[12] إن شئت أن تعرف معنى «الله أكبر» فانظر إلى الكائنات فإنها كلّها ظلالُ أنواره.. آثار أفعاله.. خطوطُ قلم قضائه وقدره.. نقوش أسمائه.. مرايا أوصافه.

فاعلم فقل: «الله أكبر».. انظر إلى العوالم.. فإنها كلّها مأخوذة بالتمام في قبضة علمه، في قبضة قدرته، في قبضة عدله، في قبضة حكمته.. منظومةٌ وزنُه، موزونةٌ نظمُه.

فالتنظيم بالنظام، والتوزين بالميزان: قبضتان للرحمن، عنوانان للبابَين.. من «الإمام المبين»، من «الكتاب المبين».. فذلك الكتاب مع ذاك الإمام.. عنوانان بيّنان.. العلمُ والقدرة للقادر العليم، للعادل الحكيم.. فلا شيء يخرج من نظمِ هذا النظام، من وزن هذا الميزان..

يَشهده مَن له في رأسه الإذعان، في وجهه العينان.. فبالحدس الشهودي بل بالشهود الحسّي.. لا شيء من الأشياء في الكون والزمان، يخرج من قبضة تصرّف الرحمن.

فأبصرْ، فقل: «الله أكبر».. هوالعَدل الحاكم، هوالحَكَمُ الفرد، هوالعادل الحكيم.. إذ هوالذي أسّس بنيان الكائنات، بمِسطَر المشيئة، بالحكمة النظّامة.. أصولُ حكمته رابطةُ الموجودات.. ففصّل الموجودات بدستور القضاء، بقانون القدر.. قوانين القُدرة، خيّاطة الصوَر، لقامة المصنوعات.. فنظّم الكائناتِ بناموس السُنّة، بقانون العادات.. نواميس السنّة، قوانين العادة.. نظّامةُ المخلوقات.. إذ «يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد» في الأرض والسماوات.. بتلطيف الرحمة، بتكريم العناية.. قد زيّن الكائنات.. نواميس الرحمة.. دساتير العناية.. حسّانة المصنوعات وزينة الموجودات.. فنوّر الكائنات.. بجلوة الأسماء، تجلّي الصفات.. تظاهرات الأسماء.. في جَلوات الصفات.. نوّراةُ الموجودات.. في الأرض والسماوات.

فافهم وقل: «الله أكبر». هوالفاطر العليم، هوالصانع الحكيم.. ذاك العالم الكبير، هذا العالم الصغير.. مصنوعا قدرتِه مكتوبا قدَره.. إبداعُه لذاك، صيّره مسجدا.. إيجادُه لهذا صيّره عابدا، إنشاؤه لذاك، صيّر ذاك مُلكا.. بناؤه لهذا صيّره مملوكا.. صنعته لذاك تظاهرت كتابا، صبغتُه لهذا، تظاهرت خطابا.. قدرته في ذاك، تُظهر عزّته.. ورحمته في هذا تنظّم نعمته.. سكّته في ذاك، في الكل والأجزاء.. خاتمه في هذا في الجسم والأعضاء..

فانظر وقل: «الله أكبر».. هوالقادر المقيم.. هوالبارئ العليم.. هواللطيف الكريم.. هوالودود الرحيم.. هوالجميل العظيم.. هونقاش العالم.. إن شئت أن تعرف هذا العالم ما هوكلُّه أجزاؤه، الكائنات ما هي نوعا وجزئياتٍ، فإنما هوهي، خطوطُ قضائه.. رسوم قدره.. في تنظيم الذرات.. في تعيين الغايات.. في تقدير الهيئات.

فبعد هذا الترسيم.. لتعيين الحدود.. لمقدار القدود.. تجيء قدرتُه لتشخيص الصور.. ببركار القدر.. في حكمة الأثر.. مراعاةُ المصالح بالقطع قد شهدت: أن النقوشَ فاضت، من قلمِ عليم، من تدبيرِ حكيم.

فبعد هذا التشخيص تجيء العنايةُ، لتزيين الصور، بيَد بيضائه، بلُطف إنشائه.. تزيُّنُ الصور بأبدعِ ما يمكن.. يشهد باليقين لصاحب العينين.. أن الزينة والحسن، من أثر لطفه.. آيةُ كرمه.

فبعد هذا التزيين.. يجيء كرمُه.. بالتلطيف والتحسين.. لإبراز التودد.. في تزيين الحسان.. وإظهارِ التعرّف للجن والإنسان.. فما تلك المحاسن وما هاتى اللطائف إلّا مِن هذا التودد.. إلّا من هذا التعرف.. تحبّبُ الفاطر، يقطّر للناظر، من تحسين الأثر.. تعرّفُ القادر.. من تزيين الأثر، يظهر للنظر، بعد هذا التودد.

بعد هذا التودد تجيء رحمتُه، لإبراز الإنعام في نشر سُفرته لتلذيذ الأنام.. ترحُّمُ الخالق، يرشح من الأثر.. تحنّنُ الرزاق، يقطر من الثمر.

الحاصل:

هذا العالم.. خطوطُ قَدره.. نقوش قلمه.. زيناتُ كرمه.. أزاهير لطفه.. بالحدس والعيان.

أثمارُ رحمته.. لمعاتُ جماله.. جلوات جلاله.. مرايا كماله.. بالحق والإيمان.

ما يُشْهَدُ من جمال.. ما يُشهر من كمال.. مظاهرُ سيالة. مرايا جوالة [13] ظلال أنواره.. آيات كماله. ويشهد لهذا: كمالُ آثاره..

فالأثر المكمّلُ، يشهد لذي العقل، على الفعل المكمّل. ثم الفعلُ المكمّل يدل لذي الفهم على الاسم المكمّل. والفاعل المكمّل، والاسم المكمّل يدل بالبداهة على الوصف المكمّل. والوصف المكمّل يدل بالضرورة على الشأن المكمّل. ثم الشأن المكمّل، يدل باليقين على كمال الذات، مما يليق بالذات، وهوالحق المبين. رفيعُ الدرجات، خلاق العالم. يشهد لذي العين: أن الجمال الظاهر ليس مُلك المظاهر.

نعم، تفاني المرايا، زوالُ الموجودات، مع التجلي الدائم، مع الفيض الملازم، من أوضح برهانٍ، من أفصح تبيان، للجمال المجرّد، للإحسان المجدَّد، للواجب الوجود، للباقي الودود.

فاعرف.. وقل: «الله أكبر».. هوالخلاق الكبير، هوالفعال القدير.

فالأجسام السفلية، والزينات الأرضية، والأجرام العلوية والكواكب الدرّية، في بستان الكائنات: معجزاتُ القدرة، شواهد الحكمة، براهين للواحد الأحد، والقادر الصمد.

سبحان من جعل حديقةَ أرضه: مشهرَ صنعته. مزهّر النباتات، مثمّر الشجرات، مزيّن الحيوانات، محسّن الطيورات. خوارقُ صنعه، شواهدُ علمه، دلائل لطفه.

تبسّم الأزهار، من زينة الأثمار، في هذه الجنان: تودّدُ الرحمن، ترحّم الحنان، تعرّف المنّان، للجن والإنسان، والروح والحيوان.

فالزهر والثمر، والحب والبذر، معجزات الحكمة، هدايا الرحمة، براهين الوحدة.. بشائر لطفه، في دار الآخرة، شواهد صادقة، بأن صانعها بكل شيء عليم، لكل شيء قدير، قد وَسِع كل شيء بالرحمة والعلم، باللطف والتدبير.

فالشمسُ كالذرة، والنجم كالزهرة، والأرض كالبيضة، لا تثقل عليه في الخلق والتدوير، والحفظ والتصوير، والصنع والتنوير.

فافهم.. وقل: «الله أكبر».. هوسلطان الأزل.. هوحاكم الأبد.. هوالملك السرمد.

انظر إلى وجه السماء.. كيف ترى سكوتا في سكونةٍ.. حركة في حكمةٍ.. تلألؤا في حشمة.. تبسّما في زينة.. مع انتظام الخلقة.

تلألؤُ نجومها.. تعلن لأهل النهى.. سلطنةً بلا انتهاء.

فهذه النيّرات.. وهذه السيارات.. براهينُ منيرة.. شواهد مضيئة.. معلنةٌ لعزةِ كبرياءِ الألوهية.. مظهرةٌ لشوكةِ سلطنةِ الربوبية.. مبيّنة لحشمة عظمة قدرته.. مشيرة لوسعة إحاطة حكمته.

آمِن وقل: «الله أكبر».. ﴿وَلَهُ الْكِبْرِيَٓاءُ في السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِۖ وَهوالْعَزيزُ الْحَكيمُ ..

سبحانك يا مَن في كل شيء لك شاهدان على أنك واجب واحد.

سبحانك يا مَن في كل حيّ لك آيتان على أنك أحد صمد.

سبحانك يا مَن سكتُه مضروبة على جباه الخلق.. بالصدق شاهدة، بالحق ناطقة.

فانظر إلى آثاره كيف تَرى كالفَلق.. سخاوةً مطلقة في انتظام مطلق.. وقد ترى النظام في سهولة في اتزان مطلق.. في سرعة مطلقة في حسنِ صُنع مطلق.. في وسعة مطلقة في إتقان مطلق.. في رخيصية مطلقة مع غلومطلق.. في خلطة مطلقة في امتياز مطلق.. في بُعدةٍ مطلقة في اتفاق مطلق.. في كثرة مطلقة مع كمال مطلق.

فهذه الكيفية المشهودة شاهدةٌ للعاقل المحقِّق، مُجبِرة للأحمق المنافق.. على قبول الوحدة والصنعة للحق، ذي القدرة المطلقة.. وهوالعليم المطلق.

فتأمل وقل: لا خالق إلّا هو.. لا فاطر إلّا الحق.

«تمت الجذبة الفكرية بهزجاتها»


[14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿اَلَمْ تَرَ اَنَّ اللّٰهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمٰوَاتِ وَمَنْ فِي الْاَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَٓابُّ وَكَثيرٌ مِنَ النَّاسِۜ وَكَثيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُۜ وَمَنْ يُهِنِ اللّٰهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍۜ اِنَّ اللّٰهَ يَفْعَلُ مَا يَشَٓاءُ﴾ (الحج:18).

اعلم أن القرآن الحكيم يصرّح: بأن كل شيء من العرش إلى الفرش، ومن النجوم إلى الهوام، ومن الأملاك إلى الأسماك، ومن السيّارات إلى الذرّات يعبد الله ويسجد له ويحمده ويسبّح له. إلّا أن عباداتها متنوعة. فنشير إلى وجهٍ من وجوه التنوعِ بنوعِ تمثيل.

مثلا:﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾– إن مَلكا عظيما إذا بنى مدينة جسيمةً وبنى قصرا محتشما، فذلك الملك يستعمل فيهما أربعة أنواعٍ من العَمَلة:

الأول: مماليكُه: فليس لهم معاش ولا أجرة. بل لهم ذوق وشوق في كل ما يعملون بأمره، ويقولون في مدحه، ويكتفون بشرف انتسابهم له، ولذةِ نظرهم بحسابه.

والثاني: خَدَمة عاميون يستعملهم الملك بعِلمه بأجرةٍ جزئية تليق بهم. ولا يعرفون ما يترتّب على عملهم من الغايات العالية الكلية. حتى قد يتوهم البعضُ أنْ ليس لعمله غايةٌ إلّا ما يعود إلى نفسه من الأجرة والمعاش.

والثالث: حيوانات له يستخدمها، فليس لها إلّا العَلَف والتلذّذُ بالعمل فيما تستعدّ له، إذ في خروج الاستعداد من «القوّة» إلى «الفعل» لذة عامة.

والرابع: عَمَلة عالمون بمَ ولِمَ يعملون وتعمل سائرُ العَمَلة، وعارفون بمقاصد الملك. فلهم رياسة ونظارة على سائر الخَدَمة، ولهم معاش متفاوت على درجات رُتَبهم.

كذلك إن مالك السماوات والأرض وبانيها، استخدم واستعبَد الملائكة، ثم الحيوانات، ثم الجمادات والنباتات، ثم الأناسي، لا للحاجة؛ إذ هوخالقُهم وما يعملون، بل للعزّة والعظمة وشؤونات الربوبية وغير ذلك.

فأما الملائكة فليس لهم ترقيات بالمجاهدة. بل لكلٍّ منهم «مقام معلوم» لكن له ذوق مخصوص في نفس عملهم وفيوضات بنسبة درجاتهم، في نفس عباداتهم. فمكافآت خَدَماتهم مندرجة في عين خدماتهم. فكما يتغذى الإنسان بالماء والهواء والضياء والغذاء ويتلذذ بها، كذلك الملائكة يتغذَّون ويتنعّمون ويتلذذون بأنوار الذكر والتسبيح والحمد والعبادة والمعرفة والمحبة، لأنهم من النور فيكفي لغذائهم النورُ والنوراني، كالروائح الطيّبة، ولهم سعادة عظيمة في فعلهم بأمر معبودهم، وفي عملهم بحسابه، وخِدمتِهم باسمه، ونظارتِهم بنظره، وتشرّفهم بانتسابه، وتنـزهّهم بمطالعة مُلكه وملكوته، وتنعّمهم بمشاهدة تجليات جماله وجلاله.

وأما الحيوانات فلوجود النفس المشتهية فيها مع اختيارٍ جزئي ليست أعمالُها خالصةً بحسابه وحسْبةً محضةً لوجهه، فلهذا يعطيها مالِكُها الكريم معاشا في ضمن عملها لأجله.

مثلا: إن العندليب المشهور بالعشق للورد يستخدمُه فاطرُه الحكيم لإعلان المناسبة الشديدة بين طوائف النبات وقبائل الحيوان. فالعندليب خطيب رباني من طرف الحيوانات -التي هي ضيوف الرحمن- وموظّف لإعلان السرور بهدايا رازقها. ولإظهاره حُسن الاستقبال للنباتات المرسَلة لإمداد أبناء جنسه، ولبيان احتياج نوعه البالغ ذلك الاحتياجُ إلى درجة العشق، على رؤوسِ جميلاتِ النباتات، ولتقديم ألطف شكرٍ في ألطف شوقٍ في ألطف وجهٍ لجنابِ مالكِ الملك ذي الجلال والجمال والإكرام.. فهذه غايةُ عمله بحسابه سبحانه، فهويتكلم بلسانه فنفهم هذه المعاني منه، وإن لم يَعرف هومعنى نغماته بتمامها. وعدمُ معرفة البلبل بهذه الغايات بتفصيلها لا يستلزم عدمَها، لا أقلَّ يكون كالساعة تُعلّمكَ الأوقات وهي لا تعلم ما تعمل. وأما معاشُه الجزئي فذوقه بمشاهدة الأزهار المتبسّمة وتلذّذُه محاورتها. فليست نغماته الحزينة تألّماتِ شكاياتٍ حيوانية، كلّا بل هي «تَشَكُّراتُ عطايا رحمانية». وقس عليه النحل والفحل والعنكبوت والنمل وبلابل الهوام وغيرها. فلكلٍّ منها معاشٌ جزئي في ذوق خصوصيّ في ضمن خدمتها لغاياتٍ كليةٍ ولصنعةٍ ربّانية كالنفر المستخدَم في سفينة سلطانية.

فالحيوانات بامتثالها للأوامر التكوينية بكمال الإطاعة، وإظهارِها لغايات فطرتها بأحسن وجه باسمه، وتظاهرات حياتها بوظائف [15] بأبدع طرز بحوله، وهكذا من سائر تسبيحاتها.. تقدم هدايا عباداتها ومزايا تحياتها لجناب فاطرها.

فالتحيات تظاهرات الحياة بلطائف آثارها المطلوبة لواهب الحياة.

وأما النباتات والجمادات فلأجل أن لا اختيار لها، لا معاشَ لها، فأعمالُها خالصةٌ لوجه الله، وحاصلةٌ بمحض إرادة الله وباسمه وبحسابه وبحوله. إلّا أنه يتظاهر من حال النباتات أن لها تلذّذاتٍ بوظائفها ولا تألماتِ لها، خلافا للحيوان المختار. فله الألم كاللذّة. ولأجل عدم تداخل الاختيار في أعمال الجماد والنبات تكون آثارها أكمل من أعمال ذوي الاِختيار، ثم عملُ ذي الاختيار المنوّر بالوحي والإلهام كالنحل وأمثاله أجملُ من غيره المعتمِد على اختياره.

وأما الإنسان فهوكالمَلَك في كلية العبادة وشمول النظارة وإحاطة المعرفة ودلّالية الربوبية، بل أجمع منه. إلّا أن له نفسا شريرة مشتهية، فله ترقيات وتدنيات.

وكالحيوان في إدخاله في عمله حظا لنفسه وحصةً لذاته، فله معاشان معجّل جزئي حيواني، والآخر مؤجل كلي مَلَكي. فتأمل تَنَلْ.

ولقد ذكرنا في دروس «رسالة النور» كثيرا من أسرار عبودية الإنسان ووظيفته وقسما من عبادة النبات والجماد وتسبيحاتهما فلا حاجة إلى التطويل هنا، فإن شئت فراجع تلك الدّروس لترى سرّ سورة «والتين والزيتون» وسورة «والعصر».

«تتمة لمبحث العندليب»

ولا تحسبن أن هذه الوظيفة الربّانية في الإعلان والدلّالية والتغني لذوي الأسماع بهزجات التسبيحات مخصوصةٌ بالعندليب. بل كل نوع له عندليب يمثل ألطفَ حسيّات ذلك النوع بألطف تسبيح في ألطف تسجيع. لاسيما في أنواع الهوام والحشرات؛

فمنها ما له عندليب وبلابل كثيرة، تنشد على رؤوس كثير من أنواع الهوام والحشرات الصغيرة المختلفة سجعاتِ تسبيحاتٍ يلتذّ باستماعها جميعُ مَن له سمع.

فمنها ليلية ذات سرود؛ في مسامرةٍ لصغار الحُوَينات من نوعها وغير جنسها في سكوت الليل وسكونه حتى كأنها قطب حلقةِ ذكرٍ خفي. لأن الغناء كاللسان المشترك العمومي يفهمه كل من له سمع وحسّ.

ومنها نهارية؛ ذات تسبيحات بتسجيعات وهزجات لطيفة رفيعة تنشدها في فصل الصيف على منابر الأشجار على رؤوس جميع ذوي الحياة. وهي تفوق البلبل المشهور بمراتب حتى كأنها رئيس حلقةِ ذكرٍ جهريّ تُهيّج جذبات المستمعين وتُنطقهم كلٌّ بلسانه.

وأفضلُ جميع الأنواع وأشرفُ عندليبها وأنورُها وأبهرُها وأعظمُها وأكرمُها وأعلاها صوتا وأجلاها نعتا وأتمّها ذكرا وأعمّها شكرا، عندليبُ نوعِ البشر في بُستان الكائنات، حتى صار بلطيفاتِ سجعاته بلبلَ جميع الموجودات في الأرض والسماوات.. عليه وعلى آله وأمثاله أفضل الصلوات وأجمل التسليمات. آمين.

اعلم أنه يُفهم من كمال ذكاوة الحيوان وقتَ خروجه إلى الدنيا، ومهارته في العلم العملي المتعلق بحياته، أن إرساله إلى الدنيا للتعمّل لا للتكمل بالتعلّم.

ويُفهم من كمال جهالة الإنسان وعجزه وقت إخراجه إلى الدنيا واحتياجه إلى التعلّم في كل مطالبه وفي جميع عمره أن إرساله إلى الدنيا للتكمّل بالتعلّم والتعبّد لا للتعمّل. وما عملُه المطلوب إلّا تنظيم أعمالِ ما سخّره الله له من النباتات والحيوانات والاستفادة من نواميس الرحمة.. وإلّا الدعاء والالتجاء والسؤال والتضرع والتعبّد لمن سخّر له مع نهاية ضعفه وعجزه وغاية فقره واحتياجه هذه الموجودات. وما علمُه المقبول إلّا معرفةُ مَن كرّمه وسخّر له وجهّزه للعبادة والسعادة بتعلّمِ حكمةِ الكائنات بوجهٍ يُنتج معرفةَ خالقها بأسمائه، وصفاته وجلاله وجماله وكماله. وغيرُ هذا الوجه إما ما لا يعنينات أوضلالات.

اَللَّهُمَّ اجعلنا لك عبيدا في كل مقام قائمين بعبوديتك متضرّعين لألوهيتك مشغولين بمعرفتك.

اعلم أن الخالق الحكيم، لامتناع العجز عليه، ولكمال جُوده، يخلق الذرة كما يخلق الشمس، ويعطي لها الوجود مثلها.. فكما يخلق الذرة مع الشمس، كذلك يخلق أصغر النبات كأكبر الشجر. وكما يخلق المَلَك المسخّر على الشمس مع المَلَك المسخّر على القطرة، كذلك يخلق أصغر الحوينات كأكبر الحيوان، فيستعبده مثلَه، ويوجِد الفردَ الواحد بأحسن وجه، كما يوجد مجموع الأفراد الغير المحدودة.. ولكل من الموجودات صغيرا وكبيرا قليلا وكثيرا وظيفةٌ لائقة.. وحكمة مناسبة وغاية حسنة.. من خزينة رحمةِ مَن ﴿اِنَّمَٓا اَمْرُهُٓ اِذَٓا اَرَادَ شَيْـًٔا اَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴿82 فَسُبْحَانَ الَّذي بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَاِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (يس:82، 83).

[16] اعلم أيها المسلم أن لك في تطبيق عملك العرفي ومعاملتك العادية على الأصول الشرعية.. خزينةً أُخروية وإكسيرا كبيرا. يصير به كل عمرك عملا، وكل عاداتك المباحة عبادةً، وغفلتُك بمشاغلك حضورا.

مثلا: إذا بعتَ أواشتريت شيئا وعملت بما يقوله الشرع في تلك المعاملة فتخطرتَ حُكمه في الإيجاب والقبول، صار لك نوع حضورٍ وعبادةً وإطاعة وعملا أخرويا، فقِس واغتنم.

طوبى لمن نوّر حركاتِه بالآداب الشرعية. فيا سعادة مَن وفّقه الله لاتّباع السنّة في أعماله ومعاملاته حتى أورث عمرُه الفاني أثمارا باقية.. ويا خسارة مَن خذله الله باتباع الهوى فاتّخذ إلهه هواه حتى صار عمرُه هواء وعمله هباءً.

اَللَّهُمَّ وفّقنا لمرضاتك والعمل بكتابك وسنة نبيّك. آمين.

اعلم أنه كما أن من الإنسان مَن هم رُعاة، ولهم نظارة على تنظيم حركاتِ قسمٍ من الحيوانات، ونوع محافظةٍ له. وكذا منهم زُرّاع لهم نظارة على تنظيم زرعِ قسمٍ من الحبوبات، ونوع ترتيب له.. كذلك إن من الملائكة مَن هوراعٍ بنوع من الحيوان في مرعى وجه الأرض، لكن ليس كالإنسان، بل نظارتُه ورعيُه بمحض حساب الله وباسمه وبحوله وبأمره، بل نظارتُه هي مشاهدتُه لتجليات الربوبية في ذلك النوع، ومطالعتُه لجلوات القدرة والرحمة فيه، وإلهامُ الأوامر الإلهية لها لأفعال ذلك النوع الاختيارية.

ومنهم من له نظارة على نشر نوع من النباتات في مزرعة الأرض بإذن الله وبأمره وباسمه وبحوله. بل نظارتُه لها تمثيلُ تسبيحاتها وتحيّاتِها لفاطرها، وإعلانُها، مع نوعِ تنظيم وحماية بحسنِ استعمال الجهازات الموهوبة لها.

فهذه الخدمة، بنوع كسب، بدون تصرّف حقيقي -إذ في كل شيء سكّةٌ خاصّة بخالق كل الأشياء ليس لغيره فيها مجال- عبوديةٌ وعبادات لهم، لا عادات كالإنسان. فحضرةُ ميكائيل عليه السلام الذي هومِن حملة عرش الرزاقية، له عبودية بنظارة على جنس النباتات في مزرعة الأرض، وتحته نُظّار على نوعٍ نوعٍ بقوة الله وبحَوله وبأمره وباسمه، وهكذا نُظّار الحيوانات.

فإن شئتَ درْكَ هذا المعنى فانظر إلى الأرض كيف صيّرها الفاطر الحكيم مزرعةً واسعة ومرعى عظيما للنباتات والحيوانات.. ثم انظر إلى أنواع النباتات المنشورة بانتظام عجيب في توزيع بذوراتها في الأطراف بتقسيم غريب بحكمة فاطرها القدير العليم.. وإلى أنواع الحيوانات المنشورة بطرز غريب بتقسيم عجيب وهي تسرح في مرعى الأرض في حُسن انتظامٍ بعنايـة خالقها الحكيم الكريم جل جلاله وعمّ نواله ولا إله إلَّا هو.

* * *