حاجة أهل الإيمان إلى حقيقة نزيهة

«إخوتي الأعزاء الصديقين الثابتين المخلصين!

سؤال في منتهى الأهمية، يسألنيه من له علاقة بي، ويرد في نفسي أيضاً، فهو سؤال معنوي ومادي في الوقت نفسه. وهو: لِمَ تقوم بما لم يقم به أحد من الناس، ولمَ لا تلتفت إلى قوى على جانب عظيم من الأهمية، تستطيع أن تعينك في أمورك، فتخالف جميع الناس. بل تظهر استغناءً عنهم؟.

ثم لِمَ ترفض بشدةٍ مقاماتٍ معنوية رفيعة يجدك طلاب النور الخواص أهلاً لها، فتتجنبها بقوة في حين يتمناها الناس ويطلبونها، فضلاً عن أنها ستقدم خدمات جليلة في سبيل نشر رسائل النور وتمهد السبيل لفتوحاتها؟

الجواب: إن أهل الإيمان -في الوقت الحاضر- محتاجون أشد الحاجة إلى حقيقة جليلة نزيهة بحيث لا يمكن أن تكون وسيلة للوصول إلى شئ، ولا تابعة لأي شيء كان، ولا سلماً للوصول إلى مآرب أخرى، ولا يتمكن أي غرض أو أي قصد كان من أن يلوثها، ولا تتمكن الفلسفة أو الشبهات أن تنال منها. فالمؤمنون محتاجون إلى مثل هذه الحقيقة النـزيهة لترشدهم إلى حقائق الإيمان، حفاظاً على إيمان المؤمنين في هذا العصر الذي اشتدت فيه صولة الضلالة التي تراكمت شبهاتها منذ ألف سنة.

فانطلاقاً من هذه النقطة فإن رسائل النور لا تعبأ بالذين يمدّون لها يد المعاونة سواءً من داخل البلاد أو خارجها ولا تهتم بما يملكونه من قوى ذات أهمية بل ولا تبحث عنهم ولا تتبعهم. وذلك لكي لا تكون في نظر المسلمين عامة وسيلة للوصول إلى غايات دنيوية ولن تكون إلّا وسيلة خالصة للحياة الخالدة الباقية. لذا فهي بحقيقتها الخارقة وبقوتها الفائقة تتمكن من إزالة الشبهات والريوب المهاجمة على الإيمان.

سؤال: أما المقامات النورانية والمراتب الأخروية التي هي درجات معنوية مقبولة لدى أهل الحقيقة قاطبة بل يرغبون فيها، ولا ضرر منها، وقد منحها لك إخواننا المخلصون بما يحملون نحوك من حسن الظن، وهي لا تلحق ضرراً بإخلاصكم -حتى لو قبلتها لا يرفضون قبولك لكثرة ما لديهم من حجج وبراهين عليها- إلّا أنك ترفض تلك المقامات بغضب وحدّة لا تواضعاً أو تجرداً وترفعاً منك، بل حتى تجرح مشاعر إخوانك الذين منحوك تلك المقامات، فتتجنبها بشدة..! فلماذا؟

الجواب: كما أن شخصاً غيوراً يضحِّي بنفسه إنقاذاً لحياة أصدقائه، كذلك -لأجل الحفاظ على الحياة الأبدية للمؤمنين من صولة أعداء خطرين- أضحي إذا لزم الأمر وهو يلزم لا بتلك المقامات التي لا أستحقها، بل أيضاً بمقامات حقيقية لحياة أبدية. ذلك ما تعلمته من رسائل النور، ألَا وهو الشفقة على الخلق.

نعم، إن الأمر يقتضي هكذا في كل وقت، ولا سيما في هذا الوقت، وبخاصة عند استيلاء الغفلة التي أنشأتها الضلالة، في خضم هيمنة التيارات السياسية والآراء الفلسفية، وفي عصر كعصرنا هذا الذي هاج فيه الغرور والإعجاب بالنفس، يحاول ذوو المناصب الكبيرة دائماً أن يجعلوا لهم كل شيء أداة طيعة، ويستغلون كل وسيلة في سبيل غاياتها، حتى إنهم يجعلون مقدساتها وسيلة لبلوغ مناصب دنيوية. ولئن كانت هناك مقامات معنوية فهي تُستغل استغلالاً أكثر، وتُتخذ وسيلة أكثر طواعية من غيرها؛ لذا يظل دوماً تحت ظل الاتهام، إذ يقول العوام: إنه يجعل خدمات مقدسة وحقائق سامية وسائل وسلالم لبلوغ مآربه، حفاظاً على نفسه أمام نظر الناس، ولكي يبدو أنه أهل لتلك المقامات.

وهكذا، فلئن كان قبول المقامات المعنوية يفيد الشخص والمقام فائدة واحدة فإنه يلحق ألف ضرر وضرر بالناس عامة وبالحقائق نفسها بما يصيبها من كساد بسبب الشبهات الواردة.

حاصل الكلام: إن حقيقة الإخلاص تمنعني عن كل ما يمكن أن يكون وسيلة إلى كسب شهرة لبلوغ مراتب مادية ومعنوية.

نعم، إنه على الرغم من أن هذا يؤثر تأثيراً سيئاً في خدمة النور، إلّا أنني أرى أن إرشاد عشرة من الناس إرشادَ خادمٍ لحقائق الإيمان إرشاداً خالصاً حقيقياً وتعليمهم أن حقائق الإيمان تفوق كل شيء، أهم من إرشاد ألف من الناس بقطبية عظيمة، لأن النوعية تفضل على الكمية، ولأن أولئك الرجال العشرة يرون تلك الحقائق أسمى من أي شيء آخر. فيثبتون، ويمكن أن تتنامى قلوبهم التي هي في حكم البذرة إلى شجرة باسقة. أما أولئك الألوف فإنهم بسبب ورود الشبهات المقبلة من أهل الدنيا والفلسفةِ وهجومها عليهم، ربما يتفرقون من حول ذلك القطب العظيم، إذ ينظرون إليه أنه يتكلم من زاوية نظره الخاصة، ومن مقامه الخاص ومن مشاعره الخاصة!

لذا أرجّح الاتصاف بالخدمة، على نيل المقامات. حتى إنني قلقتُ ودعوت الله ألّا يصيب شيء -في هذه المرة- ذلك الشخص المعروف الذي أهانني بغير وجه قانوني، وبخمسة وجوه من أوجه الإهانة والتحقير، وفي أيام العيد، تنفيذاً لخطط وضعها أعدائي. حيث إن المسألة انتشرت بين الناس، فخشيت أن يمنحوني مقاماً، فلربما يعدّون حدوث شيء ما نتيجة كرامةٍ خارقةٍ. لذا قلت: «يارب أصلح شأن هذا، أو جازه بما يستحقه من دون أن يكون عقاباً يومئ إلى كرامة معنوية»».

ذكرى وعبرة

«في هذه الأوقات التي نجد فيها الضيق والعنت، أزعجتني نفسي الجزِعةُ الفارغة من الصبر، فأسكتتها هذه الفقرة، وألزمتها الحجة، ودفعتها إلى الشكر لله.

أقدم هذه الفقرة الموضوعة فوق رأسي طي رسالتي هذه لعلها تفيدكم أيضاً.

1- يا نفسي! لقد أخذت نصيبك من الأذواق -في غضون ثلاث وسبعين سنة- أكثر مما أخذها تسعون بالمائة من الناس. فلم يبق لكِ بغية فيها.

2- أنتِ ترومين دوام الأذواق وبقاءها وهي فانية آنيّة، لذا تبكين عشر ساعات عن ضحك دام دقيقة واحدة.

3- إن المظالم التي أتت عليك، والمصائب التي نزلت بك، تنطوي على عدالة القدر. فيظلمونك لما لم ترتكبيه، بينما القدر يؤدبك بيد تلك المصيبة -بناء على أخطاء خفية- ويكفّر عن خطاياك.

4- يا نفسي الجزعة! لقد اقتنعتِ قناعة تامة -بمئات من تجاربك- أن المصائب الظاهرية ونتائجها تنشق عن ثمرات عناية إلهية في منتهى اللذة. فالآية الكريمة: ﴿وَعَسٰٓى اَنْ تَكْرَهُوا شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ (البقرة:216) تلقن درس حقيقة يقينية. تذكّري دائماً هذا الدرس القرآني. ثم إن الناموس الإلهي الذي يدير عجلة الكون، ذلك القانون القدري الواسع العظيم لا يبدّل لأجلك.

5- اتخذي هذا الدستور السامي دليلاً: «من آمن بالقدر أمِنَ من الكدر». ولا تلهثي وراء لذائذ موقتة تافهة كالطفل الغرير. فكري دوماً أن الأذواق الفانية تورث فيك حسرات وآلاماً معنوية، بينما الآلام والمشقات تورث لذائذ معنوية وأثوبة أخروية. فإن لم تكوني بَلْهَاءَ، يمكنك أن تتحري عن الأذواق الموقتة للشكر وحده، وما أُعطيت اللذات إلّا للشكر».

لا أُحسن الظن بنفسي

«إخوتي الأوفياء الصادقين!

يقال: لِمَ لا تقبل مقاماً ومزايا لشخصك بالذات الذي هو موضع حسن ظن مفرط لطلاب النور وقناعتهم التامة بحق شخصك، علماً أن قبولك ذلك المقام يكون مثار شوقهم للعمل في خدمة الإيمان. بل نجدك تصرف تلك المزايا عن شخصك إلى رسائل النور وحدها، وتظهر نفسك خادماً كثير الذنوب؟!

الجواب: حمداً لله وشكراً له لا منتهى لهما، فإن لـرسائل النور مرتكزات قوية لا تتزعزع، وحججاً نافذة ساطعة لا تخبو بحيث تستغني عما يُظن في شخصي من مزايا وقابليات. فهي ليست كالمؤلفات والآثار الأخرى التي تبني أهميتها على قابلية مؤلفها، وتستمد قوتها وحسنها منه، بل هي تستند على حججها القاطعة منذ عشرين سنة، حتى أرغمت أعدائي الماديين والمعنويين على الاستسلام، والأمر واضح أمام الجميع. فلو كانت شخصيتي نقطة استناد مهم لها، فإن أعدائي الملحدين ومعارضيّ الظلمة كان يمكنهم أن ينـزلوا ضربتهم القوية بـرسائل النور وذلك بالنيل من شخصي المقصّر المذنب. بينما أولئك الأعداء لطيشهم وبلاهتهم يدبرون ما وسعهم من الدسائس والوسائل للحط من قيمتي والنيل من شخصيتي، وإذ هم يسعون ليحولوا دون توجه الناس نحوي وإقبالهم عليّ، لا يستطيعون أن يحولوا دون فتوحات رسائل النور الإيمانية ولا التهوين من شأنها، بل يعجزون عن أن يجعلوا محبين جدداً يتخلون عن خدمة الإيمان، رغم ما كدّروا من صفاء أذهانهم وقلوبهم.

فلأجل هذه الحقيقة، ولأجل طغيان الأنانية وهيمنتها الواسعة في هذا الزمان، أرفض حسن الظن المفرط بشخصي الذي يفوق كثيراً حدّي وطوقي، لأني كإخوتي، لا أحسن الظن بنفسي، فضلاً عن أن المقام الأخروي الذي منحه إخوتي أخاهم هذا الفقير إن كان مقاماً دينياً حقيقياً، وإن كنت أعلم أن نفسي أهلٌ له -حاش لله- فهذا دليل على عدمه، وإذا كنت أرى نفسي فارغاً عن ذلك المقام يلزم إذن عدم قبول هداياهم ومِنَحهم كذلك، وذلك -حسب القاعدة المذكورة في المكتوب الثاني- فضلاً عن أن الذي يرى نفسه صاحب مقام فالأنانية ربما تتداخل في الأمر».

أغلقتُ منافذ النفس

«إخوتي الأوفياء الصادقين!

جاءني عدد من الأطباء من أركان طلاب النور، حينما اشتدت وطأة المرض عليّ، إلّا أنني لم أفاتح أولئك الصادقين المخلصين حول مرضي الشديد، ولم أتناول علاجاتهم، بل لم أشاورهم أصلاً في شؤون الأمراض التي ألـمّت بي رغم أن الآلام كانت تعصرني وأنا في أمسّ الحاجة إليهم. فلما رأوني لا أدير الحديث حول المرض قطعاً، اعتراهم قلق واضطراب. لذا اضطررت إلى بيان حقيقة ذات حكمة. أرسلها إليكم علّها تفيدكم أيضاً.

قلت لهم: إن أعدائي المتسترين، ونفسي الأمارة بالسوء، ينقبان معاً -بإيحاء من الشيطان- عن طبع ضعيف عندي وعرق واهٍ في خلقي، ليستحوذوا عليه، ويُخلّوا بسببه بخدمتي الإيمانية المخلصة ويعرقلوا نشر الأنوار.

حقاً! إن أضعف جانب عند الإنسان، وأخطر مانع للعمل، إنما هو المرض، لأنه إذا اهتم المريض بمرضه كثيراً اشتدت أحاسيس الجسد عليه وسيطرت حتى يجد نفسه مضطراً.. فتُسكت الروحَ والقلب عندئدٍ وتجعل الطبيب كأنه حاكم مستبد، تلجئه إلى إطاعة توصياته وعلاجاته. وهذا هو الذي يخلّ بخدمة الإيمان المتسمة بالتضحية والفداء والإخلاص التام.

ولقد حاول أعدائي المتسترون استغلال هذا الجانب الضعيف عندي وما زالوا كذلك يحاولون، كما حاولوا استغلال طبع الخوف والطمع والشهرة إلّا أنهم لم ينالوا شيئاً من هذه النواحي، فأدركوا أننا لا نعبأ بشيء من أحكامهم حتى بإعداماتهم.

ثم إن هناك خُلقاً ضعيفاً وعرقاً واهياً لدى الإنسان، وهما الاهتمام بهموم العيش والطمع، فقد بحثوا عنهما كثيراً للاستفادة منهما، ولكن لم يجنوا شيئاً بفضل الله من ذلك الجانب الضعيف، حتى خلصوا إلى أن متاع الدنيا الذي يضحون في سبيله بمقدساتهم، تافه لا يساوي شيئاً عندنا. وقد تحقق ذلك عندهم بحوادث كثيرة، حتى إنه خلال هذه السنين العشر الماضية استفسروا أكثر من مائة مرة استفساراً رسمياً من الإدارات المحلية: بِمَ يعيش؟

ثم إن طلب الشهرة والتطلع إلى المراتب، عرق ضعيف في الإنسان وجانب واهٍ فيه، فقد أمرت -السلطات- أن يُستغل ذلك العرق الضعيف عندي، فقاموا بالإهانات والتحقير والتعذيب المؤلم الجارح للشعور. ولكنهم -بفضل الله- لم يوفقوا إلى شيء، وأدركوا إدراكاً قاطعاً أن ما يتطلعون إليه -لحد العبادة- من الشهرة الدنيوية نعتبرها رياءً وإعجاباً بالنفس مضرّاً بالإنسان. وأن ما يولون من اهتمام بالغ نحو حب الجاه والشهرة الدنيوية لا يساويان عندنا شروى نقير، بل نعدّهم بهذه الجهة بلهاء مجانين.

ثم إن ما يعدّ فينا -من حيث خدمتنا- جانباً ضعيفاً وعرقاً لا يقاوم، مع أنه -من حيث الحقيقة- جانب مقبول لدى الناس كلهم، بل يتلهفون إلى إدراكه والظفر به، هذا الجانب هو كون الشخص يحرز مقاماً معنوياً ويعرج في مراتب الولاية، وينال تلك النعمة لنفسه بالذات. فهذا الجانب رغم أنه لا ضرر فيه البتة، وليس له غير النفع، إلّا أنه في زمان قد استولت فيه الأنانية وطغت فيه الأثرة واستهدفت المنافع الشخصية حتى انحصر شعور الإنسان في إنقاذ نفسه.. أقول: إن القيام بخدمة الإيمان في هذا الزمان -تلك الخدمة التي تستند إلى سر الإخلاص وتأبى أن تستغل لأي شيء كان- تقتضي عدم البحث عن مقامات معنوية شخصية، بل يجب ألّا تومئ حتى حركاتُ المرء إلى طلبها والرغبة فيها، بل يلزم عدم التفكير فيها أصلاً. وذلك لئلا يفسد سر الإخلاص الحقيقي.

ومن هنا أدرك الذين يسعون لاستغلال هذا الجانب الضعيف لديّ بأني لا أتحرى خارج خدمة النور ما يتحراه كل إنسان من كشف وكرامات وخوارق ومزايا أخرى روحية فرجعوا خائبين من هذا الجانب.

تحياتنا إلى إخواننا فرداً فرداً.. ونسأله تعالى برحمته الواسعة أن يجعل ليلة القدر المقبلة بمثابة ثمانين سنة من العبادة لكل طالب من طلاب النور ونستشفع بحقيقة تلك الليلة في دعواتنا هذه».

رسائل إلى المسؤولين

محاورة مع وزير العدل والحكام

«أيها السادة!

لِمَ تنشغلون بنا وبرسائل النور دون داع أو سبب. إني أبلّغكم قطعاً ما يلي:

إنني ورسائل النور لا نبارزكم، بل ولا نفكر فيكم، بل نعدّ ذلك خارج وظيفتنا، لأن رسائل النور وطلابها الحقيقيين يؤدون خدمة جليلة للجيل المقبل الذي سيأتي بعد خمسين سنة ويسعون لإنقاذهم من ورطة جسيمة، ويجدّون في إنقاذ هذه البلاد والأمة من خطر عظيم، فمن ينشغل بنا الآن فسيكون رميماً في القبر في ذلك الوقت. بل لو افترض أن عملنا -الذي هو لتحقيق السعادة والسلامة- مبارزة معكم فلا ينبغي أن يمسّ الذين سيكونون تراباً في القبر.

إن إظهار أعضاء الاتحاد والترقي شيئاً من عدم المبالاة في الحياة الاجتماعية وفي الدين وفى السجايا القومية أدّى إلى ظهور الأوضاع الحالية بعد ثلاثين سنة تقريباً من حيث الدين والأخلاق والعفة والشرف. فالأوضاع الحاضرة ستنعكس على الجيل الآتي لهذه الأمة -البطلة المتدينة الغيورة على شرفها- بعد خمسين سنة. ولا يخفى عليكم ما ستؤول إليه السجايا الدينية والأخلاقية الاجتماعية.

سيلطخ قسم من الجيل الآتي ذلك الماضي المجيد لهذه الأمة المضحية منذ ألف سنة، بلطخات رهيبة قد تقضي عليه بعد خمسين سنة.

لذا فإن إنقاذ قسم من هذا الجيل من ذلك التردي المريع بتزويده بالحقائق التي تحتويها رسائل النور تعد أفضل خدمة لهذه الأمة ولهذا الوطن. فنحن لا نخاطب إنسان هذا الزمان بل نفكر بإنسان ذلك الزمان.

نعم، أيها السادة! على الرغم من أن رسائل النور لا تسدد نظرها إلّا إلى الآخرة ولا تهدف غيرها وليست لها غاية سوى رضا الله وحده وإنقاذ الإيمان، ومسعى طلابها ليس إلّا إنقاذ أنفسهم ومواطنيهم من الإعدام الأبدي والسجن الانفرادي الأبدي، فإنها في الوقت نفسه تقدم خدمة جليلة أيضاً تعود فائدتها للدنيا وإنقاذ هذه الأمة والبلاد من براثن الفوضى وإنقاذ ضعفاء الجيل المقبل من مخالب الضلالة المطلقة، لأن المسلم لا يشبه غيره، فالذي يحل ربقته من الدين ليس أمامه إلّا الضلالة المطلقة فيصبح فوضوياً إرهابياً، ولا يمكن دفعه إلى الولاء للإدارة والنظام.

نعم، في الوقت الذي نجد خمسين بالمائة ممن تربّوا بالتربية القديمة لا يكترثون بالأعراف الشعبية والإسلامية، فإنه بعد خمسين سنة يسوق تسعون بالمائة منهم هذا الوطن والأمة -بنفوسهم الأمارة بالسوء- إلى فوضى ضاربة أطنابها. فلا شك أن التفكر في هذا البلاء العظيم ومحاولة التحري عن أسباب لدفعه، هو الذي دفعني قبل عشرين سنة إلى ترك السياسة كلياً وعدم الانشغال مع أناسي هذا الزمان، مثلما دفع رسائل النور وطلابها إلى قطع علاقتهم مع صراعات هذا الزمان. فلا مبارزة معهم ولا انشغال بهم.

ومادامت هذه هي الحقيقة، فإن الواجب الأول لجهاز العدالة ليس اتهامي واتهام طلاب النور، بل القيام بحماية رسائل النور وطلابها، لكونهم يحافظون على أعظم حق من حقوق الأمة والبلاد، فإن الأعداء الحقيقيين لهذه الأمة والبلاد يهاجمون رسائل النور ويدفعون أجهزة العدالة -بعد خداعها- لارتكاب أفظع المظالم وأبشع الجنايات».

رسالة إلى سكرتير حزب الشعب الجمهوري

«حضرة السيد حلمي أوران!

وزير الداخلية السابق وسكرتير حزب «الشعب الجمهوري» حالياً:

أولاً: في غضون عشرين سنة كتبت إليكم عريضة واحدة فقط -يوم كنتم وزيراً للداخلية- إلّا أنني لم أقدمها إليكم لئلا أخلّ بقاعدتي التي أسير وفقها. فإن شئتم فسأقرأها لكم وأتكلم معكم بصفتكم وزيراً سابقاً للداخلية وسكرتيراً عاماً للحزب. فاسمحوا لي بالكلام لساعة أو ساعتين، إذ الذي لم يتكلم مع الحكومة منذ عشرين عاماً لو تكلم عشر ساعات مع ركن من أركان الحكومة وباسمها ولمرة واحدة، فهو قليل.

ثانياً: أجدني مضطراً إلى بيان حقيقة لكم لكونكم سكرتير الحزب حالياً، والحقيقة هي: أن هذا الحزب الذي تقوم أنت بمهمة سكرتاريته عليه مهمة أمام الشعب وهي: أن الأمة التركية ومن معها من إخوة الدين الحاملين لراية الإسلام منذ ألف سنة جعلوا الأمة الإسلامية قاطبة ممتنة لها ببطولتها وصانوا الوحدة الإسلامية، ونجّوا البشرية بالقرآن العظيم وحقائق الإيمان من الكفر المطلق والضلال الرهيب. فإن لم تتبنّوا حالياً -ببسالة كالسابق- الحقائقَ القرآنية والإيمانية، وإن لم تقوموا -وأنتم أهل الغيرة- بالحث على الحقائق القرآنية والإيمانية مباشرة بدل قيامكم خطأ في عهد سابق بالدعاية للمدنية الغربية وإضعاف الروح الدينية، فإني أحذركم وأنذركم قطعاً، وأبين ذلك بحجج قاطعة أن العالم الإسلامي سينفر من هذه الأمة بدلاً من أن يوليها المحبة بل سيضمر العداوة لأخيه البطل، الأمة التركية، وستقهرون أمام الفوضى والإرهاب الذي يتستر تحت ستار الكفر المطلق الذي يسعى لإبادة العالم الإسلامي، وستكونون سبباً في تشتيت هذه الأمة التركية التي هي قلعة العالم الإسلامي وجيشه البطل، وستمهدون لاستيلاء الغول الوحش، الشيوعية، على هذه البلاد.

نعم، إن هذه الأمة البطلة لا تصمد أمام صدمات التيارين الرهيبين الآتيين من الخارج إلّا بقوة القرآن. فلا يصد هذا التيار الجارف، تيارَ الكفر المطلق والاستبداد المطلق وإشاعة السفاهة وإباحة أموال الناس إلّا الأمة التي امتزجت روحها بحقائق الإسلام وأصبحت جزءاً من كيانها، تلك الأمة التي تعتزّ بالإسلام مجداً لماضيها.

وسيوقف هذا التيار بإذن الله قيام أهل الغيرة والحمية لهذه الأمة ببث روح الحقائق القرآنية -الموغلة في عروق هذه الأمة- وجعلها دستور حياتها بدلاً من نشر التربية المدنية الغربية.

أما التيار الثاني: فهو استمالة العدو مستعمراته في العالم الإسلامي وربطهم به ربطاً وثيقاً، وذلك بزعزعة ثقتهم بمكانة هذه البلاد ومنـزلتها المركزية للعالم الإسلامي، بعد وصمها باللادينية والإلحاد، والذي يفضي إلى انفصام العلاقة المعنوية بينها وبين العالم الإسلامي، وقلب روح الأخوّة التي يحملها العالم الإسلامي تجاه هذه الأمة إلى عداء.. وغيرها من أمثال هذه الخطط الرهيبة التي حازوا بها شيئاً من النجاح لحد الآن. ولكن إذا استرشد هذا التيار وبدّل خطته الرهيبة هذه وعامل الدين الإسلامي بالحسنى داخل البلاد، مثلما يلاطف العالم الإسلامي، فإنه يغنم كثيراً ويكون ممن حافظ على إنجازاته، وعندئذٍ تنجو الأمة والبلاد من كارثة مدمرة.

فلو سعيتم أنتم الذين تتولون مقام سكرتارية أهل الحمية والقومية، للحفاظ على الأسس التي تسحق المقدسات الدينية وتعمم المدنية الغربية، ونسبتم الحسنات الحاضرة وحسنات الانقلاب إلى إجراءات قلة من الأشخاص الذين قاموا باسم الانقلاب وأحلتم النقائص المريعة والسيئات الجسيمة إلى الأمة، فعندئذٍ تعممون إذن ما ارتكبه أشخاص قلة من سيئات إلى ملايين من السيئات. فتخالفون إذن آمال هذه الأمة المتدينة البطلة وتجافون جيش الإسلام، وتعارضون إذن الأمة جميعاً وتديرون ظهركم إلى ملايين الأبطال الميامين الذين نالوا شرف الشهادة، فتعذبون أرواحهم الطيبة وتحطون من شأنهم وتهوّنون من شرفهم.

وكذا إذا نُسبتْ تلك الحسنات التي أُحرزتْ بهمة الأمة وقوة الجيش إلى أولئك القلة القليلة من الانقلابيين، انحصرت ملايين الحسنات في بضع حسنات فقط وتضاءلت وزالت، فلا تكون كفّارة لأخطاء فاحشة.

ثالثاً: لا شك أن لكم معارضين في جهات كثيرة داخلية وخارجية، وحيث إني لا أنـظر ولا أهتم بأحوال الدنيا والسياسة، فلا أعرف تلك الأمور. ولكن لأنهم ضايقوني كثيراً في هذه السنة اضطررت أن أنظر إلى سبب هذه المضايقة، فعلمت أن معارضةً قد ظهرت. فلو وجدتْ هذه المعارضة زعيماً كفوءاً لها وانطلقت إلى الميدان باسم الحقائق الإيمانية لغلبتكم وانتصرت عليكم في الحال، ذلك لأن تسعين بالمائة من هذه الأمة مرتبط روحاً وقلباً بالأعراف الإسلامية منذ ألف سنة، وحتى لو انقادت ظاهراً إلى ما يخالف فطرتها فإنها لا ترتبط به قلباً.

ثم إن المسلم يختلف عن أفراد الأمم الأخرى، إذ لو تخلّى عن دينه فلا يكون إلّا إرهابياً فوضوياً لا يقيده شيء أياً كان، بل لا يمكن إدارته بأيٍ من وسائل التربية والإدارة إلّا بالاستبداد المطلق والرشوة العامة. وهناك حجج كثيرة تثبت هذه الحقيقة وأمثلة كثيرة عليها اختصرها محيلاً الأمر إلى فطنتكم.

لا ينبغي لكم أن تتخلّفوا عن الدول الإسكندنافية التي شعرت بحاجتها الشديدة إلى القرآن الكريم في هذا العصر، بل عليكم أن تكونوا قدوة لها ولأمثالها من الدول. فلو أسندتم ذنوب الانقلاب التي حصلت حتى الآن إلى بضعة أشخاص، وسعيتم لتعمير الدمار -ولاسيما بحق الأعراف الدينية- التي نجمت عن ظروف الحرب العالمية وانقلابات أخرى، لقلّدكم سعيكم هذا شرفاً عظيماً في المستقبل ولأصبح كفارة لذنوبكم العظيمة وكنتم أهلاً لصفة أهل الحمية والغيرة على الأمة، لما تقدمون من خدمة للأمة والوطن.

رابعاً: مادام الموت لا يُقتل وباب القبر لا يُغلق، وأنتم ستهرعون إلى القبر كأي إنسان آخر، وأن ذلك الموت الذي لا مناص منه إعدام أبديّ لأهل الضلالة، لا تبدّله مائة ألف من الدعوات الوطنية وحب الدنيا والإنجازات السياسية، إلّا القرآن الكريم الذي يبدل ذلك الإعدام الأبدي إلى تذكرة تسريح لأهل الإيمان، كما أثبتت ذلك رسائل النور الموجودة بين أيديكم والتي لم يعارضها أي فيلسوف ولا أي ملحد كان، بل هي التي جذبت إلى حظيرة الإيمان كلَّ من قرأها من الفلاسفة بدقة وإنعام. وحتى في ظروف هذه السنين الأربع لم يملك الفلاسفة والعلماء الخبراء ولا محاكمكم الأربع إلّا الإعجاب بها وتقديرها وتصديقها، فلم يعترضوا عليها لحججها الرصينة في إثبات الحقائق الإيمانية فضلاً عن أنها لا ضرر يرد منها لهذا الوطن والأمة، بل إنها سد قراني -كسد ذي القرنين- أمام التيارات الرهيبة المهاجمة. ولي مائة ألف شاهد على هذا من الأمة التركية ولاسيما من الشباب المثقف.

فلأجل هذه الأسباب المذكورة فإن واجبكم الأساس هو تبنّي أفكاري هذه التي طرحتها لكم بجد واهتمام. فأنتم تستمعون دائماً إلى الكثيرين من الدنيويين السياسيين، فيلزم الاستماع -ولو قليلاً- إلى ضعيف عاجز مثلي واقف على شفير القبر يبكي على حال المواطنين ويتكلم معكم في سبيل الآخرة».