القطعة الثانية من

ذرة من شعاع هداية القرآن

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اعلم أن ناظمَ السماوات والأرض، ومكوّرَ الليل والنهار على جمجمة أرضنا ومهدنا كالعمامة المخططة، كيف يليق بألوهيته أن يفوّضَ بعضَ صفحات العالم إلى ممكنٍ مسكين؟ وهل يمكن أن يتصرفَ بالذات في ما تحت العرش غيرُ ربِّ العرش؟ كلّا. إذ لا تتقاصر تلك القدرةُ عن الإحاطة. فلا فُرجةَ للغير للمداخلة، مع أن عزةَ الجبروت والاستقلالية، ومحبةَ التودد والتعرّف لا تساعد للغير -كائنا ما كان- أن يكون حجابا وواسطةً اسميةً تجلب إلى نفسه أنظار عباد الله.

على أن التصرفاتِ في الكل والجزء والنوع والفرد متداخلةٌ متساندةٌ لا يمكن التفريق ولوبين فاعلين متفقين، إذ ناظِم العالم في عين الوصف يدبر مهدَنا، وفي عين الحال يربي الإنسان، وفي عين الوقت يتصرف في شؤونات الأنواع، وفي عين الآن يصنع حُجيرات البدن، وفي عين الزمان يخلق الذرات بتلك القدرة المتوجهة إلى جميع الصفحات. بل بعين النظم يدبر، وبنفس التدبير يربّي، وفي عين التربية يتصرف ويخلق.

فكما لا يمكن أن تُنور الشمسُ وجهَ البحر دون خدود الحبابات، وعيونِ القطرات، وأناسي الرشاشات. كذلك لا يمكن مداخلةُ شيء من الأشياء في ذرة من حجيرة من عضومن جزئي من ساكني الأرض بغير القدرة التي تكوّر ليلَها ونهارها. ومن صوَّر وأنشأ ونظّم دماغَ الذباب وعينَ المكروب، لا يترك أفعالَك غاربها على عنقها سُدىً ومهملة بل يكتبها في «إمام مبين»، فيحاسبك عليها.

اعلم أن ما يُتحدس ويُرى في كل مصنوع، بل في كل ذرة من التصرف المطلق، والقدرة المحيطة، والحكمةِ البصيرة -بجميع ما يتعلق بها وما يُنظَّم معها في سلك- برهانٌ باهر وآية بينة؛ على أن صانعَ كلِّ شيء واحدٌ لا شريك له، وليس لاقتداره توزيعٌ ولا انقسام ولا تجزؤ اللازمةُ للانتهاء، إذ لوكان الممكن صانعا، لكان في تصرفه توزيعٌ وفي قوته انقسامٌ وفي توجّه اقتداره واختياره تجزؤ، مع أن ما يتعلق من الثلاثة بالنحلة مثلا بحيثية لا يمكن -لوكان من الممكن المتجزي المتجاوز- أن لا يتجاوز. مع أن النحلةَ تتكشف عن اقتدار صانعها بوجهٍ لا يتعسر على ذلك الاقتدار خلقُ عوالمَ. فكيف ينحبس فيها ولا يتجاوز إلى المجاور، فلا بد بالضرورة أن يكون الصانعُ واجبَ الوجود واحدا لا نهاية ولا حدّ ولا انقسام لقدرته التي تجري في ميزان قدَره، وتُكتب على مسطره.

اعلم أن كونَ البعوضة والعنكبوت والبرغوث وأمثالها أذكى بمراتب، وأجزَل فطرةً، وأتم صنعةً من الفيل والجاموس والإبل، مع قصر أعمار هؤلاء، وعدم نفعها ظاهرا، بخلاف أولئك.. برهان باهر وآية نيّرة على أن الصانع لا كُلفةَ ولا معالجة ولا تعمُّل في خلقه الأشياءَ، بَل يقول: كن فيكون، ولا يَحكم عليه شيء، يفعل ما يشاء لا إله إلّا هو.

اعلم أن شُميسةَ الحباب كما أنها جزء كذلك جزئي؛ إذ هي شمسٌ بالهوية الظلّية دون الماهيةِ الأصلية فهي لا هي ولا غيرُها. فاشتراكُ الكائنات في الشمس لا ينقص من حصة الحباب شيئا، سواءٌ وجودُها وعدمها بالنسبة إليه. فللحباب أن يقول: الشمسُ بالتمام لي وفيّ، متوجهة إليّ.

اعلم أن ما يتصاغر ويتباعد عن دائرة الاسم الظاهر العظيم الواسع يتقارب ويتقيد بدائرة الاسم الباطن النسبي أوالحقيقي ﴿وَاللّٰهُ مِنْ وَرَٓائِهِمْ مُحيطٌ﴾ (البروج:20) بأسمائه. فالإنسان بذهنه الجزئي المحدود المقيد الفاني فيما تعلق به، ينظر إلى عظمته تعالى وتدويره للسيّارات حول الشمس، فيستبعد منه أن يشتغلَ بخلق الذباب مثلا، بقياس الواجب على الممكن المسكين قياسا شيطانيا. فمن هذا القياس ينشأ ظلمٌ عظيم للمخلوقات الصغيرة، وتحقير لهم؛ إذ ما من شيء إلّا ويُسبّح خالقَه، ولا يتنـزل لأن يكون له ربٌّ غيرُ مَن صيّر الدنيا بيتَه، والشمسَ سراجَه، والنجومَ قناديلَه، كأنه ليس في الدنيا إلّا ذلك الشيء الحي. فلا يجوز  للكبير أن يتكبَّر على الصغير، إذ الوجود كالحق، لا فرق بين القليل والكثير. وكم من قليلٍ كثيرٌ، وكثيرٍ قليلٌ.

اعلم أن كل شيء -من شمس الشموس إلى ثمرة الشجرة- إذا أُمعن النظرُ يُرى أنه انتُخب واختير ومُيّز مما لا يحد. فأي شيء كان ينظر إلى ما لا يتناهى، فلا يَتصرف فيه بالذات إلّا من لا نهاية لتجليات صفاته. فتأمل!

اعلم أن العموم لا ينافي القصدَ الخصوصي والعنايةَ الشخصيةَ في الإنعام، إذ نِعمُ الله ليست مثلَ مال الوقف أوماء النهر، حتى يُرى إنعاما على الإطلاق، وحتى لا يُحِس الشخصُ في نفسه احتياجا إلى الشكر الخاص. وأن التعيّنات والخصوصيات ليست كالأواني والقوالب الحاصلة أوّلا، حتى يكون التعيّن، هوالذي يحصّل وجهَ الإنعام للمتعيّن. إذ المنعمُ الحقيقي جل شأنه يصنع لكل فرد قصعةً تناسبُه، ثم يملؤها من طعام نعمته فيحسنهما بالقصد الخصوصيّ للشخص باسمه ورسمه. فكما وجب الشكرُ على مطلق النعمة، وجب على الخاصة بالخصوصي.

اعلم أن الكتابَ الكبير المشهود «أي العالَم» والكتابَ العزيز المسموع «أي القرآن» بَخسَ أكثرُ البشر حقَّهما، إذ فيلسوفهم المتفكّر لا يعطي بالذات «للواجب» إلا جزءا بسيطا وقشرا رقيقا أوتركيبا اعتباريا، ثم يقسم الباقي على علل موهوماتٍ، بل ممتنعات، وأسماءٍ بلا مسميات ﴿قَاتَلَهُمُ اللّٰهُۘ اَنّٰى يُؤْفَكُونَ﴾ (التوبة:30). وأما الموحّد، فيقول: الكل مالُه ومنه وإليه وبه. أما القرآن، فأديبُهم المتخيل لا يعطي لذي العرش من ذلك القصر المحتشم من أساساته المتينة ودساتيره المكينة وأحجاره المذهبة وأشجاره المزهرة إلا بعضَ نقوش النظم، وقسما من المعاني.. ثم يقسم الباقي من تلك النجوم السماوية على ساكني الأرض بدسيسةِ تلاحقِ الأفكار. (تُوه) على عقله الذي خيل إليه تطاولَ يد البشر إلى النجوم بتبديلها والتصرف في أجرامها. مثله كمثل من يعطي لفياض البحر بعضَ الحبابات. والمؤمن المحقق يقول: كل ما اشتمل عليه من أول الأساسات إلى آخر نقوش النظم منه وله. وأن القرآنَ لُفَّ في أساليبَ هي معاكِسُ ألوفِ مراتبِ مقتضيات المقامات وحسيات المخاطبين. وكذا مرّ القرآنُ على سبعين ألف حجاب، وتداخَل إلى أعماق القلوب والأرواح، وسافر ناشرا لفيضه ومونسا بخطابه على طبقات البشر، يفهمُه ويعرفُه كلُّ دور، ويعترف بكماله ويقبله كلُّ قرن. ويستأنس به ويتخذه أستاذا كل عصر، ويحتاج إليه ويحترمه كلُّ زمان بدرجة يتخيل كلٌّ: أنه أُنزل له خاصة. فليس ذلك الكتاب شيئا رقيقا سطحيا، بل بحرٌ زخّار وشمسٌ فيّاض وكتابٌ عميق دقيق.

اعلم، انظر إلى الماء والهواء كيف خُلقا سهلَين سلسَين، فسبحان من يرزق ويلقم المكروبَ والفيل. فانظر طباخَ القدرة كيف صنع طعاما لا يضيق عن لقمته فمُ النحل ويملأ فمَ الفيل، ولا يتكبر على فم المكروب ولا يتكبر عليه فمُ الكركدن، ويقول كلاما يسعه صماخُ الذرة ويمتلئ به أُذن الشمس، ويعطي للكلمة التي تتكلم به تناسلا واستنساخا، بوجهٍ يمتلئ بعين تلك الكلمة كهفُ الجبل فيجيبك بالصدى، ولا تتعاظم على الحجيرة التي في صماخ البعوضة.

اعلم أنه يليق أن يُتصوَّر وقتَ الصلاة عالمُ الإسلام مسجدا، محرابُه مكّة وآية المحراب الكعبة، يصلي في ذلك المسجد أجيال. فإذا سجدوا في الفَناء، يجيء أجيال أُخر فيصلون فيذهبون، فيُملأ ويُفرغ دائما. فالأعصار كدقائقِ وقت العصر في مسجد «بايزيد».

اعلم يا سعيد! من السعادة أن تتركَ اليوم على الكرم منك -وأنت عزيز مستبقيا للفضيلة- ما يتركك غدا على الرغم منك وأنت ذليل، مبقيا عليك الخسارة؛ إذ إن تركتَ الدنيا انسللتَ من شرها فأورِثتَ خَيرَها، وإذا تركَتْك انسللتَ من خيرها وأثمرتْ
لك شرَّها.

اعلم أن المدنية الفاسقة أبرزت رياءً مدهشا يتعذر الخلاصُ منه على أصحاب المدنية، إذ سمّت الرّياء بـ«شان وشرف» وصيّرت المرءَ يرائي للمِلَل ويتصنع للعناصر كما يرائي للأشخاص، وصيّرت الجرائدَ دلّالين له، وجعلت التاريخ يصفق ويشوق بالتصفيق، وأنْسَت الموتَ الشخصيَّ بحياة العنصرية المتمردة بدسيسة الحَمية الجاهلية الغدارة.

اعلم أن جمعيةَ النساء مذكّر يتخاشن، كما أن جمعية الرجال مؤنثة تتلاين، بإشارةِ: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ (يوسف:30) و﴿قَالَتِ الْاَعْرَابُ (الحجرات:14). وجمعيةَ الضعفاء قوي، وجمعية الأقوياء ضعيف.

اعلم أن في انكسار الجِنَّة وخَفْضِها، انفتاحَ الجَنَّة وفَتحَها.

اعلم أن من أظهر براهين النبوّة الأحمدية التوحيدَ. إذ الرافعُ لأعلام التوحيد بمراتبه على رؤوس الكائنات، ودلّال التوحيد بمقاماته على أنظار العالم، ومفصِّلُ ما أجمله الأنبياءُ عليهم السلام، سيدُنا محمد عليه الصلاة والسلام. ففي حقيقة التوحيد وقوته حقيقةُ نبوته وحقانيتها.

* * *

القطعة الثالثة من

ذرة من شعاع هداية القرآن

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اعلم أنه يلزم لمثل هذه التزيينات والكمالات والمناظرِ الحسنة وحشمة الربوبية وسلطنةِ الألوهية من مُشاهِدٍ لها، ومتنـزِّهٍ بها، ومتحيّرٍ فيها، ومتفكر ينظر إلى أطرافها ومحاسنها، فينتقل منها إلى جلالة صانعها ومالكها واقتداره وكماله.

نعم، إن الإنسان -مع جهالاته وظلماته- له استعدادٌ جامع كأنه أنموذجُ مجموع العالم، وأُودع فيه أمانةٌ يفهم بها الكنـزَ المخفي ويفتحه. ولم يُحدَّد قواه، بل أُرسلَت مطلقةً فيكون له نوع شعور كلي بشعشعةِ كمالِ حشمةِ جلالِ سرادقِ جمالِ عظمةِ ألوهيةِ سلطان الأزل. وكما أن الحُسن يستلزم نظرَ العشق، كذلك ربوبيةُ النقاش الأزلي تقتضي وجودَ نظر الإنسان بالتقدير والحيرة والتحسين والتفكر، وتستلزم أيضا بقاءَ ذلك المتفكر المتحير إلى الأبد ورفاقتَه لمَا تحيّر فيه في طريق أبد الآباد.

نعم، إنّ مَن زيّن وجوهَ الأزاهير كما أوجد لها عشاقا مستحسِنين من أنواع الذبابات والعصافير، وزيّن خدودَ المُلّاح فأوجد لها أنظار المشتاقين الوالهين.. كذلك من زيّن وجهَ العالَم بهذه الزينة الجاذبة، ونوّر عيونَه بهذه المصابيح المتبسّمة وحسّنه بأنواع المحاسن المتلألئة، وأدمج في كل نقش بكمال الوضوح توددا وتعرفا وتحببا، لا يخليه من أنظارِ مشتاقين متحيرين متفكرين منجذبين عارفين بقيمة كل؛ فلجامعية الإنسان صار الإنسان الكامل سببَ خلق الأفلاك علّةً غائية له وثمرة له.

اعلم أن من كمال السعادة واللذة الحقيقية، تركَ كل شيء حتى الوجود لأجل أنه جل شأنه هوهو، ولأجل أنه واجب الوجود، ولأجل أنه الكامل المطلق، ولأجل أنه ذوالجلال والجمال المطلق، فليكن له فداءً كلُّ شيء لي، وكُلّي والكلُّ وكلُّ شيء.

اعلم أن التوافقَ بين الأشياء كما يدل على أن الصانع واحدٌ أحدٌ، كذلك إن التخالف المنتظَم بينها، يدل على أن الصانع مختارٌ حكيمٌ. مثلا: توافقُ أفراد الإنسان بل الحيوان في أساسات الأعضاء. لاسيما التماثل في الأعضاء المثناة في الشخص برهان باهر على وحدة الخالق، وتخالفُها في التعيّنات والصور المتقنة آية نيّرة على اختيار الخالق وحكمته.

اعلم أن أظلم الخلق الإنسانُ. فانظر ما أشدَّه ظلما! فلشدة حبه لنفسه لا يعطي الأشياءَ قيمةً إلّا بمقدار خدمتها لنفسه، وينظر إلى ثمرتها بمقياس نفعها للإنسان، ويظن العلّةَ الغائية في الحياة عينَ الحياة. كلا، إن للخالق في كل حي حِكَما تدِقّ عن العقول. لِمَ لا يجوز أن يكون هذه الحيوانات القصيرةُ الأعمارِ والحوينات السريعة الزوالِ مباديَ ومساطرَ ومصادرَ وأساساتٍ ونواتاتٍ لغرائبَ مثاليةٍ وبرزخية وملكوتية وتجليات سيالة وترشحات وثمرات لتصرفات القدرة في الغيب؟..

……..

اعلم أن الله بكمال قدرته صيَّر جميعَ ذرّات الكائنات عبيدا لشريعته الفطرية وأوامره التكوينية. فكما يقول للذباب كن هكذا، فيكون هكذا.. كذلك يقول بعين السهولة لجميع الحيوانات كونوا بهاتيك الصفات وبهاتيك الأشكال وبهاتيك الأعمار، فيكونون كما أُمروا بلا كلفة!

اعلم أن القوةَ والقدرة التي أخذت هذه الأجرامَ في قبضتها، ونظّمَتها كتنظيمِك فصوصَ الجواهر على مرآتك بيدك، لا تعجز عن شيء ولا تساعد لمداخلة شيء ما في دائرة تصرفها.

اعلم أنه كما لا ريب في اتحاد القطرة مع البحر في كونهما ماء، ومع النهر في كونهما من السحاب، واتحادِ شُميسة القطرة مع شمس السماوات، واتحادِ السمك مثل الإبرة مع السمك الذي يسمّى بـ«بالينه بالغى» في النوع، واتحادِ الحبَّة مع الصُبرة.. كذلك إن الاسمَ المتجلي على حُجيرة في جزء من الجزئيات متّحدٌ في المسمى مع الاسم المحيط بالكون من الأسماء الحسنى، كالعليم بكل شيء مع الخالق لهذه الذرة، والمصوّر لهذه النحلة، والمنشئ لهذه الثمرة، والشافي لهذه العلة، بل محال أن لا يكون الواسعُ الأوسع عينَ الاسم الجزء الجزئي.

اعلم أنه لأن العطالة والسكون والتوقفَ والاستمرار على طرز في الممكن -الذي ظهور وجوده بتغيره- نوعُ عدمٍ في الأحوال والكيفيات، والعدم ألمٌ محض وشرٌ صرف.. كانت الفعاليةُ لذةً شديدة والتحولُ في الشؤون خيرا كثيرا، ولوكان ألما ومصيبة. فالتأثرات والتألمات حسنةٌ من جهات، قبيحةٌ من جهة.

فالحياة التي هي نور الوجود تتصفى بالتأثرات، وتتصَيقل بالتألمات.. فلا تنافرها الحياة، فلا توزَنُ بميزان البقاء العائد للحي، بل بميزان الظهور والمعكسية لتجلّي شؤون «المحيي» جلَّ شأنه، إذ للمحيي في الحياة ألوف حصص، وللحي حصة عرَضية. كمالُها في تبعيتها لحصص المحيي.

فتزيّن الحباب بشُميسيته في آنٍ سيال لا يعطي له حقا بدرجةٍ يعارض الشمسَ في حقوق تجلياتها المشحونة بالحِكم الجسيمة. إلّا أن حباب الإنسان إذا آمن ينقلب بالإيمان زجاجةً كأنها كوكبٌ دريّ يوقد مصباحها من أشعة شمس الأزل.

اعلم أنه كيف يمكن أن يصنع أحدٌ جميع أساسات قصر وأثاثاته وتركيباته المتوجهةِ جميعا إلى بناء القصر الواحد، ولا يكونَ القصرُ علّةً غائية لذلك الصانع، ولا يكونَ ثمرات القصر عائدة إليه. أيها الإنسان! الأرض قصر والعالَم قصر.

اعلم أن الله جل جلاله تعرّف إلينا بخلقه ومصنوعاته، وتودّد بنعَمِه وإنعاماته، وتحبّب برزقه ورحماته، ففعل هاتيك لتلك، بل كأنها هي. وهكذا تجلَّى كلُّ اسم من أسمائه الحسنى. فمن تفَهّمَها منها كما هوحقها -بتفهيمه تعالى- ثم فهّمها لغيره كافةً -بإذنه جلّ شأنه- يحق له أن يقال في حقه: «لَولاكَ لَولاكَ لمَاَ خَلَقْتُ الأفلَاك» وما هوإلا الرابط المتين الأمين بين السماوات والأرض، الذي ارتبط العرش بالفرش بالحبل المنسوج على قلبه الذي هوأشرف الكائنات جنسا، وأكملُ ذوي الحياة نوعا وسيدُ النوع الذي شُرّف بالخلافة شخصا، وهوسيد المرسلين وأمام المتقين، حبيب رب العالمين محمد عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام أبد الآبدين.

* * *


خاتمة

لله دَرُّ العلّةِ والمصيبة والذلّة، ما أحلاها وهي مُرّة! إذ هي التي تُذيقُك لذةَ المناجاة والتضرع والدعاء.

عن ابن سمعون : «كل كلام خلا عن الذكر فهولغو».

اعلم أني على جناح السفر إلى الآخرة، فلكثرة ذنوبي لا يكفي عمري بل أعمار للاستغفار، فأُوكلُ كتابي هذا وأُوصيه بأن ينادي مستغفرا بعدي بدلا عني دائما بهذا (الفرياد):

(أي واه) وا اسفا وا حسرتا وا خسارتا وا ندامتا! على تضييعي لعمري وحياتي وصحتي وشبابي، في المعاصي والذنوب والهوسات الزائلة المضرة، فأورثَتْ في أوان شيبي ومرضي آثاما وآلاما. وأنا بهذا الحمل الثقيل والوجه الأسود والقلب المريض متقرب إلى باب القبر للفراق الأبدي من الدنيا الفانية.

   فيا ذلّي إذا ما قال ربي                إلى النيران سوقوا ذا المرائي!

إلهي لا ملجأ ولا منجا إلا باب رحمتك.

 إلـهي عبدُك العاصي أتــاك  مقرّا بالذنوب وقد دعاك

فإن ترحم فأنت لذاك أهلٌ  وإن تطرد فمَن يرحم سواك

يا رب ﮊكناه ﮊشت خود منفعلم

أز قول بد وفعل بد خود خجلم

فيضي بد لم زعالم قدس بريز

تا محوشود خيال باطل زدلم([1])

«أستفتح باب الرحمة بنداء مولانا»

أى خدا مَن اللّه اللّه مى زنم

بردر توشيئا للّه مي زنم

أى خدا باسوى خود راه نما

زانكى من كم راهم راه مي زنم([2])

إلــهي لستُ للفردوس أهلا   ولا أقوى على نار الجحيم

فهبْ لي توبةً واغفر ذنوبي  فإنك غافر الذنب العظيم

* * *


في (ط1):

هذا تقريظ أخي في الله الحسيب النسيب

السيد محمد شفيق الأرواسي

باسمه سبحانه

﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾

والصلاة والسلام على خير خلقه..

ومن المعروض لدى ناظر آثار أستاذنا بديع الزمان، الملهَمة من فيوضات آيات القرآن، والمستفادة من إشاراتٍ تهدي إليها نكاتُ بلاغة الفرقان التي لا يدركها إلّا مَن منّ عليه الملك المنان، بانكشاف اللطائف الأمرية، وتوسيع الدائرة العقلية، مع صيقلة سائر مرآة الحواس والوجدان بأن خلاصة ما لخصته من الإخلاص في حقها، أن كلا منها حصن حصين في مقابلة أشرار أعداء الدين، بل سد صيني لا يؤثر فيه وساوس النفس، ودسائس الشيطان، وتلقينات عبدة الطبيعة، وأباطيل أفكار الفلاسفة الضالين.. وأنه يجري من منابع مباحثها ماءُ حياة تنموبه العقدة الإيمانية وتنطفئ منه الشرارات النفسانية، فلابد لكل طالب من السعي البليغ في مطالعتها كي تحصّن بما حصله من براهينها وتشفي بما ناله من ذوقياتها ودقائقها.. وإن وجد تعسرا في فهم معانيها، فلا يكن سببا لفتور السعي فيها، فإن صداق الفوائد الجليلة إنما هوالمساعي الكثيرة، ولا يلومنّ مؤلفها أيضا، لأن صعوبتها غير اختيارية، لما فيها من مسائلَ موضوعاتُها من الخوارق للعادات، وقضايا ذوقيةٍ لا يسعها ضيق العبارات، وبراهينَ من نتائجَ بدهية عنده وعند الغير من النظريات، ومفهومات متناسبة ومتناسلة قد نصبت على بعضها نُصُب وترك في البعض الآخر الآياتُ، لأن بُعد المسافة لا تكفيها راياتُ الجُمَل والكلمات وغيرُ ذلك من الأسباب مثل بدائع التشبيهات وغرائب التمثيلات.

الحقير

محمد شفيق


[1] [[ يا رب إنني متألم نادم على سيئاتي وآثامي

         وخجِلٌ من أقوالي وأفعالي السيئة

         فاسكب من عالم القدس فيضا على قلبي

         كي يمحومن قلبي الخيال الباطل ]]

[2] [[ يا الهي إنني أُردد: «اللّه، اللّه»

         وأنادي وأقول شيئا في سبيلك على بابك

         يا إلهي اهدني الطريق إليك

         فقد ضللت ولكني سائر في الطريق ]]