بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيٰوةُ الدُّنْيَا۠ وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّٰهِ الْغَرُورُ﴾ (لقمان:33)

اعلم يا من يدعوالمسلمين إلى الحياة الدنيوية التي هي لعِب في نوم ولهو، ويشوّقهم للخروج من دائرة ما أحلّه الله من الطيبات الكافية «لكيفهم»، إلى الدخول في دائرة ما حرَّمه من الخبيثات المنغّصة التي تجبرهم على ترك بعض شعائر دينهم أوترك دينهم.. إن مثَلَك معهم كمثل سكران بسُكر لا يميّز بين الأسد المفترس والفرس المؤنس، ولا يفرق بين آلة الصَلب وآلة لعب الصبيان من الحبل المتحرك في الهواء؛ ولا يعرف الجرحَ المبرّح من الورد المفرّح، بل يظن الأسدَ فرسا، وآلةَ الصلب حبلَ اللعب، والجرحَ المقشعر الوردَ المحمرّ. ومع ذلك يظن نفسه مرشدا مصلحا.. فجاء إلى رجل هوفي وضعيةٍ مدهشة؛ إذ خلف هذا الرجل أسدٌ عجيب متهيئ للهجوم في كل آن، وقدامَ الرجل آلة الصلب قد نُصِبتْ، وفي جنبيه جرحةٌ عميقة قد انفرجت، وقرحةٌ مزعجة قد انفجرت.. وفي يديه علاجان إذا استعملهما، انقلب -بإذن الله- الجرحان وردَين محمرّين. وفي لسانه وقلبه طلسمان إذا استعملهما انقلب -بأمر الله الأسدُ- فرسا يركبه إلى حضور سيده الكريم الذي يدعوه إلى دار السلام يضيّفه. وانقلب حبلُ الفراقِ والصلب المتدلي من شجر الزوال والفناء بلطف الله آلةَ السير والتنـزّه، والمرور بالاهتزاز على المناظر السيالة المتجددة وعلى المرايا الجوالة المتبدلة، لازدياد لذةِ تجددِ تجليات الجمال المجرد الدائم التجلي والظهور، على مرّ الفصول والعصور والدهور، ولازدياد اللذةِ في تجدّد صوَر الإنعام والنِّعم على مرِّ الأنام والأيام والأعوام. ثم يقول ذلك السكران الذي هوأيضا في مثل تلك الوضعية، لذلك الرجل: اترُك الطلسمَين واطرح العلاجين وتعال نَلْهُ ونلعبْ ونرقص ونطرب! فيقول له الرجل: يكفي لكيفي ما يساعده حِرز الطلسمين وحفظ العلاجين، ولا يمكن اللذة والسعادة في ما عداه، إن أمكن لك أن تقتل أسدَ الموت الذي «لا يموت إلا في الجنة».. وأن ترفع هذه الآلة المسمَّرة في الأرض إلى الثرى بحكم حاكم الأرض، أي تزيل آلةَ الزوال بتبديل الأرض غير الأرض.. وأن تشفيَ من هذا الجرح المستولى على كلَّية حياتي، بتبديل حياتي العاجزة الفانية حياةً باقيةً قادرة على الإطلاق وأن تُبرئ هذه القرحة المحيطة بكلية ذاتي، بتحويل ذاتي الفقيرة ذاتا سرمديةً غنيةً على الإطلاق. وإذ لم يمكن لك هذه الأمور «الأربعة» لا يتيسر لك أيها الشيطان السكران أن تخدع إلّا مثلَك سكرانا بسُكرٍ لا يميّز بين الضحك والبكاء، والبقاء والفناء، والداء والدواء، والهوى والهدى. وأما أنا «فحسبي الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير».

فإذا تفطنتَ لسر التمثيل، أواشتقت إلى رؤية صورة الحقيقة؛ فاعلم أن تلاميذ المدنية السفيهة الضالة، وطلبةَ الفلسفة السقيمة المضلة، قد سُكروا باحتراصات عجيبة وتفرعنات غريبة، فجاؤوا يدعون المسلمين إلى اتّباع عادات الأجانب، وترك شعائرَ فيها شعورٌ وإشعار بأنوار الإسلام، فيقابلهم تلامذة القرآن بـ: يا أيها الضالون الغافلون! إن اقتدرتم أن ترفعوا من الدنيا الزوال والموت، ومن الإنسان العجزَ والفقرَ فاستغنوا من الدين وشعائره، وإلّا فاخسؤوا واتركوا وسوَستَكم ودمدمتكم التي هي كزمزمة الذباب في ما بين نعرات هذه الرعود الأربعة، والآيات التكوينية المنادية بأعلى صوتها على لزوم الدين بشعائره
﴿وَاِذَا قُرِئَ الْقُرْاٰنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَاَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (الأعراف:204).

نعم، إن خلفي أسد الأجل يهددني دائما، فإن استمعتُ بسمع الإيمان صدى القرآن، انقلب الأسدُ فرسا، والفراقُ بُراقا يوصلني إلى رحمة الرحمن الرحيم وإلى حضور سيدي الحنّان الكريم. وإلّا صار الموت أسدا مفترسا يمزقني على رغمي، ويفرّقني عن جميع محبوباتي فراقا أبديا. وكذا بين يدي وأمامي آلات الفناء والزوال، قد نُصبت وتدلت في اختلاف الليل والنهار، وآلات الهلاك والفراق قد تموجت على أمواج الفصول والعصور. فهذه الآلاتُ نصبت لصلبي مع جميع أحبابي، فإن أصغيت بصماخ الإيقان لإرشاد القرآن انقلبتْ تلك الآلاتُ مركبَ السير والتنـزّه في نهر الزمان وبحرِ الدنيا لمشاهدة تجدّد تجليات شؤونات القدرة على صفحات الفصول، بزنبرك الشمس وسير القمر ودوران الأرض للتعمم بلفائف الليل والنهار، والتقمّص بحُلتَي الصيف والشتاء، ولمشاهدة تجدد جلوات الأسماء على المظاهر السيالة والمرايا المتحولة والألواح المتبدلة في اختلاف الليل والنهار.

وكذا، إنَّ في جنبي الأيمن من الفقر الغير المحدود قرحةً مستوليةً، فمع أني أعجزُ من أعجزِ حيوان من جنس الحيوان، إني أفقرُ من جميع الحيوانات، أي حاجاتي المعنوية والمادية تساوي حاجاتِ الكل، مع أن اقتداري أقلُّ من فعاليةِ عصفورة. فإن تداويتُ بشفاء القرآن انقلب الفقرُ المطلق الأليم شوقا لذيذا إلى ضيافة الرحمة، واشتهاءً لطيفا لتناول ثمرات رحمة الرحمن الرحيم. فيزداد لذةُ الفقر والعجز بمراتبَ على لذة الغَناء والقوة. وإلّا بقيت في آلامِ إزعاجات الحاجات، وفي ذل السؤال والتعبد لكل ما عنده حاجة من مطالبي، والتذللِ
لكل شيء.

وفي جنبي الأيسر أيضا، جرحٌ عميق هوعجزٌ وضعفٌ بلا حد في مقابلةِ أعداء ومهالكَ بلا عدٍّ؛ فألم الخوف يزيل لذةَ الحياة الدنيوية.. فإن أنصتُّ بالتسليم لدعوة القرآن، انقلب عجزي تذكرةَ دعوةٍ للاستناد بالقدير المطلق، والاتصال -بسر التوكل- بنقطةِ استناد فيها أمنٌ وأمان من الأعداء. وإلّا بقيتُ مضطربا بين أعداءٍ متشاكسين لا تعد، بعجز لا يحد.

وكذا إنّي على جناح سفر طويل، يمر على القبر والحشر إلى الأبد، فلا يرينا العلم والعقل نورا ينوّر ظلمات تلك الطريق، ولا يعطينا رزقا يصير زادَ ذلك السفر؛ إلّا ما يُقتَبس من شمس القرآن ويؤخَذ من خزينة الرحمن. فإن وجدتَ شيئا يمنعني عن هذا السفر، لكن غيرَ قطع الطريق بالضلالة التي هي قبول السقوط من فم القبر في دهشة ظلمات العدم الذي هوأهولُ وأدهشُ، فقل.. وإلّا فاسكت حتى يقولَ القرآن ما يقول. فبعدما قرأتْ هذه الآياتُ الخمسة من كتاب العالم على رأس الإنسان آيةَ ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدُّنْيَا۠ وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّٰهِ الْغَرُورُ (لقمان:33) كيف يجوز اتّباعُك أيها الغِرّ المغرور؟ ولا يختار مشرَبَك إلاّ سكرانُ بشراب السياسة، أوحرصِ الشهرة، أوشهوةِ السُمعة، أورقةِ الجنسية، أوزندقةِ الفلسفة، أوسفاهة المدنية وغيرها مما يُسكَر بمثله.. مع أن هذه الضربات القارعةَ على رأس الإنسان، وهذه الأهوال التي تضرب وجهَ البشر سيطيّر سُكره. ومع ذلك إن الإنسان ليس -كالحيوان- مبتلىً بآلام الحال فقط، بل يضرب رأسَه خوفُ المستقبل وحزنُ الماضي مع ألم الحال.

فإن أردتَ أن لا تبقى أشقى وأذلَّ وأحمقَ وأضلَّ من جميع الحيوانات؛ فأنصت واستمع بسمع الإيمان بشارة القرآن بإعلانِ ﴿اَلَٓا اِنَّ اَوْلِيَٓاءَ الله لَا خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَۚ ﴿62 اَلَّذينَ اٰمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَۜ ﴿63 لَهُمُ الْبُشْرٰى فِي الْحَيٰوةِ الدُّنْيَا وَفِي الْاٰخِرَةِۜ لَا تَبْديلَ لِكَلِمَاتِ اللّٰهِۜ ذٰلِكَ هوالْفَوْزُ الْعَظيمُ (يونس:62-64).


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِۙ ﴿1﴾ وَطُورِ سينينَۙ ﴿2﴾ وَهٰذَا الْبَلَدِ الْاَمينِۙ ﴿3﴾ لَقَدْ خَلَقْنَا الْاِنْسَانَ فٓي اَحْسَنِ تَقْويمٍۘ ﴿4﴾ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ اَسْفَلَ سَافِلينَۙ ﴿5﴾ اِلَّا الَّذينَ اٰمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ اَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ (سورة التين).

اعلم أن إتقان الصنعة وكمالَها في كل شيء يدلّ على أن صانع الكلِّ كما أنه عند كلٍّ في كلِّ مكان ليس في مكان وليس عند شيء.. وأن الإنسان لاحتياجه إلى كل شيء من أصغرِ جزءِ جزئي إلى أكبرِ كلِّ كلّي، لا يليق أن يَعْبُد إلّا مَن «بيده ملكوتُ كل شيء، وعنده خزائنُ كل شيء».. وأن نفسَ الإنسان من جهة الوجود والإيجاد والخير والفعل في غاية الصغر والقصور والنقص، أدنى من النمل والنحل وأضعفُ من العنكبوت والبعوضة. ومن جهة العدم والتخريب والشر والانفعال، أعظمُ من السماوات والأرض والجبال. مثلا: إذا أحسن، أحسن بما تسعه ذاتُ يده وتصل إليه قوةُ ذاته. وإذا أساء، أساء بما يتعدى وينتشر.

فبسيئةِ الكفر يحقّر مجموعَ الكائنات والموجودات بتنـزيل قيمتها من أوج كونها مكتوباتٍ ربّانيةً ومرايا إلهيةً إلى حضيض صيرورتها موادَّ متغيرةً سريعةَ الزوال والفراق، يلعب بها التصادفُ بالعبثية.. ويُسقط الإنسانَ الذي هوقصيدةٌ منظومة موزونة معلِنة لجلوات الأسماء القدسية، ونواةٌ لشجرة باقية، وخليفةٌ تفوَّقَ على أعاظم الموجودات بحمل الأمانة.. إلى دركةِ جعْلِهِ أذلَّ من أذلِّ حيوان زائل فانٍ، وأضعفَ وأعجزَ وأفقر.

وكذا إن الإنسانَ من جهةِ «أنا» له اختيارٌ كشعرة، واقتدار كذرة، وحياة كشعلة، وعمرٌ كدقيقة، وموجوديةٌ هي جزء جزئي مما لا يعد من أنواع لاتحد في طبقات الكائنات.. ولكن من جهة عجزه وفقره له وسعةٌ عظيمة إذ له عجز عظيم بلا نهاية، وفقر جسيم بلا غاية، يتيسر له أن يصير مرآة واسعة لتجليات القدير بلا نهاية والغنيِّ بلا غاية.

وكذا إن الإنسان من جهة الحياة الدنيوية المادية الحيوانية كنواة، تَصرِف الجهازاتِ المعطاةَ لها للتسنبل والتشجر في وسعة عالم الفضاء إلى جلبِ موادَّ واهيةٍ في مضيق التراب إلى أن تتفسخَ بلا فائدة.. فمن جهةِ الحياة المعنوية كشجرة باقية امتدت أغصانُ آمالها إلى الأبد.

وكذا إن الإنسان من جهة الفعل والسعي المادي حيوانٌ ضعيف عاجز، له دائرة ضيقةٌ نصف قطرها مَدُّ يده.. ومن جهة الانفعال والدعاء والسؤالِ ضيفٌ عزيز للرحمن الذي فَتَح له خزائنَ رحمته وسَخّر له بدائعَ صنعته؛ له دائرة عظيمة نصف قطرها مدُّ نَظَرِهِ بل خيالِه بل أوسع.

وكذا إن الإنسان من جهة لذة الحياة الحيوانية وكمالها وسلامتها ومتانتها أدنى من العصفور بمائة درجة؛ لتَنَغُّص لَذّاتِه بأحزان الماضي ومخاوف الاستقبال.. ومن جهة الجهازات وتفصّل الحواس وتنوع الحسيات وانبساط الآلات وتكثّر مراتب الاستعدادات -المشيرة هذه الحالة- إلى أن وظيفته الأصليةَ هي الشهودُ لتسبيحات الموجودات، والشهادةُ عليها، والتفتشُ بالتفكر، والنظارةُ بالعبرة، والدعاءُ للحاجة، والعبوديةُ بدرك العجز والفقر والقصور. ومن وجهِ جامعيةِ استعداده المستعِد لأنواع العبادات أعلى من أعلى عصفور بمائة مراتب. فبالبداهة يَعلم من له عقل أنّه ما أُعطي له هذه الجهازات لهذه الحياة بل لحياة باقية.

مثلا: إذا رأينا أحدا أعطى لأحدِ خَدَمِه عشرةَ دنانير ليشتري لنفسه لباسا من قماش مخصوص، فاشترى من أعلاه. ثم أعطى لآخرَ ألفَ دينار للاشتراء. نعلم يقينا أن هذا ليس لاشتراء لباس من ذلك القماش الذي ما قيمةُ أعلاه إلا عشرةُ دنانير، بل إنما أُعطي لما هوأغلى وأعلى بمائة مراتب. فإذا اشترى -لبلاهته- بالألف لباسا من ذلك مع أن ما اشتراه أدنى بمائة درجة من لباس الأول، لابد أن يعاقَب عقابا مديدا ويؤدَّب تأديبا شديدا.

وكذا إن الإنسان بقوة ضعفه، وقدرة عجزه أقوى وأقدر بمراتبَ؛ إذ يُسخَّر له بالدعاء والاستمداد ما لا يَقتدر على عُشر معشاره باقتداره. فهوكالصبي يصل ببكائه إلى ما لا يصل إليه بألوف أضعاف قوته. فيتفوقُ بالتسخير لا بالغلبة والغصب والجلب. فعليه أن يعلن عجزه وضعفَه وفقرَه وفاقته بالاستمداد والتضرع والعبودية.

وكذا إن الإنسان من جهة نظاريته لمحاسنِ كمالاتِ سلطنةِ الربوبية، ودلّاليته لبدائع جلوات الأسماء القدسية، وفهمه بطعمه لمدخرات خزائن الرحمة، وعلمه بوزنه لجواهر كنوز الأسماء المتجلية، وتفكره بمطالعته لمكتوبات قلم القدرة، وشوقه برؤيته للطائف المصنوعات.. أشرفُ المخلوقات وخليفةُ الأرض.

* * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ اَنْتُمُ الْفُقَرَٓاءُ اِلَى اللّٰهِ﴾ (فاطر:15) ﴿فَفِرُّٓوا اِلَى اللّٰهِ﴾ (الذاريات:50).

اعلم أيها السعيد القاصر العاجز الفقير! أن في نفسك قصورا بلا نهاية، وعجزا بلا غاية، وفقرا بلا انتهاء، واحتياجا بلا حد، وآمالا بلا عدّ. فكما أُودع فيك الجوعُ والعطشُ لمعرفة لذة نعمته تعالى، كذلك رُكّبْتَ من القصور والفقر والعجز والاحتياج لتنظر بمرصادِ قصورك إلى سرادقات كماله سبحانه، وبمقياسِ فقرك إلى درجات غناه ورحمته، وبميزانِ عجزك إلى قدرته وكبريائه، ومن تنوع احتياجك إلى أنواع نِعَمه وإحسانه.

فغايةُ فطرتك هي العبودية. والعبودية أن تعلن عند باب رحمته: قصورَك بـ«أستغفر الله» وبـ«سبحان الله».. وفقرَك بـ«حسبنا الله» وبـ«الحمد لله» وبالسؤال.. وعجزَك بـ«لا حول ولا قوة إلّا بالله» وبـ«الله أكبر» وبالاستمداد.. فتُظهرَ بمرآة عبوديتك جمالَ ربوبيته.

* * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿اِنَّ الْاَبْرَارَ لَفي نَعيمٍۚ ﴿13﴾ وَاِنَّ الْفُجَّارَ لَفي جَحيمٍ﴾ (الانفطار:13-14)

اعلم أيها السعيد الغافل! أن لكل أحدٍ في سفر حياته طريقين إلى القبر، والطريقان متساويان في القصر والطول. لكن أحدهما -مع أنه لا ضرر فيه- فيه منفعةٌ عظيمة بشهادات أهل الشهود المتواترين وإجماعهم، يصل إلى تلك المنفعة العظيمة من عشرةِ سالكيه تسعةٌ.. والآخَر -فمع أنه لا نفعَ فيه بالاتفاق- فيه ضررٌ عظيم بإجماع أهل الخبرة والشهود. فاحتمالُ الضرر من العشرة تسعة، إلّا أن مَن يسلك في هذا لا يحمل سلاحا ولا زادا، فيخفّ في الظاهر، ويخلص من ثقل مَنٍّ، لكن يحمل على ظهر قلبه مائة مَنٍّ مِن المِنّة، ويثقل على عاتق روحه أحمالَ الأهوال والمخاوف. ولأن التمثيل يريك المعقول محسوسا، نمثل لهذه الحقيقة مثالا:

مثلا: تريد أن تذهب إلى إستانبول، أوتُرسَل إليه، ومن مكانك إليه طريقان؛ يمينا وشمالا متساويان قصرا وطولا، متخالفان نفعا وضرا، خفةً وكلفةً. ففي جانب اليمين نفعٌ عظيم بإجماع أهل الشهود والاختصاص بلا ضررٍ وبالاتفاق، وحملُ سلاح ومِزوَدِ زادٍ بمقدار مَنّ، مع خلاص الروح والقلب من ثِقلة حمل المنّة والخشية اللتين هما في ثقلة الجبال.. وفي اليسار ضرر بشهادات ملايينَ من أهل الخبرة والشهود، وبلا نفع باتفاقِ الموافقين والمخالفين، مع خفةٍ ظاهر في طرح السلاح الصارم اللازم، وترك الزاد الألذّ الألزم. لكن حَمَل على عاتق روحه بدلَ «قيتي» السلاح قناطيرَ الخوف، وعلى ظهر قلبه بدل أربع «حقات» الزاد مائة مَنٍّ من المِنّة. إذ قد يخبر الشاهدون الصادقون أن الذاهبين بيُمن الإيمان في اليمين في أمنٍ وأمان في مدة سيرهم، وإذا وصلوا إلى البلد حصل لتسعةٍ من العشرة نفع عظيم وربح جسيم. وأن الماشين بشؤم الضلالة والبطالة والبلاهة في اليسار، لهم في مدة سيرهم اضطرابٌ عظيم من الخوف والجوع، يتنـزل الماشي لكل شيء لخوفه في ضَعفه في عجزه، ويتذلّل لكلِ شيءٍ لاحتياجه في فقره. وإذا وصلوا إلى البلد يُحْبَسون أويُقتَلون لا ينجوإلّا واحد أواثنان. فمَن له أدنى عقلٍ لا يرجِّح ما فيه احتمالُ الضرر، على ما لا ضرر فيه لأجل خفةٍ قليلة. فكيف يرجِّح ما فيه أعظم الضرر من المائة بتسعة وتسعين احتمالا، على ما فيه أَعظم النفع بتسعة وتسعين احتمالا لأجل خفّة جزئية في الصورة، مع ثقلةٍ كلّيةٍ في الحقيقة؟

أما المسافر فأنتَ، وأما إستانبول فعالم البرزخ والآخرة، وأما الطريق الأيمن، فطريق القرآن الآمر بالصلاة بعد الإيمان. وأما الطريق الأيسر، فطريق أهل الفسق والطغيان. وأما أهلُ الخبرة والشهود، فالأولياء المشاهدون؛ إذ ذوالولاية ذوذوق شهودي في الحقائق الإسلامية، فما يعتقده العامي قد يشاهده الولي. وأما السلاح والزاد، ففي ضمن التكليف المتضمِّن للعبودية المتضمِّنة للصلاة المتضمنة لكلمة التوحيد المتضمنة لنقطتي الاستناد والاستمداد المتضمنتين للتوكل على القدير الحفيظ العليم وعلى الغني الكريم الرحيم..

فخلُصَ من التنـزل والتذلل لكل شيء له فيه جهة ضرٍّ أونفع. إذ «لا إِلهَ إِلَّا الله» يفيد أن لا نافعَ ولا ضار إلّا هوولا نفعَ ولا ضرَّ إلّا بإذنه.