توحيد القبلة في القرآن

«هوت صفعات عنيفة قبل ثلاثين سنة على رأس «سعيد القديم» الغافل، ففكّر في قضية أن «الموت حق». ووجد نفسه غارقاً في الأوحال.. استنجد، وبحث عن طريق، وتحرى عن منقذ يأخذ بيده.. رأى السبل أمامه مختلفة.. حار في الأمر وأخذ كتاب «فتوح الغيب» للشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله عنه وفتحه متفائلاً، فوجد أمامه العبارة الآتية:

«أنت في دار الحكمة فاطلب طبيباً يداوي قلبك» .. يا للعجب!. لقد كنت يومئذ عضواً في «دار الحكمة الإسلامية» وكأنما جئت إليها لأداوي جروح الأمة الإسلامية، والحال أنني كنت أشد مرضاً وأحوج إلى العلاج من أي شخص آخر.. فالأولى للمريض أن يداوي نفسه قبل أن يداوي الآخرين.

نعم، هكذا خاطبني الشيخ: «أنت مريض.. ابحث عن طبيب يداويك!»

قلت: «كن أنت طبيبي أيها الشيخ!»

وبدأت أقرأ ذلك الكتاب كأنه يخاطبني أنا بالذات.. كان شديد اللهجة يحطم غروري، فأجرى عمليات جراحية عميقة في نفسي.. فلم أتحمل.. لأني كنت اعتبر كلامه موجهاً إليّ.

نعم، هكذا قرأته إلى ما يقارب نصفه.. لم أستطع إتمامه.. وضعت الكتاب في مكانه، ثم أحسست بعد ذلك بفترة بأن آلام الجراح قد ولّت وخلفت مكانها لذائذ روحية عجيبة.. عدت إليه، وأتممت قراءة كتاب «أستاذي الأول». واستفدت منه فوائد جليلة، وأمضيت معه ساعات طويلة أصغى إلى أوراده الطيبة ومناجاته الرقيقة.

ثم وجدت كتاب «مكتوبات» للإمام الفاروقي السرهندي، مجدد الألف الثاني فتفاءلت بالخير تفاؤلاً خالصاً، وفتحته، فوجدت فيه عجباً.. حيث ورد في رسالتين منه لفظة «ميرزا بديع الزمان»، فأحسست كأنه يخاطبني باسمي، إذ كان اسم أبي «ميرزا» وكلتا الرسالتين كانتا موجهتين إلى ميرزا بديع الزمان. فقلت: يا سبحان الله. إن هذا ليخاطبني أنا بالذات، لأن لقب سعيد القديم كان بديع الزمان، ومع أنني ما كنت أعلم أحداً قد اشتهر بهذا اللقب غير «الهمذاني» الذي عاش في القرن الرابع الهجري. فلا بد أن يكون هناك أحد غيره قد عاصر الإمام الرباني السرهندي وخوطب بهذا اللقب، ولا بد أن حالته شبيهة بحالتي حتى وجدت دوائي بتلكما الرسالتين.. والإمام الرباني يوصي مؤكداً في هاتين الرسالتين وفي رسائل أخرى أن: «وَحِّد القبلةَ» أي أتبع إماماً ومرشداً واحداً ولا تنشغل بغيره!

لم توافق هذه الوصية -آنذاك- استعدادي وأحوالي الروحية.. وأخذت أفكر ملياً: أيهما أتبع!. أأسير وراء هذا، أم أسير وراء ذاك؟ احترت كثيراً وكانت حيرتي شديدة جداً، إذ في كل منهم خواص وجاذبية، لذا لم أستطع أن أكتفي بواحد منهم.

وحينما كنت أتقلب في هذه الحيرة الشديدة.. إذا بخاطر رحمانيّ من الله سبحانه وتعالى يخطر على قلبي ويهتف بي:

«إن بداية هذه الطرق جميعها.. ومنبع هذه الجداول كلها.. وشمس هذه الكواكب السيارة.. إنما هو القرآن الكريم فتوحيد القبلة الحقيقي إذن لا يكون إلّا في القرآن الكريم.. فالقرآن هو أسمى مرشد.. وأقدس أستاذ على الإطلاق.. ومنذ ذلك اليوم أقبلت على القرآن واعتصمت به واستمددت منه.. فاستعدادي الناقص قاصر من أن يرتشف حق الارتشاف فيضَ ذلك المرشد الحقيقي الذي هو كالنبع السلسبيل الباعث على الحياة، ولكن بفضل ذلك الفيض نفسه يمكننا أن نبين ذلك الفيض، وذلك السلسبيل لأهل القلوب وأصحاب الأحوال، كلٌ حسب درجته. فـ«الكلمات» والأنوار المستقاة من القرآن الكريم (أي رسائل النور) إذن ليست مسائل علمية عقلية وحدها بل أيضاً مسائل قلبية، وروحية، وأحوال إيمانية.. فهي بمثابة علوم إلهية نفيسة ومعارف ربانية سامية»».

على عتبة سعيد الجديد

«كنت في إسطنبول شهر رمضان المبارك، وكان آنئذٍ سعيد القديم -الذي انشغل بالفلسفة- على وشك أن ينقلب إلى سعيد الجديد.. في هذه الفترة بالذات وحينما كنت أتأمل في المسالك الثلاثة المشار إليها في ختام سورة الفاتحة بـ ﴿صِرَاطَ الَّذ۪ينَ اَنْعَمتَ عَلَيْهِمْۙ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّٓالّين رأيت تلك الحادثة الخيالية وهي حادثة أشبه ما تكون بالرؤيا. سجلتها في حينها في كتابي «اللوامع»  على صورة سياحة خيالية وبما يشبه النظم. وقد حان الآن وقت ذكر معناها وشرحها، حيث إنها تسلط الأضواء على الحقيقة المذكورة.

كنت أرى نفسي وسط صحراء شاسعة عظيمة، وقد تلبدت السماء بسحب قاتمة مظلمة، الأنفاس تكاد تختنق على الأرض كافة، فلا نسيم ولا ضياء ولا ماء، كل ذلك مفقود.

توهمت أن الأرض ملأى بالوحوش والضواري والحيوانات الضارة، فخطر على قلبي أن في الجهة الأخرى من الأرض يوجد نسيم عليل وماء عذب وضياء جميل، فلا مناص إذاً من العبور إلى هناك.. ثم وجدتني وأنا أُساق إلى هناك دون إرادتي.. دخلت كهفاً تحت الأرض، أشبه ما يكون بأنفاق الجبال، سرتُ في جوف الأرض خطوة خطوة وأنا أشاهد أن كثيرين قد سبقوني في المضي من هذا الطريق تحت الأرض دون أن يكملوا السير، إذ ظلوا في أماكنهم مختنقين، فكنت أرى آثار أقدامهم، وأسمع -حيناً- أصوات عددٍ منهم.. ثم تنقطع الأصوات.

فيا صديقي الذي يرافقني بخياله في سياحتي الخيالية هذه!

إن تلك الأرض هي «الطبيعة» و«الفلسفة الطبيعية»، أما النفق فهو المسلك الذي شقه أهل الفلسفة بأفكارهم لبلوغ الحقيقة، وأما آثار الأقدام التي رأيتها فهي لمشاهير الفلاسفة كأفلاطون وأرسطو. ([1]) وما سمعته من أصوات هو أصوات الدهاة كابن سينا والفارابي.. نعم، كنت أجد أقوالاً لابن سينا وقوانين له في عدد من الأماكن، ولكن كانت الأصوات تنقطع كلياً، بمعنى أنه لم يستطع أن يتقدم، أي إنه اختنق.. وعلى كل حال فقد بينت لك بعض الحقائق الكامنة تحت الخيال لأخفف عنك تلهفك وتشوقك.. والآن أعود إلى ذكر سياحتي:

استمر بي السير، وإذا بشيئين يجعلان بيدي؛ الأول: مصباح كهربائي، يبدد ظلمات كثيفة للطبيعة تحت الأرض. والآخر: آلة عظيمة، تفتت صخوراً ضخمة هائلة أمثال الجبال فينفتح لي الطريق.

وهُمِس في أذني آنذاك أن هذا المصباح والآلة، قد منحتا لك من خزينة القرآن الكريم.. وهكذا فقد سرت مدة على هذا المنوال، حتى رأيت نفسي قد وصلت إلى الجهة الأخرى، فإذا الشمس مشرقة في سماء صافية جميلة لا سحاب فيها، واليوم يوم ربيع بهيج، والنسيم يهب كأن فيه الروح، والماء السلسبيل العذب يجري، فقد رأيت عالَماً عمّته البهجة ودبّ الفرح في كل مكان، فحمدتُ الله.

ثم نظرت إلى نفسي، فرأيت أني لا أملكها ولا أستطيع السيطرة عليها، بل إن أحداً يختبرني، وعلى حين غرة رأيت نفسي مرة أخرى في تلك الصحراء الشاسعة، وقد أطبقت السحب القاتمة أيضاً فأظلمت السماء، والأنفاس تكاد تختنق من الضيق.. وأحسست سائقاً يسوقني إلى طريق آخر، إذ رأيت أني أسير في هذه المرة على الأرض وليس في جوفها في طريقي إلى الجهة الأخرى.. فرأيت في سيرى هذا أموراً عجيبة ومشاهد غريبة لاتكاد توصف؛ فالبحر غاضب عليّ، والعاصفة تهددني وكل شيء يلقي أمامي العوائقَ والمصاعب. إلّا أن تلك المشاكل تُذلّل بفضل ما وُهب لي من القرآن الكريم من وسيلة سياحية. فكنت أتغلب عليها بتلك الوسيلة.. وبدأت أقطع السير خطوة خطوة، شاهدت أشلاء السائحين وجنائزهم ملقاة على طرفي الطريق، هنا وهناك فلم يُنهِ هذه السياحة إلّا واحدٌ من ألف..

وعلى كل حال فقد نجوت من ظلمات تلك السحب الخانقة، ووصلت إلى الجهة الأخرى من الأرض، وقابلت الشمس الجميلة، وتنفستُ النسيم العليل، وبدأت أجول في ذلك العالم البهيج كالجنة، وأنا أردد: الحمد لله.

ثم رأيت أنني لن اُترَك هنا، فهناك مَن كأنه يريد أن يريني طريقاً آخر، فأرجعَني في الحال إلى ما كنت عليه.. تلك الصحراء الشاسعة.. فنظرت فإذا بأشياء نازلة من الأعلى كنـزول المصاعد «الكهربائية» بأشكال متباينة وأنماط مختلفة بعضها يشبه الطائرات وبعضها شبيه بالسيارات، وأخرى كالسلال المتدلية.. وهكذا. فأيّما إنسان يمكن أن يتعلق بأحد تلك الأشياء، حسب قابليته وقوته، فإنه يُعرج به إلى الأعلى.. فركبت إحداها، وإذا أنا في دقيقة واحدة فوق السحب وعلى جبال جميلة مخضوضرة، بل لا تبلغ السحب منتصف تلك الجبال الشاهقة.. وتُشاهد في كل مكان أجمل ضياء، وأعذب ماء وألطف نسيم.. وحينما سرحت نظري إلى الجهات كلها رأيت أن تلك المنازل النورانية -الشبيهة بالمصاعد- منتشرة في كل مكان. ولقد كنت شاهدت مثلها في الجهة الأخرى من الأرض في تلكما السياحتين السابقتين.. ولكن لم أفهم منها شيئاً، بيد أنى الآن أفهم أن هذه المنازل إنما هي تجليات لآيات القرآن الحكيم.

وهكذا فالطريق الأول: هو طريق الضالين المشـار إليه بـ ﴿الضَّٓالّين وهو مسلك الذين زلّوا إلى مفهوم «الطبيعة» وتبنّوا أفكار الطبيعيين.. وقد شعرتم مدى صعوبة الوصول إلى الحقيقة من خلال هذا السير المليء بالمشكلات والعوائق.

والطريق الثاني: المشار إليه بـ ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ فهو مسلك عَبَدة الأسباب والذين يحيلون الخلق والإيجاد إلى الوسائط، ويسندون إليها التأثير، ويريدون بلوغ حقيقة الحقائق، ومعرفة الله جل جلاله عن طريق العقل والفكر وحده، كالحكماء المشائين.

أما الطريق الثالث: المشار إليه بـ ﴿الَّذ۪ينَ اَنعمت عَلَيْهِمْ﴾ فهو الصراط المستقيم والجادة النورانية لأهل القرآن، وهو أقصر الطرق وأسلمه وأيسره، ومفتوح أمام الناس كافة ليسلكوه، وهو مسلك سماوي رحماني نوراني».

السنة النبوية مصابيح الهدى

«إنّي شاهدت في سيري في الظلمات، السُّنَن السَّنية نجوماً ومصابيح، كلُّ سنَّةٍ، وكلُّ حَدٍّ شرعي يتلمع بين ما لا يُحصر من الطرق المظلمة المضلّة. وبالانحراف عن السنة يصير المرء لعبة الشياطين، ومركَب الأوهام، ومعرض الأهوال، ومطية الأثقال -أمثال الجبال- التي تحملها السنةُ عنه لو اتّبعها.

وشاهدتُ السننَ كالحبالِ المتدلّية من السماء، من استمسك ولو بجزئي استَصعد واستسعد، ورأيتُ مَن خالَفَها واعتمدَ على العقل الدائر بين الناس، كمَن يريد أن يبلُغَ أسباب السماوات بالوسائل الأرضية فيتحمّق كما تَحمّقَ فرعون بـ ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لي صَرْحًا﴾ (غافر:36).

فعندما كان يسعى هذا السعيد الفقير إلى الله، للخروج من حالة «سعيد القديم» ارتج عقلي وقلبي وتدحرجا ضمن الحقائق إزاء إعصار معنوي رهيب، فقد شعرت كأنهما يتدحرجان هبوطا تارة من الثريا إلى الثرى وتارة صعدا من الثرى إلى الثريا، وذلك لانعدام المرشد، ولغرور النفس الأمارة.

فشاهدت حينئذ أن مسائل السنة النبوية الشريفة بل حتى أبسط آدابها، كل منها في حكم مؤشر البوصلة الذي يبين اتجاه الحركة في السفن، وكل منها في حكم مفتاح مصباح يضيئ ما لا يحصر من الطرق المظلمة المضرة.

وبينما كنت أرى نفسي في تلك السياحة الروحية أرزح تحت ضغط مضايقات كثيرة وتحت أعباء أثقال هائلة، إذا بي أشعر بخفة كلما تتبعت مسائل السنة الشريفة المتعلقة بتلك الحالات، وكأنها كانت تحمل عني جميع الأثقال وترفع عن كاهلي تلك الأعباء. فكنت أنجو باستسلام تام للسنة من هموم التردد والوساوس مثل: «هل في هذا العمل مصلحة؟ ترى هل هو حق؟». وكنت أرى أني متى ما كففت يدي عن السنة تشتد موجات المضايقات وتكثر، والطرق المجهولة تتوعر وتغمض، والأحمال تثقل.. وأنا عاجز في غاية العجز ونظري قصير، والطريق مظلمة. بينما كنت أشعر متى ما اعتصمت بالسنة، وتمسكت بها أن الطريق تتنور من أمامي وتظهر كأنها طريق آمنة سالمة، والأثقال تخف والعقبات تزول.

نعم، هكذا أحسست في تلك الفترة فصدقت حكم الإمام الرباني بالمشاهدة، حيث يقول: «بينما كنت أقطع المراتب في السير والسلوك الروحاني، رأيت أن أسطع ما في طبقات الأولياء، وأرقاهم وألطفهم وآمنهم وأسلمهم هم أولئك الذين اتخذوا اتباع السنة الشريفة أساسا للطريقة، حتى كان الأولياء العوام لتلك الطبقة يظهرون أكثر بهاءً واحتشاماً من الأولياء الخواص لسائر الطبقات».

نعم، إن الإمام الرباني مجدد الألف الثاني ينطق بالحق، فالذي يتمسك بالسنة الشريفة ويتخذها أساساً له، لهو أهل لمقام المحبوبية في ظل حبيب الله ﷺ ».

سلكتُ طريقاً غير مسلوك بين العقل والقلب

«إن عقلي قد يرافق قلبي في سيره فيعطي القلبُ مشهودَه الذوقي ليد العقل؛ فيبرزه العقلُ على عادته في صورة المبرهَن التمثيلي.

[وسجل في مقدمات مؤلفاته في هذه الفترة:]

هذه الرسالة مكالمات فجائية مع نفسي في وقتٍ مدهش، والكلمات إنما تولدتْ في أثناء مجادلة هائلة كإعصار تتصارع فيه الأنوارُ مع النيران، يتدحرج رأسي في آن واحد من الأوج إلى الحضيض، ومن الحضيض إلى الأوج، من الثرى إلى الثريا؛ إذ سلكتُ طريقاً غير مسلوك، في برزخٍ بين العقل والقلب، ودار عقلي من دهشة السقوط والصعود. فكلما صادفتُ نوراً نصبتُ عليه علامة لأتذكّره بها. وكثيراً ما أضع كلمةً على ما لا يمكن لي التعبير عنه، للإخطار والتذكير، لا للدلالة.. فكثيراً ما نصبتُ كلمة واحدة على نور عظيم..ثم شاهدت أن أولئك الأنوار الذين يمدونني في بطون أرض الظلمات ما هم إلّا شعاعات شمس القرآن تمثلوا لي مصابيح..

اللّهم اجعل القرآن نوراً لعقولنا، وقلوبنا، وأرواحنا ومرشداً لأنفسنا.. آمين.

أرى مسائل تلك الرسائل وسائلَ وسلالم.. للصعود إلى الزنابيل النورانية المتدليّة من عرش الرحمن التي هي الآيات الفرقانية. فما من مسألةٍ منها إلّا ويماسّ رأسُها قدمَ آيةٍ من الفرقان؛ فمسائلها وإن حصلت لي أول ما حصلت شهودية وحدسية وذوقية، لكن لدخولي في صحراء الجنون مع رفاقة عقلي مفتوح الجفون -فيما يغمض فيه ذوو الأبصار- لفّ عقلي على عادته ما رآه قلبي في مقاييسه ووزنه بموازينه واستمسكه ببراهينه.. صارت مسائل هذه الرسائل من هذه الجهة كأنها مبرهنة استدلالية، فيمكن لمن ضلّ من جهة الفكر والعلم أن يستفيد منها ما يُنجيه من مزالق الأفكار الفلسفية، بل يمكن أن يستخرج منها بالتهذيب والتنظيم والإيضاح عقائد إيمانية وعلمَ كلامٍ جديد في غاية القوة والرصانة لردّ ضلالات أفكار هذا الزمان، بل يمكن لمن اختلط عقلهُ بقلبه، أو التحق قلبُهُ بعقله المتشتت في آفاق الكثرة أن يستنبط منها طريقة كسكة الحديد متينةً أمينة يسلك فيها تحت إرشاد القرآن الكريم..كيف لا، وكل ما في رسائلي من المحاسن ما هو إلّا من فيض القرآن..

ولله الحمد كان القرآن هو مرشدي وأستاذي في هذا الطريق.

نعم، مَن استمسكَ به استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.

لا تحسبن أن ما أكتبه شيء مضغته الأفكار والعقول. كلا! بل فيض أفيض على روحٍ مجروح وقلب مقروح، بالاستمداد من القرآن الكريم، ولا تظنه أيضاً شيئاً سيالاً تذوقه القلوب وهو يزول. كلا! بل أنوارٌ من حقائق ثابتة انعكست على عقلٍ عليلٍ وقلبٍ مريضٍ ونفسٍ عمي.

إني ما أدري كيف صار عقلي ممزوجاً بقلبي، فصرت خارجاً عن طريق أهل العقل من علماء السلف وعن سبيل أهل القلب من الصالحين، فإن وافقتُهما فبها ونعمت وإن خالفتُ في كلامي أي السبيلين منهما فهو مردود عليّ.

إنّ ما يصادفك في المسائل من صورة البرهان والاستدلال ليس برهاناً حتى يقال: فيه نظر! بل مبادئ حدسية قيدت وعقدت واستحفظت بأنوار اليقين المفاضة من القرآن الكريم.

إنه يمكن أن يذهب الموفَّق من الظاهر إلى الحقيقة بلا مرور على برزخ الطريقة؛ وقد رأيتُ من القرآن طريقا إلى الحقيقة بدون الطريقة، أي المشهورة. وكذا رأيت طريقاً موصلاً إلى العلوم المقصودة بدون المرور على برزخ العلوم الآلية».

عرض مراحل السير نحو سعيد الجديد

«كان سعيد القديم -قبل حوالي خمسين سنة- لزيادة اشتغاله بالعلوم العقلية والفلسفية يتحرى مسلكاً ومدخلاً للوصول إلى حقيقة الحقائق، داخلاً في عداد الجامعين بين الطريقة والحقيقة. وكان لا يقنع ولا يكتفي بالحركة القلبية وحدها -كأكثر أهل الطريقة- بل جهد

كل الجهد أولاً لإنقاذ عقله وفكره من بعض الأسقام التي أورثتها إيّاه مداومة النظر في كتب الفلاسفة.

ثم أراد -بعد أن تخلّص من هذه الأسقام- أن يقتدي ببعض عظماء أهل الحقيقة، المتوجهين إلى الحقيقة بالعقل والقلب، فرأى أن لكلٍ من أولئك العظماء خاصيّة جاذبة خاصة به، فحار في ترجيح بعضهم على بعض.

فخطر على قلب ذلك السعيد القديم الممخض بالجروح – ما في مكتوبات «الإمام الرباني» من أمره له غيباً: «وحِّد القبلة» أي إن الأستاذ الحقيقي إنما هو القرآن ليس إلّا، وإن توحيد القبلة إنما يكون بأستاذية القرآن فقط، فشرع بإرشادٍ مِن ذلك الأستاذ القدسي بالسلوك بروحه وقلبه على أغرب وجه، واضطرته نفسه الأمارة بشكوكها وشبهاتها إلى المجاهدة المعنوية والعلمية.

وخلال سلوكه ذلك المسلك ومعاناته في دفع الشكوك، قَطَع المقامات، وطالع ما فيها، لا كما يفعله أهل الاستغراق مع غض الأبصار، بل كما فعله الإمام الغزالي والإمام الرباني وجلال الدين الرومي، مع فتح أبصار القلب والروح والعقل، فسار فيها -أي في المقامات- ورأى ما فيها بتلك الأبصار كلها، منفتحةً من غير غضٍ ولا غمض. فحمداً لله على أن وُفِّق على جمع الطريقة مع الحقيقة بفيض القرآن وإرشاده، حتى بيّن برسائل النور التي ألفها «سعيد الجديد» حقيقةَ:

وفي كل شيء له آية  تدل على أنه واحد

لقد كان في سياحته وسلوكه ذلك السلوك في تلك المقامات، ساعياً بالقلب تحت نظَارَة العقل، وبالعقل في حماية القلب كالإمام الغزالي والأمام الرباني وجلال الدين الرومي، فبادر إلى ضماد جراحات قلبه وروحه، وخلّص نفسه من الوساوس والأوهام. وبخلاصه منها انقلب سعيد القديم إلى سعيد الجديد، فألّف بالعربية ما هو بحكم المثنوي الشريف -الذي هو أصلاً بالفارسية- رسائل عدة في أوجز العبارات. وكلما سنحت له الفرصة أقدم على طبعها، وهي: «قطرة، حباب، حبة، زهرة، ذرة، شمة، شعلة ودروس أخرى» مع رسالتين بالتركية وهما: «لمعات ونقطة». وبيّن ذلك المسلك في غضون نصف قرن من الزمان في رسائل النور التي لم تقتصر على جهاد النفس والشيطان، بل أصبحت شبيهة بمجموعة كلية واسعة من «المثنوي» تنقذ الحيارى المحتاجين وتنتشل المنساقين إلى الضلالة من أهل الفلسفة.

إن المناظرة الجارية بين ذينك السعيدين -سعيد القديم والجديد- كانت دافعة للشيطان، قاهرةً للنفس، حتى غدت رسائل النور طبيبة حاذقة لذوي الجراحات من طلاب الحقيقة، وأصبحت مُلزمةً ومُسكتةً لأهل الإلحاد والضلالة».

ما كتبتُ إلّا ما شاهدت

«إني قد ساقني القدر الإلهي إلى طريق عجيب، صادفتُ في سيري فيه مهالك ومصائب وأعداء هائلةً، فاضطربتُ، فالتجأت بعجزي إلى ربي.. فأخذت العنايةُ الأزلية بيدي، وعلّمني القرآنُ رشدي، وأغاثتني الرحمة فخلصتني من تلك المهالك. فبحمد الله صرتُ مظفراً في تلك المحاربات مع النفس والشيطان اللذين صارا وكيلين فضوليين لأنواع أهل الضلالات..

فأولاً ابتدأت المشاجرةُ بيننا في هذه الكلمات المباركة وهي:

سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. فوقع تحت كلٍ من هذه الحصون الحصينة ثلاثون حرباً. فكلُّ جملة، بل كل قيد في هذه الرسالة نتيجة مظفريةٍ لحرب لم يبق للعدوّ في شئ منها مطمَع وأدنى ممسك.. فما كتبتُ إلّا ما شاهدتُ.. بحيث لم يبق لنقيضه عندي إمكانٌ وهمي..

وإنني أعترف وأنادي بأعلى صوتي: بأني عاجز، قاصر في الإفهام، لكن أقول تحديثاً بالنعمة وأداء للأمانة بأني لا أخدعكم، إنما أكتب ما أشاهد أو أتيقن عين اليقين أو علم اليقين».

سنة 1922م/1339هـ

نفور من الحياة الاجتماعية وانقلاب روحيّ

«بعدما نجوت من أسر الروس في الحرب العالمية الأولى، لبثت في إسطنبول لخدمة الدّين في «دار الحكمة الإسلامية» حوالي ثلاث سنوات. ولكن بإرشاد القرآن الكريم وبهمّة الشيخ الگيلاني، وبانتباهي بالشيخوخة، تولّد عندي سأم وملل من الحياة الحضارية في إسطنبول، وبت أنفر من حياتها الاجتماعية البهيجة، فساقني الشوق والحنين المسمى بـ«داء الغُربة» إلى بلدتي، إذ كنت أقول: ما دمت سأموت فلأمت إذن في بلدتي.

نعم، هكذا جاءني النفور من تلك الحياة الدنيوية البهيجة في إسطنبول التي ظاهرها اللذة، من ذلك التأمل والنظر في شعيراتٍ بيضاء لرأسي ولحيتي، ومن عدم الوفاء الذي بدر من الصديق الوفي المخلص.. حتى بدأت النفس بالبحث والتحري عن أذواق معنوية بدلا عما افتتنت به من أذواق، فطلبت نوراً وسلواناً في هذه الشيخوخة التي تبدو ثقيلة ومزعجة ومقيتة في نظر الغافلين. فلله الحمد والمنّة وألف شكر وشكر له سبحانه أن وفقني لوجدان تلك الأذواق الإيمانية الحقيقية الدائمة في «لا إله إلّا هو» وفي نور التوحيد بدلا من تلك الأذواق الدنيوية التي لا حقيقة لها ولا لذة فيها، بل لا خير في عقباها. وله الحمد أن وفقني كذلك لأجد الشيخوخة خفيفة الظل أتنعم بدفئها ونورها بخلاف ما يراه أهل الغفلة من ثقل وبرودة.

ففي بداية شيخوختي ومستهلها، ورغبة منّى في الانزواء والاعتزال عن الناس، بحثَتْ روحي عن راحة في الوحدة والعزلة على «تل يوشع» المطل على البسفور.  فلما كنت -ذات يوم- أسرح بنظري إلى الأفق من على ذلك التل المرتفع، رأيت بنذير الشيخوخة لوحة من لوحات الزوال والفراق تتقطر حزناً ورقة، حيث جُلتُ بنظري من قمة شجرة عمري، من الغصن الخامس والأربعين منها، إلى أن انتهيت إلى أعماق الطبقات السفلى لحياتي، فرأيت أن في كل غصن من تلك الأغصان الكائنة هناك ضمن كل سنة جنائز لا تحصر من جنائز أحبابي وأصدقائي وكل مَن له علاقة معي، فتأثرت بالغ التأثر من فراق الأحباب وافتراقهم، وترنمت بأنين «فضولي البغدادي»  عند مفارقته الأحباب قائلاً:

كلما حنَّ الوصــال  عَذبٌ دمعي مادام الشهيق

لقد بحثتُ من خلال تلك الحسرات الغائرة عن باب رجاء، وعن نافذة نور، أسلّى بها نفسي، فإذا بنور الإيمان بالآخرة يغيثني ويمدّني بنور باهر، إنه منحني نوراً لا ينطفئ أبداً، ورجاءً لا يخيب مطلقاً.

وعلى «تل يوشع» المطل على البسفور بإسطنبول، عندما قررت ترك الدنيا، أتاني أصحاب أعزاء، ليثنوني عن عزمي ويعيدوني إلى حالتي الأولى، فقلت لهم: «دعوني وشأني إلى الغد، كي أستخير ربي». وفي الصباح الباكر خطرت هاتان اللوحتان إلى قلبي، وهما شبيهتان بالشعر، إلّا أنهما ليستا شعراً، وقد حافظت على عفويتهما وأبقيتهما كما وردتا لأجل تلك الخاطرة الميمونة…

اللوحة الأولى (وهي لوحة تصور حقيقة الدنيا لدى أهل الغفلة)

لا تدعُني إلى الدنيا، فقد جئتها ورأيت الفساد.

إذ لما صارت الغفلة حجاباً، وسترتْ نور الحق..

رأيت الموجودات كلها، فانية مضرة

إن قلتَ: الوجود! فقد لبسته، ولكن كم عانيت من البلاء في العدم.

وإن قلتَ: الحياة! فقد ذقتها، ولكن كم قاسيت العذاب.

إذ صار العقل عقاباً، والبقاء بلاءً

والعمر عين الهواء، والكمال عين الهباء.

والعمل عين الرياء، والأمل عين الألم.

والوصال عين الزوال، والدواء عين الداء.

والأنوار ظلمات، والأحبابُ أيتاماً.

والأصوات نعيات، والأحياء أمواتاً.

وانقلبت العلوم أوهاماً، وفي الحِكَم ألف سقم.

وتحولت اللذائذ آلاماً، وفي الوجود ألف عدم.

وإن قلتَ: الحبيب! فقد وجدته، آه! كم في الفراق من ألم.

اللوحة الثانية (وهي لوحة تشير إلى حقيقة الدنيا لدى أهل الهداية)

لما زالت الغفلة، أبصرت نور الحق عياناً.

وإذا الوجود برهان ذاته، والحياة مرآة الحق..

وإذا العقل مفتاح الكنـز، والفناء باب البقاء.

وانطفأت لمعة الكمال، وأشرقت شمس الجمال..

فصار الزوال عين الوصال، والألم عين اللذة.

والعمر هو العمل نفسه، والأبد عين العمر.

والظلامُ غلاف الضياء، وفي الموت حياة حقة..

وشاهدت الأشياء مؤنسة، والأصوات ذكراً..

فالموجودات كلها ذاكرات مسبحات.

ولقد وجدت الفقر كنـز الغنى وأبصرت القوة في العجز.

إن وجدت اللّه فالأشياء كلها لك.

نعم، إن كنت عبداً لمالك الملك، فملكه لك..

وإن كنت عبداً لنفسك معجباً بها فأبصر بلاءً وعبئاً بلا عدٍ وذقها عذاباً بلا حد.

وإن كنت عبداً للّه حقاً مؤمناً به، فأبصر صفاءً بلا حدٍ، وذق ثواباً بلا عد ونَل سعادة بلا حدٍ.


[1]  وإن قلت: فما تكون أنت حتى تنازل هؤلاء المشاهير؟ فهل أصبحت نظير ذبابة حتى تتدخل في طيران الصقور؟ وأنا أقول: لما كان لي أستاذ أزلي وهو القرآن العظيم، فلا أراني مضطراً أن أبالي -ولو بقدر جناح ذبابة- في طريق الحقيقة والمعرفة بأولئك الصقور الذين هم تلاميذ الفلسفة الملوثة بالضلالة والعقل المبتلى بالأوهام. فمهما كنت أدنى منهم درجة إلا أن أستاذهم أدنى بدرجات لا حدّ لها من أستاذي، فبفضل أستاذي وهمته لم تستطع المادة التي أغرقتهم أن تبلل قدمي. نعم، إن الجندي البسيط الحامل لأوامر سلطان عظيم وقوانينه يمكنه أن ينجز من الأعمال ما لا ينجزه مشير لدى ملك صغير.(المؤلف).