فإن شئت تحقيقه فانظر إلى هذه الموازنة وهي: أن الموجودات إما فاعلُها جانبُ الإمكان والكثرة، وإما جانبُ الوجوب والوحدة؛ فما يُتوهم بقصور النظر من الكلفة والاستبعاد، والاستغراب في إسناد كل شيء إلى الواجب الوجود، تصير محققةً عند الإسناد إلى الكثرة، لقصور أي سبب كان، وضعفِه عن تحمل أي مسبَّب كان، في جانب الكثرة دون الوحدة. فما يُتوهمُ هناك متحقق هنا. ثم بعد هذا تتضاعف الكلفة والاستبعاد والاستغراب عدد أجزاء الكائنات مع أنها في الإسناد الأول كانت واحدةً موهومة وصارت هنا حقيقةً متضاعفة عدد أجزاء الكائنات؛ إذ في الإسناد إليه تعالى نسبةُ كثيرٍ غيرِ محدود إلى واحدٍ مباين الماهية لها، وفي جانب الكثرة نسبةُ واحدٍ إلى كثير غير محدود متماثلة الماهية؛ إذ النحلة مثلا، لولم تُسنَد إلى الواجب الواحد، لزِمَ اشتراكُ السماوات والأرض في إيجادها لعلاقتها بأركان العالم. مع أن صدورَ الكثير عن الواحد أسهلُ بمراتبَ من صدور الواحد عن الكثيرين المتشاكسين الصُم العُميِ الذين لا يزيد اختلاطُهم إلّا أعميتَهم وأصمّيتَهم. ثم مع ذلك إن الكلفة لوكانت في الإسناد الأول مثلَ ذرة، تترقى في الإسناد الثاني إلى أمثال الجبال؛ إذ الواحد بالفعل الواحد يحصِّل وضعيةً ونتيجة للكثير، لا يتيسر للكثير -لوأُحيلت عليهم- أن يحصّلوا تلك الوضعيةَ، أويصلوا إلى تلك النتيجة إلّا بأفعال كثيرة وتكلفاتٍ عظيمة؛ كالأمير مع نفَراته، والفوارةِ مع قطراتها، والمركزِ مع نقاط دائرته. ثم مع ذلك إن الاستبعاد والاستغراب الموهومَين في الإسناد الأول، ينقلبان في الإسناد الثاني إلى محالات متسلسلة.

من بعض المحالات: فرضُ صفات الواجب في كل ذرة؛ إذ كمال الصنعة ونقوشها وإتقانها تقتضي علما محيطا، وبصرا مطلقا، وقدرة تامةً وإرادةً شاملةً.. ومنها فرضُ شركاء غير متناهية في الألوهية والوجوب اللذين لا يقبلان الشركة أصلا؛ إذ لولم تُسند الأشياء إلى الواحد الواجب، للزم أن يكون لكل واحدٍ وفي ضمنه واحد من الآلهة.. ومنها فرض كل ذرة حاكما على الكل، ومحكوما للكلِّ ولكلٍّ، كالأحجار في البناء المعقد لوانتفى الباني، لزِمَ أن يكون كل حجر كالباني عالما مهندسا بانيا؛ إذ النظام والانتظام والإتقان والحِكمُ هكذا تقتضي، لا محل للتصادف فيها.. ومنها فرض الشعور المحيط والعلمِ التام والبصرِ المطلق في كل ذرة وسبب؛ إذ الموازنة والتناظر والتساند والتعاون يقتضي شعورا محيطا وبصرا مطلقا وهكذا.. من الصفات المحيطة.

فلو أُسندت الأشياءُ إلى أنفسها لزم تصوّر هذه الصفات في أنفسها، ولو أُسندت إلى الأسباب لزم تصور هذه الصفات في أسبابها، بل في كل ذرة من ذراتها.. وهكذا من المحالات المتسلسلة والممتنعات العقلية والأباطيل التي تمجّها الأوهام.. وأما إذا أُسندت إلى صاحبها الحقيقي وهوصاحب مرتبة الوجوب والوحدة، لا يلزم إلّا أن تصير الذراتُ ومركباتها -كقطرات المطر الحاملة لتماثيل الشمس بالانعكاس- مظاهرَ لتجلياتِ لمعات القدرة النورانية المطلقة المحيطة الأزلية الغير المتناهية، المستندة بل المتضمنة للعلم والإرادة الأزليين الغير المتناهيين. وهي القدرة التي شهدت عليها معجزات المخلوقاتُ، التي لمعتُها الفذة أجلّ من شمس الإمكان والكثرة بسر التجزؤ والتوزيع والانقسام في جانب الإمكان والكثرة، دون جانب الوجوب والوحدة. وإن ذرةَ تلك القدرة أعظم من جبال الأسباب، بسر أن جزء تجلي النوراني مالك لخاصية الكل، كأن الكلّ كلّيٌّ، ولو في جانب الإمكان، حتى ترى الشمس بتمامها في ذرة زجاجية. فكيف نور الأنوار المتظاهر من جانب الواجب الوجود الواحد الأحد؟!

فالفرق بين الإسناد الأول والإسناد الثاني، كالفرق بين تجلي الشمس بخاصيتها في قطرة بل في ذرة بالتجلي وبين دعوى وجود شمس بالأصالة في تلك القطرة؛ ومحاليةُ هذه الدعوى أظهر من أن تَخفى.. ومع كل ذلك لا كلفةَ ولا معالجةَ ولا تَعَمُّلَ في عمل تلك القدرة المجهولة الأزلية، بل تتساوى بالنسبة إليها الذراتُ والنجوم، والجزء والكل، والفرد والنوع، والقليل والكثير، والصغير والكبير، وأنت والعالم، والنواة والشجرة. والسرُّ في أنه لا كلفة بالنسبة إليها أن تلك القدرة لازمةٌ ذاتية ضرورية ناشئة للذات الأزلي، فلذاتيتها، محالٌ تداخلُ ضدِّها في ما بينها. فإذ لا عجزَ فلا مراتب فيها، فإذ لا مراتب فيها، تتساوى بالنسبة إليها أصغرُ الأشياء وأعظمُها.

فإن شئت تقريبَ هذه الحقيقة إلى الفهم بتمثيلات في دائرة الإمكان والكثرة، فاستمع مثلا –﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى-: يتساوى في أخذ تجلي الشمس في تمثالها الذراتُ الزجاجية، والبحور الأرضية، والسيارات السماوية بسر «الشفافية»..

وإن المصباح المركزي للمرايا المحيطة يتساوى بالنسبة إلى المصباح زجاجةٌ من زجاجاتِ أصغرِ دائرة، ومجموع الزجاجات في أكبر الدائرة، بسر «المقابلة»..

وإن النور والنوراني تتساوى بالنسبة إلى الاستضاءة والاستفاضة الواحدُ والألوفُ، لا تَزاحُمَ فيه بسر «النورانية». فلنوعِ نورانيةٍ في لطافة الكلمة يتساوى في الاستماع الواحدُ والألوف..

ومثلا: إن الميزان الحساس بدرجةٍ يتحسس بذرّة، لوكان في كفتيه شمسان أوجوزتان، ما تفاوت بين رفع كفةٍ إلى الثريا وكفة إلى الثرى، بوضع جوزة أخرى في كفة بسر «الموازنة»..

ومثلا: إن أعظم السفن لا يتعسر سوقُها وتحريكها على صبي كما لا يتعسرُ عليه تحريك سفينته التي هي ملعبته في كفه، أوتحريكُ ساعته بسر «الانتظام»..

ومثلا: إن «القماندان» لا فرق في أمره بـ«آرش» بين نفر وفيلق، يتساوى في التحريك والتحرك النفرُ، وكلُ العسكر بسر التزام «الامتثال»..

ومثلا: إن الماهية المجردة في الأنواع والكليات، يتساوى بالنسبة إليها فردٌ من أصغر الأفراد وأكبرُ الأفراد وكلُ الأفراد الغير المحدودة بسر «التجرد»..

وهكذا من الأمثلة الدالة على أنه يمكن عدم التفاوت بين القليل والكثير والصغير والكبير بالنسبة إلى شيء.

فبسر «شفافية» الملكوتية في كل شيء، وبسر «مقابلة» وجه كل شيء للقدرة، وبسر «نورانية» تلك القدرة، وبسر «الموازنة» الإمكانية، وبسرّ «الانتظام» بقوانين القضاء والقدر، وبسر «امتثال» كل ذرة من ذرات الكائنات بكمال الشوق واللذة للأوامر التكوينية المندمجة في أمر «كن»، وبسرّ «تجرد» الواجب الوجود عن الماديات.. فبهذه الأسرار الستة تتساوى بالنسبة إلى قدرته إحياءُ البعوضة وإحياء الأرض، وخلقُ النحلة وخلق السماوات والأرض، وإيجاد الذرة وإيجاد الشمس. بل إن التساويَ وعدمَ التفاوت ثابتٌ بالحدس القطعي والمشاهدة؛ إذ تلك القدرة المجهولة بماهيتها، والمعلومة بمعجزاتها تفعل بمثل غصن دقيق -كخيط رقيق- أمثالِ العناقيد التمرية والعنبية وغيرهما، تلك الخوارقَ الحيوية التي لوأحيلَت صنعتُها على الأسباب لاحتاجت إلى ما لا يحد من التكلفات، وتتجلى تلك القدرة بجلوات الوجود في سَمّ الخياط على الشفافات والعيون الناظرة إلى الخيال بالتماثيل البرزخية، لوأحيلَت على الأسباب لامتنعت أولاحتاجت إلى ما لا يحد من المعالجات.

الحاصل: أن ما يُرى من إيجاد القدرة للأشياء الحيوية والوجودية والنورية يدل على أمور ثلاثة:

الأول: أنَّ الوسائط والأسباب الظاهرية حُجُبٌ ضعيفة وضِعَت لمحافظة عزة القدرة في المباشرة الظاهرية في وجه المُلك الكثيف الخسيس فقط..

والثاني: أنَّ الحياةَ والوجود والنور -لشفافيةِ وجه مُلكها كملكوتيتها- ما وضعت الحُجُب الكثيفة على يد القدرة، بل ترقرقت الوسائط فيها..

والثالث: لا تكلّف ولا تَعمُّل ولا معالجة في تأثير تلك القدرة؛ إذ مَن يصنع بنواةِ تينةٍ شجرةَ تينة بعظمتها، وبخيطٍ دقيق عنقودا من حبات العنب -وكلُّ حَبة فيها ما فيها- لا يتعسّر عليه شيء.. ولا ريب في الحقيقة أن ظهور صاحب تلك القدرة الأزلية أشدُّ بمراتبَ من ظهور الكائنات. إذ كلُّ مصنوع دلالته على نفسه بوجوه قليلة مرئية، وعلى صانعه بوجوه كثيرة مشهودة وعقلية وغيرهما. وأي مصنوع كان لوأُحيل على الأسباب، واجتمعت عليه الأسبابُ الأرضيةُ والسماوية لم يَأتُوا بمِثلِهِ وَلَوكانَ بعضُهمْ لبَعضٍ ظهيرا. إذ حبة نواة في حبة تينة ليست بأقلَّ جزالةً من شجرة تينة، وليس الإنسان أقلَّ جزالةً وأدنى صنعة من الأرض. فالقدرة التي أوجدت النواة والإنسان لا يتعسّر عليها إبرازُ الشجر والعالم.

فيا مَن ضلّ بالاستبعاد والاستغراب والحيرة والاستنكاف في جانب الحق! فقد سمعت بهذه التحقيقات أن الاستبعادَ بلا نهاية، والاستغرابَ بلا غاية، والحيرة بلا حد، وتحقق الكلفة بما لا يُحصى مع محالات عجيبة، فقد سمعتَها موجودة في جانب باطلك الذي ابتُليتَ به من نسبة الأشياء بالأصالة إلى أنفُسها وأسبابها. فاضطرابات الأرواح والعقول الناشئةُ من هذه الضلالة؛ تُلجئ القلوبَ إلى الفرار بالتسليم إلى الواجب الوجود الواحد الأحد الذي لا يحصُل إيضاحُ شيء من الأشياء إلّا بإضافته إلى قدرته، ولا يحصل فتحُ شيء من المغلقات إلّا باتصاله بإرادته، ولا يطمئنُ قلبٌ ولا يستقر يقينٌ في مسألة من المسائل إلّا بربطها بذكره واسمِه جل جلاله..

اعلم أن ميدانَ اشتغال الإنسان، ومسايرَ جولان الهمة، أوسعُ من أن يُحاط به. فقد يجول في ذرة، ويسبَح في قطرة، وينحبس في نقطة، مع أنه قد يضع العالَم نصب عينيه، وقد يُدخل الكائنات في عقله حتى يتطاول إلى رؤية الواجب الوجود ومشاهدته. فقد يكون الإنسان أصغر من ذرة، وقد يصير أكبرَ من السماوات، فيدخُلُ في القطرة مع أنه يدخل فيه الفِطرةُ بأنواعها وأركانها..

اعلم أن كل ما أَنعم الله به على الإنسان، له شرائط ومفاتيح بعضها آفاقي وبعضها أنفسي. مثلا: إن الله أنعم بالضياء والهواء والغذاء والصدى، وعلّق الاستفادةَ منها على فتح العين والأنف والفم والسمع وهكذا.. مع أن هذه الفتوح الأنفسية من كسبنا، فلا يتحصل إلّا بخلقه وإيجاده تعالى. فلا تتخيّلن أيها الغافل هذه النعمَ سدىً مهملة تسئم فيها كيف تشاء بلا منّة ولا حساب. كلا! بل تُساق إليك بقصدِ مُنعمها فتُلتَقَم باختيارك ثم تنتشر على مظان حاجاتك بإرادة مُحسنها عمّ نوالُه..

اعلم أن أواخرَ الأشياء ونهاياتِها ليست بأقلَّ انتظاما وإتقانا من أوائلها؛ ولا ظواهرها ولا صورها بأحسن صنعةً وحكمةً من بواطنها. فلا تحسبنَّ أواخرَ الأشياء وبواطنَها سدىً مهملةً تلعب بها يدُ التصادف. ألا ترى الثمرة مع الزهرة، أظهرَ حكمةً من الجرثوم النابت من النواة. فالصانع جل جلاله هوالأول والآخر والظاهر والباطن وهوبكل شيء عليم.

اعلم أن إعجازَ القرآن، حَفظَ القرآن عن التحريف، فلا يتيسر لكلام مفسِّر أومؤلّفٍ أومترجم أومحرّف وغيرهم، أن يلتبس بالآيات أويلبسَ زيّها كما التبست واختلطت سائر الكتب المنـزلة حتى صارت محرفة..

اعلم أن تكرار آيةِ ﴿فَبِاَيِّ اٰلَٓاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ في مقاطع الآيات التنـزيلية المشيرة إلى الآيات التكوينية المتنوعة المختلفة في سورة «الرحمن» يدل على أن أكثر عصيان الجن والإنس وأشدَّ طغيانهما وأعظم كفرانهما يتولد من عدم رؤية الإنعام في النعمة.. والغفلةِ عن المنعم.. وإسنادِ النعم إلى الأسباب والتصادفات.. حتى يصيرا مكذِّبَين بآلاء الله. فلابد للمؤمن من أن يبسمل بَدء كلّ نعمةٍ قاصدا بها أنها منه، أنا آخذها باسمه وبحسابه، لا بحساب الوسائط، فله الشكر والمنة.

اعلم أيها المتوسوس المتخطر بإلقاآت الشيطان، وإخطار مرض القلب والخيال، وبإمرار خسّة النفس ولؤمِها مزخرفاتٍ شتّى على عين عقلك عند توجهك إلى الحقائق الإلهية، حتى قد تمر على عينيك سحائبُ مظلمة ممطرة رذائلَ وفواحشَ وشتوما تقشعر منها عند نظرك إلى شمس الحقائق، كأنك تمدّ يد التنـزيه والتقديس، وترسل عينَك للتسبيح والتمجيد؛ والحال أن يدَك تَتنجّس بأرجاس خيالك، ويستقذر نظرُك ممّا يمر عليه من سفاسف خبثِ نفسك، ثم تنعكس تلك المستقذراتُ على المقدسات في نظرك، فتتألم فتتأمل في المستقذرات. لا تيأس ولا تتأثر ولا تلقِ نفسَك في الغفلة للفرار من هذه الحال، والنجاة من هذا اللوم الأليم؛ إذ لا ضررَ إلّا ضررُ توهّمِ الضرر، فتتكرر فتتضرر. ألا ترى أنك إذا نظرت إلى الشمس وضيائها، والسماءِ ونجومِها، والجنةِ وأزاهيرها، في مسامات ثوبٍ مستقذَر بمزخرفات شتى، لا يمكن أن تسري تلك إليها وتتكدر هي بها، بل تنفعل أنت منها. فلا تهتم بها لتذهبَ؛ إذ هذه الوهميات والهوائيات كالهوام والزنابير؛ إن دافعتَهم قاتلوك، وإن تركتَهم فارقوك..

اعلم أيها المتفلسف المرجِّح للعقل على النقل، فتُؤوِّل النقلَ بل تُحرِّف؛ إذ لم يسعه عقلُك المتفسخ بالغرور والتغلغلِ في الفلسفيات! إنني كنتُ في حينٍ كما كنتَ، ثم شاهدتُ قصرا شاهقا شارقا اتصل سطحُه بسقف السماء، قد أُرسِلت متدليةً من شبابيكها العالية زنابيلُ([1]) متفاوتةٌ، حبالُها في المبدأ والمنتهى. فبعضُها قريبٌ من الأرض فيقذف الإنسانُ الموفَّق نفسَه في ذلك الزنبيل فيرتفع إلى أعلى المنازل، وبعضُها أخفض مبدأ وأرفعُ منتهى. وهكذا.. ثم رأيت بعضَ الناس الخاسرين المغرورين لا يبالون بتلك الزنابيل، فيتشبثون للصعود بجمع الأحجار والأشياء ويضعونها تحت أرجلهم، فيتصاعدون قليلا ثم يتساقطون، وأنّى لهم الصعود! وشاهدتُ بعض المعتمدين على أنفسهم المتفرعنة، يدقون مسامير في جدار القصر فيضعون أرجلهم عليها متصاعدين فيخرّون فتندقّ أعناقُهم وهكذا.. ورأيت أن ما جُهزوا به من مكاسبهم وآلاتهم إنما أُعطوها ليستعملوها على قدر الاستعداد والتوفيق في الصعود إلى الزنبيل، لا إلى المنازل. فعقلُكَ عقالُكَ، وبالنقل نقلتُك. مَن توكّل على الله فهوحسبه..

اعلم يا من تحيّـرَ في سبب غلبةِ الفجار على الأبرار، وتفوُّقِ الطالحين على الصالحين في الحياة الدنيوية. أني قد شاهدتُ في واقعةٍ قصورا، في كل قصر سرادقات متداخلة متصاعدة، سكان طبقاتها متفاوتون في اللطافة والعلوية والنورانية، فمن في المركز العالي كالسلطان، وتحته منازل فيها سكان متفاوتون في القيمة والنورانية، وهكذا إلى الباب. ومن عند الباب خادم مظلم كثيف، وقدام الباب كلبٌ متملق. ثم رأيت بعض القصور تلألأت ساحةُ بابه، فتأملتُ فيها فرأيت ملك القصر يلعب مع الكلب قدّام الباب، والمخَدَّرات يداعِبن مكشوفاتٍ رؤوسُهن مع الصبيان، وقد تعطلت الوظائف النـزيهة في الطبقات، وتشعشعت وظائف الكلب والصبيان وسَفَلة الخدام، فتفتق القصر عن مكنوناته متفسقا، مُشرقا مقتدرا قويا ظاهر الباب، مظلما معطَّلا ذليلا في الداخل. وفسوقُه كفتوق فلقتي الرمان مثلا عن حباته. فعلمت أن تلك القصور هي الأناسي، حتى رأيتُ كل إنسان قصرا، حتى رأيت نفسي العاصية أيضا قصرا.. وسقوطَ أهل القصور على مراتب مختلفة نزولا أدنى فأدنى. فشاهدت أن ما يزعم أهلُ المدنية ترقيا ما هوإلّا سقوطٌ، واقتدارا ما هوإلا ابتذال، وانتباها ما هوإلّا انغماس في نوم الغفلة، و«نزاكة» ما هي إلّا رياءٌ نفاقي، و«ذكاوة» ما هي إلّا دساسية شيطانية، وإنسانيةً ما هي إلّا قلبُ الإنسانية حيوانيةً. لكن يلوح على هذا الشخص الساقط العاصي لوائحُ اللطافة والجاذبية لاختلاط لطائفه النورانية بنفسه الظلمانية؛ خلافا للمتدين المطيع الذي عند الباب نفسُه المتكدرة فقط. إلّا أنه قد يتنازل لطائفُ الصالح أيضا، لا للهوسات السفلية، بل لإرشاد الناس الخارجين من الحدود وإمدادِهم بإرجاعهم إلى ما هم خُلقوا لأجله، إن الله سبحانه إذا أحبّ عبدا لا يحبب إليه محاسن الدنيا بل يُكرّهها إليه بالمصائب.

أيواه! واأسفا! قد أظهرت هذه المدنيةُ السفيهة خوارقَ جلابة وملاهيَ جذابة، يتساقط إليها سكان قصور الإنسان ومخدَّراتُها، كتساقط الفَراش على النور المشرق المنقلب إلى النار المحرقة..

اعلم أيها السعيد الشقي! ما هذا الغرور والغفلة والاستغناء؟ ألا ترى أن ليس لك من الاختيار إلّا شعرة، وليس من الاقتدار إلّا ذرة، وليس من هذه الحياة إلّا شعلة تنطفئ، وليس من العمر إلاّ قليل مثل دقيقة تنقضي، وليس من الشعور إلّا لمعة تزول، وليس من الزمان إلا آنٌ يسيل، وليس من المكان إلا مقدار القبر! ولك من العجز ما لا يُحدّ، ومن الاحتياج ما لا يتناهى، ومن الفقر ما لا يُحصى، ومن الآمال ما لا غاية لها، وهكذا.. فمَن كان بهذه الحالة من العجز، وفي هذه الدرجة من الحاجة، هل يتوكل على ما في يده ويعتمد على نفسه.. أويتوكلُ على الله الرحمن الرحيم الذي من ظروف خزائن رحمته وصناديق نعمته: هذه الشموس وهؤلاء الأشجار المملوءة من الأنوار والأثمار، ومن موازيب حوض فيضه ومسيلاتِ رحمته: الماء والضياء.

اعلم يا من يستعظم النتيجةَ ويستضعف دليلَها! إنه ما من دليل يشهد على حقيقةٍ من الحقائق الإيمانية، إلّا ويزكّيه ويؤيّده ويقوّيه ويمدّه كلُّ ما قام على صدق شيء ما من الإسلامية. فكأن كلَّ ما لا يعد من الشواهد والشهداء والبراهين والأمارات، كل منها يضعُ إمضاءه على سند كلٍ من أخواتها، فيختم كلٌّ منها خاتمَ تصديقه على منشور كلِّ واحدٍ، بسرّ ما مرّ -في بداية هذه الرسالة-، خلافا للنافي؛ إذ للمنافاةِ بين النافي والمثبِتِ يُنفى منَ النَّافي ما يُثبَتُ للمُثبِتِ. فألفُ نافٍ كفردٍ.

اعلم أنه قد تصير شدةُ محبة الشيء سببا لإنكاره، وكذا شدةُ الخوف، وكذا غايةُ العظمة، وكذا عدم إحاطةُ العقل..

اعلم أني قد تيقنتُ -كأني شاهدتُ بحدس قطعي- أن جهنم مندمجةٌ بالقوة في بذر الكفر كاندماج شجرة الحنظلة في نواتها.. وأن الجنة مندمجة في حبة الإيمان كاندراج شجرة النخلة في نواتها. فكما لا غرابة في استحالة النواة وانقلابها إلى شجرة الحنظلة أوشجرة النخلة، كذلك لا استبعاد في تحول معنى الضلالة متجسما جهنما تعذِّب، ولا في تمثل أنوار الهداية جنةً تُستَعذب. وفي «اللوامع» نبذة من هذه الشهود في هذا العالم أيضا.

اعلم كما أن الحبة من بذور الحبوبات ونوى الثمرات إذا ثُقبت في قلبها، لا تتكبر بالتنبّت. كذلك حبة «أنا» إذا ثُقبت بشعاع ذكر: الله.. الله.. لا تتعاظم تلك الأنانية متفرعةً بالانتعاش ومتفرعنةً بالغفلة، ومستحصنةً ومستندةً بآثار النوع، ومبارزةً بالعصيان لجبّار السماوات والأرض. والأولياءُ النقشبنديون موفَّقون لفتح حبة القلب وكشف طريقٍ قصير بثقب جبل «أنا» وكسر رأس النفس بمثقاب الذكر الخفي. كما أن بالذكر الجهري تُخرّب طاغوت الطبيعة أوتمزَّق..

اعلم أن أبعدَ وأوسعَ وأرقَّ دوائر الكثرة وطبقاتها يتلألأ عليها أيضا أثرُ الحكمة والإتقان والاهتمام. فإن شئتَ فانظر إلى نهاية ما انبسط وانتشر إليه التكثّر من جلد الإنسان وصورته، لترى كيف يُحَشِّي قلمُ القدرة صحيفةَ جبهته ووجهه وكفيه بخطوطٍ ونقوش وآلات دالات على معاني في روح الإنسان، وعلى طائره المعلق في عنقه المشير إلى القَدر المكتوب في فطرته، حتى لم يترك هذه التحشيةُ منفذا لدخول التصادف الأعمى والاتفاقية العوراء..

اعلم يا من ابتُلي بحب هذه الحياة حتى حسبتَ أن العلة الغائية في الحياة وبقائها، وأن كل ما أودعتْه القدرةُ الأزلية في جوهر الإنسانية وذوي الحياة من الجهازات العجيبة والتجهيزات الخارقة، إنما أعطاها الفاطر الحكيم لحفظ هذه الحياة السريعةِ الزوال، ولأجل البقاء. كلا ثم كلا! إذ لوكان بقاء الحياة هوالمقصود من كتاب الحياة، لصار أظهرُ وأبهرُ وأنورُ دلائلِ الحكمة والعناية والانتظام وعدم العبثية بإجماع شهادات نظامات الكائنات؛ أعجَبَ وأغربَ وأنسَبَ مثال العبثية والإسراف، وعدمِ الانتظام وعدم الحكمة. كمثل شجرٍ -كجبل- ليس لها إلّا ثمرة فردة كخردلة. بل يرجع إلى الحي من ثمرات الحياة وغاياتها بمقدار درجةِ مالكيةِ الحي للحياة وتصرفه الحقيقي فيها. ثم سائر الثمرات والغايات راجعةٌ إلى المحيي جلّ جلاله بالمظهرية لتجليات أسمائه، وبإظهار ألوانِ وأنواعِ جلوات رحمته في جنته في الحياة الأخروية التي هي ثمرات بذور هذه الحياة الدنيوية وهكذا..

إذ كما أن الشخص الموظف بأن يجسّ ويضع إصبعه عند اللزوم على الجهازات التي تتحرك بها السفينة العظيمة للسلطان، لا يرجع إليه من فوائد السفينة إلا بمقدار علاقته وخدمته، أي من الألوف واحد.. كذلك درجة تصرّف كل حي في سفينة وجوده. بل هناك يمكن أن يستحق من الألوف واحدا، لكن لا يستحق بالذات هنا من ملايينِ ملايينِ واحدا أيضا..

اعلم يا قلبي أن لذائذ الدنيا وزينتَها بدون معرفة خالقنا ومالكنا ومولانا -ولوكانت جنة- فهي جهنم. هكذا ذقتُ وشاهدتُ. حتى في نعمة الشفقة كما في «قطرة». ومعرفته تُغني عن كل ما في الدنيا حتى عن الجنة أيضا.

اعلم يا قلبي: إن كل ما يجري في هذه الدنيا له وجهان: وجه إلى الدنيا والنفس والهوى، ووجه إلى الآخرة. فأما الوجه الدنيوي فأعظمُ الأمور وأثقلُها وأَثْبَتُها هوفي نفس الأمر بدرجة من الصغر والخفة والزوال، بحيث لا يساوي ولا يوازي ولا يليق لأن يُشوَّش له القلب «بالمَرَق» والتضجر، والتألم وشدة التأمل..


[1] إن إيضاح هذه المسألة قد ذكر في بيان الطرق الثلاثة في آخر «الفاتحة» في رسالة «أنا» [الكلمة الثلاثون] وفي [اللوامع] في سياحة خيالية ختام «الكلمات». والزنابيل المتدلية إشارة إلى الحقائق القرآنية التي هي الصراط المستقيم.. (المؤلف).