سوقه إلى المحكمة العسكرية العرفية بسبب أحداث (31) مارت

«حينما كانت العدالة والاستقامة قد التبستا مع الرجعية، صيّر الاستبداد الشديد في المشروطية السجن مدرسةً لي.

لقد قلت في المحكمة العسكرية العرفية في أثناء حادثة (31) مارت:

إنني طالب شريعة، لذا أزن كل شيء بميزان الشريعة، فالإسلام وحده هو ملّتي، لذا أُقيّم كل شيء وأنظر إليه بمنظار الإسلام، وإنني إذ أقف على مشارف عالم البرزخ الذي تدعونه «السجن» منتظراً في محطة الإعدام، القطار الذي يقلني إلى الآخرة أشجب وأنقد ما يجري في المجتمع البشري من أحوال ظالمة غدارة، فخطابي ليس موجهاً إليكم وحدكم وإنما أوجهه إلى بني الإنسان كلهم في هذا العصر، فلقد انبعثت الحقائق من قبـر القلب عارية مجردة بسر الآية الكريمة: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَٓائِرُ﴾ (الطارق:9) فمن كان أجنبياً غير محرَم فلا ينظر إليها. إنني متهيئ بكل شوق للذهاب إلى الآخرة، ومستعد للرحيل إليها مع هؤلاء المعلقين على المشانق. تصوروا مبلغ اشتياقي إليها بهذا المثال:

قروي مغرم بالغرائب سمع بعجائب إسطنبول وغرائبها وجمالها ومباهجها، كم يشتاق إليها؟

فأنا الآن مثل ذلك القروي مشتاق إلى الآخرة التي هي معرض العجائب والغرائب.

لذا فإن إبعادي ونفيي إلى هناك لا يُعدّ عقاباً لي. ولكن إن كان في قدرتكم وفي استطاعتكم تعذيبي وإيقاع العقاب عليّ فعذّبوني وجداناً، فما دونه ليس عذاباً ولا عقاباً بل فخراً وشرفاً.

لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد. إلّا أنها الآن تعادي الحياة بأكملها؛ فإن كانت الحكومة على هذا الشكل والمنطق، فليعش الجنون وليعش الموت، ولتعش جهنم مثوىً للظالمين.

لقد كنت آمل أن يهيأ لي موضع لأبيّن فيه أفكاري، وها قد أصبحت هذه المحكمة العرفية خير مكان لأبث منها أفكاري.

في الأيام الأولى من التحقيق سألوني مثلما سألوا غيري: «وأنت أيضاً قد طالبت بالشريعة!»

قلت: «لو كان لي ألف روح، لكنت مستعداً لأن أضحي بها في سبيل حقيقة واحدة من حقائق الشريعة، إذ الشريعة سبب السعادة وهي العدالة المحضة وهي الفضيلة. أقول: الشريعة الحقة لا كما يطالب بها المتمردون.. فها أنا أبدأ بخطابي:

أيها القادة! أيها الضباط!

إن خلاصة جناياتي التي اقتضت سجني هي:

إذا محاسني اللاتي أدلّ بها  كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر؟

وفي البداية أقول: «إن الشريف لا يتنازل لارتكاب جريمة، وإن اتُّهم بها لا يخاف من الجزاء والعقاب؛ فلئن أُعدمتُ ظلماً فإني أغنم ثواب شهيدين معاً، وإن لبثت في السجن فهو بلا ريب أفضل مكان في ظل هذه الحكومة الظالمة التي ليس فيها من الحرية إلّا لفظها، فالموت مظلوماً هو خير من العيش ظالماً».

وأقول كذلك: «إن بعضاً ممن جعلوا السياسة أداة للإلحاد، يتهمون الآخرين بالرجعية أو باستغلال الدين لأجل السياسة ليستروا على سيئاتهم وجرائمهم. إن عيون السلطة وجواسيسها أشد قساوة من سابقيهم، فكيف يوثق بهم ويعتمد عليهم وكيف نبني العدالة على أقوالهم؟. فضلاً عن أن الإنسان، إذ لا يسلم من تقصير ونقص، بينما تراه يتحرى العدالة يقع في الظلم بالجبن والخِبّ. ولكن جمع تقصيرات متفرقة وقعت في مدة مديدة ومن تصرف أشخاص كثيرين -والتي يمكن تفاديها بما يتخللها من محاسن- وتوهّم صدورها من شخص واحد في وقت واحد يجعل ذلك الشخص مستحقاً لعقاب شديد. بينما هذا الأمر بحد ذاته ظلم عظيم.

والآن سنباشر بذكر جناياتي البالغة إحدى عشرة جناية ونصف جناية»…

(هذا الدفاع الرائع الشجاع طبع مرتين في وقته ونشر، وعندما كان يُنتظر صدور حكم الإعدام من تلك المحكمة الرهيبة حكمت ببراءة بديع الزمان -علماً أنها علقت الكثيرين على أعواد المشانق- ولكن بديع الزمان بدلاً من أن يشكر المحكمة على قرارها سار من منطقة بايزيد -حيث المحكمة- إلى منطقة السلطان أحمد ويعقبه جمّ غفير من الناس، ويهتفون: فلتعش جهنم للظالمين ولتعش جهنم للظالمين).

براءته من المحكمة ودفاعه عن الأبرياء

ألقيتُ هذه الأسـئـلة في اليوم الثاني من تبرئتي على مسامع خورشيد باشا رئيس المحكمة العسكرية العرفية الأولى، وعلى غيره عدة مرات، وذلك دفاعاً عن المسجونين الأبرياء.ما جزاء من يتعرض لإنسان تشكّل في صورة ثعبان، ولولي صالح تقمص صفة شقيّ، وللمشروطية التي لبست لباس الاستبداد، وما هم في الحقيقة سوى ثعابين وشقاة ومستبدين؟

هل يكون المستبد شخصاً فرداً واحداً؟ أم يمكن أن يكونوا أشخاصاً عديدين مستبدين؟ وأرى أن القوة يجب أن تكون في القانون، وإلّا فسيتوزع الاستبداد ويشتد أكثر بالمنظمات.

أيّهما أضرّ: إعدام بريء أم العفو عن عشرة جناة؟

أفلا يزيد من سبل النفاق والتفرقة تشديدُ الخناق على أرباب المسالك والفكر، علماً أنه لا يغلبهم؟

أيمكن بغير رفع المحسوبية والامتيازات حصول اتحاد الأمة الذي هو معدن حياتنا الاجتماعية؟

إذا عَدّت فرقة معينة نفسها صاحبة امتيازات على الآخرين، وألجأت الناس إلى الظهور بـمظهر المخالف للمشروطية، وذلك بكثرة تعرض تلك الفرقة لهم وجرحها لمشاعرهم، فعلى من يقع الذنب لو تعرض الجميع للاستبداد العنيد المتستر تحت اسم المشروطية التي تقلدته تلك الفرقة؟

على من تقع المسؤولية فيما لو ترك بستانيّ باب البستان مفتوحاً، ودخل فيه من دخل، ثم ظهر حدوث السرقات؟

لو منحت حرية الفكر والكلام للناس، ثم حوسب شخص على كلامه أو فكره، أفلا يكون ذلك خطة مدبّرة لدفع الأمة المنكوبة إلى النار؟

نرى الجميع يعاهدون المشروطية ويقسمون بها، بينما المعاهد هو نفسه مخالف لمسمّى المشروطية أو ساكت عن مخالفيها، ألا يحتاج ذلك إلى كفّارة اليمين؟ ألا تكون الأمة إذن كاذبة؟ أفلا يعتبر إذَن الرأى العام النـزيه كاذباً ومعتوهاً؟

حاصل الكلام: إن المهيمن على الوضع الحاضر استبداد شديد وتحكم صارم، وذلك من حيث الجهل المتفشي، وكأن الاستبداد والتجسس قد تناسخا روحاً.

خلاصة لهذه الفترة:

«كان سعيد الشاب يتضايق فطرةً من أن يحدد شيء حركته ويقيد أسلوب حياته، ويرغبُ في أن يبقى حراً طليقاً في أطوار حياته وأسلوب معيشته بعيداً عن ضغوط الأوامر وأغلال القوانين، فكان يردد دائماً: «إنني لا أحدد حريتي بأي قانون اعتباطي».

وقد شوهد منه هذا التوق إلى الحرية في صفحات حياته كلها، فلم يرضخ لقوانين الضلالة الرهيبة والزندقة الواردة من أوروبا، ورفض أي انقياد كان للاستبداد الرهيب الناشئ من الفلسفة الطبيعية وسعى لبيان حقيقة الإسلام المتضمنة للحرية الشرعية الحقة والحضارة المثلى.

وكان الطابع العام لحياة بديع الزمان في إسطنبول طابعاً سياسياً إلى حد ما، إذ كان يحمل فكرة خدمة الدين عن طريق السياسة، فدفعه عشقه لخدمة الدين إلى هذا الطريق. فناصـر الدعوة إلى الحرية وعارض بشدة جمعية الاتحاد والترقي عندما شاهد من ظلمهم، بل ما كان يتردد أن يصدع في وجوههم قائلاً: لقد اعتديتم على الدين وتعرضتم لغيرة الله وأدرتم ظهوركم للشريعة.. احذروا فإن العاقبة وخيمة!.

وبعد إعلان الدستور ناصر جمعية «الاتحاد المحمدي» التي بدأت تتوسع بسرعة في زمن قصير حتى انضم إليها خمسون ألفاً من الأعضاء في كل من «آدا بازاري» و«إزميت» بعد نشـر مقالة بديع الزمان.. وفي هذه الفترة تعاقبت مقالاته في الصحف الدينية  وخطبه التي كان يلقيها للحيلولة دون تفسير الحرية تفسيراً خاطئاً وتغييـر مجراها الحقيقي. ولإعلام الناس أن الرضى بالمشروطية يكون مشروطاً بالشرع.. فاستفاد الناس والسياسيون والعلماء من تلك المقالات والخطب أيما استفادة.

وكان يبشر الناس دوماً ببزوغ الفجر الصادق لسعادة آسيا الدنيوية، وذلك بانتباه الروح الملية بشرط الامتثـال بالأوامر الشرعية، لئلا تفلت تلك اليقظة الملية. وكان يحذّر قائلاً: «إن لم نقبل المشروطية المشروعة، والحرية الشرعية ولم يطبقا على الوجه المطلوب فسوف نضيعهما وستحل إدارة مستبدة محلهما»».

سنة 1910م/1328هـ

في طريقه إلى «وان»

«لم يلبث في إسطنبول، بل غادرها إلى «وان» عن طريق «باطوم». وفي طريقه إلى «وان» مرّ على مدينة «تفليس» وصعد على «تل الشيخ صنعان»».

محاورة مع البوليس الروسي

«قبل عشر سنوات ذهبت إلى «تفليس» وصعدت تل الشيخ صنعان، كنت أتأمل تلك الأرجاء أراقبها. اقترب مني أحد رجال البوليس فقال:

– بم تنعم النظر؟

قلت: أخطط لمدرستي!

قال: من أين أنت؟

قلت: من بتليس

قال: وهنا تفليس!

قلت: بتليس وتفليس شقيقتان

قال: ماذا تعني؟

قلت: لقد بدأ ظهور ثلاثة أنوار متتابعة في آسيا، في العالم الإسلامي، وستظهر عندكم ثلاث ظلمات بعضها فوق بعض، سيُمزّق هذا الستار المستبد ويتقلص، وعندها آتي إلى هنا وأنشئ مدرستي.

قال: هيهات! إنني أحار من فرط أملك؟

قلت: وأنا أحار من عقلك! أيمكن أن تتوقع دوام هذا الشتاء؟ إن لكل شتاء ربيعاً ولكل ليل نهاراً.

قال: لقد تفرق المسلمون شذر مذر.

قلت: ذهبوا لكسب العلم، فها هو الهندي الذي هو ابن الإسلام الكُفؤ يدرس في إعدادية الإنكليز. وها هو المصري الذي هو ابن الإسلام الذكي يتلقى الدرس في المدرسة الإدارية السياسية للإنكليز.. وها هو القفقاس والتركستان اللذان هما ابنا الإسلام الشجاعان يتدربان في المدرسة الحربية للروس..إلخ.

فيا هذا! إن هؤلاء الأبناء البررة النبلاء، بعد ما ينالون شهاداتهم، سيتولى كل منهم قارة من القارات، ويرفعون لواء أبيهم العادل، الإسلام العظيم، خفاقاً ليرفرف في آفاق الكمالات، معلنين سر الحكمة الأزلية المقدرة في بني البشر رغم كل شيء».

تأليف رجتة العوام «المناظرات»

وبعد وصوله إلى «وان» بدأ بإلقاء دروسه الاجتماعية ومحاضراته العلمية، متجولاً بين القبائل والعشائر مرشداً إياهم بأسلوب المحاورة ضمن أسئلة وأجوبة، ثم نشرها في رسالة -باللغة التركية- أسماها «المناظرات») وكان يُجري في الوقت نفسه محاورات مع السياسيين والمسؤولين بغية نشر أنوار الإسلام في صفوفهم.

من مقدمة الرسالة

«اعلموا أني لما سافرت ثاني سنتي المشروطية، قافلاً من العصر الذي تمثله إسطنبول، منحدراً إلى القرون الوسطى، متجولاً بين عشائر الأكراد، مترحلاً من بساتين الربيع رحلة الصيف إلى الخريف، متنقلاً رحلة الشتاء في البلاد العربية.. اتخذت من الجبال والبيد مدرسة درّست فيها المشروطية لهم. فحينئذ تراءى لي من شبهاتهم أنهم تصوروا المشروطية بصورة غريبة، واطلعت على شبهاتهم وأسئلتهم فإنها من واد واحد. فلأجل تشخيص المرض ألقيت إليهم مفتاح الكلام، فقلت فاسألوا حتى يداويه جوابي، فاستصوبوا.. لأن طبيعتهم المدارسةُ بالمناظرة والمناقشة..

فتعميماً للفائدة كتبت أسئلتهم معانقة بأجوبتي حتى توازرها، فينطق كتابي بدلاً عني، ويشافه عشائر الأكراد وأمثالهم الذين ما رأيتهم، وليترجم بلسان الأسئلة عن الذين لا يطيق لسانهم إظهار ما في ضمائرهم. أعني أن هذا الكتاب يجيب بدلاً عني، ويسأل بدلاً عنهم. ويعاون أطباء السياسة على تشخيص العلة..

فيا أهل الحمية أنبهكم إلى أن الأكراد وأمثالهم صاروا -ويصيرون- أهل المشروطية فكراً.. ولكن بعض المأمورين لا يتمثلون الشورى فعلاً.. وهذا أشكل من ذاك. مع أن مدرّس العوام الذين عقولهم في عيونـهم هو «الفعلُ».

[وعندما نظر إلى (المناظرات) بعد مدة طويلة كتب الآتي:]

أولاً: إن هذا المؤلَّف الذي طبع في مطبعة «أبو الضياء» سنة 1329 (1913م) هو الدرس الذي ألقاه سعيد القديم بين عشائر الأرتُوش ولاسيما عشائر «كَوْدَان ومَامْخُورَان»، لأجل إفهام الشورى الشرعية للعشائر فهماً صائباً وحملهم على قبولها، وذلك في السنة الثالثة من عهد الحرية، ولكن لم أحصل على هذا المؤلّف مع الأسف رغم بحثي عنه منذ ثلاثين سنة، إلّا أن أحدهم حصل على نسخة منه فأرسلها إليّ.

طالعت الكتاب بإمعان وبعقل سعيد القديم وبسانحات سعيد الجديد، فأدركت أن سـعيداً القديم شعر بحسّ عجيب مسبق -قبل الوقوع- الوقائعَ المادية والمعنوية التي تحدُث الآن، فقد شعر بها قبل حوالي أربعين سنة. إذ إنه شـاهد ما وراء ستار العشائر الكردية، الخونةَ الذين جعلوا هذا الزمان قناعاً لهم وهم الملحدون الجاهلون الحقيقيون والرجعيون الذين يحاولون تحت ستار الوطنية إرجاع هذه الأمة إلى عاداتها السابقة قبل عهد الإسلام. فتكلم سعيد القديم معهم بشدة وحاورهم بعنف.

ثانياً: قرأت الصفحات التي يبدو فيها أن بين المستمعين لدرسي ذاك، وليّا عظيما -دون علمي به- فقد اعترض اعتراضاً شديداً في ذلك المقام إذ قال: «أنت تغالي وتفرط، إذ تُظهر الخيال عينَ الحقيقة وتُهيننا بظنك أننا جهلاء، فنحن في عصر آخر الزمان والفساد يستشري وسينقلب من سيء إلى أسوأ».

وكان الجواب في الكتاب:

لماذا تكون الدنيا ميدان تقدمٍ وترقٍ للجميع، وتكون لنا وحدنا ميدان تأخر وتدنٍ. فهل الأمر هكذا؟ فها أنذا آليتُ على نفسي ألّا أخاطبكم، فأدير إليكم ظهري وأتوجه بالخطاب إلى القادمين في المستقبل:

أيا من اختفى خلف عصر شاهق لما بعد ثلاثمائة سنة، يستمع إلى كلمات النـور بصمت وسكون، ويلمحنا بنظر خفي غيبي.. أيا من تتسمّون بـ«سعيد وحمزة، وعمر وعثمان وطاهر ويوسف وأحمد وأمثالهم» إنني أتوجه بالخطاب إليكم:

ارفعوا هاماتكم وقولوا: «لقد صدقت» وليكن هذا التصديق ديْناً في أعناقكم. إن معاصريّ هؤلاء وإن كانوا لا يعيرون سمعاً لأقوالي، لندعهم وشأنهم، إنني أتكلم معكم عبـر أمواج الأثير الممتدة من الوديان السحيقة للماضي -المسمّى بالتاريخ- إلى ذرى مستقبلكم الرفيع. ما حيلتي لقد استعجلت وشاءت الأقدار أن آتي إلى خضم الحياة في شتائها.. أما أنتم فطوبى لكم ستأتون إليها في ربيع زاهر كالجنة، إن ما يزرع الآن ويستنبت من بذور النور ستتفتح أزاهير يانعة في أرضكم.. نحن ننتظر منكم لقاء خدماتنا.. إنكم إذا جئتم لتعبروا إلى سفوح الماضي، عوجوا إلى قبورنا، واغرسوا بعض هدايا ذلك الربيع على قمة القلعة».

سنة 1911م/1329هـ

إلى الشام

[سافر إلى الشام شتاءً في أواخر سنة 1910م (1329هـ) وهناك ألقى خطبة في الجامع الأموي، ثم طبعت في رسالة سميت «الخطبة الشامية»]

من مقدمة الخطبة الشامية

«هذه الرسالة العربية قد أُلقيتْ درساً في الجامع الأموي بدمشق منذ أربعين عاماً، وذلك بناءً على إصرار العلماء هناك، واستمع إليها ما يقرب من عشرة آلاف شخص، بينهم ما لا يقل عن مائة من كبار علماء الشام.

إن الحقائق الواردة فيها، قد أحسَّها «سعيد القديم» بإحساس مسبق، فزفّها بشائر عظيمة بيقين جازم، ظناً منه أن تلك الحقائق وشيكة التحقق، بيد أن الحربين العُظميين، والاستبداد المطلق الذي استمر ربع قرن من الزمان قد أدّيا إلى تأخر تحقق تلك الحقائق أربعين أو خمسين عاماً.

«طبعت هذه «الخطبة الشامية» مرتين في حينه. وقد شخّص فيها أمراض الأمة الإسلامية المادية منها والمعنوية. وكذلك الأسباب التي أدّت إلى تعرّض العالم الإسلامي للأسر والمهالك وبيّن فيها طرق العلاج والخلاص، وبشر المسلمين جميعاً بل الإنسانية قاطبة بأن الإسلام سيظهر على الأرض كافة مبينـاً أن أعظم رقيّ مادي ومعنوي سيحققه الإسلام، وستنجلى الحضارة الإسلامية بأبهى مظهرها وستطهّر الأرض من اللوثات، كل ذلك مقروناً بدلائل عقلية رصينة…».

نموذج من الخطبة

«لقد تعلمت الدروس في مدرسة الحياة الاجتماعية البشرية، وعلِمتُ في هذا الزمان والمكان أن هناك ستة أمراض، جعلتنا نقـف على أعتاب القرون الوسطى في الوقت الذي طار فيه الأجانب -وخاصة الأوربيين- نحو المستقبل.

وتلك الأمراض هي:

أولاً: حياة اليأس الذي يجد فينا أسبابه وبعثه.

ثانياً: موت الصدق في حياتنا الاجتماعية والسياسية.

ثالثاً: حبّ العداوة.

رابعاً: الجهل بالروابط النورانية التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض.

خامساً: سريان الاستبداد سريانَ الأمراض المعدية المتنوعة.

سادساً: حصر الهمة في المنفعة الشخصية.

ولمعالجة هذه الأمراض الستة الفتّاكة، أبيّن ما اقتبسته من فيض صيدلية القرآن الحكيم -الذي هو بمثابة كلية الطب في حياتنا الاجتماعية- أبيّنها بست كلمات، إذ لا أعرف أسلوباً للمعالجة سواها.

الكلمة الأولى: «الأمل» أي شدة الاعتماد على الرحمة الإلهية والثقة بها.

نعم، إنه بناء على ما تعلمته من دروس الحياة، يسرّني أن أزفّ إليكم البشرى يا معشر المسلمين، بأنه قد أزِفَ بزوغ أمارات الفجر الصادق ودنا شروق شمس سعادة عالم الإسلام الدنيوية وبخاصة سعادة العثمانيين، ولاسيما سعادة العرب الذين يتوقّف تقدم العالم الإسلامي ورقيّـه على تيقظهم وانتباههم، فإنني أعلن بقوة وجزم، بحيث أُسمع الدنيا كلها -وأنفُ اليأس والقنوط راغم- أن المستقبل سيكون للإسلام، وللإسلام وحده. وأن الحكم لن يكون إلّا لحقائق القرآن والإيمان. فعلينا الرضا بالقدر الإلهي وبما قسّمه الله لنا؛ إذ لنا مستقبل زاهر، وللأجانب ماضٍ مشوش مختلط.

فهذه دعواي، لي عليها براهين عدة، سأذكر واحداً ونصفاً فقط منها، بعد أن أمهّد لها ببعض المقدمات…» [ثم عاد عن طريق بيروت – إزمير إلى إسطنبول واستمر في مطالبته بإنشاء مدرسة الزهراء].

مصاحبته للسلطان رشاد في سياحته

رافق السلطان رشاد في سياحته إلى «رومَلي» ممثلاً عن الولايات الشرقية، وذلك في بداية عهد الحرية.

في ذلك الوقت قال للسلطان وللاتحاديين الذين رافقوه: إن الشرق أحوج إلى مثل هذه الجامعة، فهو يتمتع بموقع المركز للعالم الإسلامي. فوعده السلطان خيراً. وباندلاع الحرب مع البلقان احتُل موقع تلك الجامعة في «قوصوا» فطلب بديع الزمان تحويل المبلغ المخصص لها إلى إنشاء جامعة في الشرق. وحصلت الموافقة عليه فمنح السلطان رشاد تسع عشرة ألف ليرة ذهبية لتأسيس تلك الجامعة، وأرسيتُ قواعدها فعلاً -في منطقة أرتَمِيتْ على ضفاف بحيرة «وان»- إلّا أن اندلاع الحرب العالمية الأولى حال دون إكمال المشروع.

الحمية الدينية أم الملية؟

«كان في قطارنا معلمان اثنان، قد تلقيا العلوم في المدارس الحديثة، فجرت بيننا مباحثة، إذ سألاني: أيُّهما أقوى وأولى بالالتزام: الحمية الدينية أم الملية؟ قلت لهم -وقتئذٍ-: نحن معاشر المسلمين، الدين والملية عندنا متحدان بالذات، والاختلاف اعتباري، أي ظاهري، عرضي، بل الدين هو حياة الملية وروحها. فإذا ما نُظر إليهما بأنهما مختلفان ومتباينان، فإن الحمية الدينية تشمل العوام والخواص بينما الحمية الملية تنحصر في واحد بالمائة من الناس، ممن يضحي بمنفعته الشخصية لأجل الأمة.

وعليه فلا بد أن تكون الحمية الدينية أساساً في الحقوق العامة، وتكون الملية خادمة منقادة لها وساندة حصينة لها.

فنحن الشرقيين لا نشبه الغربيين، إذ المهيمن على قلوبنا الشعور الديني؛ فإنّ بعث الأنبياء في الشرق يشيـر به القدرُ الإلهي إلى أن الشعور الديني وحده هو الذي يستنهض الشرق ويسوقه إلى التقدم والرقي، والعصر السعيد -وهو خير القرون والذي يليه- خير برهان على هذا.

فيا زملائي في هذه المدرسة السيارة، أعني القطار، ويا من تسألون عن التفاضل بين الحمية الدينية والملية، ويا أيها الدارسون في المدارس الحديثة. إني أقول لكم جميعاً: إن الحمية الدينية والملية الإسلامية قد امتزجتا في الترك والعرب مزجاً لا يمكن فصلهما، وإن الحمية الإسلامية هي أقوى وأمتن حبل نوارني نازل من العرش الأعظم، فهي العروة الوثقى لا انفصام لها، وهي القلعة الحصينة التي لا تهدم».

حول مؤلّف «تعليقات» في المنطق

إن هذه الرسالة الموسومة بـ«تعليقات» هي ما كتبه بديع الزمان سعيد الكردي من حواشٍ على كتاب «برهان كلنبوي»، ودوّنها أحبّ طلابه إليه والملازم له في الدرس الملا حبيب  فسجل هذه التقريرات من بديع الزمان على صورة حواشٍ وهوامش.. كان ذلك في سنة 1329هـ ثم اندلعت الحرب العالمية الأولى وذهب بديع الزمان والملا حبيب كواعظين مع فرقة «وان» إلى جبهة القتال في «أرضـروم»، وعادا معاً بعد عام وقد احتُلت «وان» من قبل الأرمن، فانسحبنا إلى قضـاء «كَوَاش» واستشهد الملا حبيب هناك، فحملت الرسالة التي خطها طوال سني الهجرات من مدينـة إلى أخرى ومن قصبة إلى أخرى حتى حللنا في مدينة «ملاطية» سنة 1940 ومن هناك مفتياً في قضاء «أورْكُوبْ».

كانت الرسالة أوراقاً متفرقة فجمّعتها وجلّدتها، على أمل أن يأتي زمان ويُبعث العلم والدين من جديد، ويظهر في الميدان أناس يقرؤون أمثال هذه الرسائل. وعندئذٍ يقدّر قدرها ويُعلم ما فيها من فكر عميق وذكاء نافذ.ولكن هيهات.. فلا ذاك الزمان يأتي، ولا أولئك القراء يظهرون. والسلام..

عبد المجيد 1951

سنة 1913م/1331هـ

حادثة بتليس

«جاءني قبيل الحرب العالمية السابقة (الأولى) في مدينة «وان» بعض الأشخاص المتدينين والمتقين وقالوا لي:

هناك بعض القُواد تصدر منهم أعمال ضد الدين، فاشترك معنا لأننا سنعلن العصيان عليهم. قلت لهم:

إن تلك الأعمال اللادينية وتلك السيئات تعود إلى أمثال أولئك القواد، ولا يمكن أن نحمّل الجيش مسـؤوليتها، ففي هذا الجيش العثماني قد يوجد مائة ألف من أولياء الله. وأنا لا أستطيع أن امتشق سيفي ضد هذا الجيش، لذا لا أستطيع أن أشترك معكم.([1]) فتركني هؤلاء، وشهروا أسلحتهم، وكانت النتيجة حدوث واقعة «بتـليس» التي لم تحقق أي هدف. وبعد قليل اندلعت الحرب العالمية، واشترك ذلك الجيش في تلك الحرب تحت راية الدين ودخل حومة الجهاد، فارتقت منه مئات الآلاف من الشهداء إلى مرتبة الأولياء، فقد وقّعوا بدمائهم على شهادات الولاية. وكان هذا برهاناً وتصديقاً على صحة سلوكي وصواب تصرفي في تلك الدعوى».

حادثة الأرمن

«كانت علاقة طلاب «سعيد القديم» وطيدة جداً مع أستاذهم حتى بلغت مرتبة التضحية والفداء. لذا كان «سعيد القديم» يتمكن من التصدي للفعاليات الكثيرة التي كانت تقوم بها عصابات الأرمن وفدائيو الطاشناق في حوالي مدينة «وان» و«بتليس» بل كان يوقفهم عند حدّهم إلى درجة ما.

وحينما وجد لطلابه بنادق الماوزر وتحولت مدرسته إلى ما يشبه المعسكر -إذ الكتب كانت جنباً إلى جنب مع البنادق- حضر قائد عسكري برتبة فريق وشاهد هذا المنظر.. وقال: «هذه ليست مدرسة دينية بل ثكنة عسكرية» وأمر قائلاً: «اجمعوا بنادقه» لما ساورته الشكوك من جراء حادثة «بتليس». فحصلوا منا على خمس عشرة بندقية، وبعد حوالي شهرين اندلعت الحرب العالمية الأولى، فاسترجعتُ بنادقي منهم.. وعلى كل حال.. ولمناسبة هذه المواقف والأحوال سألوني:

إن عصابات الأرمن التي تملك فدائيين رهيبين تخشاكم، حتى إنها تجنبت الاحتكاك معكم وتفرقوا بعيداً عنكم لما صعدتم جبل «أرك» في «وان». ترى ما القوة التي فيكم حتى يكون الأمر هكذا؟.

فكنت أجيبهم: إن فدائيي الأرمن الذين يقومون بهذه البطولات الخارقة، إنما يقومون بـها في سبيل الحصول على حياة دنيوية فانية، ولأجل كسب مصلحة قومية مؤقتة صغيـرة، وللحفاظ على سلامتها.. ونحن نجابه هؤلاء بالطلاب الذين يسعون في سبيل الحصول على حياة باقية خالدة، ولأجل كسب مصالح إيجابية لأمة الإسلام السامية العظيمة وقد أيقنوا بأن الأجل واحد لا يتغير. فلا شك أن هؤلاء الطلاب لا يتخلفون قطعاً عن أولئك الفدائيين. بل إذا لزم الأمر يفدون بحياتـهم وبأجلهم المحتوم وبعمر لا يعدو بضع سنوات ظاهرية، في سبيل الفوز بملايين السنوات من العمر الخالد، وفي سبيل الحفاظ على سلامة مليارات من الناس المؤمنين الأتقياء.. يفدونها دون تردد، وبكل فخر واعتزاز».

رؤيا صادقة حول إعجاز القرآن

«قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وإبّان نشوبها رأيت في رؤيا صادقة مايأتي:

رأيت نفسي تحت «جبل آرارات» وإذا بالجبل ينفلق انفلاقاً هائلاً، فيقذف صخوراً عظيمة كالجبال إلى أنحاء الأرض كافة. وأنا في هذه الرهبة التي غشيتني رأيت والدتي -رحمة الله عليها- بقربي. قلت لها: «لا تخافي يا أماه! إنه أمر الله، إنه رحيم، إنه حكيم». وإذ أنا بتلك الحالة إذا بشخص عظيم يأمرني قائلاً: «بَيّنْ إعجازَ القرآن».

أفقتُ من نومي، وأدركتُ أنه سيحدث انفلاق عظيم، وستتهدم الأسوار التي تحيط بالقرآن الكريم من جراء ذلك الانفلاق والانقلاب العظيم، وسيتولى القرآن بنفسه الدفاع عن نفسه حيث سيكون هدفاً للهجوم، وسيكون إعجازه حصنه الفولاذي، وسيكون شخص مثلي مرشحاً للقيام ببيان نوعٍ من هذا الإعجاز في هذا الزمان -بما يفوق حدّي وطوقي كثيراً- وأدركتُ أنى مرشح للقيام بهذا العمل».

نذير الحرب

[يذكر أخوه عبد المجيد:]

«بينا كنا على سطح مدرسةِ «خورخور» والأستاذ يلقي علينا درس التفسير، والحرب العالمية الأولى على وشك الاندلاع كسفت الشمس ذلك المساء كسوفاً كلياً، فأطلق بديع الزمان زفرة من أعماقه قائلاً: وا أسفى، سيأتي سيل عارم ويجرفنا جميعاً. وفعلاً أُعلنت الحرب بعد شهر. وفي فترة قصيرة عمّت البلاد كلها».

[ويقول طلابه] «أخبرنا مراراً في أثناء الدرس بوقوع زلزلة عظيمة -بمعنى الحرب العمومية- فوقعت كما أخبرنا».([2])


[1]  وكان هذا مضمون جواب الأستاذ للعديد من رؤساء العشائر الذين كانوا يرومون القيام بالثورة ضد مصطفى كمال. وهو الجواب نفسه مع اختلاف بسيط في العبارات لدى استشارة حسين باشا له في ثورة الشيخ سعيد. وبهذا الجواب حقن دماء المسلمين.

[2]  حمزة، محمد شفيق، محمد مهري. إشارات الإعجاز.