﴿اِنَّ اللّٰهَ اشْتَرٰى مِنَ الْمُؤْمِنينَ اَنْفُسَهُمْ وَاَمْوَالَهُمْ بِاَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة:111)

اعلم أيها الإنسان ﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَريمِ﴾ (الانفطار:6) الذي يشتري منك مُلكَه الذي عندك أمانةً ليحفظه لك من الضياع.. ولتترقّى قيمتُه من درجةٍ إلى ألوفٍ.. ويعطيك بَدَله ثمنا عظيما.. ويبقيه [12] في يدك لاستفادتك.. ويتكفّل عنك كلفةَ تعهّدِه.. ربحا في ربح في ربح في ربح في ربح.

وأنت أيها الغافل لا تبيعُه.. فتخون في أمانته.. وتُسقط قيمتَه من الثريا إلى الثّرى.. ثم يضيع بلا فائدة.. فيفوتُك ذلك الثمنُ العظيم، وتبقى في ذمتك تكاليفُ تعهّده وآثامه ويثقل ظهرَك كلفةُ محافظته وآلامه.. خسارة في خسارة في خسارة في خسارة في خسارة.

مَثَلُكَ في هذهِ المعاملةِ كَمثَل رجل مسكين في رأس جبل، أصابت ذلك الجبلَ زلزلةٌ جعلت يتساقط منه في أعماق الأودية جميعُ أمثال ذلك الرجل فيتمزّق ما في أيديهم، ويَرى هذه الحالةَ وهوأيضا «على شفا جرف هار» أوشك أن ينهار به في البوار. مع أن في يده أمانةً وهي ماكينة مرصّعة عجيبة، فيها موازين لا تعد وآلات لا تحد وفوائد لا تُحصى وثمرات لا تستقصى. فقال له مالك الماكينة كرما ورحمةً: أريد أن أشتري منك مالي الذي في يدك كأنه مالُك -لئلا تنكسر ضايعا بسقوطك- فأحافظها وأسلّمها لك حين خروجك من الوادي بصورة باقية لا تنكسر أبدا. ولأجل أن تتصرف في آلاتها وتستعمل موازينها في بساتيني الواسعة وخزائني المشحونة، فتتزايد قيمتُها وتأخذ أنواع أجوراتها وثمراتها، وإلّا صارت كآلة عادية ساقطةِ القيمة مستعمَلة في مضيقات بطنك وغارَيك. إذ أين بطنك وشهوتك وأين البساتين والخزائن الإلهية، وكيف يسع غاراك استعمالَ ماكينة تضيق عنها الدنيا. وها أنا أعطيك بدلَها ثمنا عظيما، ولا أخرجها من يدك في مدة بقائك في هذا الجبل، بل آخذ حلقتها العليا ليتخفف عنك ثقلها ولا تتعجزَ بكلفتها. فإن قبلتَ البيع فتصرّفت فيها باسمي وحسابي كنفر يعمل في ما في يده باسم السلطان وحسابه بلا خوف مما يأتي ولا حزن على ما مضى، وإن لم تقبل هذا البيع الذي فيه ربح بخمسة وجوه؛ خسرتَ بخمسة وجوه وصرت خائنا في الأمانة مسؤولا عن ضياعها.

«خُداءِ بُر كَرَم خود ملك خودرا مى خَرَد أز تو

 بهاء بى كران داده نِكَه دارد بَراءِ تو»

ودرسُ القرآن للبشر وتعليمه له: «البيع»، يقول له: بِع تربح.. ﴿وَاِنَّ الدَّارَ الْاٰخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُۢ﴾ (العنكبوت:64)، وأما درسُ فلسفةِ مدنيةِ الكفار يقول: تملّك، ﴿اِنْ هِيَ اِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ (الأنعام:29). فانظر التفاوتَ بين الهدى المنوَّر، والدّهاء المزوَّر.

اعلم.

[24] اعلم أنه سبحانه قريبٌ، وأنت بعيدٌ، إذ كما أنه معك، هومع جميع أفراد نوعك.. وكما أنه مع نوعك، هومع جميع أفراد جنسك.. وكما أنّه هومع جنسك، هومع جميع جزئيات ذوي الحياة، وكما أنه مع جميع ذوي الحياة هومع سائر طبقات الموجودات ودوائرها، طبقةً إلى طبقة جميع الموجودات وإلى طبقة الذرّات والأثير والروحانيّات والمعنويات وإلى ما لا يحيط به الوهمُ.

فإذا أردتَ القربَ من جهتك؛ لابدّ أن تمرّ منك متبسطا مترفّعا من الجزئية إلى مقام كليةِ النوع، ثم تذهب مترقّيا في الكلية بإطلاق الرّوح في التجرّد إلى مقام الجنس، وهكذا إلى قطعِ قريبٍ من سبعين ألفَ حجاب؛ إذ إنّه كما أنّه عندك فهوعند كلّ شيء. فإنما تكون عنده -من عندك- إن كنتَ عند كلِّ شيء، ثم بعده يصادفك ما لا يُحد من مسافةِ ما بين الإمكان والوجوب.. كيف الوصول إلى بعيدٍ في قربه ودونَهُ ألوف سرادقات؟ ودونهنَّ حتوفٌ، فإذ كان هذا هكذا فأفْنِ منْكَ بُعدَكَ لتبقى به وتَقرُب بقُربه.

اعلم

[31]….

اعلم أن الله أقربُ إلينا منّا، ونحن بعيدون بلا نهايةٍ. ومن شواهد قُربه تصرّفُه، وإذا طلبناه عند ما يتصرّف فيه لا نجده إلّا «عند كلّ شيء»، وإذا وصلنا بالترقّي إلى «عند كلّ شيء» بالإحاطة بدائرة الإمكان، لا نجده أيضا إلاّ خَلفَ الحُجُب النورانية في دائرة الوجوب من سُرادقات الأسماء والصفات والشؤونات في العزّة والعظمة والكبرياء، وأما إذا طلبناه من جهة قُربه بترك نفسنا، فالأمر سهل إن شاء الله لا حول ولا قوة إلّا بالله.

اعلم….

[36] اعلم يا مَن يحب أن يعرفَ الفرقَ بين حكمةِ القرآن وحكمةِ الفلسفة! أن مثَلَهما كمثل قرآنٍ كُتبت في حروفاته بتذهيبات متنوعة ونقوش مزيّنة بعضُها بالذهب والفضة وبعضها بالألماس والزمرّد وبعضها بالجواهر والعقيق.. وهكذا. وقرأه شخصان فاستحسَناه فقالا: فلنكتبْ على محاسن هذا الشيء المزيّن كتابا؛ فكتب كل منهما كتابا.

أمّا أحدهما: فهوأجنبيّ لا يعرف من العربية حرفا واحدا حتى لا يعرفُ أنّ مشهودَه كتابٌ، لكن له مهارة في الهندسة والتصوير ومعرفة الجواهر وخاصياتها، فكتب كتابا عظيما يبحث عن نقوش الحروف ومناسباتها وجواهرها وخاصياتها ووضعياتها وتعريفاتها.

وأما الآخر: فحينما رآه عرف أنه كتاب مبين، وقرآن حكيم، فلم يشتغل بنقوش حروفه المزيّنة؛ بل اشتغل بما هوأعلى وأغلى وألطفُ وأشرفُ وأزينُ وأحسن بملايين المراتب مما اشتغل به رفيقُه، وهوبيان جواهرِ معانيه وأنوارِ أسراره، فكتب تفسيرا يبحث عن حقائق الآيات.

يا مَن له عقل! فبالله عليك، لأيّ هذين الكتابين يُقال إنّه كتاب حكمةِ هذا القرآن؟ فإذ فهمتَ التمثيلَ فانظر إلى وجه الحقيقة: أما القرآن فهوهذا العالمُ وأما الشخصان فكُتُب الفلسفة والحكماء، والقرآنُ وتلامذته.

﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ فَهو حَسْبُهُ﴾ (الطلاق:3)

اعلم يا أيها السعيد! أنّ السعادةَ في التوكل، فتوكّلْ على الله لتستريحَ في الدنيا وتستفيد في الأخرى.

مَثَلُ المتوكل وغيرِ المتوكل الذي يرجع إلى التوكل، كَمَثَلَ رجلَين حاملَين على ظهورهما ورؤوسهما أحمالا ثقيلةً، فدخلا سفينةً، فأما أحدُهما فوضع حِمله في السفينة وقَعد على متاعِه مستريحا. وأما الآخر فَلِبلاهَتِهِ في غروره لم يضع حملَه، فقيل له: اطرحْ حِملك الثقيلَ على السفينة. فقال: أنا قويّ. فقيل له: إن السفينةَ التي حملتْكَ أقوى وأحفظُ، مع أن ظهرَك ورأسَك -المتزايدَ ضعفُهما- لا يُطيقانِ حملَ هذهِ الأحمالِ المتزايدِ ثقُلها. فقيل له: بل سلامتُك أيضا مربوطةٌ بوضعِ حملك؛ إذا رآك صاحبُ السفينة في هذه الوضعيةِ فإما يقول: هومجنونٌ فليُطردْ أوخائن يتّهمُ سفينتَنا ويستهزئُ بنا، فليُحبس. بل لا تخلص من السخرية واستهزاء الخلق، إذ لمّا لم تكفِ قوتُك لدوامِ الحمل اضطررتَ إلى التصنّع المشير إلى الرياء، وإلى التكبر المشير إلى الضعف، وإلى الغرور المشير إلى العجز، فتصيرُ أضحوكةً يضحكُ من حالِك الناسُ. فتفطَّنَ إلى خطئه. فرجع من عناده فوضع حِمْلَهُ فقعد عليه. فتنفّس فاستراح فقال: جزاك الله خيرا أرشدتني إلى ما فيه راحتي وسلامتي وحيثيتي.

[50] النكتة الخامسة

اعلم أن في ختم الآيات في الأغلب بفذلكات متضمنة للأسماء الحسنى، أوبعينها، أومتضمنة للأمر بالتفكر والحوالة على العقل، أومتضمنة لأمر كلّي من المقاصد القرآنية، شرارات من نور حكمته العلوية ورشاشات من ماء هدايته الإلهية؛ إذ القرآن الحكيم ببيانه الإعجازي، يبسط الآثار وأفعالَ الصانع للنظر، ثم يستخرج منها الأسماء، أوثبوت الحشر، أوالتوحيد، كأمثال: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْاَرْضِ جَميعًا ثُمَّ اسْتَوٰٓى اِلَى السَّمَٓاءِ فَسَوّٰيهُنَّ سَبْعَ سَمٰوَاتٍۜ وَهو بِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ (البقرة:29)، ﴿اَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهادًاۙ ﴿6 وَالجبالَ اَوْتَادًاۖ ﴿7 وخلقناكماَزْوَاجًا ﴿8 وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًاۙ ﴿9 وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًاۙ ﴿10 وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًاۖ ﴿11 وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًاۙ ﴿12 وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًاۖ ﴿13 وَاَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَٓاءً ثَجَّاجًاۙ ﴿14 لِنُخْرِجَ بِه حَبًّا وَنَبَاتًاۙ ﴿15 وَجَنَّاتٍ اَلْفَافًاۜ ﴿16 اِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ ميقَاتًا (النبأ:6-17).

وكذا ينشر للبشر منسوجات صنعِه ثم يطويها في الأسماء، أوالحوالة على العقل كأمثال: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَٓاءِ وَالْاَرْضِ اَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْاَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْاَمْرَۜ فَسَيَقُولُونَ اللّٰهُۚ فَقُلْ اَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿31﴾ فَذٰلِكُمُ اللّٰهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ﴾ (يونس:31-32) و﴿اِنَّ في خَلْقِ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتي تَجْري فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَٓا اَنْزَلَ اللّٰهُ مِنَ السَّمَٓاءِ مِنْ مَٓاءٍ فَاَحْيَا بِهِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فيهَا مِنْ كُلِّ دَٓابَّةٍۖ وَتَصْريفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَٓاءِ وَالْاَرْضِ لَاٰيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة:164)

وكذا يفصّل أفاعيلَه ثم يُجمِلها بأسمائه أوبصفته، كأمثال: ﴿وَكَذٰلِكَ يَجْتَبيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْويلِ الْاَحَاديثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلٰٓى اٰلِ يَعْقُوبَ كَمَٓا اَتَمَّهَا عَلٰٓى اَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ اِبْرٰهيمَ وَاِسْحٰقَۜ اِنَّ رَبَّكَ عَليمٌ حَكيمٌ (يوسف:6) ﴿قُلِ اللّٰهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَٓاءُۘ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَٓاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَٓاءُۜ بِيَدِكَ الْخَيْرُۜ اِنَّكَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ (آل عمران:26)

وكذا يرتّب المخلوقات ويشففها بإراءة نظامها وميزانها وثمراتها ثم يُريك الأسماء المتجلية عليها، كأن تلك المخلوقات ألفاظٌ. وهذه الأسماء معانيها أوماؤها أونواتها أوخلاصتها، كأمثال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْاِنْسَانَ مِنْ سلالَةٍ مِنْ طينٍۚ ﴿12 ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً في قَرَارٍ مَكينٍۖ ﴿13 ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًاۗ ثُمَّ اَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا اٰخَرَۜ فَتَبَارَكَ اللّٰهُ اَحْسَنُ الْخَالِقينَ (المؤمنون:12-14).. ﴿اِنَّ رَبَّكُمُ اللّٰهُ الَّذي خَلَقَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ في سِتَّةِ اَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوٰى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثيثًاۙ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِاَمْرِهۜ اَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْاَمْرُۜ تَبَارَكَ اللّٰهُ رَبُّ الْعَالَمينَ (الأعراف:54)

وكذا قد يذكر الجزئيات المادية المتكيفة المتغيرة ثم يُجمِلها بالأسماء الكلية النورانية الثابتة وبفذلكة مشوّقة على التفكّر والعبرة، كأمثال: ﴿وَعَلَّمَ اٰدَمَ الْاَسْمَٓاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلٰٓئِكَةِ فَقَالَ اَنْبِؤُ۫ني بِاَسْمَٓاءِ هٰٓؤُ۬لَٓاءِ اِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ ﴿31﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ ﴾ (البقرة: 31-32). ﴿وَاِنَّ لَكُمْ فِي الْاَنْعَامِ لَعِبْرَةًۜ نُسْقيكُمْ مِمَّا في بُطُونِه مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَٓائِغًا لِلشَّارِبينَ ﴿66﴾ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخيلِ وَالْاَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًاۜ اِنَّ في ذٰلِكَ لَاٰيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿67﴾ وَاَوْحٰى رَبُّكَ اِلَى النَّحْلِ اَنِ اتَّخِذي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَۙ ﴿68﴾ ثُمَّ كُلي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًاۜ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ اَلْوَانُهُ فيهِ شِفَٓاءٌ لِلنَّاسِۜ اِنَّ في ذٰلِكَ لَاٰيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل:66-69).

وكذا يفرش الكثرةَ المتوسعة ثم يضع عليها مظاهرَ الوحدة، كجهة الوحدة ويلفّها بالقاعدة الكلية، كأمثال:

﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَۚ وَلَا يَؤُ۫دُهُ حِفْظُهُمَاۚ وَهو الْعَلِيُّ الْعَظيمُ﴾ (البقرة: 255).

﴿اَللّٰهُ الَّذي خَلَقَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ وَاَنْزَلَ مِنَ السَّمَٓاءِ مَٓاءً فَاَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْۚ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِاَمْرِهۚ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْاَنْهَارَۚ ﴿32﴾ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَٓائِبَيْنِۚ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَۚ ﴿33﴾ وَاٰتٰيكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَاَلْتُمُوهُۜ وَاِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّٰهِ لَا تُحْصُوهَاۜ اِنَّ الْاِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (إبراهيم:32-34).

وكذا قد يُظهر بُعدَ السبب الظاهري عن قابلية إيجاد المسبّب وثمراته، إذ أين السبب الجامد من تلك المسافة من قصد غايات عالية حكيمة، وللدلالة على أن الأسباب-وإن قارنَت واتصلت في النظر بالمسبّبات- لكن بينهما مسافة طويلة من تلك المسافة، تظهَر مطالع الأسماء، إذ لا طاقة لأعظم الأسباب على حمل أخف المسببات، كما ترى تماسَّ دائرة الأفق من الجبال بالسماء، مع ما بينهما من المسافة العظيمة التي تطلع فيها النجوم، كأمثال: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْاِنْسَانُ اِلٰى طَعَامِهۙ ﴿24﴾ اَنَّا صَبَبْنَا الْمَٓاءَ صَبًّاۙ ﴿25﴾ ثُمَّ شَقَقْنَا الْاَرْضَ شَقًّاۙ ﴿26﴾ فَاَنْبَتْنَا فيهَا حَبًّاۙ ﴿27﴾ وَعِنَبًا وَقَضْبًاۙ ﴿28﴾ وَزَيْتُونًا وَنَخْلًاۙ ﴿29﴾ وَحَدَٓائِقَ غُلْبًاۙ ﴿30﴾ وَفَاكِهَةً وَاَبًّاۙ ﴿31﴾ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِاَنْعَامِكُمْ﴾ (عبس:24-32).

نعم، أشار بلفظ «متاعا» وبذكر الثمرات العجيبة الصنعةِ والحكمة إلى عزل الأسباب الظاهرية الجامدة عن التأثير الحقيقي.

وكذا: ﴿اَلَمْ تَرَ اَنَّ اللّٰهَ يُزْجي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهۚ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَٓاءِ مِنْ جِبَالٍ فيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصيبُ بِه مَنْ يَشَٓاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَٓاءُۜ يَكَادُ سَنَا بَرْقِه يَذْهَبُ بِالْاَبْصَارِۜ ﴿43﴾ يُقَلِّبُ اللّٰهُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَۜ اِنَّ في ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لِاُو۬لِي الْاَبْصَارِ ﴿44﴾ وَاللّٰهُ خَلَقَ كُلَّ دَٓابَّةٍ مِنْ مَٓاءٍۚ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشي عَلٰى بَطْنِهۚ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشي عَلٰى رِجْلَيْنِۚ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشي عَلٰٓى اَرْبَعٍۜ يَخْلُقُ اللّٰهُ مَا يَشَٓاءُۜ اِنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ﴾ (النور:43-45)

وكذا قد يَعُدُّ عجائبَ أفعاله تعالى ليُعِدّ الذهنَ ويُحضره لقبول خوارقِ أفعاله الأخروية، أويذكرُ أفعالَه الاستقبالية الأخروية بصورة تشير إلى نظائرها المشهودة لنا كأمثال: ﴿اَوَلَمْ يَرَ الْاِنْسَانُ اَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَاِذَا هوخَصيمٌ مُبينٌ ﴿77﴾ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُۜ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَميمٌ ﴿78﴾ قُلْ يُحْييهَا الَّذٓي اَنْشَاَهَٓا اَوَّلَ مَرَّةٍۜ وَهو بِكُلِّ خَلْقٍ عَليمٌۙ ﴿79﴾ اَلَّذي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْاَخْضَرِ نَارًا فَاِذَٓا اَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ﴿80﴾ اَوَلَيْسَ الَّذي خَلَقَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ بِقَادِرٍ عَلٰٓى اَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْۜ بَلٰى وَهو الْخَلَّاقُ الْعَليمُ﴾ (يس:77-81). ﴿اِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْۙ﴾ (التكوير:1) ﴿اِذَا السَّمَٓاءُ انْفَطَرَتْ (الانفطار:1) ﴿اِذَا السَّمَٓاءُ انْشَقَّتْ (الانشقاق:1).

[51] فإنّا نرى في الحشر الربيعي كثيرا من نظائر الحشر الأخروي مثلا: ﴿وَاِذَا الصُّحف نُشِرَتْۙ﴾ (التكوير:10) تَرى نظيرها -بل نظائرها- في نشر البذورات والنواتات صحائفَ أعمال أمهاتها وأصولها وتاريخ حياتها في الحشر الربيعي.

وكذا قد يذكر مقاصد جزئية ثم يقررها ويحققها بأسماء هي كالقواعد الكلية كأمثال: ﴿قَدْ سَمِعَ اللّٰهُ قَوْلَ الَّتي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكٓي اِلَى اللّٰهِۗ وَاللّٰهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَاۜ اِنَّ اللّٰهَ سَميعٌ بَصيرٌ (المجادلة:1) ﴿سُبْحَانَ الَّذٓي اَسْرٰى بِعَبْدِه لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ اِلَى الْمَسْجِدِ الْاَقْصَا الَّذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ اٰيَاتِنَاۜ اِنَّهُ هو السَّميعُ الْبَصيرُ (الإسراء:1).

﴿اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ فَاطِرِ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ جَاعِلِ الْمَلٰٓئِكَةِ رُسُلًا اُو۬لٓي اَجْنِحَةٍ مَثْنٰى وَثُلٰثَ وَرُبَاعَۜ يَزيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَٓاءُۜ اِنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ (فاطر:1)

وكذا قد يذكر أفعال الخلق فيهدّد ثم يسلّي بأسماء تشير إلى الرحمة كأمثال: ﴿قُلْ لَو كَانَ مَعَهُٓ اٰلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ اِذًا لَابْتَغَوْا اِلٰى ذِي الْعَرْشِ سَبيلًا ﴿42 سُبْحَانَهُ وَتَعَالٰى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبيرًا ﴿43 تُسَبِّحُ لَهُ السَّمٰوَاتُ السَّبْعُ وَالْاَرْضُ وَمَنْ فيهِنَّۜ وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه وَلٰكِنْ لَا تَفْقَهونَ تَسْبيحَهُمْۜ اِنَّهُ كَانَ حَليمًا غَفُورًا (الإسراء:42-44).

اعلم

[52] مبحث عظيم. ([1]) فإن قلتَ: ما وجهُ تفوقِ قيمةِ القرآن على الكل مع أن القرآن يقول: ﴿قُلْ لَو كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لكلمات رَبي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ اَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبّي (الكهف:109).

قيل لك: إنَّ القرآن كلامُ الله باعتبار أنه ربُ العالمين، وبعنوان إله العالمين، وباسم ربِّ السماوات والأرضين، ومن جهة الربوبية المطلقة، ومن جهة السلطنة العامة، ومن جانب الرحمة الواسعة، ومن حيثية حشمة عظمة الألوهية، ومن محيط اسمه الأعظم إلى مُحاط عرشه الأعظم.

وأما سائرُ الكلمات الإلهية: فمنها ما هوباعتبار خاص، وبعنوان خاص، باسم جزئي، في تجلً جزئي، ومن جهة ربوبيةِ خاصة وسلطنة مخصوصة، ورحمة خصوصية، كأكثر الإلهامات. ومن هذا السرّ يقول الوليّ: «حدّثني قلبي عن ربي» ولا يقول: «عن رب العالمين».

نعم، أين فيضُك بمقدار قابليتك من تجلي ربّك في مرآة قلبك أيّها الولي، ثم أين فيضُ النبيّ من تجلي رب العالمين بالاسم الأعظم في مرآة العرش الأعظم الأم لجميع العروش باعتبار الأسماء بجلواتها؟.. كما أين فيضُك من شمسك في مرآتك الصغيرة المكدّرة، ثم أين الفيض من شمس العالم في سقف السماء؟..وكما أين خطابُ مَلِكٍ لأحد رعيته بأمر جزئي لحاجة بتلفونه الخاص، ثم أين فرمان ذلك الملك بعنوان السلطنة العظمى وباسم الخلافة الكبرى ومن حيثيةِ حشمةِ مالكيته العليا وبقصد تشهير أوامره في أطراف مملكته بواسطة سفرائه وأمنائه؟

فمن هذا السرّ العظيم يُفهم سرُّ كون أكثر الوحي بواسطة المَلَك، والإلهام الإلهي بدونه.. وسرُّ عدم بلوغ أعلى وليٍّ درجةَ أحدِ نبيٍّ من الأنبياء.. وسرُّ عظمة القرآن وعزة قدسيته وعلوإعجازه في غلوإيجازه.. وسرُّ لزوم المعراج إلى السماء إلى سدرة المنتهى إلى قاب قوسين، لمناجاة مَنْ هوأقرب إليه من حبل الوريد.. ثم الرجوع في طرفة عين.. وغيرُ ذلك من الأسرار.

ثم إن الكلام النفسي كالعلم والإرادة صفةٌ أزلية بسيطة معلومُ الوجود والثبوت، مجهولُ الكُنهِ والكيفية. وإن الكلمات لا نهايةَ لها.

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ﴾ (البقرة:32)

أيها الناظر! هذا المبحث العظيم من تتمات القطرة الرابعة من الرشحة الرابعة عشرة.


[1] الأساس الرابع من «الكلمة الثانية عشرة» وكذلك «الكلمة الخامسة والعشرون» (المعجزات القرآنية) تفصّلان هذا المبحث، وانظر إن شئت أيضا رسالة «المعراج النبوي».