ضرورة لها، إذ لا أستطيع تحمّل تحكمات ونوازع السيطرة لدى المئات من الأشخاص الرسميين خارج السجن، فقد مللتُ من مثل هذه الحياة. وأنا أطالبكم بكل ما أَملك من قوة أن تعاقبوني. وبما أنني لا أستطيع نيل الموت فإن من الضروري لي البقاءَ في السجن. وأنتم تعلمون جيدا أن الاتهامات الباطلة التي أَسْنَدها لي مقامُ الادعاء غيرُ موجودة وغيرُ واردة أصلا. لذا فهي لا تكفي لإيقاع العقوبة بي. ولكن وجود تقصيرات كبيرة عندي تجاه الوظيفة الحقيقية هو الذي يسبب لي عقابا معنويا. ولو كان الاستفسار مناسبا فإنني مستعد للإجابة على استفساراتكم. أجل إن ذنبي الوحيد المتأتي من تقصيراتي الكبيرة والذي لا يُغتفر من حيث الحقيقة، هو أنني بسبب عدم التفاتي إلى الدنيا لم أعمل ما أنا مكلف به من إيفاء وظيفةٍ جليلةِ الشأن في سبيل الوطن والأمة وفي سبيل الدين، وأن عدم علمي ذلك لا يشكل عذرا بالنسبة إليّ، وقد توصلت الآن إلى هذه القناعة في سجن «أفيون» هذا.

إن الذين يتهمون طلاب النور الذين تنحصر علاقتُهم الأخروية الخالصة برسائل النور وبمؤلفها، ويحاولون تحميلهم مسؤولية تشكيل جمعية سياسية، بعيدون كل البُعد عن العدالة والحقيقة. أَثبتَ ذلك قرارُ التبرئة لثلاث محاكم بثلاث جهات. فضلا عن هذا نقول:

إن جوهر الحياة الاجتماعية الإنسانية ولاسيما للأمة الإسلامية وأساسَها هو: وجود محبة خالصة بين الأقرباء، ووجودُ رابطة وثيقة بين القبائل والطوائف، ووجود أخوة معنوية وتعاونية نحو إخوته المؤمنين ضمن القومية الإسلامية، ووجود علاقةِ فداء نحو قومه وجنسه، ووجود التزام قوي ورابطة قوية لا تهتز مع الحقائق القرآنية التي تنقذ حياته الأبدية، ومع ناشري هذه الحقائق، وأمثالها من الروابط التي تحقق أساس الحياة الاجتماعية، وإن إنكارها لا يؤدي إلّا إلى قبول الخطر الأحمر الذي يتربص بنا في الشمال والذي يبذر بذور الفوضى ويحاول القضاء على الأجيال وعلى القومية ويجمع أطفالَ الناس هناك ويضعهم تحت تصرفه ويحاول إزالة شعور القرابة وشعور القومية وإفساد المدنية البشرية والحياة الاجتماعية إفسادا تاما، أقول إنه بذلك الإنكار وذلك القبول يمكن إطلاق اسم الجمعية على طلاب النور، لذا فإن طلاب النور الحقيقيين يُظهرون علاقاتهم المقدسة مع الحقائق القرآنية ويظهرون ارتباطهم الذي لا ينفصم مع إخوانهم في الحياة الآخرة. ولأنهم يتقبلون برحابة صدر أية عقوبة تقع عليهم بسبب هذه الأخوة فإنهم يعترفون بهذه الحقيقة كما هي في حضور محكمتكم العادلة، ولا يتدنَّون عند الدفاع عن أنفسهم إلى دَرَك الحيلة والنفاق والكذب.

الموقوف  

سعيد النُّورْسِيّ


 ذيل تتمة الاعتراض المقدم

إلى الادعاء العام لمحكمة أفيون

أولا: أُبيّن للمحكمة أن هذا الادعاء الجديد أيضا مبني على ادعاءات قديمة لمحكمة «أسكي شهر» و«دنيزلي» ومبني على التقرير المقدم من قبل خبراء سطحيين بعد تحقيقاتهم العابرة. وقد ادعيت في محكمتكم: إن لم أُثبت مائةَ خطأ في هذا الادعاء فأنا راضٍ بإنزال عقاب مائة سنة من السجن بي، وها أنا الآن أثبت دعواي. إن شئتم أقدم لكم الجدول المتضمن للأخطاء التي تزيد على المائة.

ثانيا: عندما أُرسلتْ أوراقُنا وكُتُبُنا من محكمة «دنيزلي» إلى أنقرة كتبتُ لإخوتي -في غضون ترقبي وقلقي على صدور قرارٍ ضدنا- الفقرةَ التي في ختام بعض دفاعاتي، وهي أنه إذا استطاع موظفو العدالة الذين يدققون رسائل النور بهدف النقد والتقييم، أن يقووا إيمانهم وينقذوه، ثم حكموا عليّ بالإعدام، اشهدوا بأنني قد تنازلت لهم عن جميع حقوقي، لأننا خدام الإيمان ليس إلّا. وإن المهمة الأساس لرسائل النور هي تقوية الإيمان وإنقاذه. لذا نجد أنفسنا ملزمين بالخدمات الإيمانية، دونما تمييز بين عدوٍ وصديق، ومن غير تحيّز
لأية جهة كانت.

وهكذا.. أيها السادة أعضاءَ المحكمة، استنادا إلى هذه الحقيقة، وفي ضوئها، قد استطاعت رسائل النور بحقائقها الناصعة وبراهينها الساطعة أن تستميل نحوها قلوب الكثيرين من أعضاء المحكمة وحملتهم على التعاطف معها. فلا يهمني بعدُ ما تريدون فعله، وما تقررون في حقي.. افعلوا ما شئتم فإني مسامحكم.. ولن أثور أو أغضب عليكم إطلاقا. و هذا هو السبب في أنني تحملت أشد أنواع الأذى والجور والاستبداد والتعرض والإهانات المتكررة التي أثارت أعصابي والتي لم أُقابَل قبلُ بمثلها طوال حياتي كلها.. بل إنني لم ادعُ على أحد بالشر أو السوء.

وإن مجموعات رسائل النور التي بين أيديكم لهي دفاعي غير القابل للجرح أو الطعن، وهي خير دليل على زيف جميع الادعاءات المثارة ضدنا.

إنه لمثير للعجب والحيرة أنه في الوقت الذي دقق علماء أجلاء من مصر والشام وحلب والمدينة المنورة ومكة المكرمة وعلماء من رئاسة الشؤون الدينية، مجموعاتِ رسائل النور ولم ينتقدوا منها شيئا، بل استحسنوها وقدروها حق قدرها. وفي الوقت الذي حملت الرسائل مائة ألف من أهل الحقيقة على التصديق بها رغم الظروف الصعبة المحيطة، ورغم ما أعانيه من الاغتراب والشيخوخة وقلة النصير، وفضلا عن الهجمات الشرسة المتلاحقة.. أقول: في الوقت الذي تقدَّر الرسائل هكذا، إذا بالذكي الذي استجمع علينا ادعاءات واهية يتفوه بخطأ فاحش ينم عن سطحيته وسطحية نظرته للأمور، إذ قال: إن القرآن الكريم عبارة عن مائة وأربعين سورة! هذا الشخص نفسه يقيّم رسائل النور فيقول: «إن رسائل النور مع أنها تحاول تفسير القرآن الكريم وتأويل الأحاديث الشريفة إلّا أنها لا تحمل ماهية علمية وقيمة راقية من حيث تقديمها المعرفة إلى قرائها». ألا يفهم من تنقيده هذا أنه بعيد كل البعد عن القانون والحقيقة والحق والعدالة!

وأشكو إليكم أيضا:

لقد أسمعتمونا الادعاء العام كاملا طوال ساعتين والذي أدمى قلوبنا لما فيه من أخطاء تربو على المائة سجّلناها في أربعين صفحة. إلّا أنكم لم تفسحوا لي مجال دقيقتين من الزمان كي أجيبه في صفحة ونصف الصفحة رغم إصراري على ذلك، لذا أطالبكم باسم العدالة بقراءة اعتراضي بتمامه.

ثالثا: إن لكل حكومة معارضين، ولا يسمح القانون بالتعرض لهم ماداموا لم يخلّوا بالنظام. أفيمكن لي ولأمثالي ممن أعرضنا عن الدنيا ونسعى للقبر أن نَدَع السعي للحياة الباقية على وفق المسلك الذي سلكه أجدادنا الميامين طوال ألف وثلاثمائة وخمسين سنة وبهدي تربية قرآننا العظيم، وفي ضوء دساتير يقدّسها ثلاثمائة وخمسون مليونا من المؤمنين في كل عصر، ثم ننشغل بحياة دنيوية قصيرة فانية وننقاد لقوانين ودساتير غير أخلاقية للمدنية السفيهة، بل قوانينَ جائرةٍ وحشية كما هي في البلشفية، وننحاز إليها تحت ضغوط أعدائنا ودسائسهم؟ فليس هناك قانون في العالم كله ولا إنسان يملك ذرة من الإنصاف يُكره الآخرين على قبول هذا بذاك.

إلّا أننا نقول لأولئك المعارضين: إننا لم نتعرض لكم فلا تتعرضوا لنا!

وهكذا بناء على هذه الحقيقة، إننا لسنا مع زعيم أصدر حسب هواه أوامر باسم القانون ونفذها بقوة لتحويل «جـامع أياصوفيا» إلى دار للأصنام، وجَعَل مقر المشيخة العامة ثانوية للبنات، لسنا معه فكرا ولا موضوعا، ولا من حيث الدافع ولا من حيث النتيجة والغاية، ولا نجد أنفسنا ملزمين بقبول أمر كهذا.

والواقع أنه بالرغم من حياة الأَسْر والتشرد التي عشتها خلال هذه السنوات العشرين، والتي ذقت فيها ألوانا من العذاب، وتعرضت لأقسى وأشنع أساليب الظلم والاستبداد، ومع أن هناك مئات الألوف من إخواني النوريين الأوفياء، فإننا لم نتدخل في الأمور السياسية ولم تُسجَّل حادثة واحدة تدل على تعرضنا للأمن أو إخلالنا بالنظام.

إن ما أتعرض له في أخريات أيامي هذه، من الإهانات المتكررة والمعاملات الظالمة التي أُقابَل بها، وحياة الاغتراب والتشرد التي أعيشها والتي لم أر مثلها من قبلُ جعلني أملّ الحياة.. إنني سئمت الحرية المقيدة، تلك الحرية التي يحدها التحكم ويعقلها الجور والاستبداد. لقد رفعت إليكم طلبا لا لإطلاق سراحي وتخفيف عقابي وإبراء ساحتي، كما هو المألوف، بل لإنزال أشد العقاب بي وأقساه، نعم أشده وأقساه لا أخفه وأهونه، ذلك لأنه لا سبيل للتخلص من مثل هذه المعاملة العجيبة المنكرة سوى أحد أمرين: السجن أو القبر. إن الطريق إلى القبر مسدود أمامي لا أستطيع الحصول عليه لأن الانتحار محظور شرعا، ثم إن الأجل سر خفي، لا يدرك الإنسان كنهه بَلْهَ أن تطاله يداه، لذا فقد رضيت بالسجن الذي أنا رهين اعتقاله وتجريده منذ حوالي ستة أشهر. إلّا أنني لم أقدم هذا الطلب في الوقت الحاضر إلّا نزولا عند رغبة إخواني الأبرياء.

رابعا: إنني خلال هذه السنوات الثلاثين من حياتي، والتي أطلقتُ فيها على نفسي اسم «سعيد الجديد» أدّعي فأقول: بأنني قد بذلت ما وسعني الجهد لكبح جماح نفسي الأمارة بالسوء، وصونها من العُجب والتطلع إلى الشهرة والتفاخر، بل قد جرحت أكثر من مائة مرة مشاعرَ طلاب النور الذين يحملون حسن ظنٍ مفرط بشخصي. يشهد على هذا ما كتبته في رسائل النور وحقائقها المتعلقة بشخصي، والمنصفون ممن يختلفون إليَّ بجد، والأصدقاء جميعا. فأنا لست المالك لبضاعة النور، بل لست إلّا دلّالاً ضعيفا بسيطا في حانوتِ مجوهراتِ القرآن.

كما أنني بتصديق من إخواني المقربين، وبما شاهدوا من أماراتها العديدة، عازم على ألّا أضحي بالمناصب الدنيوية وأمجادها الزائفة وحدها، بل لو أُسند إليّ -فرضا- مقاماتٌ معنوية عظمى، فإنني أضحي بها أيضا لخدمتي للإيمان والقرآن خشية اختلاط حظوظ نفسي بإخلاصي في الخدمة. وقد قمت بهذا فعلا.

ومع ذلك فقد جعلتْ محكمتُكم الموقرة مشاعرَ الاحترام التي أبداها نحوي بعضُ إخواني -نظيرَ انتفاعهم برسائل النور كشكر معنوي من قبيل احترام زائد عن احترام المرء لأبيه- مع رفضي وعدم قبولي لها، جعلتْها مدارَ استجوابنا وكأنها مسألة سياسية، وحملتم فريقا منهم على التنكر لذلك الاحترام، فيا عجبا أي ذنب وأي جريرة في امتداح جاء على لسان الغير ولم يرض به هذا العاجز ولا يرى نفسه لائقا بذلك؟

خامسا: إني أعلن لكم بصراحة تامة أن محاولة إلصاق تهمة الانتماء إلى التكتلات والتجمعات والتدخل في الشؤون الداخلية، إلى طلبة النور الذين لا علاقة لهم -بأيّ وجه- بالتحزب والتجمع والتكتلات والتيارات السياسية المختلفة، ما هي إلّا من وحي منظمةِ الزندقة المتسترة التي تعمل منذ أربعين سنة على هدم الإسلام ومحو الإيمان، خادمةً بذلك لنوع من البلشفية والتي سبّبت -هذه المنظمة- في تغذية روح التطرف والفوضى في هذه البلاد، سواء بعلم أو بغير علم، واتخذت موقفا مضادا تجاهنا.

بيد أن ثلاث محاكم مختلفة قد اتفقت على تبرئة ساحة رسائل النور وَطَلَبَتِها من تهمة الانتماء إلى التكتلات، سوى محكمة واحدة، وهي محكمة «أسكي شهر» حيث حكمت عليّ بالسجن لمدة عام واحد، ولمدة ستة أشهر على خمسة عشر من إخواني من مجموع مائة وعشرين شخصا. ولعل الذي دفع محكمة أسكي شهر إلى اتخاذ ذلك القرار يعود إلى ورود فقرة كُتبت قديما جاءت ضمن رسالة صغيرة تتعلق بمسألة واحدة وهي «الحجاب».

وكان نص تلك الفقرة كما يأتي: «لقد طرق سمعَنا أن صباغَ أحذية قد تعرض لزوجةِ رجل ذي منصب دنيوي كبير، كانت مكشوفة المفاتن، وراودها نهارا جهارا في قلب العاصمة «أنقرة»! أليس هذا الفعل الشنيع صفعة قوية على وجوه أولئك الذين لا يعرفون معنى الحياء من أعداء العفة والحجاب؟»

وإذن فإن اصطناع الأسباب الواهية والاتهامات الباطلة ضد طلبة رسائل النور الآن، إن هو إلّا بمثابة الحكم ضد تلك المحاكم الثلاث، ومحاولة لإلصاق التهمة بها ووصمها بوصمة الخيانة والعار.

سادسا: لا يمكن المبارزة مع رسائل النور. فقد اتفقت كلمة علماء الإسلام الذين اطلعوا عليها أنها تفسير قيم صادق للقرآن الكريم، أي أنها تنطوي على براهين دامغة لحقائقه الناصعة وهي معجزة معنوية من معجزات القرآن في هذا العصر، وسد منيع أمام الأخطار والمهالك التي تتربص بهذه البلاد وبهذه الأمة من الشمال.

فالواجب يقتضي من حيث الحقوق العامة أن تعمل محكمتكم الموقرة على الترغيب في هذه الرسائل بدلا من تخويف طلابها وترغيبهم عنها، هذا ما نعلمه، بل ننتظره منكم.

ومن المعلوم أن عدم التعرض لكتب الملاحدة وبعض الساسة المتزندقين ومجلاتهم وجرائدهم -مع ضررها الفادح على الأمة والبلاد والأمن العام- تحت ستار الحرية العلمية، يدفعنا حتما إلى القول والتساؤل: ما الجانب المحظور من التحاق شاب بريء يحتاج إلى العون والمساعدة إلى صفوف طلبة النور كي ينقذ إيمانه وينجو من التردي في هاوية الأخلاق الذميمة؟ أفليس من الحكمة والعدل والواجب أن تحتضن الحكومة ووزارة المعارف (التربية) هذا العملَ وتُشجعه وتقدره حق قدره بدلا من أن تعمل على مكافحته وعلى ملاحقتنا دون سبب؟

كلمتي الأخيرة:  نسأل الله أن يوفق الحكام إلى إحقاق الحق وإقرار العدل.. آمين

حسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير

 الحمد لله رب العالمين.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

كلمتي الأخيرة

أودّ أن أبيّن لهيئة المحكمة ما يلي:

لقد أدركت من لائحة الاتهام ومن وضعي لمرات عديدة وطويلة في السجن الانفرادي بأن شخصي هو الهدف في هذه المسألة، فقد لوحظ وجود مصلحة لتهوين شأني والنيل من شخصي. وقد زعم أنني شخص ضار للإدارة وللأمن وللوطن، وأنني أسعى تحت ستار الدين إلى مقاصد دنيوية ومن أجل نوع من السياسة. و ردّا على هذا فإنني أقول لكم بصراحة تامة:

لا تمدّوا يدكم بالأذى إلى رسائل النور ولا إلى طلاب النور الميامين من أجل هذه الأوهام ومن أجل محاولتكم محاربتي شخصيا، لأنهم هم الأبناء المضحون في سبيل هذا الوطن وفي سبيل هذه الأمة، وإلّا فسيلحق بهذا الوطن وبهذه الأمة ضرر كبير وقد يكون ذلك سبيلا إلى خطر عليهما.

وأريد أن أؤكد لكم: لقد قررتُ أن أَقبل -في ضوء مسلكي الحالي- أيّ أذى وأية إهانة وأيّ عذاب وأيّ عقاب موجه إلى شخصي، بشرط ألّا يأتي أي ضرر إلى رسائل النور وإلى طلابها بسببي، ففي هذا ثواب لي في الآخرة وهو وسيلة لإنقاذي وخلاصي من شرور نفسي الأمارة بالسوء. فبينما أبكي من ناحية فإنني مسرور من ناحية أخرى. ولو لم يدخل هؤلاء الأبرياء المساكين السجن معي من أجل هذه المسألة لكانت لهجتي في الدفاع شديدة جدا، وقد شاهدتم أنتم أيضا ورأيتم كيف حاول مَن كتب لائحة الادعاء البحثَ عن أسباب واهية ومعاذيرَ باطلة، فقدم جميع ما كتبتُه من كتب ومن خطابات سرية خاصة وغير خاصة في ظرفِ عشرين أو ثلاثين سنة من حياتي كأنني قد كتبتها بأجمعها في هذه السنة، وساق لبعضها معانيَ خاطئةً، وقدمها وكأنها لم تظهر للعيان ولم تدخل أية محكمة ولم يشملها أي قانون من قوانين العفو ولم تتعرض لمرور الزمن.. كل هذا من أجل النيل مني، والحطِّ من شأني. ومع أنني ذكرت أكثر من مائة مرة بأني أعترف بضآلة شأني وصغر قيمتي، ومع أن معارضيّ يحاولون بكل وسيلة النيلَ مني وتهوينَ أمري إلا أن سبب محبة عامة الناس لي محبةً أقلقت رجال السياسة يعود إلى أن تقوية الإيمان يحتاج في هذا الزمن وفي هذه الظروف حاجة ملحة وقطعية إلى أشخاص لا يضحون بالحقيقة -في موضوع الدين- من أجل أي شيء على الإطلاق ولا يجعل أحدهم الدين وسيلة وآلة لأي غرض ولأي شيء، ولا يعطي لنفسه حظا، وذلك لكي يمكن الاستفادة من إرشاداته في دروس الإيمان وتحصل القناعة التامة به.

نعم، إنه لم يحدث في أي ظرف من الظروف أَنْ اشتدت الحاجة إلى الخدمة مثلما بلغته في عصرنا هذا، وذلك لأن الأخطار قد داهمتنا من الخارج بشدة وضراوة بالغتين. ومع اعترافي وإعلاني بأن شخصي العاجز لا يكفي لسد هذه الحاجة أو مَلء ذلك الفراغ، فقد ذهب البعض إلى الظن بأن شيئا من ذلك يمكن أن يتحقق على يديّ، لا لمزية معينة في شخصي، بل لشدة الحاجة إلى من يقوم بمثل هذا العمل ولعدم بروز أحد بروزا ظاهرا لتحمل تلك المسـؤولية العظمى.

ولقد تأملتُ منذ أمد طويل في هذه المسألة في حيرة وتعجب، إذ على الرغم من أخطائي وعيوبي الشخصية المدهشة، وعدم جدارتي للقيام بمثل هذا العمل الجليل بأي وجه كان، فقد بدأت أفهم الحكمة في التفات العامة وإبدائهم ضربا من مشاعر الاحترام نحوي. والحكمة هي أن الحقائق التي تحتوي عليها رسائل النور، والشخصية المعنوية التي يمثلها كيانُ طلبتها، قد يمـمتا وجه تلك الحاجة شطرهما، ولا سيما في ظرف مثل ظرفنا ومثل وسطنا الحاليين، ومع أن حظي من الخدمة قد لا يبلغ الواحد في الألف، فإن البعض يعتقدون فيّ تجسيدا لتلك الحقيقة الخارقة وممثلا لتلك الشخصية الأمينة المخلصة فيُبدون نحوي ذلك النوعَ من الالتفات.

والواقع أن هذا النوع من الالتفات بقدر ما هو ضارٌّ بي، ثقيل على نفسي أيضا. حتى إنني آثرت الصمت بغير حق عن تلك الخسائر المعنوية، حفاظا على الحقائق النورية وشخصيتها المعنوية. وربما يعود السبب في ذلك النوع من الالتفات إلى إشارة مستقبلية للإمام علي رضي الله عنه وللشيخ الكيلاني قُدس سره، ولبعض الأولياء الآخرين، بإلهام إلهيّ إلى حقيقة رسائل النور، وشخصيةِ طَلَبَتِها المعنوية.. وما ذلك إلّا لكون تلك الرسائل مرآة صغيرة عاكسة لمعجزة القرآن المعنوية في عصرنا الحاضر. ولعل ذلك البعض قد أخذ شخصي الضعيف بنظر الاعتبار، لا لشيء إلّا لكوني خادما لتلك الحقيقة الخارقة. ولقد أخطأتُ عندما لم أصرف التفاتهم الجزئي لشخصي -بتأويلٍ- إلى رسائل النور. والسبب في هذا يعود إلى ضعفي وكثرة الأسباب التي قد تدفع مساعدِيَّ إلى الخوف. وما قبولي جزءا مما يخصّ شخصي في الـظاهر إلّا لإضفاء سمة الاعتماد وصبغة الثقة على أقوالي لا غير.

إنني أنذركم بما يلي:

لا داعي إطلاقا للقضاء على شخصي الفاني المشارف على باب القبر. ولا داعي كذلك إلى إعطاء مثل هذه الأهمية لوجودي. وإنه مما يجب أن تَعلموه جيدا هو أن المبارزة مع رسائل النور محاولة يائسة. إنكم لن تستطيعوا مبارزتها، فلا تبارزوها. إنكم لن تتغلبوا عليها. ولئن حاولتم مبارزتها، فلن تعودوا إلّا بأضرار جسيمة على الأمة والبلاد معا، ولكن لن تستطيعوا تشتيت شمل طلبتها أو تفكيك وحدتهم مهما حاولتم.. إذ ليس من السهل حملُ أحفاد أجدادنا وأبنائهم البسلاء الذين ضحوا بأكثر من خمسين مليونا من الشهداء في سبيل الحفاظ على القرآن وحقائقه القيمة، على التنكر والنسيان لماضيهم المجيد، ولا الحيلولة دون بطولاتهم الدينية الرائعة التي كانت دوما محط أنظار العالم الإسلامي وموضع إعجابه. وحتى لو انسحبوا من الميدان فإن أولئك الطلاب الأوفياء لن يتخلوا عن رسائل النور التي هي مرآة عاكسة لتلك الحقيقة ولن يرضوا -بذلك التخلي- أن يصيب الضرر الوطن والأمة والأمن.

وآخر قولي: ﴿فَاِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّٰهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظيمِ﴾  (التوبة:129).

* * *