[لا أشبع من مطالعة الرسائل]

أستاذي المحترم!

إن هذه «الرموز»([1]) آثار بديعة خارقة تثير الإعجاب، حيث تمنح عشاقَ العلم من القراء أذواقا لا نهاية لها ومشاعر رقيقة رفيعة، ولقد تجددتْ حياتي بهذه المشاعر العالية -بشرط أن يُثبتنا المولى في هذه الحياة الجديدة- حتى أتمنى منه تعالى العمر المديد. فلا غرو أنى لا أشبع من مطالعتها، فمهما قرأتُها وكأني لم أقرأها، وأكون كمن يقرأ مؤلَّفا جديدا فأقرؤها بذوق معنوي لا يُحدّ ولذة روحية لا تنتهي.

وهكذا الأمر سواء في «الكلمات» أو «المكتوبات» أو «الرموز». وأظن أن الوصف الخارق لهذه الرسائل يتمركز في هذه النقطة الدقيقة. علما أن الإنسان إذا ما قرأ المؤلفات الأخرى مرة واحدة لا تثار عنده رغبةٌ لإعادة القراءة.

نعم، إني مهما بالغت في قراءة هذه الأنوار القرآنية لا أستطيع دفعَ الجوع عن قراءتها مرة أخرى ولاسيما «الرموز»، فقد سحرتني وأغرقتني في الإعجاب، لذا باشرتُ فورا باستنساخها.

رأفت

* * *

[سلواني الوحيد]

أستاذي العزيز الرؤوف!

إنكم تحاولون تنبيه طالبكم الذي يُكنّ لكم الحب في الله، هذا العاجز، وتسعَون لإرشاده بشتى الوسائل وتعليمه دروسا معنوية رفيعة جدا. بيد أنى لا أستطيع أن أستفيض كما يستفيض إخوتي الأعزاء الموقرون الذين يجالسونكم ويتشرفون بصحبتكم وقربكم معنىً ومادة ممن لهم قدم صدق في خدمة القرآن الكريم بتوفيق الباري سبحانه وتعالى.

إنني أحيل سبب ذلك إلى العصيان وإلى زيادة الخطيئات وإلى تأثير المحيط والأحداث التي تعرقل العمل المنور، وأحيلها في أوقات كثيرة إلى هجماتِ نفسي الأمارة بالسوء وهجمات شياطين الجن والإنس.. ومن هنا أشعر بشقاوتي.

نعم، وفضلا عن هذا فإني أشعر بالنِعم التي نلتُها والتي لا تعد ولا تحصى، والتي لم أتمكن من إيفاء شكرها مع الأسف الشديد. علما أن كل يوم وكل ساعة بل كل دقيقة وثانية تنبهني بانقضاء حياتي الفانية والرحيل من هذه الدنيا القصيرة العمر، ورغم هذا لا أستطيع أن أكف يدي عنها. وإن سلواني الوحيد هو ارتباطي الوثيق بالقرآن العظيم وإيماني الذي لا يتزعزع بالدين المبين والنبي الكريم ﷺ وما أتاه من شريعة غراء، وشدة ارتباطي بأستاذي المحبوب. فآمل ألّا تدع هذا الغارقَ في الذنوب محروما من دعواتك الطيبة.

خلوصي

* * *

[حول العلاقات بين الأستاذ والطلاب]

إخوتي خسرو، لطفي، رشدي!

سأبين لكم وجهة نظري -بما يفيدكم- حول العلاقات القائمة بين الأستاذ والطلاب وزملاء الدرس، وهي:

أنتم يا إخوتي، طلابي -بما هو فوق حدّي- من جهة، وزملائي في الدرس من جهة أخرى، ومساعديّ وأصحاب الشورى من جهة أخرى.

إخوتي الأعزاء!

إن أستاذكم ليس معصوما من الخطأ، بل من الخطأ الاعتقاد أنه لا يخطئ. ولكن وجود تفاح فاسد في بستان لا يضر بالبستان، ووجود نقد مزوّر في خزينة لا يسقط قيمة الخزينة.

ولما كانت السيئةُ تُعدّ واحدة بينما الحسنة بعشر أمثالها، فالإنصاف يقتضي عدم الاعتراض وتعكيرِ صفو القلب تجاه الحسنات إذا ما شوهدت سيئةٌ واحدة وخطأ واحد.

وحيث إن المسائل التي تخص الحقائق والمسائل الكلية والتفصيلاتِ هي من قبيل السانحات الإلهامية بصورة عامة، فلا غبار عليها قطعا، وهي يقينية.

أما مراجعتي لكم فيما يخص تلك المسائل واستشارتي لكم حولها، فهي في نمط تلقّيكم لها، وليست لكونها حقيقة وحقا أم لا؟ فلا تردد لي قطعا من كونها حقيقة، إلّا أن الإشارات التي تعود إلى المناسبات التوافقية تَرِد بصورة مطلقة ومجملة وكلية، إذ هي سانحات إلهامية. ولكن أحيانا يختلط ذهني القاصر، فيخطئ فتظل التفاصيل والتفرعات ناقصة. فخطئي في هذه التفرعات لا يورث ضررا للأصل وما هو بحكم المطلق.

وحيث إني لا أجيد الكتابة، ولا يتيسر وجود الكاتب لديّ دائما، تظل التعابير مجملة وعلى صورة ملاحظات ليس إلّا، فيستشكل على الفهم.

اعلموا يا إخوتي ويا رفقائي في الدرس، إنني أسرّ إن نبهتموني بكل صراحة لأي خطأ ترونه عندي، بل أقول: ليرضَ الله عنكم إذا قلتموه لي بشدة؛ إذ لا يُنظر إلى أمور أخرى بجانب الحق. إنني مستعد لقبول أية حقيقة كانت يفرضها الحق، وإن كنت أجهلها ولا أعرفها فأقبلها وأضعها على العين والرأس ولا أناقشها وإن كانت مخالِفة لأنانية النفس الأمارة.

اعلموا أن هذه الوظيفة الإيمانية وفي هذا الوقت جليلةٌ ومهمة. فلا ينبغي لكم أن تضعوا هذا الحمل الثقيل على كاهل شخص ضعيف مثلي وقد تشتت فكرُه، بل عليكم معاونته قدر المستطاع.

نعم، إن الحقائق المجملة والمطلقة، تنطلق ونكون نحن وسائلَ ظاهرية لها، أما تنظيمُها وتنسيقها وتصويرها فهي تعود إلى إخوتي الأكفاء، وأحيانا أتدخل في التفاصيل والتنظيم بدلا عنهم فتظل ناقصة.

إنكم تعلمون أن الغفلة تستحوذ أكثر في موسم الصيف، حيث يفتر كثيرٌ من الزملاء عن الدرس ويضطرون إلى تعطيل الأشغال، فلا يقدرون على الانشغال بجد بالحقائق.

إخوتي! نحن في أشد الحاجة في هذا الزمان إلى القوة المعنوية تجاه الضلالة والغفلة، فأنا مع الأسف باعتباري الشخصي ضعيف ومفلس؛ فليست لي كرامةٌ خارقة كي أثبت بها هذه الحقائق، وليست لي همة قدسية كي أجلب بها القلوب، وليس لي دهاء عُلوي كي أسخّر به العقول، بل أنا بمثابة خادم متسول أمام ديوان القرآن الكريم.

أخوكم

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[سؤال حول الروح]

باسمه سبحانه

كُتب للسيد خلوصى

سؤال: ما الداعي لقول الإمام الغزالي: إن النشأة الأولى مخالفة تماما للنشأة الأخرى؟

الجواب: إن قول حجة الإسلام الإمام الغزالي من أن النشأة الأولى مخالِفة تماما للنشأة الأخرى، هي مخالفةٌ باعتبار الكيفية والصورة. وليست باعتبار الماهية والجنسية، لأنها تكون معارضة لصراحة آيات كريمة كثيرة، مثل: ﴿وَيُحْيِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاۜ وَكَذٰلِكَ تُخْرَجُونَ (الروم:19)، و﴿وَهُوَ الَّذي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ (الروم:27).

ثم إنه إشارة إلى أن الأمور الأخروية من حيث المرتبة رفيعة جدا.. ثم إنه إشارة للغزالي إلى وقوع الحشر الجسماني مع الحشر الروحاني أيضاً، تقليدا ومسايرة لبعض الباطنية.

سؤال: إن سعد الدين التفتازاني بعد تقسيمه الروح إلى قسمين؛ أحدهما: روح إنسانية، والأخرى: روح حيوانية، يقول: «إن المعرضة للموت هي الروح الحيوانية وحدها؛ أما الإنسانية فليست مخلوقة، وليست بينها وبين الله نسبة ولا سبب. فقد استقلت بذاتها وليست قائمة بالجسد». ما سبب قوله هذا وما إيضاحه؟

الجواب: إن قول سعد الدين التفتازاني «الروح الإنسانية ليست مخلوقة»: يعني أن ماهية الروح قانون أمري ذو حياة ومرآة ذات شعور لاسم الله الحي، وجلوة ذات جوهر من تجليات الحياة السرمدية، وذلك مضمون قوله تعالى: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ اَمْرِ رَبّي (الإسراء:85). لذا فهي مجعولة. ومن هذه الجهة لا يقال: إنها مخلوقة. وقد قال السعد في المقاصد وفى شرح المقاصد موافقا لجميع علماء الإسلام المحققين ومنسجما مع نصوص الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة: «إن قانون الأمر ذاك قد أُلبس وجودا خارجيا، فهي مخلوقة وحادثة كسائر المخلوقات». وجميع آثاره شاهدة على عدم قوله بأزلية الروح.

أما قوله: «ليست بينها وبين الله نسبة» فهو إشارة إلى ردِّ مذهبٍ باطل كالحلول. فروح الحيوانات كذلك باقية، وتفنى أجسامُها وحدها في القيامة. بينما الموت ليس فناءً بل هو انقطاع العلاقة.. أما قوله: «ولا سبب» فإشارة إلى خلق الروح مباشرة دون توسط الأسباب، كما جاء في مناجاة عزرائيل عليه السلام في قبض الأرواح.. أما قوله: «استقلت بذاتها» فإن الجسد يستند إلى الروح فيبقى قائما؛ بينما الروح قائمة بذاتها -كما ذكر في إثبات بقاء الروح- فإذا ما دُمّر الجسد تكون الروحُ حرة أكثر وتحلّق إلى السماء كالملاك، وهو إشارة إلى ردّ مذهب باطل.

* * *

[العلاقة التي لا يقيدها زمان ولا مكان]

خطاب إلى السيد خلوصي

باسم من ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمٰوَاتُ السَّبْعُ وَالْاَرْضُ وَمَنْ فيهِنَّۜ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ (الإسراء:44).

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته بعدد عاشرات دقائق عمركم، عمّركم الله بالسلامة والعافية.

أخي العزيز!

لقد آلمتني رسالتُكم، ولكن فكرت في حقيقةٍ، فزال الألمُ. والحقيقة هي الآتية:

إن العلاقة التي تربطنا والأخوة القائمة بيننا خالصةٌ وفي سبيل الله -إن شاء الله- لذا لا يقيّدها زمان ولا مكان. فالمدينة والبلدة والبلاد بأكملها بل الكرة الأرضية، بل الدنيا، بل عالم الوجود، بمثابة مجلس بالنسبة لأخوَين حقيقيين. فلا فراق في هذه الصداقة والأخوة، بل وصالٌ كلها. ومالَنا.. فليفكر أصحابُ الصداقات الفانية المجازية الدنيوية! إنـه لا فــراق في مسـلكنا. أينما تكن تستطع إجـراء المحاورة مع أخيك هذا، بوساطة مـا فـي يـدك من «الكلمات»؛ وأنـا كذلك متى ما شئت يمكنني مشـاهدتك بجنبي رافعين أيدينا إلى المولى الكريم. فإن أرسـلك القدرُ الإلهي إلى مكان آخر فسـلّمْ أمرَك إليه بكمال الرضى، إذ الخيرُ فيما اختـاره الله. ولعل الأماكن الأخرى محتاجـة إلى صـاحـب قلب سـليم وعقل مستقيم مثلك يلقّن درس الإيمان التحقيقي. فلقد خدمتَ ولله الحمد للإيمان خدمة جليلة في «أكريدير».

أخي العزيز!

إن مشاغل الربيع والصيف وقِصَرَ الليالي ومرور الشهور الثلاثة، وأخذَ أغلب إخوتي نصيبهم منها.. وأسباباً أخرى تولِّد -بلا شك- شيئا من الفتور في دروس الشتاء. ولكن الفتور الناشئ من تلك الأسباب يجب ألّا يصيبكم، لأن تلك الدروس علوم إيمانية، يكفي للإنسان أن يُسمعها لنفسه وحده. فضلا عن أنكم تجدون دوما أخا أو أخوَين حقيقيين. ثم إن الذين يستمعون إلى ذلك الدرس ليسوا من البشر فقط، بل لله سبحانه وتعالى مخلوقاتٌ ذوات شعور كثيرةٌ تتلذذ كثيرا من استماع الحقائق الإيمانية، فلكم إذن أصدقاء كثيرون ومستمعون كثيرون من هذا النوع.

وكذا فإن المجالسة الإيمانية المتسمة بالتفكر على هذا النمط، زينة وبهجة لسطح الأرض ومدارُ شرفٍ لها، ولقد قال أحدهم إشارة لهذا:

آسـمان رشك بردبـهر زمين كـه دارد

يك دوكس يك دو نفس بهر خدا بر نشينند

بمعنى أن السماوات تغبط الأرض لما فيها من شخصين يجلسان أنفاسا معدودة -أي لدقيقتين- مجالسة خالصة لوجه الله، في ذكر وتفكر. فيبين كلٌّ منهما للآخر الآثار الجميلة لرحمة ربه الجليل وصنعته المزينة الحكيمة فيحب ربه ويحببه، ويفكر في آثاره ويحمل الآخر على التفكير.

ثم إن العلم قسمان: نوع منه يكفي العلمُ به ومعرفته والتفكر فيه مرة أو مرتين.. والآخر: كالخبز والماء؛ يحتاجه الإنسان ويفكر فيه كلَّ وقت. فلا يمكنه أن يقول: لقد فهمته وكفى. فالعلوم الإيمانية من هذا القسم، و«الكلمات» التي في أيديكم من هذا القسم -على الأكثر- إن شاء الله..

* * *


[1] الرموز الثمانية: رسالة تبين التوافقات اللطيفة في أسماء الله الحسنى في القرآن الكريم وأسرار حروفه وكلماته.