وقرأت قصيدة الأسماء الحسنى للشيخ الكيلاني قُدس سره  بعد عصر يوم من أيام شهر رمضان المبارك -وذلك قبل خمس وعشرين سنة- فوددت أن أكتب مناجاة بالأسماء الحسنى، فكُتب هذا القدر في حينه، إذ إنني أردت كتابة نظيرة لمناجاة أستاذي الجليل السامي، ولكن هيهات، فإني لا أملك موهبة في النظم. لذا عجزت، وظلت المناجاة مبتورة…»

هو الباقي

حكيمُ القضايا نحن في قَبْض حُكمه هو الحَكَمُ العدلُ له الأرض والسماءُ
عليمُ الخفايـا والغيوب في مُلكه هو القـادرُ القيومُ لـه العرش والثـراء
لطيفُ المزايا والنقـوش في صُنـعه هو الفاطرُ الودودُ له الحُسن والبـهاءُ
جليلُ المرايا والشؤون في خلقه هو الملكُ القدوسُ لـه العز والكبرياء
بديع البـرايا نحن من نقش صُنعـه هو الدائمُ الباقي له المـلك والبقـاءُ
كريمُ العطايـا نحن مِن ركبِ ضيـفه هو الرزاقُ الكـافي له الحمد والثنـاء
جميل الهدايا نحن من نسـج علمـه هو الخالقُ الوافي له الجودُ والعطاء
سميعُ الشكايا والدعاءِ لخـَلـقِه هو الراحمُ الشـافي له الشـكر والثناء
غفـور الخطـايا والذنوبِ لـعبده هو الغفّار الرحيمُ له العفوُ والرضـاء

الواقعة التي حوّلت «سعيد القديم» إلى «سعيد الجديد»

استمع إلى هذه الواقعة الخيالية التي تتمثل فيها حقيقةُ حياةِ الدنيا. تلك الواقعة التمثيلية التي رآها «سعيد القديم» فحوّلته إلى «سعيد الجديد» وهي:

«رأيتُ نفسي كأني أسافر في طريقٍ طويل، أي أُرسَل إلى مكانٍ بعيد، وكان سيدي قد خصّص لي مقدارَ ستين ليرة ذهبية يمنحني منها كلَّ يومٍ شيئاً، حتى دخلتُ إلى فندقٍ فيه ملهى فطفقتُ أبذّر ما أملك -وهي عشرُ ليرات- في ليلةٍ واحدة على مائدة القمار والسهر في سبيل الشهرة والإعجاب. فأصبحتُ وأنا صفر اليدين لم أتّجر بشيء، ولم آخذ شيئاً مما سأحتاج إليه في المكان الذي أقصده، فلم أوفّر لنفسي سوى الآلام والخطايا التي ترسبتْ من لذات غير مشروعة، وسوى الجروح والغصّات والآهات التي ترشحت من تلك السفاهات والسفالات.. وبينما أنا في هذه الحالة الكئيبة الحزينة البائسة إذ تمثّل أمامي رجلٌ. فقال:

«أنفقت جميع رأسمالك سدىً، وصرتَ مستحقاً للعقاب، وستذهب إلى البلد الذي تريدُه خاويَ اليدين. فإن كنتَ فطناً وذا بصيرة فبابُ التوبة مفتوحٌ لم يغلق بعدُ. وبإمكانك أن تدّخر نصف ما تحصل عليه، مما بقي لك من الليرات الخمس عشرة لتشتري بعضاً مما تحتاج إليه في ذلك المكان.» استشرتُ نفسي فإذا هي غير راضية بذلك.

فقال الرجل: «فادّخر إذن ثُلُثَه». ولكن وجدتُ نفسي غير راضية بهذا أيضاً.

فقال: «فادّخر ربعَهُ»، فرأيتُ نفسي لا تريد أن تَدَع العادةَ التي ابتُليت بها. فأدار الرجلُ رأسه وأدبر في حدّةٍ وغيظٍ ومضى في طريقه. ثم رأيتُ كأن الأمور قد تغيّرت، فرأيت نفسي في قطار ينطلق منحدراً بسرعة فائقة في داخل نفق تحت الأرض، فاضطربت من دهشتي، ولكن لا مناص لي حيث لا يمكنني الذهابُ يميناً ولا شمالاً. ومن الغريب أنه كانت تبدو على طرفَي القطار أزهارٌ جميلة جذابة وثمارٌ لذيذة متنوعة فمددتُ يدي -كالأغبياء- نحوَها أُحاول قطفَ أزهارها وأحصل على ثمراتها، إلّا أنها كانت بعيدةَ المنال، الأشواكُ فيها انغرزتْ في يدي بمجرد ملامستها فأدْمَتها وجرحَتها والقطارُ كان ماضياً بسرعة فائقة فآذيتُ نفسي من دون فائدة تعود عليّ. فقال أحد موظفي القطار: «أعطني خمسة قروش لأنتقيَ لك الكميةَ المناسبة التي تريدُها من تلك الأزهار والأثمار، فإنك تخسر بجروحك هذه أضعاف أضعاف ما تحصل عليه بخمسة قروش فضلاً عن أن هناك عقاباً على صنيعك هذا، حيث إنك تقطفها من غير إذن». فاشتدّ عليّ الكربُ في تلك الحالة فنظرت أتطلّع من النافذة إلى الأمام لأتعرّف نهايةَ النفق، فرأيت أن هناك نوافذَ كثيرةً وثغوراً عدة قد حلت محلَّ نهاية النفق وأن مسافري القطار يُقذَفون خارجاً من القطار إلى تلك الثغور والحفر، ورأيت أن ثغراً يقابلني أنا بالذات أُقيمَ على طرفيه حجرٌ أشبهُ ما يكونُ بشواهدِ القبر، فنظرت إليها بكل دقة وإمعان فرأيتُ أنه قد كُتب عليهما بحروفٍ كبيرة اسم «سعيد» فصرختُ من فرقي وحيرتي: يا ويلاه! وآنذاك سمعتُ صوت ذلك الرجل الذي أطال عليّ النصح في باب الملهى وهو يقول:

– هل استرجعتَ عقلك يا بني وأفقتَ من سكرتك؟.

– نعم ولكن بعد فوات الأوان، بعد أن خارتْ قواي ولم يبقَ لي حولٌ ولا قوة.

– تُب وتوكّل.

– قد فعلت.

ثم أفقتُ وقد اختفى سعيدٌ القديم ورأيتُ نفسي سعيداً جديداً».

مسلك التفكر

«وعندما انقلب سعيد القديم إلى سعيد الجديد قبل ثلاثة وعشرين عاماً، سالكاً مسلك التفكر، بحثتُ عن سرّ «تفكرُ ساعةٍ خير من عبادة سنة».  وفي كل عام أو عامين كان ذلك السرّ يغيّر من شكله فينتج إما رسالة عربية أو رسالة تركية. وقد دامت تلك الحقيقة وهي تتلبّس الأشكال المختلفة ابتداء من رسالة «قطرة» العربية، وانتهاء إلى رسالة «الآية الكبرى»، حتى أخذت شكلها الدائم في «الحزب النوري».  ومنذ عشرين عاماً، كلما تملّكني الضيق وأصاب الفكرَ والقلبَ إرهاقٌ، ولجأت إلى قراءة قسم من ذلك الحزب بتأمل، فإذا به يزيل ذلك الضيق والسآمة والإرهاق. وقد تكرر ألف مرة، ومع ذلك لم يترك أي أثر للملل والتعب -الناتجين عن الانشغال طوال خمس أو ست ساعات من الليل- بقراءة سُدس ذلك الحزب قبيل الفجر. نعم، إن هذه الحال تدوم حتى الآن».

مسلك العجز والفقر والشفقة والتفكر في مثال «الرشحة»

«سنفرض أنفسنا نحن الثلاثة «الزهرة» و«القطرة» و«الرشحة». إذ لا يكفي ما افترضناه مـن شعور فيها، فنلحق بها عقولَنا أيضاً. أي أن ندرك أن تلك الثلاثة مثلما تستفيض من شمسها المادية، فنحن كذلك نستفيض من شمسنا المعنوية.

فأنت أيها الصديق الذي لا ينسى الدنيا ويوغل في الماديات وقد غلظتْ نفسُه وتكاثفت! كن «الزهرة». لأن استعدادك شبيه بها، إذ إن تلك الزهرة تأخذ لونا قد تحلل من ضياء الشمس وتمزج مثال الشمس من ذلك اللون، وتتلون به في صورة زاهية.

أما هذا الفيلسوف الذي درس في المدارس الحديثة، والمعتقد بالأسباب، والذي يشبهه «سعيد القديم»، فليكن «القطرة» العاشقة للقمر، الذي يمنحها ظل الضياء المستفاد من الشمس فيعطي عينَها نوراً فتتلألأ به… ولكن «القطرة» لا ترى بذلك النور إلا القمر، ولا تستطيع أن ترى به الشمس، بل يمكنها رؤية الشمس بإيمانها.

ثم إن هذا الفقير الذي يعتقد أن كل شئ منه تعالى مباشرة، ويعدّ الأسباب حجابا، ليكن هو «الرشحة»، فهي رشحة فقيرة في ذاتها، لا شئ لها كي تستند إليه وتعتمد عليه كالزهرة وليس لها لون كي تشاهد به، ولا تعرف أشياء أخرى كي تتوجه إليها. فلها صفاء خالص يخبئ مثال الشمس في بؤبؤ عينها…»

[وبعد الإيضاح يختم البحث بالآتي:]

«وهذا صديقكم الثالث الشبيه بـ«الرشحة» فقير، عديم اللون، يتبخر بسرعة بحرارة الشمس، يدع أنانيته ويمتطي البخارَ فيصعد إلى الجو، يلتهب ما فيه من مادة كثيفة بنار العشق، ينقلب بالضياء نوراً، يمسك بشعاع صادر من تجليات ذلك الضياء ويقترب منه.

فيا مثال الرشحة! ما دمت تؤدي وظيفة المرآة للشمس مباشرة، فكن أينما شئت من المراتب، فيمكنك أن تجد نافذة نظارة صافية تطل منها إلى عين الشمس بعين اليقين، فلا تعاني صعوبة في إسناد الآثار العجيبة للشمس إليها، إذ تستطيع أن تسند إليها أوصافها المهيبة بلا تردد، فلا يمكن أن يمسك يَدك ويكفّك شيءٌ قطعاً عن إسناد الآثار المذهلة لسلطنتها الذاتية إليها. فلا يحيرك ضيق البرازخ ولا قيد القابليات ولا صغر المرايا، ولا يسوقك إلى خلاف الحقيقة شئ من ذلك لأنك صاف وخالص تنظر إليها مباشرة، ولذلك فقد أدركت أن ما يشاهَد في المظاهر ويُرى في المرايا ليس شمساً، وإنما نوع من تجلياتها وضرب من انعكاساتها المتلونة، وأن تلك الانعكاسات إنما هي دلائل وعناوين لها فحسب، ولكن لا يمكنها أن تُظهر آثار هيبتها جميعاً.

ففي هذا التمثيل الممتزج بالحقيقة يُسلَك إلى الكمال بطرق ثلاثة مختلفة متنوعة، فهم يتباينون في مزايا تلك الكمالات وفي تفاصيل مرتبة الشهود، إلا أنهم يتفقون في النتيجة، وفي الإذعان للحق، وفي التصديق بالحقيقة».

أقرب طريق إلى الله

«للوصول إلى الله سبحانه وتعالى طرائق كثيرة، وسبل عديدة. ومورد جميع الطرق الحقة ومنهل السبل الصائبة هو القرآن الكريم، إلّا أن بعض هذه الطرق أقرب من بعض وأسلم وأعم.

وقد استفدت من فيض القرآن الكريم -بالرغم من فهمي القاصر- طريقاً قصيراً وسبيلاً سوياً هو: طريق العجز، الفقر، الشفقة، التفكر.

نعم، إن العجز كالعشق طريق موصل إلى الله، بل أقرب وأسلم، إذ هو يوصل إلى المحبوبية بطريق العبودية. والفقر مثله يوصل إلى اسم الله «الرحمن». وكذلك الشفقة كالعشق موصل إلى الله إلا أنه أنفذ منه في السير وأوسع منه مدى، إذ هو يوصل إلى اسم الله «الرحيم». والتفكر أيضاً كالعشق إلا أنه أغنى منه وأسطع نوراً وأرحب سبيلاً، إذ هو يوصل السالك إلى اسم الله «الحكيم».

وهذا الطريق يختلف عما سلكه أهل السلوك في طرق الخفاء -ذات الخطوات العشر كاللطائف العشر- وفي طرق الجهر -ذات الخطوات السبع حسب النفوس السبعة- فهذا الطريق عبارة عن أربع خطوات فحسب، وهو حقيقة شرعية أكثر مما هو طريقة صوفية.

ولا يذهبن بكم سوء الفهم إلى الخطأ. فالمقصود بالعجز والفقر والتقصير إنما هو إظهار ذلك كله أمام الله سبحانه وليس إظهاره أمام الناس.

أما أوراد هذا الطريق القصير وأذكاره فتنحصر في: اتباع السنة النبوية، والعمل بالفرائض، ولا سيما إقامة الصلاة باعتدال الأركان، والعمل بالأذكار عقبها، وترك الكبائر.

أما منابع هذه الخطوات من القرآن الكريم فهي: ﴿فَلَا تُزَكُّٓوا اَنْفُسَكُمْ﴾ (النجم:32) تشير إلى الخطوة الأولى. ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذ۪ينَ نَسُوا اللّٰهَ فَاَنْسٰيهُمْ اَنْفُسَهُمْ﴾ (الحشر:19) تشير إلى الخطوة الثانية. ﴿مَٓا اَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّٰهِۘ وَمَٓا اَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ (النساء:79) تشير إلى الخطوة الثالثة. ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلَّا وَجْهَهُ﴾ (القصص:88)، تشير إلى الخطوة الرابعة.

وفيما يلي إيضاح هذه الخطوات الأربع بإيجاز شديد:

الخطوة الأولى

كما تشير إليها الآية الكريمة ﴿فَلَا تُزَكُّٓوا اَنْفُسَكُمْ﴾ وهي: عدم تزكية النفس. ذلك لأن الإنسان -حسب جبلّته وبمقتضى فطرته- محبٌ لنفسه بالذات، بل لا يحب إلا ذاته في المقدمة، ويضحي بكل شئ من أجل نفسه، ويمدح نفسه مدحاً لا يليق إلا بالمعبود وحده، وينـزّه شخصه ويبرئ ساحة نفسه، بل لا يقبل التقصير لنفسه أصلاً ويدافع عنها دفاعاً قوياً بما يشبه العبادة، حتى كأنه يصرف ما أودعه الله فيه من أجهزة لحمده سبحانه وتقديسه إلى نفسه، فيصيبه وصف الآية الكريمة: ﴿مَنِ اتَّخَذَ اِلٰهَهُ هَوٰيهُ﴾ (الفرقان:43) فيعجب بنفسه ويعتد بها.. فلا بد إذن من تزكيتها فتزكيتُها في هذه الخطوة وتطهيرها هي بعدم تزكيتها.

الخطوة الثانية

كما تلقّنه الآية الكريمة من درسِ ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذ۪ينَ نَسُوا اللّٰهَ فَاَنْسٰيهُمْ اَنْفُسَهُمْ﴾ وذلك: أن الإنسان ينسى نفسه ويغفل عنها، فإذا ما فكر في الموت صرفه إلى غيره، وإذا ما رأى الفناء والزوال دفعه إلى الآخرين، وكأنه لا يعنيه بشيء، إذ مقتضى النفس الأمارة أنها تذكر ذاتها في مقام أخذ الأجرة والحظوظ وتلتزم بها بشدة، بينما تتناسى ذاتها في مقام الخدمة والعمل والتكليف. فتزكيتها وتطهيرها وتربيتها في هذه الخطوة هي: العمل بعكس هذه الحالة، أي عدم النسيان في عين النسيان، أي نسيان النفس في الحظوظ والأجرة، والتفكر فيها عند الخدمات والموت.

الخطوة الثالثة

هي ما ترشد إليه الآية الكريمة: ﴿مَٓا اَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّٰهِۘ وَمَٓا اَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ وذلك: أن ما تقتضيه النفس دائماً أنها تنسب الخير إلى ذاتها، مما يسوقها هذا إلى الفخر والعجب. فعلى المرء في هذه الخطوة أن لا يرى من نفسه إلا القصور والنقص والعجز والفقر، وأن يرى كل محاسنه وكمالاته إحساناً من فاطره الجليل، ويتقبلها نعماً منه سبحانه، فيشكر عندئذ بدل الفخر ويحمد بدل المدح والمباهاة. فتزكية النفس في هذه المرتبة هي في سر هذه الآية الكريمة: ﴿قَدْ اَفْلَحَ مَنْ زَكّٰيهَاۙ (الشمس:9).

وهي أن تعلم بأن كمالها في عدم كمالها، وقدرتَها في عجزها، وغناها في فقرها، (أي كمال النفس في معرفة عدم كمالها، وقدرتها في عجزها أمام الله، وغناها في فقرها إليه).

الخطوة الرابعة

هي ما تعلّمه الآية الكريمة: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلَّا وَجْهَهُ﴾. ذلك لأن النفس تتوهم نفسها حرة مستقلة بذاتها، لذا تدّعى نوعاً من الربوبية، وتضمر عصيانا حيال معبودها الحق. فبإدراك الحقيقة الآتية ينجو الإنسان من ذلك وهي أن كل شئ بحد ذاته، وبمعناه الاسمي «زائلٌ، مفقود، حادث، معدوم»، إلّا أنه في معناه الحرفي، وبجهة قيامه بدور المرآة العاكسة لأسماء الصانع الجليل، وباعتبار مهامه ووظائفه «شاهد، مشهود، واجد، موجود».

فتزكيتها في هذه الخطوة هي معرفةُ أن عدمها في وجودها ووجودها في عدمها، أي إذا رأت ذاتها وأعطت لوجودها وجوداً، فإنها تغرق في ظلماتِ عدمٍ يسع الكائنات كلها. يعني إذا غفلت عن موجدها الحقيقي وهو الله، مغترة بوجودها الشخصي فإنها تجد نفسها وحيدة غريقة في ظلمات الفراق والعدم غير المتناهية، كأنها اليراعة في ضيائها الفردي الباهت في ظلمات الليل البهيم. ولكن عندما تترك الأنانية والغرور ترى نفسها حقاً أنها لا شيء بالذات، وإنما هي مرآة تعكس تجليات موجدها الحقيقي. فتظفر بوجود غير متناه وتربح وجود جميع المخلوقات.

نعم، من يجد الله فقد وجد كل شيء، فما الموجودات جميعها إلّا تجليات أسمائه الحسنى جل جلاله.

خاتمة

إن هذا الطريق هو أقصر وأقرب من غيره، لأنه عبارة عن أربع خطوات. فالعجز إذا ما تمكن من النفس يسلّمها مباشرة إلى «القدير» ذي الجلال، بينما إذا تمكن العشق من النفس -في طريق العشق الذي هو أنفذ الطرق الموصلة إلى الله- فإنها تتشبث بالمعشوق المجازي، وعندما ترى زواله تبلغ المحبوب الحقيقي.

ثم إن هذا الطريق أسلم من غيره، لأنه ليس للنفس فيه شطحات أو ادعاءات فوق طاقتها، إذ المرء لا يجد في نفسه غير العجز والفقر والتقصير حتى يتجاوز حده.

ثم إن هذا الطريق طريق عام وجادة كبرى، لأنه لا يضطر إلى إعدام الكائنات ولا إلى سجنها، حيث إن أهل «وحدة الوجود» توهموا الكائنات عدماً، فقالوا: «لا موجود إلا هو» لأجل الوصول إلى الاطمئنان والحضور القلبي. وكذا أهل «وحدة الشهود» حيث سجنوا الكائنات في سجن النسيان فقالوا: «لا مشهود إلّا هو» للوصول إلى الاطمئنان القلبي.

بينما القرآن الكريم يعفو الكائنات بكل وضوح عن الإعدام ويطلق سراحها من السجن، فهذا الطريق على نهج القرآن ينظر إلى الكائنات أنها مسخرة لفاطرها الجليل وخادمة في سبيله، وإنها مظاهر لتجليات الأسماء الحسنى كأنها مرايا تعكس تلك التجليات. أي إنه يستخدمها بالمعنى الحرفي ويعزلها عن المعنى الاسمي من أن تكون خادمة ومسخرة بنفسها. وعندها ينجو المرء من الغفلة، ويبلغ الحضور الدائم على نهج القرآن الكريم. فيجد إلى الحق سبحانه طريقاً من كل شئ.

وزبدة الكلام: أن هذا الطريق لا ينظر إلى الموجودات بالمعنى الاسمي، أي لا ينظر إليها على أنها مسخرة لنفسها ولذاتها، بل يعزلها من هذا ويقلدها وظيفةَ، أنها مسخرة لله سبحانه».