اعلم([1]) من توكل على الله فهو حسبه:

﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ؛ لأنه مالكُنا ومالكُ الكل، فالكلُّ كمُلكِنا إن كنّا له تعالى.

﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ؛ لأنه الكامل المطلق والكمال محبوب لذاته، من شأنه أن يُفدَى له الوجود.

﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ؛ لأنه الجليل الجميل ذوالكمال والجلال والجمال المحبوبُ لذاته، فلِشوق تجديد تجليات جماله نموتُ ضاحكين ونحيا مسرورين.

﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ؛ لأنه الواجبُ الوجود الموجِد لكل موجود، فعلمُنا بوجوب وجوده يعطينا كلَّ الوجود، وبعدم العلم يصير في يدنا نقطةُ وجود يتحامل عليها أعدامٌ هوملء الدنيا.

﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ: لأنه القديم الأبدي الدائم الباقي ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلَّا وَجْهَهُ (القصص:88).

﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ؛ لأن الدنيا فانية والحياة زائلة.

﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ؛ لأن بدونه يصير كلُّ لذائذ الدنيا منغّصةً بآلام هائلة، وبالتوجه إليه والارتباط برحمته لا تزيد اللذائذَ الزائلة إلا لذةُ تجدّد الأمثال خالصة عن آلام الزوال.

﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ؛ لأن به أنوارَ الوجود وبدونه ظلمات الأعدام الهائلة.

﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ؛ لأنه إن عرفناه وشكونا إليه وأرضيناه كفانا كلَّ حاجاتنا إلى أنواع الكائنات، وأما إذا توجّهنا إلى الأسباب -التي حاجاتُنا عندها في النظر الظاهري- وشكونا إليها فمع أنها عميٌ صمٌ لا تسمعُنا ولا ترانا، تتشوش علينا الأمورُ وتتشتت بنا الطرقُ، كمثل مَن شكى إلى سلطان فأنفَذَ في آن، ومَن شكى إلى كلِّ أهل البلد فردا فردا ليتفقوا على إمداده. ولواتفقوا ما اتفقوا إلا في زمان طويل وتكلفٍ عظيم!!

اعلم أن من لطائف إعجاز القرآن ومن دلائل أنه رحمةٌ عامة للكافة: أنه كما أن لكلِ أحد من العالم عالَما يخُصُّه، كذلك لكلٍّ باعتبار مَشْرَبه من القرآن قرآنٌ يخُصُّه ويربّيه ويُداويه.

ومن مزايا لطف إرشاده: أن آياته مع كمال الانسجام وغاية الارتباط وتمام الاتصال بينها، يتيسرُ لكل أحدٍ أن يأخذَ من السُّوَر المتعددة آياتٍ متفرقةً لهدايته وشفائه، كما أخذَها عمومُ أهل المشارب وأهل العلوم؛ فبينما تراها أشتاتا باعتبار المنازل والنـزول، إذن تراها قد صارت كقلادةٍ منظمةٍ ائتلفت واتصلت مع أخواتها الجديدة. فلا بالفصل من الأصل تنتقص، ولا بالوَصْل بالآيات الأُخر تَستوحش. فهذا السر يشير إلى أن لأكثر الآيات الفرقانية مع سائر الآيات مناسباتٍ دقيقةٍ يجوز ذكرها معها واتصالُها بها.

فكما أن سورة «الإخلاص» اشتملت على ثلاثين سورة بضمّ جُمَلِها بعض إلى بعض دليلا ونتيجةً، كما ذكر في «اللوامع» كذلك القرآن الكلّي الجزئي والنوع المنحصر في الشخص يشتمل بجامعية الآيات للمعاني المتعددة ومناسبة الكل للكل يحتوي على ألوفِ ألوفِ قرآنٍ في نفس القرآن. فلكلِّ ذي حقيقة فيه كتابٌ يخصُّه ومن اتبعه.

اَللَّهُمَّ يا منـزلَ القرآن بحقّ القرآن اجعلْ القرآنَ مونِسا لي في حياتي وبعد مماتي ونورا في قلبي وقبري..

لا إله إلّا الله مُحمّدٌ رسُولُ الله..

الوداع([2])

* * *


ذيل الذيل

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الرحمنِ الذي من لطائف عظائم ثمرات طوبى رحمته: «سيدُنا محمد» عليه الصلاة والسلام والجنّةُ المتدلّيان على الدارين.. والقديرُ الذي هذه الموجوداتُ الجديدةُ الجلية، والأجرامُ العلويةُ في بستان الكائنات شواهدُ ربوبيته، وهذه النباتاتُ المتلونة والحيوانات المتنوعة في حديقة الأرض خوارقُ صنعتِه وبراهينُ أُلوهيته، وهذه الأزهارُ المنوّرةُ والأشجارُ المُثمِرةُ في هذه الجنان معجزاتُ قدرته ودلائلُ رحمته، وهذه الشجرةُ بأوراقها وأزهارِها وأثمارها في هذه الروضة معجزاتُ قدرته.. تشهد كلٌّ على أنه على كل شيء قدير.

فالواقعاتُ الماضية معجزاتُ قدرتهِ، تدلُّ على أنه قادرٌ على كل الممُكناتِ الآتية لم يَخرج فيما مضى ولن يَخرجَ فيما يأتي شيءٌ من حُكم قُدرته. تتساوى بالنسبة إليه الذراتُ والشموسُ.. وهوالحقُّ المُبين الواحدُ الأحدُ الذي تُنشدُ ذراتُ الكائناتِ ومركّباتُها بدلالاتها المختلفة وألسنتها المتنوعة مشيرةً إلى جماله المطلق:

عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ وَكُلٌّ إلى ذَاكَ الْجَمَال يُشِيرُ

ويتلو كتابُ الكائنات بأبوابه وفصوله وصحفه وسطوره وجُمله وحروفه آيات وجوبه ووحدته، وتقرأ سطوره على العقول:

تَأَمَّلْ سُطُورَ الْكَائِنَاتِ فَإِنَّهَا مِنَ الْمَلإِ الأعلى إلَيكَ رَسَائِلُ

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..

اعلم يا سعيد الشقي! لا تنظر إلى ما ليس لك، بل انظر إليك، أيُّ شيء أنت؟ وما أنت؟ وبِمَ تستند؟ إذ أنت عَجزٌ متجسّدٌ واحتياجٌ محضٌ ومجسّمُ إنعامٍ ونومٌ مموَّهٌ باليقظة.

فالعجز جسدُك والاحتياجُ روحٌ فيه يتحرك، والإنعام جسمك، وحياتُك نومٌ تسكن به. «أي واه» واشقاوتا أغرقُ في قطرة تصير بحرا عليّ، وأغيبُ في آن يصيرُ كالأبد، وأظن لمعةَ هذه الحياة شمسا شارقة!

أيها السعيد المسكين! ما رأسُ مالِك إلا ستون دينارا تقريبا، أخذتَ خمسة وأربعين فصرفتَها كلَّها لمصارفِ يوم في خانِ الدنيا، ونسيتَ بيتكَ وما يلزم له فصار مالُكَ عليكَ دَيْنا ونارا، وما بقيَ من خمسة عشر دينارا مجهولٌ لا تدري أتأخُذُها أوبعضَها أولا تأخذ شيئا منها. فكلما أخذت شيئا منها فاصرفه لبيتك الدائمي. ولا أقلّ استَبْقِ لكَ ثُلثه ليَصيرَ لك دِينا ونُورا. فما أجهلكَ وأشدكَ خسارة! صرفتَ كلَّ المأخوذ ليوم زائل وما بقي في يدك لمقامك الباقي إلا أقلُّ قليل، وأنت راحلٌ غافلٌ؛ كانت لك ثلاث درجات: خطوت على اثنتين بخروجك من المنـزل والبلد، فرفعتَ قدمك لتخطى على الدرجة الثالثة بالخروج من الدنيا الفانية.

اعلم أنه كَبُرَتْ كلمةً تخرجُ من أفواه الناس، إذ يقولون: «تشكَّل بنفسه».. و«اقتَضَتْهُ الطبيعة» و«أوجَدَتْهُ الأسباب». فهذه الجمل الثلاث باطلة، ومن ظروف المحالات: إذ إنك موجود، فإما أنتَ مصنوعُك بالنظر إلى الجملة الأولى.. وإما مصنوعُ أسباب العالم كما اقتضته الثانية.. وإما مصنوعٌ بطبيعة موهومة، وقوة عمياء كما تدل عليه الثالثة.. وإما مصنوع الله كما يستلزمه الحق والحقيقة.

أما الأوّل: فمحالٌ بوجوهٍ غير محصورة:

منها: لابد أن تعطيَ لكل ذرةٍ من ذراتك عينا ترى كلَّكَ، بل كلَّ الكون وشعورا كذا، وهكذا ممّا يستلزمه كمالُ صنعتك لنظر نِسَب الجزء إلى نقوش الكل.

ومنها: لابد أن توجَد فيك عددَ المركبات المتداخلة المتصاعدة المتنازلة في ذراتك قوالبُ كقوالب الطبع من الحروف الحديدية المصنوعة أيضا، لولم تُكتب بقلم القدير الأزلي الواحد.

ومنها: لابد أن يكون كلُّ ذرة بسر وحدة الأثر حاكمةً على الكل ومحكومة للكل، كالأحجار في البناء المعقّد بفرض نفي الباني.. وكذا ضدا ومثلا، ومُطلقةً ومقيدةً، ومصدرا ومنبعا لصفاتٍ تستبعد وجودها حتى فيمن يطوي السماء كطيّ السجل!

وأما الثاني: فمحالاته لا تحصى:

منها: أن المواد التي صُنِعت منها كزجاجات الأدوية في «صيدلية»، فإن أمكن عندك أن يخرج بانصبابٍ وسيلان بلا مداخلة أحدٍ من كل زجاج مقدارٌ معين بميزان حساس، ثم تجتمعَ المقاديرُ المتفاوتة لتشكيلِ علاج الحياة أوتركيبِ معجون حيويّ، أمكنَ لك أن تتوهم صدورَك من أسبابٍ جامدة.

ومنها: صدور شيء واحدٍ بكمال الانتظام من أسباب غير محدودة جامدِين متشاكسِين عُميا صما مترددين بين الإمكانات. تزداد بالاختلاط أعمَيَتُها وأصميّتها، ومع أن مباشرتَها بظاهر الشيء. والحال أن باطنه ألطفُ وأكمل صنعة، فمحاليةُ صدورك منها أظهرُ من أن يخفَى.

ومنها: أن اجتماعَ تلك الأسباب الغيرِ المحصورة بكمال الاتفاق والانتظام بميزان الحاجة في حُجيرة من حُجيرات عينك ليس بأسهلَ من اجتماع أركان العالم بوجوده الخارجي بأجرامه العظيمة في كفِّك، بل في ظُفركَ، بل في حُجيرةٍ منه؛ إذ مَن يعمل في بيت، جاز اشتمالُ البيت عليه إن كان العامل ماديا، فما دام العالَم بأجزائه عاملا في جزئكَ جاز دخوله في ذرتك. وهذه سفسطة يخجل منها السوفسطائي.. وهكذا من المحالات المتسلسلة والممتنعات العقلية والأباطيل التي تمجّها الأوهام.

والاحتمال الثالث: وهوتأثير الطبيعة، فأبطَلُ وأفسد. إذ الطبيعة لها ظاهرٌ عُرفي موهوم ظَنّته الغفلةُ والضلالة حقيقةً، ولها باطنٌ هوالصنعة الإلهية والصبغة الرحمانية.

وأما القوةُ فحقيقتها تَجلّي قدرة الحكيم العليم الخبير المريد. وأما ما يصوِّره نظرُ الغفلة والتغافل من الصانع الواحد وما اتصل به من جناحَي التصادف الأعمى والاتفاقية العوراء.. فمن مخترعات الشياطين بالاضطرار الناشئ من الضلالة.

ولقد حققنا في «نقطة، وقطرة وذيلها، وشمة، وذرة، وحبة وذيلها» بما لم يُبق شبهةً: أن هذه الصنعة الخارقة لا تصدر إلاّ من قدرةِ خبيرٍ بصيرٍ، يتصف بجميع أوصاف الكمال.

فأين يدُ الممكن المسكين المقيد المحدودِ الجامد الكثيف من نسج حُلَّة الكائنات؟! وأين يدُ البعوضة من نسج قميصاتٍ مطرزات منقشات لَبِستْها هذه العوالم؟!

فلم يبقَ إلّا أن تكون أنتَ وكلُّ شيء مصنوعَ الصانع الأزلي الذي شواهدُ خلاقيته بعدد الموجودات:

منها الكائنات بجميع ذراتها ومركباتها. كُلٌّ يشهدُ عليه بخمس وخمسين لسانا كما في «قطرة».

ومنها: القرآن مع كل كتب الأنبياء والأولياء والموحّدين، مع الآيات التكوينية في الكون.

ومنها: سيدُ الأنام مع كل الأنبياء، والأولياء والمَلك..

ومنها: ما في الجن والإنس من الفطرة بأنواع احتياجاتها..

ومنها: ﴿شَهِدَ اللّٰهُ اَنَّهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هو﴾ (آل عمران:18).

فمع ما سمعت: فاعلم أن مَثَل إسناد الصنعة إلى الممكن على الوجوه الثلاثة الأُول، وإلى الواجب كما هوالحقُّ؛ كَمَثلِ الشجرة بأثمارها إن أسندتَها للوحدة، بأن أسندتَها بقوانين النموإلى جرثومها المستمد من النواة الممتثلة للأوامر التكوينية المُفاضة من أمر «كُن» الصادر من الواحد الواجب. فالشجرةُ بجميع أجزائها وأوراقِها وأزهارها وأثمارها كثمرةٍ واحدة، ولا فرق بين شجرة ذات ثمرتين كخردلتين، وشجرة كجبل ذات أثمار غير محدودة من الجوز الهندي لسر مجهول([3]) في وجود السهولة واليُسر في الوحدة والاتفاق، حتى في تشريك المساعي وتوحيدها بتقسيم الأعمال.. ووجود الصعوبة والعسر في الكثرة والتشتت.

وأما إذا أُسندَت إلى الكثرة الإمكانية وغيرِ ما عيّنه الصانع؛ لاحتاج كُلُّ ثمرةٍ وكلُّ زهرةٍ وكلُ ورق وكل غصن إلى كلِّ ما يحتاج إليه كلُّ الشجرة، لاندماج أنموذج الكل في جزءٍ جزءٍ. فانظر ما تَرَى: ما بين الشقّين، كما بين الوجوب والامتناع؛ إذ سهولة الأوّل بدرجةٍ جاز أن يقال يجب أن يكون هكذا.. وصعوبة الثاني بدرجة تضطرنا أن نقول: يمتنع أن يكون كذا.

الحاصل: إن أعطيتَ التصريف لغيره تعالى لزمك: إما أن تجعلَ كلَّ حُجيرة من حُجيرات أجزائك محيطةً بصفاتها بالكائنات، إن أسندتَها إلى نفسها.. وإما أن تجعل كلَّ حُجيرة كحُجرة تجتمع فيها مجموع أسباب العالم العاملة فيها، إن أسندتَها إلى الأسباب؛ لأن وحدةَ الحجيرة إلى أن تصلَ إلى وحدة العالم تدل على وحدة الصانع، إذ الواحد لا يصدر إلا عن الواحد، لاسيما الحجيرة التي لا تسع إصبعين لبعوضتين، فكيف تسع ما لا يسَعُه كلُّ الكون من تصرف إلهين؟ فدليل الوحدة هوالوحدة. وزجيجة -كخردلة – يمكن أن توجد فيها الشمسُ بضيائها وألوانها وحرارتها بالتجلي بكمال السهولة، ولا يمكن وجود خردلتين في خردلةٍ بمصدريتها لهما.

فكما أن الوجودَ الخارجي أثبتُ وأثقلُ وأحكمُ من الوجود المثالي، فتسع ذرةُ ذاك جبلَ هذا، وشمسُ هذه تدخل في لمعةِ ذاك.. كذلك الوجود الوجوبي أثبتُ وأرسخُ وأرزنُ وأرصن بل هوالوجود الحقيقي والخارجي البحت، وأحقّ بما لا يُحد من الوجود الإمكاني. فالموجودات الإمكانية بحذافيرها المتمثلة في مرآة العلم الأزلي المحيط تصيرُ كالمرايا لتجليات أنوار الوجود الوجوبي. فالعلمُ مرآتُها، وهي مرآة الوجود الوجوبي. فوجودها خرج من مرتبة العلم إلى الوجود الخارجي، ولم يصل إلى مرتبة الوجود الحقيقي.

اعلم أنه من تأمل في الكون يتحدس منه: أن الفاعليةَ والتأثير من شأن اللطيف، والنوراني، والمجرد.. وأن الانفعال والقابليةَ والتأثر من شأن المادي والكثيف والجسماني.

فإن شئتَ انظر إلى النور وإلى الجبل، فالأول: يقوم في السماء، ويدُه الرقيقة اللطيفة في الأرض فعالةٌ جوالةٌ. والثاني: بعظمته وبأياديه الغليظة لا يقتدر على فعلٍ وتأثيرٍ حتى في لَصيقه وجاره.. وكذا نرى في تفاعل الأشياء في الظاهر: أن بدرجة لطف الشيء ونورانيته تظهر مرتبة السببية فيه، وبالكثافة يتقرب إلى درجة المسَبَّب. فيُعلم من هنا أن خالق الأسباب الظاهرية وموجد المسبَّبات هونورُ الأنوار الذي: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌۚ وَهوالسَّميعُ الْبَصيرُ (الشورى:11) ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْاَبْصَارُۘ وَهو يُدْرِكُ الْاَبْصَارَۚ وَهواللَّطيفُ الْخَبيرُ (الأنعام:103) لا إله إلّا هو.

اعلم أن التفكر نورٌ يُذيبُ الغفلة الباردة الجامدة، والدقة نارٌ تحرق الأوهامَ المظلمةَ اليابسة، لكن إذا تفكرتَ في نفسِك فدقّقْ وتمهّل وتغلغلْ وفصِّله تفصيلا، بمقتضى الاسم «الباطن» المتعمق؛ إذ كمالُ الصنعة أتمُّ في تحليله وتفصيله.. وإذا تفكرت في الآفاق، فأجمِل وأسرع ولا تَغُص ولا تَخُضْ إلّا لحاجةِ إيضاح القاعدة، ولا تحدِّد النظر، كما هومقتضى الاسم «الظاهر» الواسع؛ إذ شعشعةُ الصنعة أجلى وأبهرُ وأجملُ في إجماله ومجموعه، ولئلا تغرق فيما لا ساحل له.

فإذا فصلتَ هناك -يعنى في نفسك- وأجملتَ هنا، تقرّبتَ إلى الوحدة. فصارت الجزئياتُ أجزاءً، والأنواعُ كلا، والمختلِط ممتزجا، والممتزج متحدا فيفور منه نورُ اليقين. وإذ عكستَ بأن أجملتَ فيك، وفصّلتَ في الآفاق تتشتت بك الكثرةُ وتستهوي بك الأوهامُ وتستغلظ أنانيتُك وتتصلّب غفلتُك، فتنقلب طبيعةً. فهذا طريقُ الكثرة المنجرة إلى الضلالة.

 اَللَّهُمَّ لا تجعلنا من الضالين آمين.

اعلم أنه قد روي أن الإنسان «إذا تحرك سكن رزقُه، وإذا سكن تحرك رزقُه». الحق أنه من لمعاتِ حقيقة واسعة.. فانظر إلى الأشجار لمّا سكنتْ متوكلةً تحركتْ إليها أرزاقُها، وإلى الحيوانات لما تحركتْ حريصاتٍ سكنتْ عنها أرزاقها ثابتة في مقامها نابتةً على عروقها، تدعوبألوانها وروائحها إلى أنفسها مَن جاع واحتاج من الحيوانات المتحركة بأهوائها والدائرة بهوساتها.

اعلم أنه ما أجهلَ الإنسانَ الغافل وما أضلَّه وما أضرّه لنفسه! يترك خيرا عظيما لوجود احتمالِ عائق بين تسعة احتمالات سائقة، ويرتكب الضلالةَ بترك الهداية لشبهةٍ سوفسطائية مع وجود أُلوفِ براهينِ الهداية، والحال أن الإنسان وهّام ذواحتياط وحزم يتجنب من المضار العاجلة باحتمالٍ واحدٍ من عشرة احتمالات. فكيف لا يتجنب من أضرّ المضرات بتسعة احتمالات بل بتسعة وتسعين؟!

اعلم أن في روح الإنسان احتياجاتٍ لا تتناهى وقابليةً لتألماتٍ لا تتناهى واستعدادا لتلذذات لا تتناهى ومهيأٌ لآمال والآم لا تتناهى؛ حتى إن الشفقةَ مع ضلالة القلب تتضمن آلاما غير متناهية. كما ذُكر في «قطرة»، فليس لك أن تقول: ما أنا ومَن أنا وأيُّ شيء أنا حتى تقوم لي القيامة، ويوضَع لي الميزان، ويجري عليّ الحساب! فيا أيها الضال الشاك..! لا تغتر بهذه الحياة، فإن لذتها معلقةٌ بمغلطة مربوطةٍ بالشك لأهل الضلالة. فيفرُّ الضالّ الشاك من دهشةِ ألم الزوال والفناء إلى احتمال السعادة الأبدية. ويفر أيضا من تكلف تحمّل التكاليف الدينية إلى احتمال عدمِ الآخرة، فيتخلص بهذه المَغْلَطة من الألَمين مؤقتا. ففي قريب من الزمان تنحل عليه العقدة، وتنكشف الحقيقة. فلا الاحتمال الأول يهون ألَمه بل يُحِسُّه كلَّ الألم دفعةً، ولا الثاني يخفف حِمله بل يضاعف عليه آلاما جهنمية. وكذا يقول -لكن في زمان قليل- فالمصيبة عمّت وطابت، فلا عليّ أنى كأمثالي فلا أُبالي! لكن يجيء زمان عن قريب، تتضاعف عليه المصيبة بدرجة عمومها، كإصابة الشخص في نفسه ثم أقاربه وأحبابه، لأن في روح المرء علاقاتٍ بأبناء جنسه فمهما عمّت المصيبةُ تضاعفت البلية.

أيها الشاك الغافل! لا تحسب أن ما تذوقُه بيدَيِ الغفلة والشك لذةٌ لذيذة، بل فيه ادّخارُ آلامٍ أليمة، ستهجم عليك دفعةً وتنقلبَ آلاما جهنمية. فإن أحببتَ أن يتبدل لك هذه الآلامُ المترصدة لذائذَ متجددةً، وتنقلب هذه النارُ نورا؛ فقوِّس أنفَ غرورك بالركوع في الأوقات الخمسة، ووسِّع رأسَه لنـزول ضيفِ الفرقان مع فيض الإيمان. فلابد من المداواة بالتفكر بالآيات وملازمةِ الطاعات كي يُخرَق حجابُ الشكوك والغفلات وتنضج حلاوةُ النجاة من مَرارة هذه الضلالات، وتنكشفَ لذة المناجاة.

اعلم أن العبودية تستلزم التسليمَ دون الاختبار والتجربة والامتحان إذ «للسيد أن يختبر عبدَه، وليس للعبد أن يختبر ربّه»!

اعلم أن دائرة الاسم «الباطن» ودائرةَ الاسم «الظاهر» متداخلتان ومتقابلتان. فأهل الأُولى يقولون قدرتُه مثلا كالبحر. وأهل الثانية يقولون كالشمس. فالبحر كالكل ذي الأجزاء. والشمس كالكلي ذي الجزئيات تماثيلها كجزئياتها. والباطني المحض المفرط لا يخلُص من شائبة التجزؤ والاتحاد. والظاهري السطحي المخالف للسُّنة لا يخلص من شوب شَرَك الأسباب، فالصراط المستقيم هوالقرآن..

فيا مُنـزلَ القرآن، بحق القرآن اهدنا الصّراط المُستقيم

آمين.. آمين.. آمين

* * *


[1] إن إيضاح هذا القسم الذي يخص «حسبنا الله» في اللمعة التاسعة والعشرين العربية، وفي الشعاع الرابع والرجاء الرابع عشر والخامس عشر من اللمعة السادسة والعشرين، رسالة الشيوخ (المؤلف).

[2] ظننت بشدة مرضى قرب الأجل في ذلك الوقت فقلت: الوداع. أنا أسافر من باب القبر إلى مجمع أحبابي وأساتيذي ورفقائي من طلبة المدارس والنور. (المؤلف)

[3] [لم ينكشف ذلك السر بعدُ أثناء تأليف هذه الرسالة، إلاّ أنه اتضح بعد ذلك بـ«الشفافية والمقابلة والموازنة والانتظام والتجرد والإطاعة»]. (المؤلف).