دفاع الأستاذ النُّورْسِيّ

«أرجو التفضل بالاستماع لعرضي عرضاً موجزاً لحياتي التي مضت في مظالم وأحداث جسام، (وقد سمحت المحكمة للأستاذ بالدفاع بطلاقة، فدافع عن نفسه دفاعاً شاملاً وواسعاً):

أيها الحكام المحترمون! تعرّضت منذ ثمان وعشرين سنة إلى إهانات وتعذيب ومراقبة وسجن بغير عد ولا حساب. وجميع الافتراءات والتهم تستند في الأساس إلى بضع نقاط:

1- أول التهم هو أني عدو السلطة القائمة. ومن المعلوم أن لكل حكومة معارضين. وما لم يمس الإنسانُ الأمنَ والنظام، لا يكون مسؤولاً عما يتبناه من فكر أو منهج يرضاه في قلبه ووجدانه. وهذا مبدأ متعارف عليه في الحقوق.

فالمحاكم البريطانية لم تحاكِم حتى الآن أكثر من مائة مليون مسلم يعيشون تحت ظل الحكومة الإنكليزية المتجبرة والمتزمتة في دينها منذ مائة سنة رغماً عن عدم قبولهم ورفضهم سلطة الكفر للإنكليز.

وعندنا، لم تتعرض الحكومات الإسلامية كلها في أي وقت كان بقوانينها لليهود والنصارى الذين عاشوا في دول الإسلام منذ القدم رغماً عن مخالفتهم ومعارضتهم ومضادتهم لدين الدولة والنظام السامي الذي يستظلون به.

وقد تحاكم عمر رضي الله عنه في زمن خلافته مع نصراني من عامة الناس في محكمة واحدة. فإن عدم مؤاخذةِ مخالفةِ هذا النصراني لنظام حكومة الإسلام ودينها وقوانينها، تُظهر بجلاء أن مؤسسة العدل لا تنجرف مع تيار ولا تنحاز إلى تعصب. هذه عمدةٌ أساس في حرية الدين والضمير، فهي نافذة في مؤسسات العدل كافةً في الشرق والغرب والعالم كله، عدا الشيوعية منها.

وأنا حين أعترض -ثقة بهذه العمدة الأساس لحرية الدين والضمير واستناداً إلى مئات الآيات القرآنية- على الجزء الفاسد من المدنية وعلى الاستبداد المطلق المستتر بستار الحرية وعلى الظلم الشديد الواقع على الدين وأهله تحت قناع العلمانية، هل أكون خارجاً عن نطاق القوانين؟ أم مدافعاً عن الدستور بحق وصدق؟ إن الاعتراض على هضم الحقوق والظلم والاستخفاف بالقوانين لا يعدّ جريمة في أي حكومة من الحكومات، بل المعارضة هذه مشروعة وعنصر صادق في موازنة العدل.

2- ثاني التهم الموجهة إليّ من السلطة السابقة التي هان ظلمي وعذابي عليها، هو الإخلال بالأمن والنظام. لقد عوقبت عبر ثماني وعشرين سنة بهذا الوهم المختلق وبهذه التهمة الملفقة. وساقوني من محكمة إلى محكمة ومن تغريب إلى تغريب، ومن سجن إلى سجن. منعوني حتى من لقاء الناس فعزلوني عن العالم، وسمّموني وأهانوني بأنواع الإهانات.

نحن -طلبة النور البالغ عددنا خمسمائةِ ألفٍ- حفّاظ معنويون متطوعون للأمن والنظام في الوطن، فاتهامنا بهذه الفرية من أكبر الخطايا والآثام. لقد لقينا إهانات ظالمة، لكن لم ننسق مع عواطفنا، ولم نفتر لحظة عن العمل في بناء الأمن والنظام في القلوب وخدمة الإيمان والقرآن وإنقاذ الساقطين في الفوضى نتيجة الغفلة في المستنقع الموحل.

أيها الحكام المحترمون! أقول جازماً: إن هذا ليس ادّعاء بغير دليل. إن ست محافظات هي ساحة ظلمنا وتغريبنا وست محاكم فيها، لم تجد حادثة واحدة للإخلال بالأمن والنظام ضدنا بعد بحث دقيق وطويل. وتصرُّفُنا هذا دليل على أن طلبة مدرسة العرفان، مدرسةِ النور، يعملون في القلوب، حيث يقيمون حارس الأمن والنظام في العقول والقلوب. إن دروسنا الإيمانية ضد الفوضى والاضطرابات والتخريب، وضد الماسونية والشيوعية. اسألوا دوائر الأمن للدولة كلها هل هناك حادثة واحدة تخالف الأمن والنظام صدرت من طالب واحد من طلاب مدرسة العرفان والنور، البالغ عددهم خمسمائة ألفٍ؟ كلا! ومن البدهي الجواب بالنفي، لأن في قلوبهم جميعاً أقوى حراس الأمن والسكون، وهو حارس الإيمان.

في مقالة لي بعنوان: «الحقيقة تتكلم…» المنشورة في مجلة «سبيل الرشاد» العدد 116 بينت هذه الحقائق مفصلاً. فالذي ضحى في سبيل دينه بدنياه جميعاً، وبحياته متى استوجب، وحتى بآخرته، وسيرتُه تشهد على ذلك، واعتزل السياسة منذ خمسة وثلاثين عاماً، ولم تجد المحاكمُ العديدة دليلاً واحداً ضدّه مع دقة التحري، وتجاوز سنه الثمانين وبلغ باب القبر، ولم يملك شيئاً قط من متاع الدنيا ولم يول اهتماماً به.. هل يقال له: إنه يتخذ الدين وسيلة للسياسة.. ومن قال بهذا فقد جاوز الحق والإنصاف من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى الأرض.

نحن تلاميذ مدرسة العرفان، مدرسة النور، تعلمنا درساً عن الحقيقة من القرآن الحكيم هو: أن العدل القرآني يمنع إحراق دار أو سفينة فيها عشرة جناة وبريء واحد حتى لا يلحق ضرر بحق البريء. فكيف تحُرق دار أو سفينة فيها عشرة أبرياء ومجرم واحد بسبب هذا المجرم؟ أليس إحراقها ظلماً عظيماً وخيانة عظمى؟ العدل الإلهي والحقيقة القرآنية يمنعان بشدةٍ إلقاءَ حياة تسعين بريئاً إلى التهلكة أو الإضرار بهم بسبب عشرة بالمائة من الجناة. فاتباعاً لهذا الدرس القرآني، نلتزم ديناً بالمحافظة على الأمن والنظام.

فأعداؤنا المستترون في السلطة السابقة الذين اتهمونا بمثل هذه التهم، قد اتخذوا السياسة وسيلة للإلحاد وسعوا لدق إسفين العقائد الفاسدة في أرض الوطن من حيث يدرون أولا يدرون. فظاهر عياناً أن المخِلّين بالنظام أو السكون ومخربي الأمن والأمان مادياً ومعنويًا لسنا نحن، بل هم أولئك.المسلم الحقيقي والمؤمن الصادق لا يكون مؤيداً للفوضى والتخريب. والدين يمنع الفتنة والفوضى بشدة، لأن الفوضى لا تعترف بحق من الحقوق، وتقلب سجية الإنسانية وآثار الحضارة إلى سجية الحيوان المتوحش، وفي القرآن الحكيم إشارة لطيفة إلى أن ذلك هو جيش يأجوج ومأجوج في آخر الزمان.

فيا أيها الحكام المحترمون! هكذا أذاقوني وطلابي الأذى والظلم ثماني وعشرين سنة، ولم يدّخر المدّعون العامون في المحاكم وسعاً في إهانتنا وتحقيرنا. وتحمّلنا نحن ذلك وسرنا في طريق خدمة الإيمان والقرآن. وعفونا عن مظالم رجال السلطة السابقة وأذاهم،لأنهم نالوا ما يستحقونه، وتمتعنا نحن بحقنا وحريتنا. ونشكر فضل الله علينا بأن منّ علينا بالكلام في حضور حكام عادلين ومؤمنين… هذا من فضل ربي».

وبذلك انتهت الجلسة الأولى للمحكمة على أن تعاود انعقادها في 19 شباط.

وعند انعقاد الجلسة الثانية في موعدها المحدد، كان هناك ازدحام اشد إلى درجة تعذر على الشرطة السيطرة على الناس المتدافعين.

وفي هذا الجو من الزحام والتدافع لم يكن من الممكن إجراء المحكمة، لذلك فقد توجّه رئيس المحكمة إلى الموجودين قائلاً لهم: إذا كنتم تحبون الشيخ، فافسحوا لنا المجال لكي نستطيع الاستمرار في إجراءات المحاكمة.

وعلى إثر هذا الطلب فقد بدأ الجمهور بالتراجع، وهكذا بدأت المحاكمة، إذ استدعت صاحب المطبعة الذي قام بالطبع كما استمعت إلى شهادة الشرطة. ثم قام بديع الزمان وقدم اعتراضه على تقرير الخبراء. وحينما أدركته صلاة العصر طلب السماح له بتأدية الصلاة، وأُجيب طلبه، إذ أعلن رئيس المحكمة انتهاء الجلسة الثانية.

وفي الجلسة الثالثة التي انعقدت في 5/3/1952 اتخذت الحكومة احتياطات أمن مشددة، فوزّعت مئات من رجال الشرطة أمام المحكمة وداخلها حيث استطاعت بذلك تنظيم السيطرة على الآلاف من محبي وطلاب الأستاذ بديع الزمان.

في البداية استمعت المحكمة إلى شهادة الطالب الجامعي الذي قام بطبع هذه الرسالة. ثم ألقى محامو بديع الزمان بدفاعاتهم وردّوا على التهم الموجهة إليه.

مقتطفات من دفاع المحامي «مهري حلاو»

إن مؤلف رسائل النور، أكثر المؤلفين والمحررين تواضعاً. وهو أعدى أعداء الشهرة والكبر، مُعرض عن متاع الدنيا، فلا مال ولا شهرة ولا سلطة. هذه كلها لا تبلغ طرف ثوبه، ولن تبلغ… هذا الرجل إن كان يحيا بخمسين غراماً من الخبز وبطبق من الحساء يومياً، فهو يعيش من أجل خدمة القرآن والإيمان. وما عداها لا أهمية عنده لشيء. فهل يوافق الحق والعدل والإنصاف والعلم والفكر الإنساني والفكر القانوني والمنطق والعقل أن يُتهم بتهمة المدح والثناء على مؤلفه وإدخال ذلك في نطاق الجرم ل»المادة 163»؟ أدع هذا لتقدير المحكمة السامي. وأتطرق إلى موضوع معارضة الحكومة بإيجاز:

يقف أمامكم منتظراً قراركم العادل بكمال الصفاء والإخلاص، رجل فريد في عصره، لم يتدن في عمره مطلقاً لكلام خلاف الصدق. وقد قال جهراً في أول جلسة للمحكمة: إنه مرتاح من الحكومة القائمة ويدعو الله لها بالتوفيق، وإن الحكومة التي أنتقدها ولم يرض عنها هي الحكومة السابقة. فلقد سعى مع جميع الشعب لتأسيس الحرية والديمقراطية واستبشر خيراً بحصول النتائج الحاصلة في هذا الشأن لترسيخ النظام واستقراره في القلوب. فمثلما يسعى رجال السياسة لإقرار النظام وضمان حق الأمة وحريتها في الساحة السياسية فإن مؤلف رسائل النور يسعى لإقرارها أيضاً في الساحة المعنوية، فالمقاصد مشتركة.

إن مؤلف رسائل النور التي هي مدرسة العرفان وكذلك تلاميذها، حرّاس متطوعون ومعنويون للأمن والنظام والسكون، وساعون لدحر الفوضى والتخريب في الساحة المعنوية في القلوب والعقول. هؤلاء يبذلون الجهد لمنافع الوطن والشعب لنيل رضا الله فقط بكمال الإخلاص، لا يأملون عرضاً ولا غرضاً ولا بدلاً. وهذا ليس جرماً ولا جناية، بل خدمة للوطن والشعب، ويلزم أن يكافَئوا عليه لا أن يؤاخَذوا. ومن حقنا أن نطلب براءته، والقرار للمحكمة السامية.

دفاع المحامي «سني الدين باشاق»

بعده، دافع الوكيل الآخر المحامي سني الدين باشاق دفاعاً موجزاً عن المؤلف..

المسألة تبينت وبزغت الحقيقة كالشمس، وعلمت المحكمة بكل شيء وليس عندي جديد أضيفه. ولكن أود أن أقول شيئاً عن المنطق الذي جلب رجالاً فضلاء ومحترمين وعاملين للشعب والوطن بالتضحية في سبيل الله وبلا عرض ولا عوض، ووضعهم في قفص الاتهام، لكن هذا المقام ليس مقام ذلك بل يلزم أن يصنف فيه كتاب، لأن مقاومة هذا المنطق واجب على الجميع. وإني مطمئن إلى الوجدان السامي للمحكمة السامية إلى درجة تجعلني في غنى عن الدفاع. وأتشرف بطلب البراءة لموكّلي.

دفاع المحامي «عبد الرحمن شرف لاج»

ثم بدأ بالدفاع المحامي المؤمن القدير والمعروف عبد الرحمن شرف لاج الذي تولى الدفاع عن الأستاذ متطوعاً مثل زملائه الأفاضل، قال تقديماً:

ظهر جلياً أن لا مناسبة ولا علاقة بين هذا الإنسان المبارك الذي جاوز عمره الثمانين الماثل في حضوركم متهماً وبين الجريمة. وآمل أن محكمتكم الموقرة قد اقتنعت تماماً بذلك، وأنها ستصدر قرار براءته. لكني أعدّ ترك الدفاع عن هذا البريء -الذي تعهدت بالمدافعة عنه- إخلالاً بتعهدي وإن كان احتمال صدور قرار ضدنا أقل من نسبة واحد في الألف.

وينبغي الأخذ بنظر الاعتبار ووجهة نظر محكمة التمييز العليا وقناعتها. ولا أريد أن أجد نقصاً من حيث الأصول بسبب عدم ذكره. لذلك أرجو أن تأذن المحكمة السامية بدفاعي.

– تفضل عبد الرحمن بَكْ، لنسمع دفاعكم الأخير.

– إن «مرشد الشباب» مجموعة من أوامر القرآن العظيم وتفسيره، وتضم نصائح وأوامر من دين الإسلام. وبناء على المادة (70) من الدستور فإن براءة الذات وحرية الوجدان والفكر والكلام والنشر حق طبيعي لكل مواطن تركي. وحسب المادة 75 منه لا يؤاخذ إنسان بسبب دينه أو مذهبه. لذلك، فالتعقيبُ الجزائي ضد موكلي حجبٌ لحرية الدين والنشر التي منحها له الدستور.

إذا فرضنا المحال برفض الحجج القانونية الموضحة فيما سبق، وعُمل بـ«المادة 163» المخالفة للديمقراطية من قانون الجزاء التركي ضد موكلي، فنوضح تحليل التهمة الموجهة ضده كما يأتي:

مسلم، مسلم عجوز اشتعل رأسه شيباً، مسلم بيّض رأسه وشعره وعمره طوال حياته بالنور، مسلم طاهر ونظيف، رأسه وشعره وعمره مغسول بنور من الله، مسلم عظيم نذر حياته التي هي نعمة من المولى من أجل صلاح الشعب التركي وسعادته الحقيقية، وعزم على السير في هذا النهج حتى ساعة تسليم روحه إلى الله مالك الملك، واستنفد بدنه الذي هو بناء سبحاني في سبيل الله وحده. يقوم هذا المسلم -في الوقت الذي نقول فيه إن الديمقراطية سارية الآن- فينادى ولا يقول إلا «الله» و«الرسول» ويحذّر الشباب. وما إن ينطق بذلك، حتى يمسك المدعي العام الذي رفع القضية بتلابيبه. ويقول له: «تعال هنا… ارتكبتَ جرمًا!»

وجثمت على الآفاق ظلمات سوداء…

لكن انظروا إلى هذا المسلم الأصيل النجيب. كم هو ساكن ومطمئن؟ لأنه منهمك بالوحدة لا بالكثرة، لا يأبه بظلمة الليل ولا بألوان النهار. ينظر إلى الصفاء من خلال بلاء الزنزانة. ويجد الوفاء في مائدة الجفاء، فهو عارف بحقيقة الأشياء. قلَب الكثافة إلى اللطافة. غاض الدم في عروقه، فامتلأت بفيض الحق والنور وسرى النور فيها بدلاً عن الدم. ويمسك المدعي العام بذراعي هذا المسلم ويجره إلى السجن. لماذا؟ ما السبب؟ ما فعل هذا الشيخ العجوز؟ ما ذنب هذا المسلم الهرم؟ أتدرون ماذا فعل؟ انظروا إلى ما فعل في نظر المدعي المشتكي:

نشر كتاباً باسم «مرشد الشباب»!

أ- خالف العلمانية. هل يجوز أن يكون «الله» و«الدين» و«الإيمان» مخالفاً للعلمانية؟ نعم، يجوز… وماذا بعد؟

بـ- دعا إلى ربط أسس أنظمة الدولة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية بمبادئ الدين. كيف فعل ذلك، ولماذا، وما القصد؟

جـ- القصد تأمين وتأسيس نفوذ شخصي.

حسنًا.. هل يوجد قصد جلب المنافع السياسية؟.. لا، العارفون بالحال يعلمون أن هذا القصد معدوم. ولم يقدر المدعي العام أن يدّعيه. حسناً، ما دام قصد المنافع السياسية معدوماً، فماذا ينتظر هذا العجوز من هذه الدنيا، بذاته وجسده وبدنه، حتى يطلب تأمين نفوذ شخصي؟

يقول المدعي العام: لا أدري، ولا يهمني أن أدري كذلك، والخبراء يقولون بهذا أيضاً!

حسناً. كيف فعل هذا المسلم كل ذلك؟

– استخدم الدين والأحاسيس الدينية والمقدسات الدينية آلة ووسيلة!.

ما المقدسات الدينية؟ دين الإسلام، الأحاسيس الإسلامية، غرس الخشية من كلمة «الله» في القلوب، «القرآن»، «التفسير». إذن، المدعي العام يعرف هذه الأمور ويؤمن أنها مقدسات دينية.

فهل العلم بها، والإيمان بها، ثم التحدث عنها، استغلال لها بجعلها آلة ووسيلة لشيء آخر؟ نعم، حسب رأي المدعي العام المشتكي! في هذه الحال، المدعي العام أيضاً يستغل هذه المقدسات الدينية آلة ووسيلة. بل يجعلها آلة ووسيلة في قانون سياسي، وفي الحكم على مسلم. ألا يقع إذن تحت طائلة «المادة 163»؟

المدعي العام يقول: لا، فأنا لا أقوم بالدعاية إلى ذلك. أما هو فقد قام بالدعاية والتلقين.

حسناً فماذا قال؟

قال: «في عصرنا هذا، لدى تصدى ضلالة الزندقة للإسلام وحربها معه فإن أرهب فرقة من الفرق المغيرة على الإسلام والتي تسير وفق مخطط النفس الأمارة بالسوء، وسلمت قيادها وإمرتها إلى الشيطان، هي طائفة من النساء الكاسيات العاريات اللائى يكشفن عن سيقانهن ويجعلنها سلاحاً قاسياً جارحاً ينـزل بطعناته على أهل الإيمان! فيغلقن بذلك باب النكاح ويفتحن أبواب السفاح، إذ يأسرن بغتةً نفوسَ الكثيرين ويجرحنهم جروحاً غائرة في قلوبهم وأرواحهم بارتكابهم الكبائر، بل ربما يصرعن قسماً من تلك القلوب ويقضين عليها.

وإنه لعقاب عادل لهن، أن تصبح تلك السيقانُ المدججة بسلاح الفتنة الجارح حطب جهنم وتُحرَق في نارها أول ما يحرق، لما كن يكشفنها لبضع سنوات أمام من يحرم عليهن».

حسناً، هل هذا كذب؟ هل ينكر مجموعات البغايا المشجعات للزنا والمانعات للزواج؟ ألا تحارب الدولة وغيرها البغاء العلني والخفي؟ ألا تطارد شرطة الأخلاق البغيات وتكافحهن بقانون الجزاء ونظام محاربة البغاء ليل نهار.

يقول المدعي العام المشتكي: هذا صحيح… صحيح. هو شأننا، وليس شأن يتدخل فيه «الله»!

ليقل المدعي العام ما يشاء! لكن القانون والشرطة والمدعي العام يقبض على فاعل الجريمة ومدبرها بعد وقوع الجريمة. يعني بعد انتهاء الفعل وضياع العرض وموت القتيل. ولا يمكن بالقانون اتخاذ وسيلة لمنع وقوع الجريمة، لكن بالدين يمكن ذلك: خشية الله. الدين يعلّمنا أن خشية الله تقطع سبيل كل الرذائل. الإسلام يأمرنا بذلك. يأمرنا باتخاذ التدابير مسبقًا، كيف؟ بالنصيحة، بالتحذير، بمعرفة الله! بغرس خشية الله وحب الله، والخوف من نار جهنم، والعذاب الخالد، والتوق إلى السعادة الخالدة، في قلب الإنسان.. بالعلم والفهم والحب والخشية حتى يهرب من الرذيلة وينجو بنفسه ويريح المجتمع والمدعي العام والدولة والحكومة والشعب. كيف نعمل ذلك؟ بالكلام والكتابة والقراءة. حسناً، يقول المدعي العام عندها إنه قام بالدعاية؟! وما الضير فيه؟ هو أمر الله وحكمة القرآن العظيم. أليس الدين أكثر الحقوق بداهة؟ من يمنعكم عنه؟ عن سبيل الله؟ يقال عنه: جرم. أهكذا؟

اقرؤوا أمر الله إذن: ﴿اِنَّ الَّذينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبيلِ اللّٰهِ وَشَٓاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدٰىۙ لَنْ يَضُرُّوا اللّٰهَ شَيْـًٔاۜ وَسَيُحْبِطُ اَعْمَالَهُمْ﴾ (محمد:32).

فإن لم يسمعوا؟ أعيدوا لمن يسمع ومن يؤمن، لأن عملكم خيرٌ. خير للناس والمجتمع والشعب والحكومة والدولة، وحافظٌ من الشر والبلاء، وقولوا للمؤمنين: ﴿يَٓا اَيُّهَا الَّذينَ اٰمَنُٓوا اَطيعُوا اللّٰهَ وَاَطيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُٓوا اَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد:33). فإن لم يؤمنوا بذلك فقولوا: ليس الخطر والتهلكة للوطن والشعب في الدين أو الدعاية للدين بل في الإلحاد وترك الدين. هذا كلام قاله رئيس الوزراء أيضاً: «اليمين لم يشكّل خطراً على الوطن. لا مانع في الوقت الحاضر من الدعاية للدين، ولم تعد حاجة إلى اتخاذ تدابير بهذا الشأن».

أيها الحكام المحترمون! أنتم أعلم بالجواب، لكن اسألوا المدعي العام المشتكي مرة أخرى، إن كان يستطيع أن يجيب بالنفي! هل يمكن الوقوف في وجه تردي الأخلاق وزوال العفة وضياع النسب وتجارة الأعراض والزنا والقتل بالقوانين الجزائية وحدها، إذا لم تشرح أوامر الله وحكمة القرآن العظيم للشباب ويعلَّموها، وإذا منع ذلك بحجة أن الدعاية إليها ممنوعة؟ بأي شيء يمكن صد التخريب الخفي والعلني، والمعدي والخبيث، لفكر فتاك كالشيوعية التي تهدد الدنيا كلها؟.

أيها الحكام المحترمون الأتراك المشدودون إلى الله ربكم وإلى مقدساتكم! انظروا إلى السموم التي ينفثها أعداء الدين الألدّاء منذ سنين لإفساد عقول أبناء الترك المسلمين الطاهرة النقية وشلّها.

يا لهول الحال والنقائض فينا! المدعي العام لا يهتم بهذا… ولا يتحرك إزاء التحقير والهجوم المخيف ضد دين الإسلام والأديان السماوية كلها، وينشط ضد من يوصي بتدابير لوقاية الشباب من هذا الهجوم!

أيها الحكام المحترمون المسلمون الأتراك! محال أن تحكموا على موكّلي بسبب «مرشد الشباب» من كليات رسائل النور المشحونة بلمعات النور الإلهي والناشرة له.

أيها الحكام المحترمون النجباء المسلمون! تعلمون حق العلم أن العلماء المرشدين الصادقين ورثة الأنبياء. وهؤلاء الذوات المباركون، مكلّفون حسب أوامر القرآن المبين بنشر ما ورثوه من المواعظ والنصائح. وهم إذ يوفون بوظيفتهم لا يريدون أجراً ولا جزاء ولا شكوراً. يؤدون الواجب في سبيل الله وطلباً لرضا الله ورسوله ولا غير، ولا تصيبهم فترة حتى النفَس الأخير، لأن هذه الوظيفة أمانة الله ورسوله إليهم. فكيف يحاكم ويعذب موكلي لأدائه الأمانة إلى أهلها؟ كيف يكلف هذا العجوز ببدنه الضعيف النحيف بكلفة ثقيلة لا تصدق، فيساق إلى السجن؟ هذا من أشنع الظلم. والأمانة الموكلة إليكم هي منع إيقاع هذا الظلم.

النور هو الذي يمحو السيئات والخطايا ودناءة الأخلاق والرذيلة والفساد والفتنة.

﴿يُريدُونَ اَنْ يُطْفِؤُ۫ا نُورَ اللّٰهِ بِاَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّٰهُ اِلَّٓا اَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (التوبة:32).

المحامي

 عبد الرحمن شرف لاج

وأخيراً توجه رئيس المحكمة إلى الأستاذ النُّورْسِيّ متسائلاً:

– هل هناك ما ترغب في قوله، زيادة على ما قلت؟

– أرجو أن تسمحوا لي بزيادة كلمة واحدة.

– تفضلوا

– إنني لست أهلاً لكلمات الثناء التي أضفاها عليّ موكليَّ المحترمون، إذ إنني لست سوى خادم عاجز للقرآن وللإيمان. ليس عندي ما أقوله سوى هذا.

تبليغ قرار البراءة

ختمت المحاكمة بناء على ذلك. وأعلنت الهيئة الحاكمة بعد المشاورة قرار البراءة باتفاق الآراء، وقوبل القرار من قبل الجامعيين وأبناء الشعب الحاضرين في قاعة المحكمة بتصفيق حار. واكتسب القرار الدرجة القطعية إذ لم يقدم المدعي العام طلباً للتمييز.