[ 53]

 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين..

بسم الله..

اعلم أن كل شيء يقول: بسم الله. إما بلسان قاله أوحاله أواستعداده؛ إذ ترى: أنه ما من شيء من الأشياء، -من الذرات إلى الشموس- إلّا وهومع عَجزه في ذاته قد تحمّل وظيفةً عجيبة لا تكفي قوّتُه لعُشر معشار عَشِير تلك الوظيفة. فبالبداهة يُعلم أنه إنما تحمّلها بحولِ قويٍّ عزيز، وإنما يباشرها باسم قدير حكيم.

وكذا هومع جهله قد حمل على ظهره ورأسه غاياتٍ موزونةً وثمرات منظومة، فيها نفع العموم، مع أنه لا يعود منها إلى نفسه عُشر معشار عشيرها، فبالبداهة يُعلم أن ذلك الشيء؛ إنما حُمّل تلك الغايات الحكيمة باسم عظيم حكيم، ويوصلها إلى ذوي الحياة باسم رحمن رحيم وبحساب عليم كريم.

فإن شئت فانظر إلى النواتات والبذور وما تحمّلت من الأشجار والسنابل، وإلى الأشجار وثمراتها، وإلى الحيوانات والحوينات ووظائفها العجيبة. فمَن له أدنى شعور كما يفهم أن نفرا منفردا إذا ساق جميع أهل بلد إلى محل بعيد بغير رضاهم ثم قسّمهم إلى وظائف وخدمات مختلفة، أنه ما يفعل إلّا بقوة سلطانه، وما يعمل إلّا باسمه، وما يستخدمهم إلّا بحسابه، كذلك لابد أن يَفهم أن هذه الموجودات العاجزات الجاهلات، ما تحمِل هذه الوظيفات العظيمات المنتظمات، إلّا باسم قدير عليم، وبحسابِ عزيز حكيم، وإنما تُهدي إلينا هذه الثمراتِ باسم رحمن رحيم، وليس من وظائفها وغاياتها إلّا ما أعطته الرحمةُ العامة لكل فرد من اللذة الخصوصية في خدمته الخاصة، كلذّة الترحم في شفقة الوالدات، وكحلاوة الفعالية في استعداد النحل بامتثال الوحي، وكذوق التلقيح في الفحول، وكالتلذذ في التغذي، وكالاستراحة والتنفس في الخروج من القوة إلى الفعل في نموالأشياء، فإن ما بالقوة كالمحبوس المقيّد، وما خرج إلى الفعل كالمتنفِّس المطلق… وهكذا فقس.

فجعل الفاطر الحكيم والمالك الكريم هذه اللذات الجزئيةَ معاشاتٍ لخدماتها.. وفهرستة لكيفيات وظائفها.. وزنبركا لحركاتها.

فيا أيها الإنسان الحامل للأمانة الكبرى! كيف لا تطيع قانونا أحاط بكل شيء من العرش إلى الفرش! وكيف تتجاسر على العصيان في مقابلة دستور مسخِّر الشمس والقمر، ومستخدم النجم والذرّ.

اعلم أن الفرق بين طريق التوحيد وطريق الإلحاد، كالفرق بين الجنة والجحيم، والواجب والمحال. فإن شئت فانظر إلى الموازنة بين الطريقين:

أما التوحيد، فيُسند الكثيرَ الغير المحدود إلى الواحد، فيتخففُ الكلفةُ والمَصرَف بدرجةٍ تتساوى الشموسُ والذرات والقليل والكثير الغير المتناهي بالنسبة إلى قدرته.

وكذا يُظهر التوحيدُ في كل شيء غاياتٍ كثيرةً مهمة من جهة نظره إلى صانعه. ومن تلك الغايات إظهارُ الشيء لأسماء خالقه، كأن الشيء كلمةٌ واحدة جامعة لرموز الأسماء، فتدل عليها.

وأما الغايةُ المشهورة بين أهل الغفلة التي هي جهة استفادتنا منه من الأكل وغيره، فأقلُّ وأحصر، وأذلّ وأصغرُ من أن تكون غايةً تامة لخلقة الشيء، بل هي وسيلةُ إحدى غاياته.

وأما الإلحاد، فيُسنِد الواحدَ إلى الكثير الغير المحدود، أي يُسند كلَّ شيء إلى العناصر والطبائع العاجزة الجامدة، وإلى القوى والنواميس الصمّ العمي. فتتضاعف الكلفة بدرجة تساوي كلفةُ الفرد كلفةَ عام النوع، بل تساوي كلفةُ شيء واحد كلفةَ كل الأشياء.

وكذا لا يرى الإلحادُ من غايات الشيء إلّا ما يعود إلى الإنسان في حظ نفسه الحيوانية أوإلى نفس الشيء في حفظ حياته الدنيوية.

فمَثَل الموحّد والملحد، كمثل رجلَين رأيا نواةَ تمر، وأرادا تعريفها:

أما أحدهما، فقال: هي فهرستة واحدة مما لا يحدّ من الفهرستات المسماة بالنواتات، ومن بعض غايات هذه النواة، أنها تعرفةٌ معنويةٌ لشجرة.. وتعريفٌ لتاريخ حياتها.. وخريطةُ كينونتها بقابلياتها لأن تكون ماكينة تنسج نخلة كأصلها.

وأما الآخر، فقال: لا، بل هذه الشجرة بجميع أجزائها وأوراقها اجتمعت عند هذه النواة، فأوجدَتها، وجمعت جهازاتِ نخلة باسقة فجهّزتها، لكن بلا فائدة. فلا غاية لهذه الشجرة إلّا هذه النواة، ولا غاية لهذه النواة إلّا أكل الإبل بعد السحق والدّق.

فيا مَن له أدنى شعور -ولوكشعرة- هل يمكن مع مشاهدة هذه السهولة المطلقة في الجود المطلق في رخيصية مطلقة، ومع شهود هذه الحكمة العامة في الانتظام المطلق، أن يَستند خلقُ الشيء كهذه الرمانة مثلا إلى أسباب جامدة، لكن تُجلَب جهازاتُ أكثرِ الأشياء لتصنيع ذلك الشيء الواحد الذي هومثالٌ مصغّر لكل تلك الأشياء.. وأن لا تكون لهذه الرمانة غاية إلّا أكلُها في دقيقة للذةٍ حيوانية.

نعم، كيف تساعد هذه الحكمة التي وَظّفت رأس الإنسان في حواسه بوظائف عديدة، لوخصصت لكل وظيفة منها في رأس الإنسان مقدارُ خردلة لصار رأس الإنسان كجبل الطور.

انظر إلى لسانك ووظائفه، ومن بعض وظائفه وزنُه لجميع مدخّرات خزائن الرحمة..

بل وكيف توافق تلك الحكمةُ لأن لا تكون لمثل هذه الرمانة الخارقة الصنعةِ غايةٌ إلّا أكلُك في آن في غفلة. فمحالٌ ظاهر أن يثمر رأسُك جبلا من الأثمار، وأن لا يثمر مثلُ الجبل إلاّ ثمرةً كرأسك. إذ يلزم حينئذٍ جمعُ نهاية الحكمة مع نهاية العبثية، وهومن أمحل المحال وأبطل الباطل، بل تلك الرمانة -كأمثالِها- تضمنت قصيدةً في بيان الأسماء الحسنى، فأفادت معانيها، فوفّت فتوفّت فدفنت من فيك فيك.

سبحان من تحيّرت العقولُ في صنعته.

[10] هذه نَورةٌ من شجرة آيةِ: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمٰوَاتُ السَّبْعُ وَالْاَرْضُ وَمَنْ فيهِنَّۜ وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾ (الإسراء:44) رأيتُها وقتَ انكشاف الأزهار من الأشجار في زمن الربيع فهيّجتْ جذبتي، فتفكرتُ في تسبيحاتها، فتكلمتُ أنا لي لا لغيري بهذه التسبيحات الفكرية، فظهرتْ هكذا في بعضها رقصُ الجذبة بنوعِ وزنٍ يشبه الشعر وليس بشعر بل قافيةُ ذكرٍ في جذبة فكر.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي يسبّح له كلُّ شيءٍ بكلماته المخصوصة المُبصَرَة كالمسموعة، مثلا:

الأنوارُ والأنهارُ والأعصارُ كلماتُ الضياء والماء والهواء. فقس.

سبحان مَن يحمدُه:

الضياءُ بالأنوار.. والماءُ والهواء بالأنهار والأعصار..

والتربُ والنبات بالأحجار والأزهار..

والجووالأشجار بالأطيار والأثمار..

والسحبُ والسماء بالأمطار والأقمار..

تلألؤُ الضياءِ من تــنويره، تشهيرِه..

تموُّجُ الهواءِ من تصريفه، توظيفِه..

تفجُّرُ المياهِ من تسخيره، تدخيره.. مدحٌ بليغٌ بيّنٌ للقادر.

تزيُّنُ الأحجارِ من تدبيره، تصويره..

تبسُّمُ الأزهارِ من تزيينه، تحسينه..

تبرُّجُ الأثمار من إنعامه، إكرامه.. حمدٌ جميلٌ ظاهرٌ للفاطر.

تسجُّعُ الأطيارِ من إنطاقه، إرفاقه..

تهزُّجُ الأمطارِ من تنزيله، تفضيله..

تحرُّكُ الأقمارِ من تقديره، تدويره.. تسبيحةٌ فصيحةٌ للقادر، بل آية نيّرة للقاهر.

سبحان من تحمدُه:

السماءُ بالبروجِ والأنوارِ..

والأفلاكُ بالشموس والنجوم والأقمار..

والجوبالرعود والبروق والأمطار..

والأرضُ بالحيوان والنبات والأشجار..

وتحمد الأشجارُ بالأوراق والأزهار.. منظومةً موزونةَ الـثمار.

إذ تسكتُ الأزهار من إنشادها، فتنطق الأثمار بالبدار.. حمدا بليغا ناشرَ الأنوار.

وتنشد النواةُ في قلبها، ذكرا خفيا جامعَ الأسرار.

مكتوبةٌ مطويةٌ في سرّها صحائفُ الأعمال للأشجار..

فيُظهر لسانُها حبّاتِ مدحِ الفالق والفاطر..

كلُّ نباتٍ حامدٌ وعابدٌ مسبّحٌ وساجدٌ للقادر..

تبسُّم النبات في تنوير الأزهار.. تحمدةٌ ظاهرةٌ للناظر..

أفواهُها السنبلُ والأكمام، ألفاظُها البذور والحبوب في الأشفار.. منظومةً موزونةَ الأشعار..

لسانُها نظامُها، ميزانُها في نقشها النوّار..

صنعتُها صبغتُها تزيينها البهّار..

بطعمها، بلونها، بريحها، واصفةٌ حامدةٌ للفاطر..

إذ تصف أوصافَه، تُعرِّفُ أسماءه، تفسّر تودّدا تعرّفا للقادر.

إذ تَرشَحُ الأسنانُ السنابلُ، وتقطُر العيونُ الأزهارُ.. قطراتِ رشحاتِ جلواتِ الفاطر..

تودّدا لعَبده.. تعرّفا لخَلقه.. من غيبه في الظاهر.

[11]

 حتى كأن الشجرَ المزهّرة..

قصيدةٌ منظومة محرّرة..

أوفتحت بكثرة عيونها المبصرة..

أوزَينت لعيدها أعضاءها المُخضَرَّة..

ليشهد سلطانُها آثارَها المنوّرة..

وتُشهِرَ في المحضر مُرصّعات الجوهر..

لـتُعرَضَ للنظر.. كالعسكر المظفّر.

وتُعلِن للبشر: حكمةَ خلق الشجر..

بكنـزها المدَّخر من جود رب الثمر.

سبحانه ما أحسنَ إحسانَه! ما أزين برهانَه! ما أبيَنَ تبيانَه!

من بارئٍ مصوّرٍ.. من خالقٍ مقتدرٍ.. من فاطرٍ منوّرٍ.

فانظر إلى رحمته.. في موسم ربيعه.. لتشهير صنعته:

يظهرْ لك فصلُ الربيع: يَومَ عيد لعبده..

يَوم زينةٍ لخلقه.. من شجرٍ من نبته.

فيُظهر كلُّ نبات مقدارَ رتبته:

سلطنةَ سلطانِه.. هديةَ مالكه.. منتظرٌ لأمره.. ويخدم باسمه..

مزهرٌ مثمرٌ بإذنه.. كسفرة نظيفة لضيفه.

فالنور والهواء والتراب مع الماء:

سُفراء أمرِه، حَمَلةُ عرشه..

في نشر صَنعته.. في تبليغ حِكَمه.

فالعلمُ والحكمةُ عرشُهما في: النور

فالفضلُ والرحمة عرشُهما على: الماء

فالحفظ والإحياء عرشُهما: التراب

فالأمر والإرادة عرشُهما في: الهواء

فاعلم بأن كلَّها -في فعلها- مَظاهرُ باسمه، مَساطرُ لا مصدرُ، قوابلُ لا فاعل، حواملُ بحوله، تحمِل ما تحمله بإذنه، باسمه.. تفعل ما تفعله بطَوله، بحَوله.

لولم يكن هذا حقَّ الأشياء؛ يلزم للتراب والهواء، والنور مع الماء أن تدّخِر في كل جزءِ ذرةٍ، وقطرةٍ من كلها معرفةً وقدرةً وصنعةً بلا انتهاء.

إذ مثلا هذا الهواء يمرّ في جوالفضاء.. يزور بذرّاته كلَّ نباتٍ ذي نماء.

فيُظهر مروره خوارقَ بلا انتهاء.. في معجزات صنعةٍ لمن له خلقُ السماء.

إن أمكن لذرةٍ بسيطة واحدة جامدة جاهلة أن تنشئ هاتا الأشجار.. وتضع تاك الأثمار.. تصوّر هذه الأزهار، بل جملة هذي الأشياء.

وتقدِر أن تحمل هذي الأرضُ، هذي الدنيا، حقّ لك أن تشك في وحدة لا شريك.

فإذ هذا ليس ذاك، فلا شك أن لا مُلكَ إلّا لمَن كلُّ الخلق في قبضة قدرته.. في قبضة حكمته.

لأن كلّ حبّةٍ، وقطرة، وذرة تصلح لكل خضرة، ثمرة، وزهرة. فيلزم في ذرة واحدة وحبّة وقطرة -إن لم تكن مأمورةً بأمر رب السماوات- من صنعةٍ وحكمة وقدرةٍ تكفي لكل المصنوعات، لحمل هذي الموجودات.

سبحان من تحمده الأشجار؛ بالأوراق والأزهار والأثمار..

تَكَشُّفُ الأزهار في تزايد الأوراق، في تكامل الثمار..

في رقص بناتها على أيادي غصنها الخِضار.

تهزّها مراوح نسائم الأشجار..

نُطقٌ فصيحٌ واضح للناظر، في مدح من يُنشئها، يُنشِدُها للواحد القهّار.

أفواهُها، حروفها، ألفاظها.. الأوراق والأزهار والثمار.

إذ تَرقُصُ الأوراق من فرحها في ذكرها للفاطر..

وتَبسُمُ الأزهارُ من زينتها تشكُّرا للقادر..

وتضحك الأثمار بالرحمة في النثار.. لسانها ذونغماتٍ عشرة في الناظر..

نظامُها المتّزن، ميزانُها المنظّم في لونها المنوَّر..

صنعتُها المنقشة، نقوشُها المصنّعة، في شكلها المصوّر.

صبغتُها المزينة، زينتها المصبّغة، في طعمها المسرّر.

عجائبُ صنعتها، تكثُّر أنواعِها، تنوُّع لحومها -بكلّها-
حامدةٌ للفاطر.. واصفة للقادر..

إذ تصف أوصافَه، تُعرّف أسماءه تفسّر تحببا، تحننا للصانع، للناظر.

إذ ترشح الثمارُ من شفاهها قطراتِ رشحاتِ جلواتِ الفاطر..

تحببا تعرّفا لعبده.. تعهّدا ترحّما لخلقه المفتقِر.

سبحانه ما أنورَ حجتَه! ما أبهرَ قدرتَه! ما أظهرَ رحمتَه!
من منشئٍ مصوّرٍ ومُنشدٍ مدبّر.. ومنشر مبشّر.

سبحانه ما أجملَ جلاله!

ما أجلَّ جماله!

ما أكبرَ سلطانه!

(فانظر إلى أرضك فقل: الله أكبر. وانظر إلى الكائنات فقل: الله أكبر، هوالخّلاق الفعّال، هوالفتّاح العلّام، هوالوهّاب الفيّاض، هوالعزيز الحكيم، هوالكريم الرحيم).