سنة 1892م/1309هـ

إلى سعرد

بعد أن مكث مدة شهرين عند أخيه، ذهب إلى مدرسة «الملا فتح الله أفندي» في سعرد، فسأله الشيخ:

– كنت تقرأ «السيوطي» في السنة الماضية فهل تقرأ «الملا جامي» هذه السنة.؟

– نعم… لقد أنهيت قراءة الجامي.

فأيّما كتاب سأله عنه، أجاب بأنه أتمه. فتعجب من أمره إذ كيف يستطيع أحد أن يقرأ كل هذه الكتب في هذه الفترة القصيرة، حتى عبّر عن حيرته بأسلوب الملاطفة والمزاح:

– كنت مجنوناً في السنة الماضية، فهل ما زلت على جنونك؟

أجابه الملا سعيد:

– قد يكتم الإنسان الحقيقة عن الآخرين لئلا يداخله الغرور وليكسر نفسه الأمارة بالسوء، ولكن الطالب لا يستطيع سوى قول الحقيقة المحضة لأستاذه الذي يجلّه أكثر من والده. فإن تفضلتم بالأمر فأنا على استعداد للامتحان في الكتب التي ذكرتها.

فبدأ «الملا فتح الله» بطرح الأسئلة. فما سأل سؤالاً من أي كتاب كان إلّا وكان الجواب شافياً ووافياً.

وممن شاهد هذه المحاورة «الملا علي الصوران» الذي بدأ يتلقي الدرس من «الملا سعيد» علماً أنه كان قبل سنة واحدة أستاذاً لأستاذه.

ثم سأله «الملا فتح الله»: «حسناً.. إن ذكاءك خارق، ولكن دعنا نرى قوة حفظك! فهل تستطيع أن تحفظ بضعة أسطر من كتاب «مقامات الحريري» بعد قراءتها مرتين؟»

وتناول الملا سعيد الكتاب، وقرأ منه صحيفة واحدة مرة واحدة، فإذا بها كافية لحفظها. وقرأها لأستاذه حفظاً، فلم يملك أستاذه نفسه من القول في إعجاب ودهشة: «إن اجتماع الذكاء الخارق مع القابلية الخارقة للحفظ في شخص واحد من أندر الأمور».

وهناك حفظ «الملا سعيد» كتاب «جمع الجوامع» عن ظهر قلب بقراءته ساعة أو ساعتين في اليوم لمدة أسبوع. مما دفع هذا الأمر «الملا فتح الله» إلى كتابة العبارة الآتية على غلاف الكتاب: «قد جمع في حفظه جمع الجوامع جميعه في جمعة».

وبدأ أستاذه «الملا فتح الله» بالثناء عليه والإعجاب به في جلساته مع العلماء قائلاً: لقد أتى إلى مدرستنا طالب في أوج شبابه، وأجاب عن كل ما سألته عنه دون توقف، فأعجبت بذكائه النادر وعلمه الوافر أيما إعجاب.

ولهذا شاعت أحواله في «سعرد» مما أثار فضول علمائها، فأقبلوا عليه يمتحنونه ويحاولون إحراجه بأسئلتهم وذلك في اجتماع واسع حضره «الملا فتح الله» أيضاً. وكان بديع الزمان كلما يوجَّه إليه سؤال يمعن النظر في وجه أستاذه «الملا فتح الله» ويجيب وكأنه ينظر إلى كتاب ويقرأ، فالعلماء الذين شاهدوا هذا المنظر حكموا بأنه شاب خارق وأثنوا على ذكائه وعلمه ومنزلته.

وما لبث خبر هذا الشاب أن شاع وانتشر بين الأهلين في «سعرد» حتى بدأ الناس يوقرونه كتوقيرهم لولي من الصالحين، مما أثار الحسد عند بعض العلماء وطلاب العلوم الآخرين. ولما كانوا غير قادرين على منازلته والتغلب عليه في ساحة المعرفة وميدان العلوم حاول بعض الشباب إيذاءه بالقوة والصراع والعراك. فطرق سمع أهالي «سعرد» هذا الخبر فحالوا دون ذلك وأنقذوه من بين أيديهم، ووضعوه في غرفة حفاظاً عليه، ولكنـه لفرط حبه لأهل العلم، اندفع من الغرفة خارجاً وقرر أن يدافع عن معارضيه من طلاب العلوم حتى لو قضوا عليه، وذلك لئلا يكونوا هدفاً للجهلاء. فتوجّه إلى أحد الطلاب قائلاً: «اقتلوني… ولكن حافظوا على شرف العلم ومكانته».

وانصرف دون أن يهاجمه أحد من الطلبة… وهكذا زال الخلاف.

ولكن عندما سمع متصرف مدينة «سعرد» الخبر أرسل إلى الملا سعيد ثلة من الجندرمة ليبلغوه أنه أمر بنفي المعارضين له حفاظاً عليه وأنه يستدعيه لمقابلته. ولكن بديع الزمان خاطب رئيس الجندرمة: «نحن طلاب العلم، قد نتخاصم، ثم نتصالح ونتصافى فيما بيننا. فلا نرى من المناسب أن يتدخل من ليس من مسلكنا فيما يدور بيننا.على أن الخـطـأ قد صدر منـي فأرجـو إبـلاغ المتصرف اعتـذاري عـن المجيء».

كان الملا سعيد في هذه الأثناء في الخامسة عشر من عمره يتمتع بقوة البدن والنشاط فضلاً عن إفحامه جميع العلماء مما جعلهم يطلقون عليه «سعيدي مشهور» أي السعيد المشهور، حيث أعلن في «سعرد» أنه مستعد للإجابة عن أي سؤال كان يرد منهم دون أن يسأل أحداً سؤالاً.

عاد مرة أخرى إلى «بتليس» وطرق سمعه أن هناك سوء تفاهم بين «الشيخ محمد أمين أفندي» وشيوخ خيزان فحذّر الناس من مغبة الغيبة التي لا تليق بالمسلمين. فشكوه إلى «الشيخ محمد أمين أفندي» الذي قال: «إنه مازال صبياً ليس أهلاً للخطاب».

بلغ هذا الكلام سمع الملا سعيد، وهو الذي لا يتحمل أدنى من هذا الكلام. فحضر مجلس الشيخ، وقبّل يده وقال: «سيدي… أرجو التفضل بامتحاني، فإنني على استعداد لأن أثبت أنني أهل للخطاب».

فأعدّ «الشيخ أمين أفندي» ستة عشر سؤالاً من أعقد المسائل لمختلف العلوم ليوجهها إلى «الملا سعيد». ولم يتوان الملا سعيد من الإجابة عليها جميعاً.

وبعدها ذهب إلى «جامع قريشي» وبدأ بموعظة الناس وإرشادهم. وعلى إثره بدأ قسم من أهالي بتليس بتأييد بديع الزمان ومناصرته والآخرون بدؤوا يناصرون «الشيخ محمد أمين أفندي». فخشي متصرف المدينة من وقوع احتكاك بين الجماعتين فأصدر أمره بنفي الملا سعيد من المدينة إلى شيروان.

وقدّر الله أن تفوته صلاة الفجر ذات يوم. وما إن علم خصماؤه هذا الأمر حتى أشاعوا في المدينة: قد ترك الملا سعيد الصلاة.

وعندما سئل: «لماذا يتكلم الناس جميعاً هذا الكلام؟»

قال: «إنه لا يشيع أمرٌ لا أساس له بين الناس بهذه السرعة. فالخطأ مني، وقد عوقبتُ به بعقوبتين، أولاها: عتاب الله سبحانه، والأخرى: كلام الناس عليّ.

أما السـبب الأسـاس لهذا الأمـر فهو تركي الـورد الشـريف الذي اعتـدت على قراءته كل ليلة. فلقد أحـسّتْ روحُ الناس هذه الحقيقة إلّا أنـهـا لـم تستوعبها تماماً ولم تعـرف الخـطـأ فأطلقت اسماً آخـر على تلك الحقيقة».

وفي شيروان جاءه رجل من إحدى قرى سعرد وقال له: «لقد ظهر في سعرد عالم صغير يترواح عمره بين الرابعة عشر والخامسة عشر عاماً ولكنه غلب كل علماء المدينة، لذا أرجو منكم الذهاب إلى هناك لمناظرته».

لبّى سعيد هذه الدعوة وتهيأ للسفر معه، وبعد أن تركا المدينة وسارا لمدة ساعتين سأل سعيد مرافقه الداعي عن أوصاف ذلك الفتى العالم. فقال له: «إنني لا أعرف اسمه، ولكنه كان يلبس ملابس الدراويش عند قدومه مدينتنا ثم تزيّا بزي طلاب المدارس الدينية، وأفحم جميع العلماء».

عند ذلك علم سعيد بأن ذلك العالم الفتى لم يكن إلّا نفسه، أي إنه كان مسافراً لمناظرة نفسه! لذا رجع إلى شيروان. ثم ذهب إلى إحدى قصبات مدينة سعرد تُدعى تِيلُّو حيث اعتكف هناك.

سنة 1894م/1311هـ

انزواؤه في تِيلُّو

«كنت آنذاك منـزوياً -كحالي الآن- تحت قبة خالية، فكانوا يأتون لي بالحساء، وكنت أقوم بإعطاء النمل حبات الحساء واكتفي بغمس الخبز في سائل الحسـاء. سألوني عن السبب فقلت: «إن أمة النمل وكذلك النحل تعيـش في نظام جمهوري، وأعطي النمل الحبات احتراماً لنظامها الجمهوري».

ثم قالوا: «أنت تخالف بذلك السلف الصالح».

فأجبتهم: «لقد كان الخلفاء الراشدون خلفاء ورؤساء جمهورية في الوقت نفسه. فالصديق الأكبر رضي الله عنه كان دون شك بمثابة رئيس جمهورية للعشرة المبشرة وللصحابة الكرام. ولكن ليس تحت عنوان أو شكل فارغ، بل كل منهم رئيس جمهورية متدين يحمل معنى العدالة الحقيقية والحرية الشرعية».

«وفي أثناء اعتكافه في تيلّو حفظ من كتاب «القاموس المحيط» للفيروزآبادي حتى باب السين. وعندما سئل عن سبب قيامه بذلك أجاب: «إن القاموس يورد المعاني المختلفة لكل كلمة، وقد خطر لي أن أضع قاموساً أنحو فيه عكس هذا المنحى، أي أورد فيه عدد الكلمات المختلفة التي تشير إلى المعنى نفسه»».

دفع الظلم

وفي إحدى الليالي رأى في المـنام الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره وهو يخاطبه:ملا سعيد! اذهب إلى رئيس عشيرة ميران «مصطفى باشا»، وادعه إلى الهداية والرشاد والإقلاع عن الظلم، وليقم الصلاة ويأمر بالمعروف.. واقتله إن لم يستجب.

بادر الملا سعيد إلى الذهاب إلى عشيرة ميران قاصداً خيمة مصطفى باشا، ولكن لم يجده فجلس ليأخذ قسطاً من الراحة. وما إن دخل مصطفى باشا الخيمة حتى هبّ الحاضرون قياماً، احتراماً له، سوى الملا سعيد لم يحرك ساكناً. لمح الباشا ذلك فسأل أحد أمراء العشيرة «فتاح آغا» عن هذا الشاب فأعلمه أنه «ملا سعيد المشهور» وحاول الباشا كظم غيظه، وهو الذي ما كان ينشرح للعلماء، وسأل الملا سعيد:

– لِمَ أتيت إلى هنا؟

– جئت لإرشادك إلى الحق، فإما أن تتخلّى عن الظلم وتقيم الصلاة، أو أقتلك!

لم يتحمل الباشا هذا الكلام فاندفع خارج الخيمة، وتجول قليلاً ثم عاد إليها وكرر السؤال نفسه.

فأجابه الملا سعيد: «لقد قلت لك… جئت من أجل ما ذكرت!»

أشار الباشا إلى السيف المعلق بعماد الخيمة وقال بسخرية:

– أبهذا السيف الصدئ تقتلني!؟

– اليد هي التي تقطع لا السيف!

مرة أخرى ترك الباشا الخيمة وهو يفور غضباً، ثم دخلها مخاطباً الملا سعيد: «إن لي جمعاً غفيراً من العلماء في منطقة الجزيرة (جزيرة ابن عمر) وسأعقد مناظرة علمية فيما بينكم، فإن أقمت الحجة عليهم وألزمتهم، أنفّذ طلبك وإلّا فسألقيك في النهر».

قال الملا سعيد: «كما أنه ليس من شأني إلزام جميع العلماء، فليس باستطاعتك أن تلقيني في النهر. ولكن إن تفوقت عليهم أطلب منك بندقية «ماوزر» لأقتلك بـها إن لم تحافظ على وعدك».

عقب هذه المشادة العنيفة ذهبا معاً على الخيول إلى الجزيرة، ولم يتكلم الباشا مع ملا سعيد طول الطريق. ولما وصلا إلى أحراش «باني خاني» أخلد الملا سعيد إلى النوم بعد أن أصابه الإرهاق. ولما أفاق وجد علماء الجزيرة ومعهم كتبهم ينتظرون ساعة المناظرة.

انعقد المجلس… وبعد تبادل السلام دارت أقداح الشاي على الحاضرين ولكن العلماء كانوا في شغل شاغل عن الشاي، إذ كانوا يقلبون صفحات الكتب، مأخوذين بشـهرة الملا سعيد ومنتظرين أسئلته، بينما لم يحفل الملا سعيد بالأمر، ولم يكتف بشرب شايه، بل بدأ بارتشاف الشاي الموضوع أمام اثنين أو أكثر ممن حوله من العلماء المشغولين بالنظر في الكتب.

وعندها خاطب مصطفى باشا العلماء وهو يراقب مجرى الأمور: «على الرغم من أنني لست متعلماً فإنني أرى أنكم ستُغلَبون أمام الملا سعيد في مناظرتكم، لأني لاحظت أن انكبابكم على الكتب ألهاكم عن شرب الشاي، بينما شرب الملا سعيد شايه ثم عدداً من أقداح غيره».

بدأ الملا سعيد بالملاطفة وشيء من المزاح مع العلماء ثم قال: «أيها السادة! لقد عاهدت ألّا أسأل أحداً، وها أنا منتظر أسئلتكم».

فاطمأن العلماء! وبدؤوا بطرح ما يقارب الأربعين سؤالاً. وأجاب الملا سعيد عن الأسئلة كلها إجابات صائبة، سوى سؤال واحد أخطأ في جوابه، دون أن ينتبه إليه العلماء، حيث صدرت من الجميع علامات التصديق.

وبعد أن انفضّ المجلس، تبعهم الملا سعيد قائلاً: «أرجو المعذرة.. لقد سهوت في جواب السؤال الفلاني ولم تفطنوا إليه. والجواب الصحيح هو كذا وكذا…»

فقالوا: «حقاً إنك قد ألزمتنا الحجة، فإننا معترفون بذلك!»

ثم باشر قسم من هؤلاء العلماء يجلسون منه مجلس الطالب لينهلوا من فيض علمه. أما مصطفى باشا فقد وفى بوعده وأهدى إلى الملا سعيد بندقية «ماوزر» وبدأ بإقامة الصلاة.

خرج مصطفى باشا معه يوماً إلى سباق الخيل، ودبّر خفية جلب فرس جموح للملا سعيد. فامتطى الفرس وهو الشاب في مقتبل السـادسة عشر من العمر وأخذ يوجهها يمنة ويسرة، إلّا أن الفرس اندفعت إلى وجهات مخالفة. ومهما حاول ضبطها لم يفلح، حتى انطلقت إلى موضع أطفال يلعبون ويمرحون، فطرح أحدهم أرضاً -وهو ابن أحد سادات الجزيرة- وصار الطفل تحت أقدام الفرس يضطرب. سارع الناس للنجدة، ولكنهم رأوا أن الطفل لا حراك له فهمّوا حالاً بقتل الملا سعيد وسلّوا خناجرهم، وعندها وضع الملا سعيد يده على مسدسه، وخاطبهم:

في نظر الحقيقة؛ إن الله سبحانه هو الذي أمات الطفل، أما في ظاهر الأمر فالفرس هي القاتلة. وإذا ما نظر إلى الأمر من زاوية السبب، فإن «مصطفى الأقرع» الذي أعطاني الفرس هو الذي قتله… إذن فلننظر أولاً إلى الطفل، إن كان ميتاً فلنتعارك. ثم نزل من على الفرس واحتضن الطفل، ولما لم يجد فيه حراكاً غمسه في ماء بارد، وأخرجه حالاً. ففتح الطفل عينيه مبتسماً، وظل الناس في حيرة مما حدث.

وبعد أن ظل مدة في الجزيرة توجه مع أحد طلابه «الملا صالح» إلى بيرو وهي منطقة بدو العرب. ومكث فيها مدة حتى طرق سمعه أن مصطفى باشـا قد عاد إلى عادته القديمة في ظلم الناس. فذهب إليه وأبدى له النصائح مدة ثم هدده قائلاً: «أوَ بدأت بالظلم مرة أخرى؟ سأقتلك باسم الحق».

ولكن كاتب الباشا تدخل في الأمر وهدّأ الموقف، بينما الملا سعيد استمر في تعنيفه الباشا وتوبيخه لكثرة مظالمه، فلم يتحمل الباشا هذه الإهانات وهمّ بقتله فحال شيوخ عشيرة «ميران» دون ذلك. ثم تقرّب نجل الباشا «عبد الكريم» من الملا سعيد ورجاه قائلا: لا تكترث بصنيع أبي إنه لا يسمع كلاماً من أحد.. عقيدته فاسدة.. أرجوك رجاء خالصاً أن تتشـرف إلى مكان آخر.. فمال الملا سعيد إلى كلام عبد الكريم ورجائه، وغادر المكان متوغلاً في صحراء «بيرو» وإذا به يصادف الأشقياء المسلحين بالحراب والخناجر، ولما كان الملا سعيد يحمل بندقية أطلق عليهم عدة عيارات نارية، فانصرفوا. واستمر في سيـره إلّا أنه بعد مدة رأى نفسه محاصراً بين عدد من قطاع الطرق، وعندما همّوا بقتله لمحه أحدهم وقال: «إنه شخص مشهور شاهدته في عشيرة «ميران»».

وما إن سمعوا هذا الكلام حتى أخلوا سبيله معتذرين منه، بل أرادوا مرافقته لئلا يصيبه أذى في تلك الأماكن الخطرة. فردّ الملا سعيد طلبهم واستمر في طريقه وحده.

وبعد أيام وصل إلى ماردين، فأراد علماؤها الاعتراض عليه وإفحامه في المناقشات، ولكنهم لم يوفقوا، بل رضوا به أستاذاً لهم، لما لمسوا منه من قدرة علمية فائقة، رغم أنه شاب وفي عمر أبنائهم.

وفي هذه الأثناء التقى طالبين؛ أحدهما من طلاب السيد «جمال الدين الأفغاني» والآخر من منتسبي الطريقة السنوسية، فاطلع بوساطتهما على منهج السيد جمال الدين الأفغاني والطريقة السنوسية».

بداية اهتمامه بالسياسة وأمور العالم الإسلامي

لقد التقيت شخصاً فاضلاً حوالي مدينة ماردين وذلك قبل الانقلاب بست عشرة سنة، فأرشدني إلى الحق وبيّن لي المسلك المعتدل القويم في السياسة. فأفقت من نومي برؤيا -كمال- المشهور حيث إنني بايعت السلطان سليم وقبلت فكره في الاتحاد الإسلامي، لأن ذلك الفكر هو الذي أيقظ الولايات الشرقية، فهم قد بايعوه على ذلك.

فالشرقيون الآن هم أولئك لم يتغيروا. فأسلافي في هذه المسألة هم: السيد «جمال الدين الأفغاني»، ومفتي الديار المصرية الشيخ «محمد عبده». ومن العلماء الأعلام «علي سعاوي»، والعالم «تحسين». والشاعر «نامق كمال» الذي دعا إلى الاتحاد الإسلامي والسلطان سليم الذي قال:

إن مغبة الاختلاف والتفرقة يقلقانني حتى في قبري

فسلاحنا في دفع صولة الأعداء إنما هو الاتحاد

إن لم تتحد الأمة فإنّي أتحرق أسىً.

كرامة الصلاة

ولأنه أبدى نشاطاً دائباً ومناصرة للمنادين بالحرية واهتماماً بالأمور الاجتماعية والسياسية، قرر متصرف ماردين سوقه مكبلاً بالأغلال إلى مدينة بتليس بصحبة اثنين من الجندرمة.

وفي طريقهم إلى «بتليس» حان وقت الصلاة، فطلب من الجندرمة فك القيود إلّا أنهما أبيا، ففكّها بيسر كمن يفك منديلاً، وألقاها أمامهما. فظل الجندرمة مبهوتين من هذا الأمر، وعداه كرامة. فقالا متوسلَين راجيين:

– كنا حراسك إلى الآن، أما بعد الآن فنحن خدامك!

وحينما كان يُسأل: كيف انحلّت القيود؟ يقول: وأنا كذلك لا أعلم وإن هو إلّا كرامة الصلاة ليس إلّا.

وطرق سمعه يوماً في «بتليس» أن الوالي وعدداً من الموظفين يشربون الخمر فثارت ثائرته وقال:

لن يرتكب هذا الفعل شخص يمثل الحكومة في مدينة مسلمة مثل بتليس! فذهب فوراً إلى مجلس الخمر، ووعظهم موعظة بليغة أولاً، واستهلها بحديث شريف حول الخمر، ثم أخذ ينهال عليهم بكلام جارح، وكانت يده على مسدسه يتوقع إشارة من الوالي للتعدي عليه. إلّا أن الوالي كان حليماً صبوراً لم ينبِس ببنت شفة.

وعندما انصرف الملا سعيد من المجلس قال له مرافق الوالي:

– ماذا فعلتم إن كلامكم هذا يوجب الإعدام.

– لم يرد على خاطري الإعدام، بل كنت أحسب العقاب سجناً أو نفياً.. وعلى كل حال.. ما ضرّ إن متّ في سبيل دفع منكر واحد!

وبعد ما يقرب من ساعتين من عودته من المجلس، أرسل إليه الوالي شرطيين لاستدعائه.. فدخل عليه واستقبله الوالي بإعظام وإجلال، وهمّ بتقبيل يده، وقال:

لكل أحد أستاذ قدوة، فأنت أستاذي القدوة.

شفقة الوالدين

«عندما كانت تُنقل أخبار سيئة إلى والدي ووالدتي، كأن يقول أحدهم: إن ابنكم قد قُتل أو ضُرب أو سُجن، كان أبى يبتهج ويضحك كلما سمع مثل هذه الأخبار، ويقول: ما شاء الله… قد كبر إذن ابني حتى يُظهر بطولة أو عملاً عظيماً بحيث يتكلم عنه الناس. أما والدتي فكانت تبكي بكاءً مراً مقابل سرور والدي. ثم أظهر الزمان أن والدي كان محقاً في كثير من الأحيان».

النظر الحرام

«مكثت سنتين في مضيف الوالي المرحوم «عمر باشا» في بتليس بناء على إصراره الشديد ولفرط احترامه للعلم والعلماء.. كان له من البنات ست؛ ثلاث منهن صغيرات وثلاث بالغات كبيرات.. ومع أني كنت أعيش معهم في سكن واحد طوال سنتين إلّا أنني لم أكن أميّز بين الثلاث الكبيرات؛ إذ لم أكن أسدد النظر إليهن كي أعرفهن وأميّز بينهن. حتى نـزل أحد العلماء يوماً ضيفاً عليّ، فعرفهن في ظرف يومين فقط وميّز بينهن، فأخذت الحيرة الذين من حولي، لعدم معرفتي إياهن. وبدؤوا بالاستفسار: «لماذا لا تنظر إليهن؟». فكنت أجيبهم: «صون عزة العلم يمنعني من النظر الحرام!»».

حفظ المتون

وعندما ناهز الملا سعيد سن البلوغ في بتليس، بدأت سانحاته القلبية وفيوضاته الوهبية -التي كان يتغلب بها على العلماء في مناظراته- تقل شيئاً فشيئاً. ولا يعرف السبب الحقيقي في هذا التغير الذي طرأ على حالاته، فلربـما هو من مقتضيات سن البلوغ، أو من اهتمامه بالأمور الاجتماعية والسياسية. لذا انكب على حفظ المتون من كل علم، فحفظ عن ظهر قلب خلال سنتين من متون الكتب كـ«المطالع»و«المواقف» وأمثالهما من الكتب التي تردّ الشبهات وتدفع الشكوك الواردة على الدين، فضلاً عن حفظه متون كتب العلوم الآلية كالنحو والصرف والمنطق وغيرها، ومتون كتب العلوم العالية كالتفسير وعلم الكلام والحديث والفقه. فبدأ بحفظ متن كتاب «المرقاة» دون حواشيه وشروحه، ثم قارن بين وجهة نظره ومبلغ فهمه، وما ورد في حواشي الكتاب وشروحه. فرأى أن جميع مسائله مطابقة لما في ذهنه، إلّا في ثلاث كلمات، لم تتطابق مع الشرح. واستحسن العلماء عمله هذا وأعجبوا به.

ولهذا اهتم بحفظ تلك المتون من أمهات الكتب الإسلامية في مختلف العلوم والفلسفة، لتصبح مفاتيح للحقائق القرآنية، ورداً للشبهات الواردة على الدين.

[واستمر على ذلك حتى نهاية عمره فيقول عن نفسه:] «إن ومضة نور معنوي، في دماغ إنسان يملك قوة حافظة لا تتجاوز حجم ظفر، هذا الشخص أدرج في دماغه كلمات تسعيـن كتابا، ويتم قراءة هذا الجزء فقط من حافظته في ثلاثة أشهر بمعدل ثلاث ساعات يومياً، ويمكنه أن يراجع ويخرج من تلك الحافظة ما يشاء ومتى يشاء مما شاهده وسمعه وما تراءى أمامه من صور ومعان وكلمات أعجب بها أو تحير منها، أو رغب فيها.. مع جميع الصور والأصوات طوال عمره الذي ناهز الثمانين.. كل ذلك مجموعة في صحيفة تلك الحافظة. لذا يرى أن تلك الحافظة كأنها مكتبة ضخمة نسقت فيها المحفوظات منتظمة مرصوفة».

«فكانت تلك الملَكة نعمة عظمى إذ لو كنت أجيد الكتابة، لما كانت المسائل تقر في القلب، فما من علم بدأت به سابقا إلّا وكنت أكتبه في روحي لحرماني من الكتابة الجيدة».

درس أخير

وقد أشاع أحدهم ذات يوم قولاً: إن الشيخ محمداً الكفروي  قد دعا بسوء على الملا سعيد. فما إن سمع هذا الخبر حتى انطلق إلى زيارة الشيخ الكفروي.. فتلقاه الشيخ بالترحاب وحضر الملا سعيد درساً له، كان هذا الدرس هو الدرس الأخير الذي تلقاه سعيد الشاب». حيث ارتجل الشيخ الدرس بـ«الحمد لله الذي قدّر مقادير الأشياء بقدرته، وصوّر تصاوير الأشكال بحكمته، والصلاة على محمد محيط مركز دائرة النبوة، وعلى آله حبيب كسـوة الفتوة والمروة، ما دارت على سطوح الأفلاك والنجوم، وما سارت في روايا الغبراء الغيوم».

«نعم، إن الدرس الأخير والأكثر بركة قد تلقيته من الشيخ محمد الكفروي قدس سره الذي أظهر شفقته وعطفه عليّ بما يفوق حدي بكثير».

وفي إحدى الليالي يرى في ما يراه النائم أن الشيخ محمد الكفروي يخاطبه: «يا ملا سعيد تعال لزيارتي، فإني سأرحل». ويبادر إلى زيارته حالاً. ولكن يشاهد رحيل الشيخ طائراً من البيت. وينـتبه من النوم، وينظر إلى الساعة فإذا هي السابعة -حسب التوقيت الغروبي- (أي منتصف الليل) ثم يعود إلى النوم ثانية. وفي الصباح يسمع نداء النعي يتصاعد من بيت الشيخ، فيذهب لاستقصاء الخبر فيعلم أنه قد توفي في الساعة السابعة مساءً ويرجع محـزوناً مردداً ﴿اِنَّا لِلّٰهِ وَاِنَّٓا اِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ رحمة الله عليه… آمين.

سنة 1897م/1314هـ

جهوده في المصالحة بين العشائر

لما لم يكن في مدينة «وان» عالم معروف دعاه الوالي «حسن باشا» إليها فذهب إليها واستقر فيها خمس عشرة سنة، قضاها في التجوال بين العشائر لإرشـادهم وفي تدريـس الطلاب، فضلاً عن تكوين علاقات مع الوالي والموظفين في المدينة. كان جلّ اهتمامه في هذه الفترة المصالحة بين العشائر؛ فما كان يطرق سمعه نزاع بين العشائر إلّا ويتوجه إليهم ويرشدهم، حتى إنه استطاع إجراء الصلح بين «شكر آغا» و«مصطفى باشا» رئيس عشيرة ميران بينما أخفقت الإدارة العثمانية من فض النـزاع بينهما. وعندها خاطب الملا سعيد مصطفى باشا:

– ألم تتب إلى الآن؟

– «سَيْدَا» إنني طوع كلامك!

وقدّم له فرساً مع كمية من النقود إلّا أن الملا سعيد رفض ذلك قائلاً: «ألم تسمع أنني لم آخذ مالاً من أحد لحد الآن؟ فكيف آخذه من أمثالك من الظالمين! يبدو أنكم قد أفسدتم توبتكم! وعلى هذا لا تصل إلى الجزيرة بسلامة». وفعلاً مات مصطفى باشا في الطريق لم يصل إلى الجزيرة. وكأن دعاءه عليه قد استجيب.

اطلاعه على العلوم الحديثة في «وان»

وقد اقتنع يقيناً ان أسلوب علم الكلام القديم قاصر عن ردّ الشبهات والشكوك الواردة حول الدين، فينبغي استحصال العلوم الحديثة أيضاً.

وقد حقق تشخيصه الداء هذا -وهو الشاب اليافع- تـهيئةَ الأجواء للخدمة القرآنية العظيمة والعمل الإسلامي الجليل في المستقبل، إذ وفقه سبحانه وتعالى بعد حوالي ثلاثين سنة لتأليف رسائل النور التي تجدد في علم الكلام.

فطفق يطالع كتب العلوم الحديثة حتى استحصل على أسسها من تاريخ وجغرافية ورياضيات وجيولوجيا وفيزياء وكيمياء وفلك وفلسفة وأمثالها من العلوم. وذلك خلال مدة قصيرة جداً. وسبر أغوار هذه العلوم بنفسه دون معونة أحد ودون اللجوء إلى مدرس يدرّسها إياه.

فمثلاً: حفظ عن ظهر قلب خلال أربع وعشرين ساعة كتاباً في الجغرافية، قبل أن يناظر في اليوم التالي مدرس الجغرافية ويلزمه الحجة في دار الوالي «طاهر باشا».

وعلى الشاكلة نفسها ألزم مدرس الكيمياء، بعد أن حفظ كتاباً في الكيمياء غير العضوية.

كان الوالي طاهر باشا يوجه أسئلة -علمية فلسفية- إليه مستخرجاً إياها من بطون الكتب الأوروبية وكان يجيب عن تلك الأسئلة أجوبة قاطعة مع أنه لم يطلع على تلك الكتب ولم يك يتقن اللغة التركية بعدُ، حيث بدأ التكلم بها حديثاً. وعندما شاهد -بعد فترة- تلك الكتب علم أن «طاهر باشا» يستخرج الأسئلة منها، فباشر بدراستها وهضم مضامينها في مدة قصيرة.

وخلال فترة بقائه في «وان» وضع طريقة خاصة به في التدريس تختلف عن الطرق المـتبعة آنذاك في المدارس الدينية، استخلصها من العلوم الحديثة التي استوعبها ومن ممارسته تدريس الطلاب، ومن أساليب الدراسة في المنطقة عامة آخذاً بنظر الاعتبار متطلبات العصر الحاضر وحاجاته الملحة. وترتكز طريقته هذه على إعطاء الحقائق الدينية «ممتزجة بالعلوم الحديثة» بأسلوب قريب لمدارك أبناء هذا العصر وإثباتها بأوضح أسلوب وعرضها بما يلائم تفكيرهم.

وذات يوم ذكر لـطاهر باشا وجود الجليد على قمم جبال «باشيد» حتى في شهر تموز، فاعترض عليه طاهر باشا قائلاً: لا تبقى الثلوج قطعاً على تلك القمم في شهر تموز.. وفي أثناء قضائه الصيف في مصايف باشيد و«بيت الشباب» تذكر هذه المحاورة التي جرت بينهما فكتب إليه رسالة هي أول رسالة له باللغة التركية وهي:

«يا باشـا! الجليد يكسو قمة باشيد.. لا تنكر ما لا تراه عينك.. لا ينحصر كل شيء ضمن معلوماتك.. والسلام».

وفي أثناء المناقشات العلمية مع طاهر باشا طرح عليه السؤال الآتي: «لو فرضنا وجود خمسة عشر مسلماً وخمسة عشر غير مسلم. وقد اصطف كل غير مسلم وراء مسلم في صف واحد. وطلب إجراء قرعة خمس عشرة مرة بحيث تقع على غير المسلم في كل مرة. فكيف يمكن إجراء التقسيم؟»

فأجاب: «هناك مائة وأربعة وعشرون احتمالاً لهذا». ثم أعقب قوله: «إنني أحدث مسألة أكثر إشكالاً من هذه فاجعلها باحتمال ألفين وخمسمائة». فأوجد مسألة باحتمال ألفين وخمسمائة، بحيث يكون عدد المسلمين خمسين شخصاً وعدد غير المسلمين خمسين شخصاً وقدّمها إلى طاهر باشا ضمن رسالة ألّفها في الرياضيات بيد أنها فقدت في إحدى الحرائق التي نشبت في مدينة «وان».

وهكذا كانت تدور مناقشات رياضية وعلمية أمثال هذه بكثرة، مما يبين الذكاء الخارق الذي كان يتمتع به، فما من مسألة رياضية طرحت أمامه إلّا وحلهّا في ذهنه ويسبق الجميع في أمثال هذه المسابقات الذهنية.

وهكذا لتعدد مواهبه ولذكائه الخارق وقوة ذاكرته، أطلق العلماء عليه لقب «بديع الزمان».

لقب بديع الزمان

«إن هذا الفقير، الغريب، النُّورْسِيّ، الذي يستحق أن يُطلق عليه اسم بدعة الزمان إلّا أنه اشتهر -دون رضاه- بـ«بديع الزمان». فهذا المسكين يستغيث ألماً من حرقة فؤاده على تدني الأمة ويقول: آه.. آه… وا أسفى.. لقد انخدعنا فتركنا جوهر الإسلام ولبابه، وحصرنا النظر في قشره وظاهره». [وعندما سئل]: «أنت تذيّل مقالاتك وتمضيها باسم بديع الزمان وهذا يومئ إلى المدح؟»

« الجواب: كلا، ليس للمدح! وإنما أريد أن أُبيّن -بهذا الإمضاء- تقصيري. وتعليلي هو: أن البديع يعني «الغريب» فأخلاقي غريبة كمظهري، وأسلوب بياني غريب كملابسي، كلها مخالفة للآخرين. فأنا أرجو بلسان حال هذا العنوان عدم جعل المحاكمات العقلية والأساليب المتداولة والرائجة مقياساً لمحاكماتي العقلية ومحكاً لأساليب بياني».

ثم إن قصدي من البديع هو «العجيب» فلقد أصبحتُ مصداقاً لما قيل:

إليّ لَعَمْري قَصْدُ كُلِّ عَجيبَةٍ  كَأني عَجيبٌ في عُيُون العَجَائب

هذا وإن لقب «بديع الزمان» الذي مُنِحتُه مع عدم استحقاقي له، ليس لي وإنما هو اسم معنوي لرسائل النور، قد قُلّد مؤلفها الظاهر إعارة وأمانة. والآن أعيد ذلك الاسم الأمانة إلى صاحبه الحقيقي».

«نعم، إن الأهمية كلها منحصرة في رسائل النور، المعجزة القرآنية، حتى إن ما كنت أحمله سابقاً من اسم «بديع الزمان» هو ملكها، وقد أُعيد إليها أيضاً. ولا جرم أن رسائل النور ملك القرآن ومعناه. إذ قبل خمس وخمسين سنة شبّه أستاذي المرحوم «الملا فتح الله» من سعرد، سعيداً القديم ببديع الزمان «الهمذاني»  فأعطى اسم بديع الزمان له».

سنة 1899م/1316هـ

انقلابه الفكري

إنه لجدير بالأهمية والتأمل، أن مؤلف رسائل النور قد حدث له انقلاب مهم في حوالي سنة 1899م (1316هـ) إذ كان يهتم بالعلوم المتنوعة إلى هذا التاريخ لأجل استيعاب العلوم والاستنارة بها. أما بعده فقد علم من الوالي المرحوم «طاهر باشا» أن أوروبا تحيك مؤامرة خبيثة حول القرآن الكريم، إذ سمع منه أن وزير المستعمرات البريطاني  قد قال:

«ما دام هذا القرآن بيد المسلمين فلن نحكمهم حكماً حقيقياً، فلنسع إلى نزعه منهم». فثارت ثائرته واحتدّ وغضب.. وغيّر اهتمامه من جراء هذا الانقلاب الفكري فيه.. جاعلاً جميع العلوم المتنوعة المخزونة في ذهنه مدارج للوصول إلى إدراك معاني القرآن الكريم وإثبات حقائقه. ولم يعرف بعد ذلك سوى القرآن هدفاً لعلمه وغاية لحياته. وأصبحت المعجزة المعنوية للقرآن الكريم دليلاً ومرشداً وأستاذاً له([1]) حتى إنه أعلن لمن حوله: «لأبرهننّ للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن إطفاء نورها».

 سنة 1906 م/1324هـ

خادم القرآن

هذا التاريخ يطابق اتخاذ مؤلّف رسائل النور طور خادم القرآن بتوجهه المباشر إلى الحكمة القرآنية، بعد أن أكمل العلوم الآلية. وبعد هذا التاريخ بسنة ذهب إلى إسطنبول وبدأ بجهاده المعنوي.

[وظل خادماً للقرآن طوال حياته حتى إنه أجاب الحاكم في آخر محكمة له:]

«إنني لست أهلاً لكلمات الثناء التي أضفاها عليّ موكليَّ المحترمون، إذ إنني لست سوى خادم عاجز للقرآن وللإيمان. ليس عندي ما أقوله سوى هذا».


[1]  الشعاع الأول. وقد ذكر مصطفى صونغور لي مرارا ما سمعه من أستاذه: «لقد أصبح ما يقرب من تسعين كتاباً حفظته مدارج للصعود إلى حقائق القرآن الكريم. ولما بلغت تلك الحقائق شاهدت أن كل آية كريمة تحيط بالكون وتستوعبه. فلقد كفاني القرآن الكريم من مراجعة أي شيء آخر» (ش) 81، (ب) 119.