التقوى والعمل الصالح

«لقد فكرت -في هذه الأيام- في أسس التقوى والعمل الصالح، اللذين هما أعظم أساسين في نظر القرآن الكريم بعد الإيمان.

فالتقوى هي ترك المحظور والاجتناب عن الذنوب والسيئات. والعمل الصالح هو فعل المأمور لكسب الخيرات.

ففي هذا الوقت الذي يتسم بالدمار -الأخلاقي والروحي- وبإثارة هوى النفس الأمارة، وبإطلاق الشهوات من عقالها.. تصبح التقوى أساساً عظيماً جداً بل ركيزة الأسس، وتكسب أفضلية عظيمة حيث إنها دفع للمفاسد وترك للكبائر، إذ إن «درء المفاسد أولى من جلب المنافع» قاعدة مطردة في كل وقت.

وحيث إن التيارات المدمرة أخذت تتفاقم في هذا الوقت، فقد أصبحت التقوى أعظم أساس وأكبر سد لصد هذا الدمار الرهيب. فالذي يؤدي الفرائض ولا يرتكب الكبائر، ينجو بإذن الله، إذ التوفيق إلى عمل خالص مع هذه الكبائر المحيطة أمر نادر جداً، وإن عملاً صالحاً ولو كان قليلاً يغدو في حكم الكثير ضمن هذه الشرائط الثقيلة والظروف العصيبة.

ثم إن هناك نوعاً من عمل صالح ضمن التقوى نفسها، لأن ترك الحرام واجب والقيام بالواجب ثوابه أكثر من كثير من السنن والنوافل، ففي مثل هذه الأزمان التي تهاجم الذنوب والسيئات الإنسان من كل جانب يكون اجتنابُ أثمٍ واحد مع عمل قليل، بمثابة ترك لمئات من الآثام -التي تترتب على ذلك الإثم- وقيام بمئات من الواجبات.

هذه النقطة جديرة بالاهتمام، ولا تحصل إلّا بالنية الخالصة وبالتقوى وقصد الفرار من الآثام والذنوب، ويغنم المرء بها ثواب أعمال صالحة نشأت من عبادة لم يَصرِف فيها جهداً.

إن أهم وظيفة تقع على عاتق طلاب النور خدام القرآن الكريم، في هذا الوقت هي اتخاذُ التقوى أساساً في الأعمال كلها، ثم التحرك وفقها أمام تيار الدمار الرهيب المهاجم والآثام المحيطة بهم، إذ يواجه الإنسان ضمن أنماط الحياة الاجتماعية الحاضرة مئات من الخطايا في كل دقيقة، فالتقوى هي التي تجعل -دون ريب- الإنسانَ كأنه يقوم بمئات من الأعمال الصالحة، وذلك باجتنابه تلك المحرمات.

من المعلوم أن عشرين شخصاً في عشرين يوماً لا يستطيعون بناء عمارة واحدة في حين يستطيع أن يهدمها شخص واحد في يوم واحد، لذا فالذي يقوم بالهدم والدمار ينبغي أن يقابَل بعشرين ممن يبنون ويعمرون تلك النواحي، بيد أننا نرى العكس. فالألوف من الهدامين لا يقابلهم إلا معمِّر واحد وهو رسائل النور. فمقاومة خدام القرآن الكريم وحدهم تلك التخريبات المريعة إنما هي عمل خارق جداً. فلو كانت هاتان القوتان المتقابلتان على مستوى واحد من القوة، لكنت ترى في التعمير والبناء -الروحي والأخلاقي- خوارق وفتوحات عظيمة جداً.

ولنضرب مثلاً واحداً فقط: إن أعظم ركيزة في الحياة الاجتماعية هي توقير الصغير للكبير ورحمة الكبير للصغير. إلا أننا نرى أن هذا الأساس قد تصدع كثيراً، حتى إننا نسمع أخباراً مؤلمة جداً، وحوادث مفجعة جداً تجاه الآباء والأمهات، تقع من جراء خراب هذا الأساس الراسخ.

ولكن بفضل الله فإن رسائل النور أينما حلت قاومت الدمار، وحالت دون تهدم هذا الأساس الاجتماعي المتين، بل حاولت تعميره.

فكما يعيث يأجوج ومأجوج في الأرض الفساد بخراب سد ذي القرنين، فإن فسـاداً أبشع من فساد يأجوج ومأجوج قد دبّ في العـالم وأحاطه بظلمات الإرهاب والفوضى وعمت الحياة والأخلاق مظالم شنيعة وإلحاد شنيع.. فظهر الفساد في البر والبحر، نتيجة تزلزل السد القرآني العظيم، وهو الشريعة المحمدية الغراء.

لذا فإن الجهاد المعنوي لطلاب النور ضد هذا التيار الجارف يعدّ -بإذن الله- جهاداً عظيم الثواب، إذ فيه قبس من جهاد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم الذين يثابون بعملٍ قليل ثواباً عظيماً.

فيا إخوتي الأعزاء! في مثل هذه الأوقات العصيبة، وأمام هذه الأحداث الجسام، فإن أعظم قوة لدينا -بعد قوة الإخلاص- هي قوة «الاشتراك في الأعمال الأخروية» إذ يَكتب كلٌ منكم في دفتر أعمال إخوته حسناتٍ كثيرة مثلما يرسل بلسانه الإمداد والعون إلى قلعة التقوى وخنادقها. وإن أخاكم الفقير والعاجز هذا «السعيد» الذي اشتدت عليه غارات الهجوم من كل جهة، هو أحوج ما يكون إلى مساعدتكم في هذه الأشهر الثلاثة المباركة، وفي هذه الأيام المشهودة. ولا أستبعد هذا منكم قط، فأنتم أهل لهذا السعي، وأنتم الأبطال الأوفياء المشفقون على حال أخيكم، وأنا أطلب منكم هذا الإمداد المعنوي بكل جوارحي ومن صميم روحي.

وبدوري سأشرك الطلاب في دعواتي وحسناتي المعنوية، بل ربما أدعو لكم في اليوم أكثر من مائة مرة باسم طلاب النور، بشرط الالتزام بالإيمان والوفاء، وذلك دستور الاشتراك في الأعمال الأخروية».

لِمَ ننشغل بالرسائل وحدها؟

«يقولون: إن سعيداً لا يقتني كتباً أخرى لديه، بمعنى أنه لا تعجبه تلك الكتب بل لا تعجبه حتى كتب الإمام الغزالي فلا يجلب إليه مؤلفاته.

فبهذه الكلمات العجيبة التي لا معنى لها يكدّرون أذهان الناس. ألَا إن الذين يروّجون مثل هذه الإشاعات إنما هم أهل الزندقة، ولكن يجعلون العلماء الساذجين وبعضاً من أهل التصوف وسيلة لذلك.

ونحن نقول تجاه هذا: حاش لله مائة مرة حاش لله… إن مهمة رسائل النور وطلابها هي الحفاظ على مسلك أستاذهم حجة الإسلام الإمام الغزالى، والذود عنه ما وسعهم وإنقاذه من هجمات أهل الضلالة.. وهو أستاذي الوحيد الذي يربطني بالإمام علي رضي الله عنه، ولكن في زمانهم لم يكن هجوم الزندقة الرهيبة يزعزع أركان الإيمان -كما في هذا العصر-.
فلا يحصل بسرعة على الأسلحة التي استعملها أولئك العلماء المحققون الأجلاء، والمجتهدون العظام حسب عصورهم في المناظرات والمناقشات العلمية والدينية، بل يحتاج إلى وقت، ولا تُقهر أعداء هذا الزمان قهراً تاماً. إلّا أن رسائل النور باستلهامها القرآن المبين قد وجدت أسلحة يمكن الحصول عليها بسرعة، وهى قوية نافذة، وفي الوقت نفسه تمزق صفوف العدو وتجعلهم شذر مذر، لذا لا تُراجع مصانع أسلحة أولئك الأفذاد السامين الميامين. لأن القرآن الكريم الذي هو مصدرهم جميعاً ومنبعهم ومرجعهم وأستاذهم قد أصبح أستاذاً كاملاً لرسائل النور. فضلاً عن ذلك فالوقت ضيق ونحن ضعفاء، فلا نجد متسعاً من الوقت كي نستفيد من تلك الآثار النورانية، علاوة على ذلك فإن هناك مئات الأضعاف من أمثال طلاب رسائل النور ينشغلون بتلك الكتب وهم يؤدون تلك الوظيفة ونحن أودعناها لهم. وإلّا فنحن نحب تلك الآثار الطيبة الميمونة لأساتذتنا السامين أولئك بقدر ما نحب أرواحنا وكياننا، ولكن لكل منا دماغ واحد ويد واحدة ولسان واحد، وتجاهنا ألوف المتعدين والوقت ضيق. وحيث إننا شاهدنا آخر سلاح أوتوماتيكي أمامنا وهو براهين رسائل النور، اضطررنا إلى الاكتفاء بذلك السلاح والاعتصام به».

 أسس العمل مع المعترضين

«لمّا كان أولياء الله الصالحون لا يمكنهم أن يعرفوا الغيب -إن لم يلهمهم الله سبحانه تعالى- حيث لا يعلم الغيب إلّا الله؛ فإن أعظم وليّ صالح لا يستطيع أن يطلع على حقيقة وواقع الحال عند ولي آخر، بل ربما يعاديه لعدم علمه بحقيقته، وما حدث فيما بين بعض العشرة المبشرين بالجنة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، خير دليل على هذا. وهو يعنى أن وليين اثنين إذا ما أنكر أحدهما على الآخر، فإن ذلك لا يسقطهما من مقام الولاية ومنـزلتها، إلّا إذا كان هناك أمر يخالف ظاهر الشريعة مخالفة كلية.

فاتباعاً لدستور الآية الكريمة: ﴿وَالْكَاظِمين الغيظ وَالْعَافين عَنِ النَّاسِ﴾ (آل عمران: 134)، وحفاظاً على إيمان المؤمنين من التصدع، وذلك بالمحافظة على حسن الظن القائم بينهم وبين شيوخهم أو رؤسائهم، وبناء على ما يلزم من إنقاذ الأركان من طلاب النور المخلصين من سَورة الغضب المضرة -مع كونها محقة- على اعتراضات باطلة، واجتناباً لما يستفيد منه أهل الإلحاد من هذه الخصومة بين طائفتين من أهل الحق بجرح الطائفة الأولى بسلاح الأخرى واعتراضاتها وتهوين شأن الثانية بدلائل الأولى ثم دحرهما معاً.

على طلبة النور -حسب الأسس المذكورة-: ألّا يواجهوا المعارضين بالحدة والتهور، ولا يقابلوهم بالمثل. بل عليهم أن يكتفوا بالدفاع عن أنفسهم فحسب، مع إظهار روح المصالحة، والإجابة بوضوح عن نقاط الاعتراض، حيث إن الأنانية في عصرنا هذا قد تطاولت واشرأبت بعنقها حتى أصبح كل شخص لا يريد أن يذيب أنانيته -التي هي كقطعة ثلج بطول قامته- ولا يرغب في تغييرها، بل يسوّغ لنفسه ويراها معذورة دائماً. وها هنا ينشأ النـزاع والخصومة ويكون موضع استفادة أهل الباطل والضلال على حساب أصحاب الحق وأهله.

إن حادثة الاعتراض في إسطنبول تومئ إلى أن بعض العلماء المعجبين بمشربهم والأنانيين من المتصوفة وبعض المرشدين وأهل الحق ممن لم يقتلوا نفوسهم الأمارة بالسوء ولم ينجوا من ورطة حب الجاه سيعترضون على رسائل النور وطلابها، حفاظاً على رواج مشربهم ومسلكهم، وتوجّه أتباعهم إليهم. بل هناك احتمال قوي أن تكون المقابلة شديدة.. فعند وقوع مثل هذه الحوادث علينا بالتأني، وضبط النفس، والثبات، وعدم الولوج في العداء، وعدم التهوين من شأن رؤساء الطائفة المعارضة…

فلو افترض -فرضاً محالاً- أن اعتراضاً على رسائل النور ورد حتى من القطب الأعظم ومن مكة المكرمة، فإن طلاب رسائل النور يثبتون ولا يتزعزعون، بل يتلقون اعتراض ذلك القطب الأعظم على صورة التفاتة كريمة وتحية وسلام. ويحاولون كسب توجهه وتقبيل يده وإيضاح مدار الاعتراض على أستاذهم العظيم».

رزق طالب العلم

«لقد اقتنعت قناعة تامة بعد حوالي ألف من التجارب أنني في اليوم الذي أكون في خدمة رسائل النور أشعر بانكشاف وانبساطٍ وفرح وبركة في قلبي وفي بدني وفي دماغي وفي معيشتي حسب درجة تلك الخدمة. وقد شعرت من إخوتي الكثيرين -سواءً هنا أم هناك- بالحالة نفسها ومازلت أشعر بها، وكثيرون يعترفون قائلين: «إننا نشعر بها أيضاً». حتى إنني أعتقد -كما كتبته لكم في السنة الماضية- أن السر في عيشي الكفاف وما يقيم الأود قد كان من تلك البركة.

وقد روي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: «أنا ضامن رزق طالب العلم الخالص؛ لأن في رزقه بركة وسعة».

ولما كانت هذه هي الحقيقة وأن طلاب رسائل النور قد أظهروا الأهلية التامة لعنوان «طالب العلم» في هذا الزمان، فلا ينبغي التخلي عن خدمة رسائل النور تجاه هذا القحط والجوع المنتشر، مع إدراك أن أفضل علاج لهذا هو الشكر والقناعة والارتباط بصفة الطالب لرسائل النور، وعدم ترك الخدمة بحجة الضرورة لهاثاً وراء متطلبات العيش».

الحكمة في قراءة الرسائل

«قبل حوالي ثلاثة أيام استمعت إلى الكلمة الثانية والعشرين أثناء تصحيحها، ورأيت أن فيها: ذكراً كلياً، وفكراً واسعاً، وتهليلاً كثيراً، ودرساً إيمانياً قوياً، وحضوراً بلا غفلة، وحكمة سامية، وعبادة فكرية رفيعة وأمثالها من الأنوار وأدركت الحكمة في قيام قسم من الطلاب بكتابة الرسائل أو قراءتها أو الاستماع إليها بنية العبادة، فباركت عملهم وصدّقتهم».

لا تفسحوا المجال للانتقاد

«إخوتي الأعزاء الأوفياء! حذار حذار.. لا تفسحوا المجال لانتقاد بعضكم البعض الآخر، فيستغل أهل الضلالة اختلاف مشاربكم وعروقكم الضعيفة وحاجاتكم المعيشية. صونوا آراءكم من التشتت بإقامة الشورى الشرعية بينكم، اجعلوا دساتير رسالة الإخلاص نصب أعينكم دائماً. وبخلاف هذا فإن اختلافاً طفيفاً في هذا الوقت يمكن أن يلحق أضراراً بليغة برسائل النور».

تأليف رسالة الآية الكبرى

أنموذج من الرسالة

«نودّ هنا بيان ثلاثة أمثلة عن الأفعال الربانية -من بين الآلاف منها- مما تشير إليها الآيات الثلاث المتصلة بعضها ببعض في سورة النحل، ومع أن كل فعل منها يحتوي على نكات لا حصر لها إلّا أننا نذكر منها هنا ثلاثاً فقط.

الآية الأولى: ﴿وَاَوْحٰى رَبُّكَ اِلَى النَّحْلِ اَنِ اتَّخِذ۪ي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا﴾ (النحل:68).

نعم، إنَّ النحلة معجزةُ القدرة الربانية فطرةً ووظيفةً، ويا لها من معجزة عظيمة حتى سُمّيت باسمها سورة جليلة في القرآن الكريم؟! ذلك لأن تسجيلَ البرامج الكاملة لوظيفتها الجسيمة في رأس صغير جداً لماكنة عسل صغيرة.. ووضعَ أطيب الأطعمة وألذّها في جوفها الصغير وطبخها فيه.. واختيارَ المكان المناسب لوضع سمّ قاتل مهدم لأعضاء حية في رميحته دون أن يؤثر في الأعضاء الأخرى للجسم.. لا يمكن أن يتم -كل هذا- إلّا بمنتهى الدقة والعلم، وبمنتهى الحكمة والإرادة، وغاية الموازنة والانتظام؛ لذا لن يتدخل مطلقاً ما لا شعورَ له ولا نظام ولا ميزان من أمثال الطبيعة الصماء أو المصادفة العمياء في مثل هذه الأفعال البديعة.

وهكذا نرى ثلاث معجزاتٍ في هذه الصنعة الإلهية، ونشاهد ظهور هذا الفعل الرباني أيضاً فيما لا يحد من النحل في أرجاء المعمورة كافة، فبروز هذا الفعل الرباني وإحاطته بالجميع، وبالحكمة نفسها، والدقة نفسها، والميزان نفسه، وفي الوقت عينه، وبالنمط عينه، يدل على الوحدة بداهة ويثبت الوحدانية.

الآية الثانية: ﴿وَاِنَّ لَكُمْ فِي الْاَنْعَامِ لَعِبْرَةًۜ نُسْقيكم مِمَّا في بُطُونِه۪ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَٓائِغًا لِلشَّارِبين (النحل:66).

إنَّ هذا الأمر الإلهي ليتقطّر عِبَراً ودروساً. نعم، إنَّ إسقاء اللبن الأبيض الخالص، النظيف الصافي، المغذي اللذيذ، من مصانع الحليب المغروزة في أثداء الوالدات. وفي مقدمتها البقرة والناقة والمعز والنعجة، الذي يتدفق بسخاء من بين فرثٍ ودم دون أن يختلط بهما أو يتعكر.. وإن غرس ما هو ألذّ من اللبن وأحلى منه وأطيب وأثمن، في أفئدة تلك الوالدات وهو الحنان والشفقة التي تصل حد الفداء والإيثار.. ليحتاج حتماً إلى مرتبة من الرحمة والحكمة والعلم والقدرة والاختيار والدقة مما لا يكون قطعاً من فعل المصادفات العشوائية والعناصر التائهة والقوى العمياء، لذا فإن تصرف هذه الصنعة الربانية، وإحاطة هذا الفعل الإلهي، وتجليها في الحكمة نفسها، والدقة نفسها، والإعجاز نفسه، وفي آن واحد، وطراز واحد، في أفئدة تلك الآلاف المؤلفة من أضراب الوالدات وفي أثدائها، وعلى وجه الأرض كافة، يثبت الوحدة بداهة ويدل على الوحدانية.

الآية الثالثة: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخيل وَالْاَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًاۜ اِنَّ في ذٰلِكَ لَاٰيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (النحل:67).

تلفت هذه الآية الكريمة النظر والانتباه إلى النخيل والأعناب، فتنبّه الإنسان إلى أن في هاتين الثمرتين آية عظيمة لأولي الألباب، وحجة باهرة على التوحيد.

نعم، إن الثمرتين المذكورتين تعتبران غذاءً وقوتاً، وثمرة وفاكهة في الوقت نفسه، وهما منشأ كثير من المواد الغذائية اللذيذة، رغم أنَّ شجرة كلٍّ منهما تنمو في تراب جامد، وتترعرع في أرض قاحلة. فكلٌّ منهما معجزة من معجزات القدرة الإلهية، وخارقة من خوارق الحكمة الربانية. وكل منهما مصانع سُكَّر وحلويات، ومعامل شراب معسّل، وصنائع ذات ميزان دقيق حساس وانتظام كامل، ومهارة حكيمة، وإتقان تام، بحيث إن الذي يملك مقدار ذرة من عقل وبصيرة يضطر إلى القول: «إنَّ الذي خلق هذه الأشياء هكذا، هو الذي أوجد الكائنات قاطبة»؛ لأنَّ ما نراه أمام أعيننا -مثلاً- من تدلي ما يقارب عشرين عنقوداً من العنب، من هذا الغصن الصغير النحيف، كل عنقود منه يحمل ما يقارب المائة من الحبات اللطيفة واللباب المعسلة، وكل حبَّة من تلك الحبَّات مغلفةٌ بغلاف رقيق لطيف ملوّن زاهٍ، وتضم في جوفها الناعم نوى صلدة حاملة لتواريخ الحياة ومنهاجها.. نعم، إنَّ خلق كل هذا وغيره في جميع العنب وأمثاله -وهي لا تعد ولا تحصى- على وجه البسيطة كافة، بالدقة نفسها، والحكمة عينها، وإيجاد تلك الصنعة الخارقة المعجزة بأعدادها الهائلة في وقت واحد، وعلى نمط واحد، لَيُثبتُ بالبداهة أنَّ الذي يقوم بهذا الفعل إنْ هو إلّا خالق جميع الكائنات، وأنَّ هذا الفعل الذي اقتضى تلك القدرة المطلقة والحكمة البالغة، ليس إلّا من فعل ذلك الخالق الجليل.

نعم، إنَّ القوى العمياء والطبيعة الصماء والأسباب التائهة المشتتة، لا يمكن لها أن تمدّ أيديها وتتدخل في ذلك الميزان الرقيق الحساس، بالمهارة البالغة، والانتظام الحكيم لتلك الصنعة، بل هي تستخدم وتسخّر بأمر رباني في الأفعال الربانية، فهي ذات مفعولية وقبول، بل ليست إلّا ستائرَ وحجباً مسخرة بيده سبحانه.

وهكذا، فكما تشير هذه الآياتُ الثلاث إلى حقائق ثلاث، وتدلّ كل منها على التوحيد بثلاث نكات، فهناك ما لا يُحدّ من الأفعال الربانية وما لا يُحد من تجليات التصرفات الربانية، تدل متفقة على الواحد الأحد وتشهد شهادة صادقة على ذات الواحد الأحد ذي الجلال والإكرام».

فقرة من رسالة المناجاة

«يَا رَبَّ العالمين! يَا إله الأولين والآخِرين! يَا رَبَّ السَّمواتِ والأرضين!

لقد علِمتُ بتعليم الرَّسُولِ الأكرم ﷺ وبدرس القُرآن الحكيم وآمنت بأن الرَّسُول الأكرم ﷺ -في المُقدمة- مستنداً إلى مئات من معجزاته الباهرة، والقرآن الكريم مستنداً إلى آياته الجازمة، ثم جميع الأنبياء عليهم السلام وهم ذوو الأرواح النيرة، وجميع الأولياء وهم أقطاب ذوي القلوب النورانية، وجميع الأصفياء وهم أرباب العقول المُنورة.. يبشرون الجن والأنس بالسعادة الأبدية وينذرون الضالين بجهنم -وهم يؤمنون بهذا ويشهدون عليه- استناداً إلى ما ذكرتَه مراراً وتكراراً من الوعد والوعيد في جميع الكتب السماوية والصحف المُقدسة، واعتماداً على صفاتك وشؤونك القُدسية كالقدرة والرحمة والعناية والحكمة والجلال والجمال، ووثوقاً بعزة جلالك وسلطان ربوبيتك، ويبشرون بكشفياتهم ومشاهداتهم وبعقيدتهم الراسخة بعلم اليقين.

يَا قَادرُ يَا حَكيمُ، يَا رَحمَنُ يَا رَحيمُ، يَا صَادِقَ الوَعدِ الكريم، يَا قَهَّارُ يَاذا الجَلالِ، ويَاذا العِزَّةِ وَالعَظمَةِ والجَلالِ!..

إنك مقدس مطلق، وأنت متعال منـزّه مطلق عن أن تَصِمَ بالكذب كلَّ هذا العدد من أوليائك الصادقين ووعودك العديدة وصفاتك الجليلة وشؤونك المُقدسة.. فتحجب ما تقتضيه حتماً سلطنةُ ربوبيتك، وترد ما لا يحد من أدعية ودعوات صادرة ممن لا يعد من عبادك المقبولين الذين أحببتهم وأحبوك وحببوا أنفسهم إليك بالإيمان والتصديق والطاعة… فأنت منـزّه، وأنت متعال مطلق مستغن عن تصديق أهل الضلالة والكفر الذين يتعرضون لعظمة كبريائك في إنكارهم الحشر، ويتسببون في التجاوز على عزة جلالك ويمسون هيبة ألوهيتك ورأفة ربوبيتك بكفرهم وعصيانهم وبتكذيبهم إياك في وعدك.

فأنا أقدّس عدالتك وجمالك ورحمتك غير المُتناهية -بلا حد ولانهاية- وأنزهها عن هذا الظلم والقبح غير المتناهيين وأرغب أن أتلو بعدد ذرات وجودي الآية الكريمة: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالٰى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَب۪يرًا﴾ (الإسراء:43). بل إن رسلك الصادقين -أولئك الذين هم دعاة سلطنتك الحقيقيون- يشهدون ويبشرون ويشيرون بحق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين إلى خزائن رحمتك الأخروية وكنوز آلائك في عالم البقاء، وإلى انكشاف تجليات أسمائك الحُسنى تجلياً تاماً خارقاً في دار السعادة، ويرشدون عبادك المُؤمنين بأن أعظم شعاع لاسم «الحقّ» الذي هو مرجع جميع الحقائق وشمسها وحاميها هو: حقيقة الحشر الكبرى».

السَوق إلى «إسبارطة» فـ«دنيزلي»

«لقد خبأتُ بعض الرسائل الخاصة والمجموعات المهمة ولاسيما التي تبحث عن دجّال المسلمين «السفياني» وعن كرامات رسائل النور، خبّأتها تحت أكوام من الحطب والفحم لأجل أن تنشر بعد وفاتي، أو بعد أن تصغي آذان الرؤساء وتعي رؤوسهم الحقيقة ويرجعوا إلى صوابهم. كنت مطمئن البال من هذا العمل، ولكن ما إن داهم موظفو التحريات ومعاون المدعي العام البيت وأخرجوا تلك الرسائل المهمة المخبوءة من تحت أكوام الفحم والحطب، حتى ساقوني إلى سجن إسبارطة وأنا أعاني من اعتلال صحتي ما أعاني. وبينما كنت متألماً بالغ الألم ومستغرقاً في التفكير حول ما أصاب رسائل النور من أضرار، إذا بالعناية الربانية تأتي لأغاثتنا جميعاً حيث بدأ المسؤولون الذين هم في أمسّ الحاجة إلى قراءة تلك الرسائل المخبوءة القيمة، بدؤوا بدراستها بكل اهتمام ولهفة، فتحولتْ تلك المحافل الرسمية إلى ما يشبه المدارس النورية، إذ انقلب النقد والجرح عندهم إلى نظرة الإعجاب والتقدير. حتى إنه في «دنيزلي» قرأ الكثيرون سواء من المسؤولين أو غيرهم -دون علمنا- رسالة «الآية الكبرى» المطبوعة بسرية تامة فازدادوا إيماناً وأصبحوا سبباً لجعل مصيبتنا كأن لم تكن».

الشعاع الخامس سبب المحاكمة

«إن الحصول على رسالة كُتب أصلها قبل خمس وعشرين سنة «أي الشعاع الخامس» في مكان بعيد، والتي لم أحصل عليها إلّا مرة أو مرتين خلال ثماني سنوات، وضُيّعت في الوقت نفسه دفع أشباه العلماء إلى تقلّد طور المنافس، فبثوا الأوهام والشكوك في صفوف دوائر العدل.

وفي الوقت نفسه فقد انعكس خبر طبع رسالة «الآية الكبرى» -مع عدم موافقتي- بدلاً من رسالة «مفتاح الإيمان» التي كنت أرغب في طبعها بالحروف الجديدة، ووصول نسخٍ منها إلى هنا، انعكس -هذا الخبر- على الدوائر الحكومية، فالتبست عليهم إحدى المسألتين بالأخرى. فكأن «الشعاع الخامس» قد طبع، خلافاً للقوانين المدنية، مما استهول ذلك أرباب الأغراض الشخصية واستعظموه جاعلين من الحبة مائة قبة. حتى زجّونا ظلماً وعدواناً في هذا المعتكف (السجن).

إننا نقول إزاء شكوك أهل الدنيا وأوهامهم: إن «الشعاع السابع» (رسالة الآية الكبرى) من أوله إلى آخره بحث في الإيمان، فلقد التبس عليكم الأمر وانخدعتم. وإن الشعاع الخامس يختلف عنه كلياً وهو رسالة خاصة وسرّيّة للغاية حتى لم يعثَر عليها عندنا رغم التحريات الدقيقة. وإن اصل هذه الرسالة قد كتب قبل عشرين سنة فنحن لا نرضى بطبعها وحدها بل ولا بإراءتها أيضاً إلى أي أحد كان في الوقت الحاضر. فهي رسالة تخبر عن أحداث مستقبلية، وقد صدّقها الواقع هناك، وهي لا تتحدى أحداً».