[وفي هذه الأثناء كتب الكتاب الإسلاميون في الصحف والمجلات مقالات تبين أعمال الأستاذ النُّورْسِيّ ونشاط طلاب النور. ندرج أدناه مقالتين منها:]

بعد فراق طويل

الأستاذ أشرف أديب

لم ألتق الأستاذ منذ سبع وعشرين أو ثمان وعشرين سنة، حيث لم أجد فرصة من المشاغل، رغماً عن رغبتي الدائمة لزيارته ورؤيته وملء العين من محياه المبارك. لكن وجوده المعنوي لم يفارقني أبداً، لأنه يعيش في القلوب.

وحين اللقاء واحتضاني له ظهر مقدار الشوق المادي العظيم باللذة النابعة من مُحياه النوراني.

انقضت أربعون سنة على لقائي الأول بالأستاذ. في ذلك الزمان كنا نحضر يومياً في «إدارة المجلة» مع عاكف ونعيم وفريد والإزميرلي المحترمين، ونقضي معاً ساعات طيبة في أحاديث شتى. ويتحدث الأستاذ -بلهجته الخاصة- في المسائل العلمية الرفيعة، فنجد حرارة في أنفسنا من جلادة وحشمة أحاديثه. ذكاء فطري غير معتاد وموهبة إلهية. تظهر قدرة ذكائه وعظمته إزاء أشد المسائل تعقيداً. عقل دائم العمل والفكر. لا يشتغل بالنقل كثيراً، فمرشده القرآن، وهو نبع فيضه وذكائه. وهذه اللمع كلها تدفق من هذا النبع مباشرة. صاحب رأي سديد أشبه بمجتهد أو إمام، وقلبه مليء بإيمان راسخ أشبه بإيمان صحابي، وفي روحه شهامة كشهامة عمر. هو مؤمن أحيا عصر الرسالة السعيدة بين جوانحه في القرن العشرين، وجعل الإيمان والقرآن غاية له. إن غاية غايات الإسلام، أعني أساس «التوحيد» و«الإيمان بالله»، هي أعظم عمدته وعمدة رسائل النور. وأظنه لو كان في خير القرون وظهور الإسلام، فلعل الرسول ﷺ كان يكلفه بمهمة تحطيم الأصنام في الكعبة. فقد كان عدواً للشرك وعبادة الأصنام أقصى درجات العداء.

عمر طويل، قرن واحد تقريباً، قضاه في الجهاد لترسيخ حقائق الإيمان والقرآن في القلوب. عمر قضاه في الفضيلة والشهامة. فهو في ميادين الحرب بطل يتقدم المجاهدين، يستل السيف، ثابت الأقدام، يحمل على الأعداء. وهو في الأسر بطل يتصدى لقائد الأعداء. وهو على منصة الإعدام ظل يسوق قائد الأعداء إلى التفكير ويقوده إلى الإنصاف.

فدائيّ لا يتردد لحظة بالتضحية بروحه من أجل شعبه وبلاده، عدو شديد للفتنة والهدم، يتحمل كل ظلم وتعذيب من أجل منافع الأمة، في سبيل الغاية، أسهل شيء عليه أن يقتات بشربة حساء وقدح ماء ولقمة خبز، ويلبس خرقة خامة بيضاء قطنية يغير ملابسه قبل أن تتسخ ويغسلها، ويعتني بالنظافة اعتناء فائقاً. لا يمسك بالنقود الورقية بيده ولا يحملها. لا يملك شيئاً قيماً في هذه الدنيا. يعيش للناس لا لنفسه.

ضعيف البنية، لكنه ذو مهابة وحشمة. عيناه تشعان نوراً مثل الشمس، ونظراته نظرات سلطـان، أغنى سلطان في عالم المعنى مع أنه أفقر الناس في الدنيا مالاً.

لم تخلف آلام نيف وثمانين سنة تجعدات في وجهه وإن أشعلت في رأسه الشيب. لون بشرته بياض مشرب بحمرة. غير ملتح. نشط كأنه في عمر الشباب. حليم وهادئ، لكنه حين يهيج، يبدو كالأسد، وينتصب على ركبتيه، ويتكلم مثل سلطان.

أكره شيء إلى نفسه السياسة. فلم يمسك في يده صحيفة منذ خمس وثلاثين سنة. مقطوع الصلة بشؤون الدنيا. لا يلتقي إنساناً بعد صلاة العشاء إلى وقت الظهر من غده منشغلاً بالعبادة. ينام قليلاً. وقد منع طلابه أيضاً عن السياسة. طلابه الذين بلغ عددهم ستمائة ألف أو مليون هم أكثر أبناء الوطن تمسكاً بالفضائل. والمئات أو الألوف من طلابه يدرسون العلوم الصرفة في كليات الجامعات، فتراهم أشد الطلاب همة وأعظمهم فضيلة. ولم يقع أن تسبب إنسان من طلاب النور الذين بلغوا مئات الألوف عدداً وانتشروا في أرجاء الوطن كافة، في حادث مخل بالأمن. إن كل طالب لرسـائل النور محافظ طبيعي لنظام وانتظام البلاد وحارس للأمن والأمان.

سألته إن كان تعباً من سفر إسطنبول، فقال: إنه لا يقلقني سوى المخاطر المحدقة بالإسلام. إذ كانت المخاطر سابقاً تأتي من الخارج وكانت مقاومتها يسيرة، أما الآن فإنها تأتي من الداخل حيث دبت الديدان في الجسد وانتشرت فيه فتعسرت المقاومة. إنني أخشى ما أخشاه ألّا تتحمل بنية المجتمع هذا الداء الوبيل، لأنه لا يشتبـه بالعدو. إذ يظن من يقطع شريانه ويمص دمه صديقاً. ومتى عميت بصيرةُ المجتمع إلى هذا الحد فقلعة الإيمان إذن في خطر داهم. لذا لا قلق لي إلّا هذا ولا أضطرب إلّا من هذا. بل ليس عندي زمن أضيّعه في التفكير في التعب والمشاق التي أتعرض لها بنفسي. وليتني أتعرض لألف ضعف من شقائي ويسلم مستقبل قلعة الإيمان.

قلت: ألا يمدّكم مئات الألوف من طلابكم بأمل وسلوى للمستقبل؟

قال: بلى، لم ينقطع رجائي وأملي تماماً.. العالم يمر بأزمة خانقة وقلق معنوي عظيم. فالمرض الذي دب في جسم المجتمع الغربي وزعزع دعائمه المعنوية كأنه وباء طاعون وبيل. فما الحلول التي يجابه بها مجتمع الإسلام هذا المرض المعدي الرهيب؟ هل بوصفات الغرب النتنة المتفسخة الباطلة؟ أم بأسس الإيمان الحيوية لمجتمع قلعة الإسلام؟ إنني أرى الرؤوس الكبيرة سادرة في الغفلة. فقلعة الإيمان لا تسند بأعمدة الكفر النخرة، ولهذا أبذل كل جهدي وسعيي في الإيمان وحده.. لذا ركزت جهدي كله من أجل الإيمان فقط.

إنهم لا يفهمون رسائل النور، أو لا يريدون أن يفهموها. يظنونني شيخ مدرسة جامداً في الأمور الدنيوية المادية. لقد اشتغلت بالعلوم الصرفة والعلوم والفلسفات المعاصرة كلها، وحللت أعقد مسائـلها، بل صنفت فيها مصنفات. لكني لا أعتـرف بألعاب المنطق ولا أصيخ سمعاً لحيل الفلسفة، بل أترنم بجوهر حياة المجتمع، وبوجوده المعنوي وبوجدانه وإيمانه. فقد حصرت اشتغالي في أساس التوحيد والإيمان الذي أسّسه القرآن، ألا وإن العمود الرئيس لمجتمع الإسلام هو هذا، فإذا تزلزل يضيع المجتمع.

يقولون: لماذا تجرح فلاناً وعلاناً؟ لا أدري. لم أشعر ولم أتبين مما أرى أمامي من حريق هائل يتصاعد لهيبه إلى الأعالي يحرق أبنائي ويضرم إيماني، وإذ أنا أسعى لإخماده وإنقاذ إيماني، يحاول أحدهم إعاقتي، فتـزل قدمي مصطدمةً به. فليس لهذه الحادثة الجزئية أهمية تذكر وقيمة أمام ضراوة النار؟ يا لها من عقول صغيرة ونظرات قاصرة!

أيظنونني رجلاً مهموماً بحاله يبغي إنقاذ نفسه؟ لقد افتديت بدنياي وآخرتي في سبيل إنقاذ إيمان المجتمع. لم أذق طوال عمري البالغ نيفاً وثمانين سنة شيئاً من لذائذ الدنيا. قضيت حياتي في ميادين الحرب، وزنزانات الأسر، أو سجون الوطن ومحاكم البلاد. لم يبق صنف من الآلام والمصاعب لم أتجرعه. عوملت معاملة المجرمين في المحاكم العسكرية العرفية، ونفيت وغربت في أرجاء البلاد كالمشردين. وحرمت من مخالطة الناس شهوراً في زنزانات البلاد. وسُمّمت مراراً. وتعرضت لإهانات متـنوعة. ومرت عليّ أوقات رجحت الموت على الحياة ألف ضعف. ولولا أن ديني يمنعني من قتل نفسي، فربما كان سعيد تراباً تحت التراب.

أنا لا أطيق ذلاً ولا إهانة بفطرتي وجبلتي. العزة والشهامة الإسلامية تمنعني بشدة من هذه الأحوال. فإذا تعرضت إلى مثل هذا الحال، لا أطأطئ رأسي مهما كان الذي يواجهني، سواءٌ إن كان جبـاراً أشد الناس ظلماً أو قائداً عدواً سفاحاً للدماء، بل ألقي بظلمه ودمويته على وجهه.، ولا أبالي إن رماني في غياهب السجن أو قادني إلى منصة الإعدام. وهذا ما وقع، وما جرى علي فعلاً. ولو صبر قلب ذلك القائد الدموي ووجدانه على الظلم دقائق أخرى لكان سعيد قد شنق والتحق بزمرة الأبرياء المظلومين.

هكذا انقضت حياتي كلها في نصب ومشقة، ونكبة ومصيبة. لقد افتديت نفسي ودنياي في سبيل إيمان المجتمع وسعادته وسلامته. فهنيئاً وحلالاً طيباً. حتى في دعواتي لا أدعو الله عليهم. فبهذه الأحوال صارت رسائل النور وسيلة لإنقاذ إيمان مئات الألوف في الأقل، ربما الملايين – هكذا يقولون- فأنا أجهل عددهم، المدعي العام بأفيون ذكر أنهم خمسمائة ألف أو يزيدون. بالموت كنت أنجو وحدي، لكن ببقائي في الحياة وصبري على الصعاب والمشقات خدمت في إنقاذ الإيمان بقدر هذه الأنفس. فالحمد لله ألف مرة.

لقد ضحيت حتى بآخرتي في سبيل تحقيق سلامة إيمان المجتمع، فليس في قلبي رغب في الجنة ولا رهب من جهنم، فليكن سعيد بل ألف سعيد قرباناً ليس في سبيل إيمان المجتمع التركي البالغ عشرين مليونا فقط بل في سبيل إيمان المجتمع الإسلامي البالغ مئات الملايين. ولئن ظل قرآننا دون جماعة تحمل رايته على سطح الأرض فلا أرغب حتى في الجنة إذ ستكون هي أيضاً سجناً لي، وإن رأيت إيمان أمتنا في خير وسلام فإنني أرضى أن أُحرق في لهيب جهنم إذ بينما يحترق جسدي يرفل قلبي في سعادة وسرور.

لقد فاض وجاش حضرته. كان يرمي بشواظ كالبركان ويموج بحر قلبه كالطوفان. ويصب كالشلال أعمق نقاط القلب بمياه زمزمية عظيمة. لقد أخذه حماس زائد، كأنه يخطب من منصة البرلمان، لا يريد أن يقطع عليه الكلام إنسان. أحسست بالتعب الذي أصابه، فرأيت أن أغير هذا المبحث الحماسي:

– هل انزعجتم في المحكمة؟

– هل في القوانين نص يعدّ تعليم الدين والتزامَ نسائنا وأخواتنا المحترمات بالمحافظة على عفتهن وشرفهن ضمن دائرة التربية الإسلامية جريمة؟ فليجب أساتذة الجامعة المشتـغلون بهذا العلم وبالحقوق عن مغزى ذلك، ومغزى اتخاذ كلمة «الحقيقة الواردة إلى القلب» دليلاً على تأسيس نفوذ شخصي.

أخَذَنا الزمان في لقاء الأستاذ مأخذاً، وحين استأذنت للمغادرة كان الوقت متأخراً.

سعيد النور وطلابه

الأديب الشاعر عثمان يوكسل  

شيخ كبير السن وذو حظ عظيم. يلتف حوله الناس من عمر ثماني سنوات إلى ثمانين سنة. أعمارهم وعقولهم وأشغالهم شتى، لكنهم يجتمعون على شيء واحد: الإيمان بالله، بالله رب العالمين، وبرسوله الكريم ﷺ، وبكتابه العظيم. ونرى كل واحد منهم كمن وجد شيئاً بعد أن ضيعه، كأن القرآن يتنـزل طرياً. حينما تطّلع على سعيد النور وطلابه، تحس بنفسك في خير القرون. وجوههم نور، باطنهم نور، ظاهرهم نور… وكلهم في حضور واطمئنان. ما أعظم السعادة في ربط الآصرة بخالق الكون العلي القدوس الدائم الحاضر الناظر، وما أجمل السير في سبيله، بل عشق سبيله حتى الوله.

سعيد النور شيخ عاصر ثلاثة عهود وخبر حوادث الزمان، هي نظام المشروطية، وحكومة الاتحاد والترقي، والجمهورية. عهود زاخرة بالتغيـير والانقلاب والانهدام. ما من شيء إلا وأصابه الهدم، غير رجل واحد ظل منتصباً. رجل قدم إلى إسطنبول من شواهق الشرق، من حيث تشرق الشمس، يحمل إيماناً راسخاً كالطود. جعل هذا الرجل صدره المفعم بالإيمان سداً منيعاً أمام أشرار العهود الثلاثة، ولم يفتأ يدعو إلى الله، ويدعو إلى الرسول ﷺ، ولا إلى شيء إلّا الله والرسول. رأسه شامخ كقمة جبل «آرارات»، لم يطأطئه ظالم، ولم يغلبه عالم. صلب كالصخور، إرادة قوية عجيبة، ذكاء كالبرق. هذا هو سعيد النور. لم تثن المحاكمُ العسكرية والمدنية والانقلابات والثورات ومنصات الإعدام المنصوبة له وأوامر النفي والتغريب، رجلَ المعنويات العظيم عن طريقه. قاوم كل ذلك بقوة وشجاعة لانهاية لهما نابعتان من الإيمان. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَاَنْتُمُ الْاَعْلَوْنَ اِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ﴾ (آل عمران:139). فكأن كلام الله هذا تجلى في سعيد النور!.

لقد قرأت مرافعاته في المحاكم. لم تكن دفاعاً عن النفس، بل دفاعاً عن دعوة عظيمة، وشواهد ومعلقات للجلادة والجرأة والذكاء.

لماذا تسنم سقراط موقعاً مرموقاً؟ أليس بسبب استصغاره الحياة من أجل الفكر؟ سعيد النور يعدل سقراط في الأقل! لكن أعداء الإسلام سعوا إلى تعريفه بصفة «رجعي» و«متعالم». ففي نظرهم ينبغي للرجل السامق أن يكون أجنبياً! لقد اقتيد من محكمة إلى محكمة، لكنه كان يحكم وهو محكوم. وانتقل من سجن إلى سجن، لكن السجون صارت «مدارس يوسفية» بهمته. سعيد النور جعل السجون نوراً، والقلوب نوراً. وذاب عتاة القتلة وأعداء الاستقرار والأخلاقِ القساةُ أمام صرح الإيمان هذا، كأنهم خلق جديد، مؤمنون سلَمٌ للناس ومواطنون خيّرون. فهل اسـتطاعت مدارسكم ومناهج تربيتكم ذلك؟ أم تستطيع؟ غرّبوه ونفوه من بلد إلى بلد.. فصار كل بلد نفي إليه وطنًا له، وأحاط به مؤمنون أنقياء وأطهار حيثما حلّ وغُرّب. وعجزت القوانين والممنوعات والشرطة والجندرمة وجدران السجون السميكة عن التفريق بينه وبين إخوته المؤمنين، فتحولت الكثافة المادية المتراكمة بين المرشد الكبير وطلابه إلى لطائف بفضل الدين والعشق والإيمان. وخلفت تهديداتُ وتحديدات القوة العمياء والمادة الميتة أمواجاً متلاطمة في بحار عالم الروح، وماجت من حجرات القرى لتحيط بأطراف الأرض وتدق أبواب الجامعات.

هرع أبناء الوطن الذين انتهكت مقدساتهم زمناً طويلاً، والأجيال الذين حُكم عليهم بالفناء، والمتلهفون للإيمان إلى سبيله وإلى نوره. طافت رسائل النور للأستاذ من يد إلى يد، ومن لسان إلى لسان، ومن بلد إلى بلد، واقتبس كل شاب أو هرم، كل أمي أو متعلم، كل صغير أو كبير، بقبس من ذلك النور. وصار كل طالب ماكنة أو مطبعة فتحدى الإيمان التقنية، فكتبت رسائل النور واستنسخت آلاف النسخ.

وفزع العمي الذين انطفأت بصائرهم وأنوار أرواحهم وصاروا خرائب، من هذا النور والضياء، فساقوا الرجل العزيز إلى المحاكم بحجة مخالفة الثورة والعلمانية -التي لا يـملون من تردادها- وقادوه إلى السجون. بل حاولوا قتله بالسم مراراً، فصارت سمومهم تريـاقاً… والسجون مدارس. وتجاوز نورُه، نورُ القرآن، نورُ الله، حدودَ الوطن وسرى في أرجاء العالم الإسلامي. إن في تركيا الآن قوة ينبغي أن تقف إزاءها باحترامٍ كلُّ الهيئات وجميع المواطنين المحبين لوطنهم، هي سعيد النور وطلابه. إنهم ليسوا جمعية ولا هيئة ولا حزباً، وليس لهم أرض ولا مقرات، ولا يرفعون أصواتهم بالضجيج والخطب والمظاهرات والمهاترات. إنهم زحام الجمع المؤمن الثابت الواعي من المجهولين العارفين الناذرين أنفسهم لهذه الدعوة العظيمة.

سنة 1953

بعد براءة الأستاذ سعيد النُّورْسِيّ من محكمة إسطنبول، عاد إلى «أميرداغ».

وفي أحد أيام رمضان خرج وحده يتجول في الحقول المحيطة بالمدينة وعريف شرطة مع ثلاثة من أفراده يتعقبونه.

ولم يستطع أن يتم تجواله، إذ لحقه هؤلاء وعرضوا عليه أن يلبس القبعة. وعندما قادوه إلى مركز الشرطة احتج الأستاذ على هذه المعاملة، وأرسل عريضة إلى وزارة العدل وإلى وزارة الداخلية في أنقرة، شجب فيها هذه التصرفات الرعناء، كما أرسل صورة من عريضته إلى أحد طلابه في أنقرة ليتتبع الموضوع عند المراجع الرسمية ويبلغ النواب المهتمين بالحادثة.

ومن أنقرة قرر بعض طلابه إرسال نسخة من هذه العريضة إلى جـريـدة إسلامية تصدر في «صامسون» باسم «الجهاد الأكبر» (Büyük Cihad) حيث نشرت هناك.

في هذه الأثناء وقعت حادثة الصحفي المعروف «أحمد أمين يالمان»  إذ حاول شاب مسلم أن يغتاله، فأطلق عليه عدة رصاصات لم تنل منه مقتلاً.

وقد استغلت هذه الحادثةَ استغلالاً كبيراً كلُّ الجرائد والمجلات المعادية للإسلام التي غاظها جو الحرية النسبي الذي بدأت تتنفسه الحركات الإسلامية في تركيا، فأرادت أن تظهر بأن إعطاء أية حرية لمثل هذه الحركات ستكون نتيجتها ظهور الرجعية والإرهاب.. الخ.

كانت حملة صحفية رهيبة لم يستطع رجال الحزب الديمقراطي الحاكم أن يقفوا أمامها، هذا فوق وجود جناح معاد للإسلام في هذا الحزب أيضاً. فصدرت الأوامر بغلق جميع الجرائد والمجلات الإسلامية، واعتقال جميع الكتّاب والمفكرين المسلمين العاملين فيها.

وأعتقل في هذه الحملة من الاعتقالات المدير المسؤول عن جريدة «الجهاد الأكبر» وأحد طلبة النور وهو السيد «مصطفى صونغور» وسيقا معاً إلى المحكمة في مدينة «صامسون» وقد أصدرت المحكمة قرارها بالحكم عليهما، ولكن محكمة التمييز ألغت هذا القرار وأصدرت قرارها بالبراءة.

وكانت في هذه الأثناء تنطلق بيانات وآراء في الصحف ضد توسع حركة النور في البلاد. وتبدأ التحريات في خمس وعشرين منطقة بتركيا وتبلغ فتح الدعاوى، مستهدفة الحكم على قريب من ستمائة طالب من طلاب النور. إلّا أنهم لا يجدون جرماً ولا شيئاً يكون مستند اتهام في رسائل النور أو طلاب النور.

وفتحت دعوى في مدينة «صامسون» ضد الأستاذ بديع الزمان بسبب مقالة نشرت في جريدة «الجهاد الأكبر» تحت عنوان «أكبر برهان» وطلب مثوله أمام محكمة «صامسون»، ولكن الأستاذ كان آنذاك مريضاً، فضلاً عن تقدمه في السن.

وبالرغم من حصوله على تأييد طبي من طبابة قضاء «أميرداغ» وكذلك من مدينة «أسكي شهر» إلاّ أن محكمة صامسون أصرت على حضوره.

وبناء على هذا الإصرار توجه إلى إسطنبول في طريقه إلى صامسون. ولكن مرضه اشتد بعد وصوله إلى إسطنبول، فلم يعد بإمكانه مواصلة السفر فاستحصل تقريراً طبياً من الهيئة الصحية، وأرسله إلى المحكمة.

كان هذا التقرير الطبي يؤيد بأن حالة الأستاذ بديع الزمان لا تسمح له أبداً بالسفر لا براً ولا بحراً ولا جواً، ولكن المدعي العام بالرغم من هذا التقرير الطبي الواضح القاطع، كان يطالب بشدة بحضوره ومثوله أمام المحكمة.

واستناداً إلى التقرير الطبي قررت المحكمة أن تقوم محكمة إسطنبول باستجواب الأستاذ نيابة عنها.

دفاع أمام محكمة إسطنبول

«ساق أعداؤنا المتسترون دوائر العدل ضدي مرة أخرى في شهر رمضان الشريف. المسألة في حقيقتها ذات علاقة بمجموعة شيوعية سرية. فقد أرسلوا إليّ مخالفين للقانون مخالفة كاملة، ثلاثة جنود جندرمة مسلحين مع رأس عرفاء وأنا في السهول والجبال وحدي بغير رفقة. قائلين: «أنت لا تلبس القبعة»، وأخذوني جبراً إلى مركز الشرطة.

فأقول لمنتسبي العدل كلهم الذين يبتغون العدل: لا مفّر في محكمة الحشر الكبرى من العقاب لمن يذيقونني من العذاب الوجداني منذ سنتين بحججهم التافهة ومخالفتهم العجيبة للقانون حيث ينبغي حقاً أن يتهموهم بمخالفة القانون إذ يخرقون القانون باسم القانون من خمسة وجوه فيعتدون على القوانين الإسلامية بخسمة وجوه. نعم.. أفي الأرض كلها قانون يتهم رجلاً منعزلاً منذ خمسة وثلاثين عاماً عازفاً عن الأسواق والأرياف، لأنه لم يضع فوق رأسه قبعة الإفرنج؟.

إن من في قلبه ذرة وجدان لينفر ويكره أن يكلِّف بقوة القانون رجلاً بلبس القبعة ليشبه القسيسين الأجانب، رجلاً منـزوياً لا يختلط بالناس ولا يريد أن يشغل روحه في شهر رمضان الشريف بشيء قبيح مثل هذا -وخلافاً للقانون- وينقطع عن لقاء أخلائه حتى لا يتذكر الدنيا، بل لا يستدعي طبيباً ولا يأخذ دواء مع شدة مرضه حتى لا ينشغل روحُه وقلبُه ببدنه. مع أن شرطة خمس محاكم وخمس ولايات لم يتعلقوا بما يلبس في رأسه منذ ثمان وعشرين سنة، وفي هذه الكرّة الأخيرة خاصة في محكمة إسطنبول العادلة أمام أنظار أكثر من مائة شرطي وتجوله شهرين راجلاً كيفما شاء، ومع أن محكمة التمييز قررت إجازة القانون للبس «البريه» (بديل القبعة) ومع إقرار عدم إلزام لبسها للنساء ولحاسري الرأس وللجنود العسكريين وللموظفين الرسميين وانعدام المصلحة في لبسها، فلا تقع مسؤولية قانونية على من يلبس البريه وعدّه زياً رسمياً، فأنا لست موظفاً.

فإن ردّ ذاك بالقول: إنما أنا مأمور منفّذ، قيل له: وهل يؤمر الناس بشيء حسب الهوى ليكون قانوناً جبرياً فيدفع عن نفسه بأنه مأمور؟ وفي القرآن الحكيم آية في النهي عن التشبه باليهود والنصارى، وفيه أيضاً: ﴿يَٓا اَيُّهَا الَّذينَ اٰمَنُٓوا اَطيعُوا اللّٰهَ وَاَطيعُوا الرَّسُولَ وَاُو۬لِي الْاَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء:59) أي أمر بإطاعة أولي الأمر، ولكن بشرط عدم التناقض مع إطاعة الله ورسوله، فيقدر أن يتصرف منفذاً تلك الطاعة. والحال أن قوانين العرف الإسلامي في هذه المسألة، تأمر بالشفقة على المرضى وتنهى عن إيذائهم، والرحمة بالغرباء والبعد عن إيلامهم، ودفع النصب والأذية عن خدام القرآن وعلوم الإيمان في سبيل الله. وإن تكليف رجل انقطع عن الناس وتَرَك الدنيا لأهلها بلبس قبعة القسيسين نقضٌ للقانون بمخالفة القانون ومصادرةٌ لقوانين العرف الإسلامي من مائة وجه، لا من عشرة وجوه، واعتداءٌ على هذه القوانين القدسية من أجل أمر بالهوى. ولا مكان للشك أو الشبهة في أن تصرفاً مثل هذا مع رجل بلغ حافة القبر أنهكه المرض وأضناه الهرم، وغريب ومنعزل عن الناس وتارك للدنيا منذ خمس وثلاثين سنة لكي لا يخالف السنة السنية، إنما هو ثمرة مؤامرة خبيثة ضد الوطن والشعب والإسلام والدين لحساب الفوضى والشيوعية المستترة، كذلك ضد نواب البرلمان ذوي الدين، وحتى ضد الديمقراطيين عموماً، الذين ينوون خدمة الإسلام والوطن ويحاربون التخريبات الأجنبية الرهيبة. فليحذر النواب المتدينون ولا يتركوني وحيداً في الدفاع ضد هذه المؤامرة الخبيثة.

إن خادم الحقيقة القرآنية المضحي الذي رفض الهوان ولم يقف احتراماً لقائد قوات الروس إذ مرّ أمامه قصداً ثلاث مرات، فشمخ برأسه أمام التهديد بالإعدام من أجل صون العزة الإسلامية، واستهان بتهديد بالإعدام من أجل شرف الإسلام فواجه قائد الإنكليز المحتلين لإسطنبول ومصدّري الفتاوى تحت تأثيره، بقوله في المطبوعات: «ابصقوا في وجوه الظالمين الصفيقة»، ولم يلتفت إلى غضب مصطفى كمال وسط خمسين نائباً في المجلس حين قال له: «تارك الصلاة خائن» ولم يداهن في الجواب أمام المحكمة العسكرية العرفية إذ قال: أنا مستعد للتضحية بروحي من أجل مسألة واحدة للشريعة، واختار الانزواء ثماني وعشرين سنة حتى لا يتشبه بالكفار، إن قيل له بصراحة وبخلاف القانون: «تلبس القبعة على رأسك فتشبه أحبار اليهود وقسس النصارى وتخالف إجماع علماء الإسلام أو تعاقب»، فإنه يفتدى الحقيقة القرآنية بروحه مائة مرة بلا تردد وبشهادة سيرته، ولو مزقوه إرباً إرباً وألقوه في نار كالجحيم، بله الحبس الدنيوي والعقاب والتعذيب!.

فما الحكمة في القوة المعنوية في تحمل هذا المضحي، لأشد الظلم النمرودي من أعداء الوطن والدين المستترين، وفي عدم مواجهته القوة المادية بالرد المادي التخريبي؟ فها أنا أعلن لكم ولأهل الوجدان كلهم جميعاً أن القرآن الحكيم قد علّمه ذلك لئلّا يتضرر تسعون بريئاً بسب زنادقة ملحدين نسبتهم عشرة في المائة، ومن أجل المحافظة على الأمن والنظام في الداخل بقوته كلها، ومن أجل نصب حارس في قلب كل إنسان بدروس النور. ولولا ذلك، لانتقمتُ في يوم واحد من أعدائي الذين ظلموني مدة ثمان وعشرين سنة. فتراه لا يدافع ضد من يهين عزته وكرامته حفاظاً على الأمن من أجل الأبرياء، ويقول: أنا مستعد للتضحية بحياتي الدنيوية من أجل ملة الإسلام، بل حتى بحياتي الأخروية إن لزم الأمر.

وأخيراً وبعد انتهاء جميع الإجراءات اللازمة أصدرت المحكمة قرارها بالبراءة، إذ لم تجد في تلك المقالة ما يؤاخذ عليها».

مراحل متنوعة من سيرته في إسبارطة

أسس طلاب النور النشيطون في «أورفة» و«دياربكر» مدرسة نورية في كل منهما. وبدأت دروس علمية بقراءة رسائل النور على الجماعة الحاضرة من كل أصناف الشعب، وجُلّهم من طلاب المدارس والشباب. فأنعشوا طلبة العلم الشريف (العلوم الشرعية) الضرورية في ذلك الزمان، وأوفوا بخدمة إيمانية جليلة في المناطق الشرقية.

وانتهت محاكمة «أفيون» أيضاً. إذ أظهر تقرير هيئة شورى الشؤون الدينية التي دققت رسائل النور سنة 1956 سمة الخدمة في التكامل الإيماني والأخلاقي لرسائل النور، فاستندت محكمة أفيون إلى هذا التقرير لتبرئة رسائل النور ورفع الحظر عنها واكتسب قرار المحكمة الصفة القطعية.

بعد قرار البراءة في محكمة أفيون، أصدر حاكم التحقيق في «إسبارطة» أيضاً قراراً بعدم قانونية المحاكمة. فاجتازت رسائل النور منافذ العدل واكتسبت حرية عامة وشاملة ولقيت قبولاً حسناً.

مع دوام خدمة رسائل النور في أرجاء الأناضول، لم تحصر المدارس النورية، في أنقرة وإسطنبول ودياربكر وأورفة خاصة، بل تعدت ذلك إلى أرجاء واسعة في البلاد.

وفي أنقرة، سعى أهل الحمية والطلبة الجامعيون في نشر مجموعات رسائل النور في الأرجاء بطبعها بالمطابع، وإيصالها إلى الجمهور للإفادة منها بالأحرف الجديدة (اللاتينية) خاصة.

عودة إلى مدينة الذكريات «بارلا»

بعد قضائه ما يقارب ثلاثة أشهر في إسطنبول، حنّ الأستاذ إلى زيارة المدن التي قضى فيها فترات لا يمكن نسيانها من حياته.

فزار «أميرداغ» ثم توجه إلى «أسكي شهر» ومنها إلى «إسبارطة» بقى فيها ثمانين يوماً. ومن إسبارطة توجّه مع رهط من طلابه إلى مدينة الذكريات بارلا.. المدينة التي شهدت أول انبثاق لحركة النور ولرسائل النور.. ومنها انتشرت إلى الأرجاء «الكلمات» و«المكتوبات» و«اللمعات» التي تمثل أنوار هداية القرآن الحكيم.. فـبارلا هي المركز الأول لمدرسة رسائل النور. المدينة التي سيق إليها منفيا قبل خمس وعشرين سنة، فبارك الله له في أيام النفي، وجعل تلك الأيام من أعز الأيام على قلبه، وجعل ذكريات هذه البلدة من أحب الذكريات إلى نفسه.

وها هو يعود إليها، في يوم رائق من أيام الربيع، حاملاً ثقل تلك السنين الحافلة بالأحداث والمواقف والابتلاءات…يعود إليها طليقاً يحف به بعض ثمار دعوته.. طلاب يتلألأ النور في جباههم المضيئة، وتطفح قلوبهم بحب الله ورسوله.

ويسمع أهل البلدة بقدوم الأستاذ، فيخرجون رجالاً ونساءً، وأطفالاً وشباباً لرؤيته. ويقفز الأطفال الصغار وهم يرددون: «جاء الشيخ.. جاء الشيخ!»

إنهم لم يروا هذا الشيخ الوقور، ولكنهم سمعوا عنه من آبائهم وأمهاتهم.

وبينما كان الأستاذ يتقدم نحو البيت الذي بقي فيه ثماني سنوات، إلى البيت الذي كان أول مدرسة نورية، مرّ من أمام بيت تلميذه القديم «مصطفى جاويش» وهو النجار الذي عمل له الغرفة غير المسقّفة بين أغصان الشجرة التي كان يقضي فيها ساعات العبادة والتأمل.

مرّ أمام دار تلميذه ورأى القفل الكبير على باب الدار. كان تلميذه القديم الوفي قد توفي سنة 1937، بينما كان الأستاذ يعيش في منفاه في «قسطموني». مات هذا الرجل ولذلك لم يتيسر له لقاؤه بعد خروجه من بارلا. ولم يشعر إلا والدموع تتساقط من عينيه وتبلل خده.

وأخيراً وصل إلى بيته السابق، إلى مدرسته الأولى حيث كانت شجرته الحبيبة تنتصب أمامه وكأنها -هي الأخرى- ترحب به.. جاشت في نفسه العواطف وطلب من طلابه ومن الأهالي أن يتركوه وحده.

ثم ذهب إلى تلك الشجرة التي قضى معها أكثر من ثماني سنوات احتضنها وأجهش ببكاء طويل.

كانت هذه الشجرة قطعة من حياته، ومن ذكرياته. كم من ليال قضاها بين أغصانها يتهجد ويذكر الله! كم من ساعات قضاها يؤلف رسائل النور ويسمع حفيف أغصانها وأوراقها وتغريد الطيور عليها. كم من ليلة من ليالي الشتاء الطويلة الحالكة أرق في غرفته، فلم يكُن له أنيس في وحدته غير صوت هذه الشجرة تعصف بها الرياح، أو يسمع صوت قطرات الأمطار على أوراقها. لقد كانت له أنساً في وحدته، وسلوة في وحشته، وصديقاً في غربته.

وها هو الآن يرجع إليها بعد عشرين عاماً يتحسسها، ويريد أن يضمها إلى صدره ولا يتمالك نفسه من البكاء عند لقائها.

بعد ذلك صعد إلى غرفته، واختلى بنفسه هناك مدة ساعتين تقريباً. كان يبكي وهو يستعيد ذكريات أيامه الطويلة التي قضاها هنا، وكان الناس والطلاب المحيطون بالبيت يسمعون نشيج الشيخ فتدمع أعينهم كذلك.

وإنه لمظهر من مظاهر تجليات الرحمة الإلهية اللانهائية. ففي زمن قد سلف، نفي من شرقي الأناضول إلى أرجاء «إسبارطة»، ومنها إلى ناحية «بارلا» بين الجبال، لعله يموت هنا ويخبو ذكره. ولكن لم تثنه عن سبيل دعوة القرآن والإيمان حوادث العصر التي أحاطت بالأمم والشعوب وغيرت العقول والتصورات. فقد أيقن بيقين إيماني في روحه، بأن الشعب سوف يحتضن يوماً الحقيقة التي يدعو إليها، وسوف يكون سعيد الوحيد، ألف سعيد، ومائة ألف سعيد، وبأن فتوحات وانتشار الحقائق الإيمانية التي يخاطب بها الإنسانية آتية لا محالة، وبأن غيوم الظلمات المحيطة بالآفاق الإسلامية زائلة بنور الهداية التي اقتبسها من القرآن، وينشط الروح من جديد في الإيمان الذي يظنونه آيلاً إلى الموت، فيبعث النفوس ويعيد الحياة إلى أمة الإسلام.