[الأنوار لا تبقى مهملة]

آمُل هنا أن أُسمِع الآخرين تلك «الكلمات» التي عُهد إليّ حملُ أمانتها، أُسمِعها إلى آذان صاغية بإذنه تعالى ثم ببركة دعائكم.

اطمئنوا يا أستاذي المحترم، أن هذه الأنوار لا تبقى مهملة قطعا. فالخالق الكريم الذي أظهرها لأنظار العالم بدلّال القرآن وخادمه سينشرُها وسيحافظ عليها حتى بأناس عاجزين كأمثالنا، وممن لا يُخطَرون على بال.

فإنني على قناعة من أن خدام القرآن الذين يقولون قد كسبنا هذا بفضل سعينا وجهودنا سيرَون في ذلك اليوم أن تلك الخدمة المقدسة قد عُهدت إلى أناس هم أهلٌ لها ولو أنهم في الظاهر يَبدون ضعفاءَ ليسوا من أهلها. ولهذا أرجو من إخواني هناك أن يكونوا على ارتباط وثيق برسائل النور.

خلوصي

* * *

[الساعات المباركة]

إنني في الأوقات التي أوفَّق فيها -بحول الله وقوته الصمدانية وعناية الله ولطفه الرباني- إلى السعي لمطالعة رسائل النور، مكتوباتِ النور، واستنساخها ونشرها وتبليغها الناس -حسب المستطاع- وأمثالها من أعمال البر العظيمة.. أكون -وأنا الفقير إلى الله- المستفيدَ والمستفيض أولا وبالذات في تلك الأوقات التي أغتنمها لإفادة الآخرين. ولهذا أجد تلك الساعات مباركةً جدا، وأتألم من فراقها. وأتمنى العيشَ بكل روحي وقلبي دائما في أجواء تلك الساعات ودوامِها وعدم انقطاعها.

ولكن ما الحيلة؟ فإنني في تلك الأوقات التي أغتنمها والتي تمضي بسرعة، أصفّي ذهني وأواجه الأنوار. حيث أجد نفسي أمام مجموعة من الرسائل التي تضم معجزات القرآن، وأحسب نفسي في مدرسة أستاذي العزيز وفي الروضة الطاهرة لسيد الكونين سيدنا الرسول الأعظم ﷺ. وفي خاتمة المطاف أعرج إلى الحضرة الإلهية المنـزهة عن المكان.

ولهذا السبب أتمنى ألّا تكون تلك الأوقاتُ التي لا أنشغل بها بالرسائل من أنفاسي المعدودة من حياتي.

خلوصي

* * *

[نوافذ النور]

قرأت الأسبوع الماضي «الذيل الأول والثاني للمكتوب الرابع والعشرين»، قرأتهما على جماعتين مختلفتين. وأصبح المستمعون نشاوى من الإعجاب. وأنا هذا الفقير قد غشيني نورُ ذلك الإعجاز القرآني. وأنا أطالع هذه الرسائل كأسطعِ وأنورِ ما في «الكلمات» و«المكتوبات» النورية.

وقد قرأت اليوم (الجمعة) لجارنا «السيد فتحي»، الكلمتين «الحادية عشرة والثالثة عشرة». ففي الأوقات التي أغتنمها فرصةً للانسلال من المشاغل الدنيوية أُسرع إلى نوافذ النور المفتّحة على مصراعيها، تلك «الكلمات» النورية، فآخذ منها غذائي الروحي والمعنوي وأحاول أن أجد أحدا من الناس لأبلّغه بها.

خلوصي

* * *

[الرسائل تسدُّ حاجة الزمان]

تسلّمت «المكتوب السادس والعشرين» بكل سرور، قرأتُه مرات ومرات وبإمعان ولهفة ومحبة ولذة وشوق. وتضرعتُ في الختام إلى الباري الجليل القائل: ﴿قُلْ مَا يَعْبَؤُ۬ا بِكُمْ رَبّي لَوْلَا دُعَٓاؤُ۬كُمْۚ﴾ (الفرقان:77). فدعوتُه سبحانه بلسان انتسابي إليه بالعبودية، وأنا في عجز تام وفقر كامل وشوق عارم، دعَوتُه دعوة خالصةً لوجهه الكريم، بالتوفيق لخدماتكم الخالصة لله تعالى، المادية منها والمعنوية، الظاهرة منها والباطنة، والدنيوية منها والأخروية.. وتضرعت إليه جلّ وعلا أن ينشر تلك الأنوار بوضوح وجلاء إلى أهل الإيمان والقرآن. وأن يسجّلها الربُّ الجليل عنده بلطفه وكرمه العميمين. وأن يجعل أستاذنا المحترم عزيزا في الدارين. وأَمَلي أن يحظى دعائي هذا بنور الآية الكريمة: ﴿ادْعُونٓي اَسْتَجِبْ لَكُمْ (غافر:60).

أستاذي المحترم! أليس الذي تنتظره منا هو الدعاء؟ لقد جرّب هذا الفقيرُ، وحصل لديّ اليقين الجازم أن قوله تعالى: ﴿وَقُلْ جَٓاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ (الإسراء:81) له معجزات خالدة لا تموت. فلقد يسّر الله أنْ قرأتُ الرسائل المرسَلة إليّ هذه المرة على جماعات متنوعة شتى وكان منهم علماء، وجميعُهم أبدوا إعجابهم الشديد وتقديرهم العظيم لها.

أما أنا فأقول: إن جميع ما في رسائل النور: «الكلمات» و«المكتوبات» النورية إنما هي لحاجة الزمان، وإن لها المَقدِرةَ على إقناع كل صنف من أصناف أرباب الدين، بل إلزامِ الملحدين، بشرط ألّا يكونوا عنيدين موغلين في العناد. ومع هذا فإن الذين ابتُلوا بحب الدنيا -التي تسوق إلى المنافع والمصالح والحرص على الحياة، وفيها الكفر والعناد والغفلة والكسل والشرك والضلال وأمثالها- من المصابين بالأمراض المستعصية، أقول: لا يُستبعَد من هؤلاء إغماضُ العين إزاء تلك الحقائق وإنكارُهم لما يشاهدونه من حق وحقيقة، وغيرُها من الحماقات والجنون. بمعنى أن مَضيف المولى الكريم لا يخلو من أنعام في صور أناسي.

فلو هيأ الله سبحانه وتعالى من يقوم بنشر هذه الأنوار، فلا شك أن تلك الهذيانات والبلاهات تتوضح أكثر.

خلوصي

* * *

[درجات الإعجاب والتقدير]

وهذه فقرة لأخي عبد المجيد

إن هذه المؤلفات تحظى بالتقدير والإعجاب من قبل التجار والكسَبة والجماعات كافة، فما رآها أحدٌ إلّا وأعجب بها. فهي مؤلّفات سالمة من الانتقاد، ولكن درجات الإعجاب والتقدير متفاوتة حسب درجات الفهم والإدراك. فكلٌّ يستطيع أن يقدّرها حسب درجة فهمه لها.

عبد المجيد

* * *

[رسالة أخيرة إلى العم الفاضل]

رسالة ابن أخي عبد الرحمن -سلف السيد خلوصى- الذي توفي وهو في السادسة والعشرين من عمره، وقد كتبها قبل وفاته بشهرين.

باسمه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أقبّل أياديكم الكريمة، وأرجو دعواتكم الطيبة. وقد تسلّمت خبرَ عافيتكم وراحتكم مع رسالتكم «الكلمة العاشرة» التي ترشد إلى الخير والسداد. وذلك بوساطة السيد تحسين. فأقدم لكم جزيل شكري وامتناني.

وعلى الرغم من أنني نادم على مفارقتي لكم -خلافا لأمركم- ومستحقٌ لعتابكم عليّ، فإن هذا الأمر كان مقدّرا إذن، ولعل فيما حدث خيرا لنا. وما حدث إلّا بإرادة الله وأمره..

وبناء على هذا فإنني بدافع الجهل اقترفتُ ذنبا وقصّرت تقصيرا، وقد عوقبتُ من جرائه، ولكن بإذن الله لن أعاقَب بعد اليوم. فأرجو عفوَكم راجيا دعواتكم.

عمي العزيز!

أبيّن لكم أيضا هذا؛ إنه بفضل رعايتكم وغيرتكم وهمتكم صُنت نفسي عن كل ما يمسّ آخرتي بسوءٍ ويضرها من أعمال وأفعال. وما أزالُ كذلك بفضل الله. ومع أنني لاقيتُ كثيرا من ويلات الدنيا التافهة، وتجرّعت غصصها، وشاهدت كثيرا من ملذاتها وأفراحها أيضا، وأمضيتُها كلها.. ولكني رغم كل ذلك ما نسيتُ قطعا -وفي أي وقت كان- أن كل هذا هباءٌ في هباء. وأن لذائذ الدنيا كلّها وأفراحها التي ليست لله عاقبتُها وخيمةٌ، وهي الذل والعذاب الشديد. بينما متاعبُ هذه الدنيا التي يعانيها المرء في سبيل الله إنفاذا لأوامره الجليلة تفضي إلى لذائذ وأثوبة دائمة.

ولما كنت أعتقد الأمر على هذه الصورة فقد استطعت بفضل الله أن أصون نفسي من المفاسد؛ فهذا الشعور وهذه التربية إنما ترسختا في كياني وذهني وخيالى بفضل ما بذلتموه فيّ من جهد. ولكوني أعرف الحقيقة هكذا فإني صابر محتسب لله تجاه كل ما أقاسيه وأكابده.

والآن يا عمي العزيز، ويا أستاذي القدير!

إن مجاهدة نفسي الأمارة بالسوء، وعدم الانصياع لرغباتها المؤلمة العاقبة اضطرتني إلى الزواج. فأنا الآن في راحة من جميع النواحي بفضل الله وكرمه ولطفه ورحمته تعالى عليّ. حيث لا أختلط مع الآخرين لئلا أسمع المكروه، ولئلا تتسرب فيّ خصالٌ فاسدة، لذا أقضي أوقاتي بعد الدوام الرسمي في البيت شاكرا لله تعالى.

وبعد، فيا عمي العزيز! إن أستاذي العظيم ومرشدي الأكبر هو ما أستشعره وأتحسسه من الآية الكريمة: ﴿اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلٰٓى اَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَٓا اَيْديهِمْ وَتَشْهَدُ اَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (يس:65). فهي التي أيقظتني من نوم الغفلة ومنعَتني من ارتكاب الشرور والمفاسد عقب إرشاداتكم لي.

وإني لأعتقد أن ذلك اليوم قريب جدا([1]) وأن دعائي دوما «اللّهم لا تخرجنا من الدنيا إلّا مع الشهادة والإيمان»، وأن عقيدتي التي أؤمن بها هي:([2]) آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى والبعث بعد الموت حق. أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله.([3])

ابن أخيكم: عبد الرحمن

* * *

بمعنى أن «الكلمة العاشرة» قد أصبحت له بمثابة مرشدٍ حقيقي بحيث رفعَته إلى مرتبة الولاية مباشرة فأنطقته بهذه الكرامات الثلاث.

لقد فارقني قبل ثماني سنوات، ثم استطاع الحصول على «الكلمة العاشرة». ومثلما يقول في مستهل رسالته، إنه استفاد منها استفادة عظيمة وطهّر نفسه من لوثات متراكمة طوال ثماني سنوات.

ويقول في موضع آخر من رسالته -التي طويت- بيانا لشوقه إلى «الكلمة العاشرة»: أَرسِل إليّ جميع ما ألّفتَه من «الكلمات» لأكتب من كل منها ثلاثين نسخة ولأستكتبها، كي تنشر ولا تضيع.

وهكذا فقد فقدتُ وارثا بطلا مثل هذا الوارث البطل. فإلى روحه الفاتحة.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *


[1] إنه لجدير بالملاحظة: أنه يخبر عن وفاته. (المؤلف)

[2] إنه يعلن أنه سيرحل من الدنيا بالإيمان. (المؤلف)

[3] إن ذكره -في رسالته الأخيرة- الكلمات الإيمانية التي ينطقها المرء لدى لفظه أنفاسه الأخيرة يشير إلى أنه قد أنقذ إيمانه ببطولة من قبضة هذه الدنيا وأنه سيتركها هكذا. (المؤلف)