سنة 1909م/1327هـ

مساندة جمعية الاتحاد المحمدي

«طرق سمعي أن جمعية باسم «الاتحاد المحمدي» قد تأسست،) فتوجست خيفة شديدة من صدور تصرفات خاطئة من بعضهم تحت هذا الاسم المبارك.

ثم سمعت أن أشخاصاً مرموقين -من أمثال سهيل باشا والشيخ صادق- قد حوّلوا هذا الاسم إلى شيء بسيط ويسير إذ حصروه في العبادة واتباع سنن مطهرة، فقطعوا علاقتهم بتلك الجمعية السياسية. فلا يتدخلون بعدُ بالسياسة. فخشـيت مرة أخرى حيث قلت: إن هذا الاسم هو حقّ المسلمين كافة، فلا يقبل تخصصاً ولا تحديداً. فكما أني منتسـب إلى جمعيات دينية عديدة من جهة -حيث قد رأيت أن أهدافها واحدة- كذلك أنتسب إلى ذلك الاسم المبارك.

ولكن الاتحاد المحمدي الذي أعرفه وانضممت إليه هو الدائرة المرتبطة بسلسلة نورانية ممتدة من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال. فالذين ينضوون تحت رايته يتجاوز عددهم ثلاثمائة مليون في هذا العصر، وإن جهة الوحدة والارتباط في هذا الاتحاد هو توحيد الله. قَسَمه وعهده هو الإيمان. والمنتسبون إليه جميع المؤمنيـن منذ الخليقة. وسِجِلّ أسماء أعضائه هو اللوح المحفوظ. وناشر أفكاره: جميع الكتب الإسلامية والصحف اليومية التي تستهدف إعلاء كلمة الله. ومحالّ اجتماعاته ونواديه هي الجوامع والمساجد والتكايا والمدارس الدينية. ومركزه: الحرمان الشريفان.

فجمعية مثل هذه.. رئيسها هو فخر العالمين سيدنا الرسول الكريم ﷺ. ومسلكها ومنهجها: مجاهدة كل شخص نفسه أي التخلق بأخلاق الرسول الكريم ﷺ وإحياء السنة النبوية ومحبة الآخرين وإسداء النصح لهم ما لم ينشأ منه ضرر. والنظام الداخلي لهذا الاتحاد: السنة النبوية. وقانونه: الأوامر الشرعية ونواهيها. وسيوفه: البراهين القاطعة، حيث إن الظهور على المدنيين المثقفين إنما هو بالإقناع وليس بالضغط والإجبار. وإن تحرّي الحقيقة لا يكون إلّا بالمحبة، بينما الخصومة تكون إزاء الوحشية والتعصب. أما أهدافه ومقاصده فهي إعلاء كلمة الله.

هذا وإن نسبة الأخلاق والعبادة وأمور الآخرة والفضيلة في الشريعة هي تسع وتسعون بالمائة بينما نسبة السياسة لا تتجاوز الواحدة بالمائة. فليفكر فيها أولياء أمورنا.

والآن فإن مقصدنا هو سوق الجميع بشوق وجداني إلى كعبة الكمالات بطريق الرقي، وذلك بتحريك تلك السلسلة النورانية، إذ إن الرقي المادي سبب عظيم لإعلاء كلمة الله في هذا الزمان. وهكذا فأنا أحد أفراد هذا الاتحاد ومن الساعين لرفع رايته وإظهار اسمه وإلّا فلسـت من الأحزاب والجمعيات التي تسبب الفرقة بين الناس.

وفي الأيام الأولى من التحقيق سألوني مثلما سألوا غيري، وقالوا كذلك: هل انضممت إلى «الاتحاد المحمدي»؟

قلت: نعم بكل فخر واعتزاز! أنا من أصغر أعضائه، ولكن بالوجه الذي أعرّفه. أروني أحداً خارج ذلك الاتحاد من غير الملحدين. وهكذا فأنا أنشر اليوم ذلك الخطاب لأنقذ المشروطية من التلوث، وأنجي أهل الشـريعة من اليأس، وأخلّص أبناء العصر من وصم الجهل والجنون بهم في نظر التاريخ، وأنتشل الحقيقة من الأوهام والشبهات.

نعم، إنني دعوت ظاهراً إلى هذا «الاتحاد المحمدي» من أجل مقصدين عظيمين:

المقصد الأول: إنقاذ ذلك الاسم من التحديد والتخصيص، ولأعلن شموله المؤمنين عامة كي لا يقع الخلاف والفرقة ولا ترد الشبهات والأوهام.

المقصد الثاني: ليكون سداً أمام افتراق الفرق والأحزاب الذي كان سبباً في هذه المصيبة الفائتة العظيمة، وذلك بمحاولة التوحيد بينها، فيا أسفى لم يسعفنا الزمن فجاء السيل فأوقعني أيضاً.

ثم كنت أقول: لو نشب حريق فسأحاول إطفاء جزء منه في الأقل، ولكن احترقتْ حتى ملابسي العلمية. وذهبتْ -برضاً مني- الشهرة الكاذبة التي لا أستطيع تعهدها».

رد الأوهام

18/3/1325رومي

1/3/1909 ميلادي

«سأردّ هنا الأوهام الفاسدة التسعة التي أُسندت إلى جماعة الاتحاد المحمدي:

الوهم الأول: أن طرح المسألة الدينية في أوساط الناس لا يلائم مثل هذا الظرف الدقيق.

الجواب: نحن نحب الدين ونحب الدنيا أيضاً لأجل الدين.. ولا خير في الدنيا بلا دين.

ثانياً: ما دامت الحاكمية للشعب في المشروطية فلا بد أن يثبت الشعب وجوده. وشعبنا مسلم ومسلم فقط. فليست هناك رابطة حقيقية وقوية غير الإسلام بين العرب والترك والكرد والأرناؤوط والشركس واللاز.

إن إهمالاً طفيفاً في الدين أدّى إلى إرساء قواعد طوائف الملوك وظهور الجاهليات الميتة قبل ثلاثة عشر قرناً وبالتالي إلى ظهور الفتن والقلاقل. وقد ظهرت فعلاً وشاهدناها.

الوهم الثاني: أن تخصيص هذا العنوان -أي الاتحاد المحمدي- يجعل غير المنتسبين إليه في شك من أمرهم.

الجواب: وقد قلت سابقاً: فإما لم يُقرأ أو فُهم خطأً؛ لذا أضطر إلى التكرار وهو أننا عندما نقول «الاتحاد المحمدي» الذي هو اتحاد الإسلام، فالمراد هو الاتحاد الموجود الثابت بين جميع المؤمنيـن بالقوة أو بالفعل، وليس المراد جماعة في إسطنبول أو في الأناضول إذ إن أيّ قطرة من ماءٍ تحمل صفة الماء، فلا أحد خارج هذا الاتحاد، ولا يخصص هذا العنوان بأحد. وتعريفه الحقيقي هو:

أن أساس هذا الاتحاد يمتد من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال.. ومركزه: الحَرمان الشريفان.. وجهة وحدته: التوحيد الإلهي.. عهده وقَسَمه: الإيمان.. نظامه الداخلي: السنة النبوية الشريفة.. قوانينه: الأوامر والنواهي الشرعية..مقر اجتماعاته: جميع المدارس والمساجد والزوايا.. ناشرُ أفكار تلك الجماعة نشراً خالداً إلى الأبد: جميع الكتب الإسلامية وفي المقدمة القرآن الكريم وتفاسيـره، (ورسائل النور إحدى تلك التفاسير في زماننا هذا) وجميع الصحف الدينية والجرائد النـزيهة التي تهدف إلى إعلاء كلمة الله.. ومنتسبوه: جميع المؤمنين.. رئيسه: فخر العالمين ﷺ.

والآن لنقف عند الصدد وهو: تيقظ المؤمنين وإقبالهم نحو الإسلام ولا ينكر ما للرأي العام من تأثير.. وهدف الاتحاد وقصده: إعلاء كلمة الله.. ومسلكه: الجهاد الأكبر للنفس وإرشاد الآخرين.. وهمة هذه الهيئة المباركة مصروفة بنسبة تسع وتسعين بالمائة إلى غير السياسة من تهذيب الأخلاق واستقامة السلوك وما شابهها من الفضائل والمقاصد المشروعة، إذ إن الجمعيات المتوجهة إلى مثل هذه المقاصد نادرة، علماً أن أهميتها جليلة. وهناك واحد بالمائة من المقاصد يتعلق بالسياسة وهو إرشاد السياسيين.. سيوفهم: البراهين القاطعة.. مشربهم: المحبة وإنـماء المحبة المندمجة في بـذرة الأخوة الموجودة بين المـؤمنـين لتصبح شجرة طوبى مباركة.

الوهم الخامس: ربما ينفر الأجانب من هذا الاتحاد؟

الجواب: إن مَن يجد في نفسه هذا الاحتمال جاهل لا محالة، إذ يردّ هذا الاحتمال ما يلقى من خطب ومحاضرات حول الإسلام وعظمته في مراكزهم وعواصمهم.

ثم إن أعداءنا ليسوا بالأجانب. وإنما الذي أردانا إلى هذا الوضع وحال بيننا وبين إعلاء كلمة الله هو مخالفتنا للشريعة الغراء نتيجة «جهلنا» بها، و«الضرورة» -أي الفاقة الشديدة-التي أثمرت سوء الأخلاق وسوء المعاملات و«الاختلاف» الذي انتج الأغراض الشخصية والنفاق. فاتحادنا هجوم على هذه الثلاثة من الأعداء الظلمة.

أما جهل الأجانب بالإسلام في القرون الوسطى، فالإسلام مع اضطراره إلى معاداة الجهل والهمجية قد حافظ على العدالة والاستقامة معهم فلم يُرَ في التاريخ الإسلامي أمثال محاكم التفتيش. ولما قوي ساعد المدنيين في زمن التحضر هذا. فقد زال عنهم ذلك التعصب الذميم.

إن الظهور على المدنيين من منظور الدين إنما هو بالإقناع وليس بالإكراه. وبإظهار الإسلام محبوباً وسامياً لديهم وذلك بالامتثال الجميل لأوامره وإظهار الأخلاق الفاضلة. أما الإكراه والعداء، فهما تجاه وحشية الهمجيين.

الوهم السادس: أن البعض يقول: إن اتخاذ اتحاد الإسلام اتباع السنة النبوية هدفاً له يحدد من الحرية وينافي الأخذ بمتطلبات المدنية.

الجواب: المؤمن حرّ في ذاته، فالذي هو عبد لله رب العالمين لا ينبغي له أن يتذلل للناس، بمعنى أنه كلما رسخ الإيمان قويت الحرية. أما الحرية المطلقة فما هي إلّا الوحشية المطلقة بل بهيمية، وتحديد الحرية ضروري من وجهة نظر الإنسانية..

ثالثاً: إن قسماً من السفهاء والمهملين يريدون أن يظلوا أذلاء أسارى النفس الأمارة بالسوء فلا يروق لهم العيش الحر.

الحاصل: أن الحرية الخارجة عن دائرة الشرع، إنما هي استبداد أو أسرٌ بيد النفس الأمارة بالسوء، أو بـهيمية أو وحشية. فليَعلم جيداً هؤلاء الزنادقةُ والمهملون للدين أنهم لا يستطيعون أن يحببوا أنفسهم لأي أجنبي كان يملك وجداناً بالإلحاد والسـفاهة، بل لا يمكنهم أن يتشبهوا بـهم. لأن السفيه والذي لا يسير على هدى لا يكون محبوباً، فالثياب الـلائقـة بامرأة إذا ما لبسها الرجل يكون موضع هـزء وسخرية.

الوهم السابع: أن جمعية اتحاد الإسلام إنما هي لشق الصف بين سائر الجمعيات الإسلامية وتوليد الحسد والنفرة بينها.

الجواب:

أولاً: إن الأمور الأخروية لا حسد فيها ولا تنافر ولا تزاحم، فأيما جمعية حسدت وزاحمت الاتحاد فكأنما تنافق في العبادة وترائي فيها.

ثانياً: إننا نتحد مع الجماعات المتشكّلة بدافع محبة الدين وخدمته وذلك على وفق شرطين اثنين:

الشرط الأول: المحافظة على النظام العام للبلاد والحرية الشرعية.

الشرط الثاني: انتهاج نهج المحبة، وعدم محاولة إظهار مزايا لها بانتقاص الجمعيات الأخرى، بل الأولى مراجعة مفتي الأمة وجماعة العلماء فيما إذا ظهر خطأ.

ثالثاً: إن الجماعة التي تهدف إلى إعلاء كلمة الله لن تكون وسيلة لأي غرض مهما كان، وإذا تشـبثت بالأغراض فلا يحالفها التوفيق قطعاً لأنه نفاق، فشأن الحق عالٍ وسام لا يُضحّى به من أجل أي شيء كان. كيف تكون نجوم الثريا مكانس، أو كيف تؤكل كعناقيد عنبٍ؟ إن الذي يريد أن يطفئ شمس الحقيقـة بالنفـخ إنما يدلّ على بلاهتـه وجنونـه.

أيتها الصحف الدينية!

إن قصدنا وهدفنا هو اتحاد الجماعات الدينية في الهدف. إذ كما لا يمكن الاتحاد في المسالك والمشارب فلا يجوز أيضاً، لأن التقليد يشق طريقه ويؤدي إلى القول: «مالي وما عليّ فليفكر غيري».

الوهم الثامن: أن المنتسبين إلى الاتحاد -معنىً وصورة- أكثرهم من العوام وقسم منهم غير معروفين وهذا مدعاة إلى حدوث فتن واختلافات.

الجواب: إنما ذلك لعدم السماح في هذا الاتحاد بالتمايز بين الناس سواء أكانوا من الخاصة أم من العامة، ثم لأن المرء في الاتحاد يدعو إلى إعلاء كلمة الله فكل ما يقوم به يثاب عليه ثواب عبادة.. ففي جامع العبادة يتساوى الملك والمتسول، فلا امتياز، بل المساواة الحقة دسـتور قائم. لأن الأكرمَ عند الله هو الأتقى، والأتقى هو المتواضع، فبناءً على هذا يتشرف الشخص بانتسابه إلى هذه الجماعة الخالصة لخدمة الدين والدعوة إلى الآخرة، وإلّا فلا يزيد الاتحاد شرفاً، إذ القطرة لا تزيد البحر شيئاً.. ثم إن الإنسان كما لا يخرج عن الإيمان بارتكاب كبيرة، فإن باب التـوبة أيضاً مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربـها. والبحر لا يتنجس بغرفة ماء، بل يطهّر اليد فالمنتسب إلى هذا المثال المصغر للاتحاد الإسلامي يشترط عليه اتباع السنة النبوية وإحياؤها وامتثال أوامرها واجتناب نواهيها وعدم الإخلال بأمن البلاد ونظامها فالمجهول الذي انتسب إلى هذا الاتحاد لا يلوث قصداً هذه الحقيقة ما اسـتطاع إليه سبيلاً، وحتى لو كان المرء نفسه مذنباً فإيـمانه نزيه مقدّس. والرابطة إنما هي بالإيمان ليس إلّا.

فتشويه هذا العنوان المقدس بحجج واهية أمثال هذه إنما ينجم عن الجهل بعظمة الإسلام فضلاً عن إظهار هذا المتحجج نفسه أنه أحمق الناس.

نحن نردّ بكل ما أوتينا من قوة تشويه سمعة اتحادنا الذي يمثل «اتحاد المسلمين» أو التعريض به مما هو دأب الجمعيات الدنيوية الأخرى، ونحن على أتم استعداد للإجابة عن أي استفسار واعتراض كان.

إن الجماعة التي أنضمُّ إليها إنما هي هذا الاتحاد الإسلامي الذي فصّلنا القول فيه. وإلّا فليست هي تلك التي يتخيلها المعترضون بخيالهم الباطل.

إن أفراد هذه الهيئة الدينية هم معاً، سواءً أكانوا في الشرق أو الغرب أو الجنوب أو الشمال».

تنبيه أرباب الصحافة

«لقد دأبت الصحف على زعزعة الأخلاق الإسلامية بقياسين فاسدَين وبـما يوهن العزة والإقدام، حتى أهلكوا الأفكار العامة السائدة. فتصديت لهم بمقالات نشرتها في الجرائد وقلت لهم:

يا أرباب الصحف! على الأدباء أن يلتزموا بالآداب، وعليهم أن يتأدبوا بالآداب اللائقة بالإسلام. فينبغي أن تكون أقوالهم صادرة من صدور لا تحيد لجهة، ومن قلوب عموم الناس، فيشترك معهم عموم الأمة. ويجب تنظيم برنامج المطبوعات بما في وجدانكم من شعور ديني ونية خالصة. بينما أنتم بقياس فاسـد، أي بقياس الريف بإسطنبول، وإسطنبول بأوروبا أوقعتم الرأي العام والأفكار السائدة في مستنقع آسن، فنبهتم عروق الأغراض الشخصية والمنافع الذاتية وأخذ الثأر، حيث يلقن الطفل الصغيـر الذي لم يدرج بعد في المدرسة، الفلسفة الطبيعية المادية. فكما لا تليق بالرجل فَسَاتِين الراقصات فلا تطبق مشاعر أوروبا في إسطنبول، إذ اختـلاف الأقوام وتخالف الأماكن والأقطار شبيهة بتباين الأزمنة والعصور. بمعنى أن الثورة الفرنسية لا تكون دستوراً لنا. فالخطأ ينجم من تطبيق النظريات وعدم التفكر بمتطلبات الوقت الحاضر.

وحسب علمي أن الأدباء يكونون متأدبين، إلّا أنني أجد بعض الصحف الخارجيـة خالية من الأدب وناشرة للنفاق. فإن كان هذا هو الأدب، والآراء العامة مختلطةً إلى هذا الحد، فاشهدوا أني تخليت عن هذا الأدب، فلست داخلاً فيهم أيضاً. وسأطالع الأجرام واللوحات السماوية النيرة على ذرى جبال موطني، قمة «باشيد»، بدلاً من مطالعة هذه الصحف.

إنني أعترض على أساس فكر الصـحف التي ظهرت بعد منتصف نيسان وذلك أنهم أوجدوا منفذاً ومبرراً للتضحية بالعزة والكرامة والطاعة العسكرية -التي هي أسمى من الحياة بل تضحى لأجلها بالحياة- في سبيل أعمال غيـر مشروعة، وأفعال خسيسة خادمة للحياة نفسها لدى أهل الوجدان.

ثم إنهم ظنوا أن شمس الشريعة التي تنجذب إليها الحقائق والأحوال وترتبط بها، تابعة للسلطة أو منقادة للخلافة أو أداة لأية سياسة أخرى، فأظهروا -ما اعتقدوه- أن الشمس المنيرة تابعة لنجم منخسف.

أقول بكل ما أملك من قوة: إنه لا رقيَّ لنا إلّا برقي الإسلام الذي هو مِلِيَّتُـنَا، ولا رفعة لنا إلّا بتجلي حقائق الشريعة، وبخلافه نكون مصداقاً للمثل القائل: «أضاع المشيتين».

نعم، علينا أن نستشعر بشرف الأمة وعزتها وثواب الآخرة وبشأن المجتمع، وقيمته، والحميّة الإسلامية، وحب الوطن وبحب الدين، ففي المضاعفات قوةٌ أية قوة».

لتحيا الشريعة الأحمدية

على صاحبها الصلاة والسلام

«إن الشريعة الغراء باقية إلى الأبد؛ لأنها آتية من الكلام الأزلي، وإن النجاة والخلاص من تحكّم النفس الأمارة بالسوء بنا هي بالاعتماد على الإسلام والاستناد إليه والتمسك بحبل الله المتين، وإن جنْي فوائد الحرية الحقة والاستفادة منها استفادة كاملة منوط بالاستمداد من الإيمان؛ ذلك لأن من أراد العبودية الخالصة لرب العالمين لا ينبغي له أن يذلّ نفسـه فيكونَ عبداً للعبيد. وحيث إن كل إنسان راعٍ في مُلكه وعالَمه فهو مكلّف بالجهاد الأكبر في عالمه الأصغر ومأمور بالتخلق بأخلاق النـبي ﷺ وإحياء سنته الشريفة.

يا أولياء الأمور! إن أردتم التوفيق فاطلبوه في موافقة أعمالكم للسنن الإلهية في الكون -أي قوانين الله- وإلّا فلن تحصدوا إلّا الخذلان والإخفاق. لأن ظهور الأنبياء عامة في الممالك الإسلامية والعثمانية إنما هو رمز وإشارة من القدر الإلهي إلى أن الذي يدفع أبناء هذه الممالك إلى التقدم إنما هو الدين، وأن أزاهير مزرعة آسيا وإفريقيا وبساتين نصف أوروبا ستتفتح وتزدهر بنور الإسلام.

اعلموا أن الدين لا يُضحّى به لأجل الحصول على الدنيا. فقد كانت تُعطى فيما مضى مسائل الشريعة أتاوة للحفاظ على الاستبداد البائد. أروني ماذا حصدنا من ترك مسائل الدين والتضحية بها غير الضرر والخيبة. إن إصابة الأمة في قلبها إنما هو من ضعف الدين ولن تنعم بالصحة إلّا بتقوية الدين.

إن مشربنا: محبة المحبة، ومخاصمة الخصومة، أي إمداد جنود المحبة بين المسلميـن، وتشتيت عساكر الخصومة فيما بينهم. أما مسلكنا: فهو التخلق بالأخلاق المحمدية ﷺ وإحياء السنة النبوية. ومرشدنا في الحياة: الشريعة الغراء. وسيفنا: البراهين القاطعة. وهدفنا: إعلاء كلمة الله..

إن كل مؤمن هو منتسب -معنىً- لجماعتنا، وصورة هذا الانتساب هو العزم القاطع على إحياء السنة النبوية في عالمه الخاص، فنحن ندعو باسم الشريعة أولئك المرشدين -وهم العلماء والمشايخ من طلاب العلوم- إلى الاتحاد قبل أي أحد سواهم».

حادثة 31 مارت [13 نيسان 1909م]

«لقد شاهدتُ الحركة الرهيبة التي حدثت في 31 مارت لبضع دقائق، فسمعت مطالب عدة؛ فكما إذا أديرت ألوان سبعة بسرعة لا يظهر إلّا اللون الأبيض فكذلك لم يظهر من تلك المطالب إلّا لفظ الشريعة التي تخفف فساد تلك المطالب المتباينة من الألف إلى الواحد، وتنقذ العوام من الفوضى والاضـطراب، والتي تحافظ حفاظاً معجزاً على السياسة من أن تكون لعبة بيد الأفراد. فأدركت أن الأمر ينساق إلى الفسـاد؛ إذ الطاعة قد اختلت، والنصائح لا تجدي؛ وإلّا كنت اندفع إلى إطفاء تلك النار مثلما كنت أطفئ غيـرها، ولكن العوام هم الأغلبية، وأصدقائي غافلون وبسطاء، وأنا أظهر بمظهر الشهرة الكاذبة.

فبعد ثلاث دقائق انسحبتُ ذاهباً إلى «باقركُويْ» كي أحُول بين معارفي وبين المشاركة في الأمر. وأوصيت كل من قابلني بعدم المشاركة. فلو كان لي نية في المشاركة -بمقدار أنملة- لكنت أظهر على مسرح هذا الحدث ظهوراً عظيماً حيث إن ملابسي تعلن عني وشهرتي التي لا أريدها ذائعةٌ بين الجميع. وربما كنت أثبت وجودي بمقاومة جيش الحركة إلى «أياستافانونس». ولو وحدي ثم أموت بشرف ورجولة. وعندئذٍ كان تدخلي في الأمور من البديهيات. فلا تبقى حاجة إلى التحقيق.

وفي اليوم الثاني استفسرت من الجنود المطيعين -الذين هم يمثلون عقدة الحياة لنا – فقالوا إن الضباط قد لبسوا ملابس الجنود، فالطاعة ليست مختلة كثيراً.

ثم كررت السؤال: كم من الضباط أصيبوا؟ فخدعوني قائلين: أربعة فقط، وهؤلاء كانوا من المستبدين. وسوف تنفذ آداب الشريعة وحدودها.

ثم تصفحت الجرائد ورأيت: أنها أيضاً ترى تلك الحركة حركة مشروعة وتصورها على هذه الصورة، ففرحت من جهة، لأن أقدس غاية لديّ هي تطبيق الأحكام الشرعية تطبيقاً كاملاً. ولكن يئست أشد اليأس وتألمت كثيراً باختلال الطاعة العسكرية. فخاطبت الجنود بلسان جميع الجرائد وقلت:

«أيها الجنود! إن كان ضباطكم يظلمون أنفسهم بإثم واحد فإنكم بعصيانكم تظلمون حقوق ثلاثين مليوناً من العثمانيين وثلاثمائة مليونٍ من المسلمين. لأن شرف العثمانيين وعامة المسلمين وسعادتهم ولواء وحدتهم قائمة -بجهة- في طاعتكم.

ثم إنكم تطالبون بالشريعة ولكنكم تخالفونها بعصيانكم هذا».

ولقد باركتُ حركتهم وشجاعتهم لأن الصحف التي هي ألسنة كاذبة للرأي العام قد أظهرت لنا أن حركتهم مشـروعة. فلقد تمكنت -بتقديرهم هذا- أن أؤثّر بنصيحتي فيهم. فهدّأتُ العصيان إلى حدٍ ما. وإلّا لما كان الأمر يكون سهلاً.

ولكن وا أسفى، لقد وضع المعجبون بالتطرف في هذه الحادثة سداً أمام رغبات الأمة المشتاقة إلى المشروطية المشروعة التي فيها سعادتنا ومنبع حياتنا الاجتماعية العطشى إلى المعارف والعلوم الحديثة المنسجمة مع الإسلام، وذلك بإلقائهم الأغراض الشخصية والفتن في المشروطية. زد على ذلك أعمال المثقفين المتسمة بالإلحاد وعدم الاكتراث بالدين.

ولقد رأيت في حادثة (31 مارت) حالة قريبة من هذا: عندما نادى من كانوا يجودون بأرواحهم للإسلام من أصحاب الهمم بالدعوة إلى المشروطية، والذين كانوا يعتقدون أن نعمة المشروطية غاية المنى وجوهر الحياة، وجدّوا في تطبيق تفرعاتها وفق الشـريعة مرشدين المسؤولين في الدولة وموجهين لهم للتوجه إلى القبلة في صلاة العدالة طالبين إعلاء الشريعة المقدسة حقاً بقوة المشروطية، وإبقاء المشروطية بقوة الشريعة، محمّلين مخالفة الشريعة السيئات السابقة جميعَها، فما إن نادى هؤلاء بهذا النداء وقاموا بتطبيق بعض الأمور الفرعية إذا ببعض مَن لا يميّز يمينه عن شماله يبرز أمامهم ويجابهونهم ظناً منهم أن الشريعة تشد أزر الاستبداد -حاشـاها- فقلّدوا كالببغاء منادين: «إنّا نطالب بالشريعة» فاختفى الهدف ولم يعد يُفهم القصـد الحقيقي، وانجر الوضع إلى ما رأيتم. ومعلوم أن الخطط قد مُهّدت وحيكت من قبل. فلما آل الأمر إلى هذا هجم بعض من يتقنع كذباً بالحميّة على ذلك الاسم السامي، واعترضوا متعدين عليه. فدونكم نقطة سوداء مظلمة جديرة بالاعتبار. ذلك أن ما يسمى بحادثة 31 مارت، ذلك الطوفان الرهيب والصاعقة المحرقة، قد هُيأت -تحت أسباب اعتيادية- استعداداً طبيعياً بحيث ورد -من عند الله- على لسان القائمين بها اسم الشريعة المظهرة معجزتها دوماً رغم أن نتائج تلك الحادثة كانت الهرج والمرج.

ولأن اسم الشريعة جعل ذلك الطوفان يمر بسلام فانه يُدين -أمام الله- تلك الصحف التي أطلقت لسانها بالسوء بعد منتصف نيسان.

فإذا ما أُخذ بنظر الاعتبار الأسباب السبعة والأحوال السبع التي أدّت إلى تلك الحادثة تظهر الحقيقة بجلاء وهي كالآتي:

1- لقد كان تسعون بالمائة من هذه الحركة موجهة ضد الاتحاد والترقي وضد استبدادهم ودكتاتوريتهم.

2- كما كانت ترمي إلى تبديل الوزراء الذين كانوا محل نقاش وجدال بين الفرقاء والأحزاب.

3- إنقاذ السلطان المظلوم من الخلع الذي قد تقرر وصُمّم عليه.

4- منع التعليمات وإنهاء التلقينات التي لا تليق بالآداب العسكرية والآداب الدينية.

5- الكشف عن قاتل السيد «حسن فهمي»  بعد أن تم تضخيم موضوع اغتياله.

6- تسـوية موضوع الضباط «آلايلي» الذين اُخرجوا من الخدمة العسكرية وإنصافهم.

7- الوقوف تجاه تعميم مفهوم الحرية على التصـرفات السفيهة، أي تحديد معنى الحرية بالآداب الشرعية، ثم القيام بتطبيق الحدود الشرعية التي لا يفهم العوام منها سوى القصاص وقطع اليد.

بيد أن الأرضية الآسنة كانت مهيأة، والخطط والمنـزلقات كانت جاهزة حتى ذهبت الطاعة العسكرية السامية جداً ضحية لها.

إن أس أساس الأسباب هو المناقشات العنيفة المتحيّزة للفرقاء «الأحزاب» وغلو الصحف في المجادلات المبالغ فيها بالكذب عوضاً عن بلاغة الكلام…»

إرجاعه الجنود إلى الطاعة

«ذهبت بصحبة العلماء يوم الجمعة إلى الجنود الذين تمردوا في الوزارة الحربية. وقد أخضعت ثمانية طوابير إلى الطاعة بخطب مؤثرة جداً. ولقد أظهرتْ نصائحي فوائدها بعد مدة. أذكر لكم صورة خطابي:

أيها العساكر الموحِّدون!

إن شرف ثلاثين مليوناً من العثمانيين وثلاثمائة مليون من المسلمين وكرامتهم وسعادتهم ورمز وحدتهم منوطة -من جهة- بطاعتكم. إن كان -الضباط- يظلمون أنفسهم بخطيئة واحدة فإنكم بعصيانكم هذا تظلمون ثلاثمائة مليون من المسلمين. لأنكم بعصيانكم هذا تلقون الأخوة الإسلامية إلى التهلكة.

اعلموا جيداً! أن مركز الجندي عظيم جداً، إذ هو أشبه ما يكون بالمعمل، فإذا اختل دولاب منه يختل العمل في المعمل كله. ألا إن الجنود الأفراد لا يتدخلون بالسياسة، والانكشاريون خير شاهد على هذا. إنكم تطالبون بالشريعة إلّا أنكم تخالفونها وتلوثونها.

إنه ثابت بالشريعة والقرآن والحديث والحكمة والتجربة أن الطاعة فرض لولى الأمر المستقيم المتديِّن القائم بالحق؛ فأولياء أموركم هم ضباطكم. فكما أن مهندساً ماهراً وطبيباً حاذقاً إذا ما ارتكب الآثام لا تتضرر مهنة الطب والهندسة كذلك ضبـاطكم الذين هم منورو الفكر ومثقفون ومطلعون على فنون الحرب وذوو الغيرة والشهامة وهم المؤمنون. فلا تظلموا العثمانيين جميعاً والمسلمين بعصيانكم لأوامرهم جراء حركة جزئية غير مشروعة تصدر منهم، ذلك لأن العصيان ليس ظلماً واحداً بل هو تجاوز على حقوق ملايين من الأفراد. أنتم تعلمون أن راية التوحيد الإلهي محمولة على يد شجاعتكم. وقوة تلك اليد في الطاعة والنظام، حيث إن ألفاً من المطيعين المنظمين يعدل مائة ألف من السائبين. وغني عن البيان فإن ثلاثين مليوناً من العثمانيين لم يقوموا بمثل هذه الانقلابات الدموية طوال مائة سنة، فلقد قمتم بها بطاعتكم من دون إراقة دماء.

وأضيفُ أيضاً؛ إن إضاعة ضابط ذي حمية وثقافة ودراية يعني إضاعةَ قوتكم المعنوية، لأن الغالب في الوقت الحاضر هو الشجاعة الإيمانية والعقلية والعلمية. وأحياناً يعدل مثقف واحد منهم مائة من غيرهم. فالأجانب يسعون أن يغلبوكم بهذه الشجاعة، إذ الشجاعة الفطرية وحدها غير كافية.

خلاصة الكلام: إني أبلغكم ما أمره الرسول الأعظم ﷺ وهو: أن الطاعة فرض، فلا تعصوا ضباطكم. فليحيا الجنود، ولتعش المشروطية المشروعة.

وقد سمعت أن قسماً من الجنود بدؤوا ينتسبون إلى بعض الجمعيات، فتذكرت الحادثة الرهيبة للانكشاريين. فقلقت كثيراً واضطربت، فكتبت في إحدى الصحف:

إن أسمى جمعية وأقدسها في الوقت الحاضر، هي جمعية الجنود المؤمنين. فجميع الذين انخرطوا في سلك الجندية المؤمنة المضحية ابتداءً من الجندي إلى القائد هم داخلون في هذه الجمعية. إذ إن أقدس هدف لأقدس جمعية في العالم هو الاتحاد والأخوة والطاعة والمحبة وإعلاء كلمة الله. فالجنود المؤمنون قاطبة يدعون إلى هذا الهدف. ألا إن الجنود هم المراكز، فعلى الأمة والجمعيات أن ينتسبوا إلى الجنود، إذ الجمعيات الأخرى ما هي إلّا لجعل الأمة جنوداً في المحبة والأخوة. أما الاتحاد المحمدي الذي هو شامل لجميع المؤمنين فهو ليس جمعية ولا حزباً، إذ مركزه وصفّه الأول المجاهدون والشهداء والعلماء والمرشدون.

فليس هناك مؤمن ولا جندي فدائي سواءً أكان ضابطاً أو جندياً خارج عن هذا الاتحاد، لذا فلا داعي للانتساب إلى جمعيات أخرى. ومع هذا فلا أتدخل في أمور بعض الجمعيات الخيرة التي لها الحق في أن تطلق على نفسها الاتحاد المحمدي».