سنة 1956

محكمة أفيون تبرئ ساحة رسائل النور

كانت محكمة أفيون قد شكلت لجنة من الخبراء لتدقيق رسائل النور سنة 1948م وإبداء الرأي حولها، ورؤية ما إذا كانت تحوي ما يؤاخذ عليه القانون التركي.

وقد استمرت هذه المحكمة طوال ثماني سنوات وأخيراً أصدرت قرارها في 11/9/1956 استناداً إلى التقرير المقدم من لجنة الخبراء في 25/5/1956 بأن هذه الرسائل تخلو من أي عنصر مخالف للقانون.

طبع رسائل النور

كان هذا القرار يعني إمكانَ طبع رسائل النور وتوزيعها علناً، وفعلاً شمّر طلاب النور عن سواعدهم، فبدأت المطابع في إسطنبول وفي أنقرة، وفي صامسون وفي أنطاليا بطبع هذه الرسائل. وكانت الملزمات يؤتى بها إلى الأستاذ قبل الطبع فيقوم بتصحيحها.

كان الأستاذ فرحاً بطبع رسائل النور ويقول: «هذا هو عيد رسائل النور. كنت أنتظر مثل هذا اليوم، لقد انتهت مهمتي إذن، وسأرحل قريبا».

وعندما كان يخرج لأمرٍ ما سرعان ما يعود قائلاً لطلابه: لا بد أن الملزمات قد جاءت.. لا يجوز لنا أن ندعها تنتظر. يجب العودة حالا.

سنة 1957

في الانتخابات العامة

جرت الانتخابات العامة في تركيا في هذه السنة، وكان هناك حزبان رئيسان يتنافسان فيها على الحكم وهما: الحزب الديمقراطي الحاكم وحزب الشعب الجمهوري المعارض مع أحزاب صغيرة لا تؤثر كثيراً في سير الانتخابات.

وبالرغم من أن الحزب الديمقراطي لم يكن حزباً إسلامياً، إلّا أن جو الحرية الذي ساد تركيا عقب توليه الحكم، وانحسار موجة العداء الوحشي للإسلام، كل ذلك كان يعطي مسوغاً كافياً للحركات الإسلامية في تركيا أن تصوت بجانب الحزب الديمقراطي.

ومع أن الأستاذ سعيد النُّورْسِيّ لم يدخل الحياة السياسية ولم يؤلف حزباً سياسياً ولم يعلن عن أية نشاطات سياسية كانت، إلّا أنه قرر التصويت للحزب الديمقراطي في تلك الأيام ليحول دون مجيء حزب الشعب إلى السلطة. وفعلاً ذهب إلى صندوق الاقتراع وأدلى بصوته لصالح الحزب الديمقراطي.

الأيام الأخيرة

قضى الأستاذ سعيد مع طلبته سنواته الأخيرة في مدينة إسبارطة، وكان أحياناً يقوم بزيارة بارلا وكذلك أميرداغ. ولتقدمه في السن فإنه كان في أكثر الأحيان طريح الفراش.

كان قليل اللقاء بالناس ولا يستطيع قبول زيارة المئات من الزوار وكان يقول: «إن قراءة رسائل النور أفضل مائة مرة من الحديث معي».

وكان طلابه يقدرون وضعه، فلا يدخلون عليه إلا إذا طلبهم، ومع ذلك فإنه لم يكن منقطعاً عن العالم الخارجي كلياً، إذ كان يتتبع الأخبار وعيّن أحد طلبته ليقرأ له أهم ما في الجرائد. فكان يهتم بأخبار طبع رسائل النور وبالمحاكمات المتعددة لطلاب النور.

قضية أنقرة

في 16/4/1958 اعتقل جميع من كان في خدمة الأستاذ من طلاب النور والذين يعملون في نشر الرسائل في أنقرة وإسطنبول وإسبارطة. وقد تقدّم للدفاع عنهم المحامي «بكر برق»  واجتمع هذا المحامي في سجن أنقرة بطلاب النور المسجونين وقال لهم: «إنني أحب أن آخذ رأيكم في مسألة تخصكم. فهل تحبون أن أسعى إلى إطلاق سراحكم من السجن في اقرب فرصة، أم ترغبون أن أسعى للدفاع عن دعوتكم وشرحها دون الاهتمام بقضية إطلاق سراحكم؟»أجاب طلاب النور معاً: «نرجو منك أن تحصر جهدك في بيان وشرح دعوتنا السامية فنحن راضون أن نبقى في السجن سنوات عديدة».

وقد أدرك هذا المحامي أنه ليس أمام أناس اعتياديين، بل هو أمام أناس نذروا أنفسهم لدعوتهم، وقد أخذ هذا المحامي على نفسه مهمة الدفاع في جميع المحاكم التي سيق إليها طلاب النور.. وما أكثرها!

لقاء الوداع

بدأ الأستاذ سعيد النُّورْسِيّ في أواخر أيامه بسلسلة من السفرات وكأنه كان يريد أن يودّع طلابه.

ففي 19/12 لسنة 1959 سافر إلى أنقرة، ومنها إلى أميرداغ، ومنها إلى قونيا، ومنها إلى أنقرة أيضاً، ومنها إلى إسطنبول في 1/1/1960 حيث بقى فيها يومين، ثم رجع إلى أنقرة مرة أخرى في 3/1/1960 وألقى على طلابه «الدرس الأخير». وقد أجرى مندوب صحيفة «تايمس» اللندنية معه تحقيقاً صحفياً طويلاً، ونشر في 6/1/1960. ثم رجع إلى قونيا، ومنها -وفي اليوم نفسه- توجّه إلى إسبارطة.

هذه الزيارات المتلاحقة، أثارت رعب الأوساط المعادية للإسلام وسخطهم، فأخذت صحفها تشن حملة عنيفة على الأستاذ وتثير الرأي العام ضده مختلقة سلسلة من الأكاذيب والافتراءات، وكأن هناك فتنة دامية ستحل بالبلد.

لذلك فما إن رجع إلى أنقرة 11/1/1960 حتى أبلغته الحكومة بأن من الأفضل له أن يقيم في أميرداغ. وفعلاً رجع الأستاذ إلى أميرداغ، ولكنه طلب من الحكومة أن تسمح له بالإقامة شهراً في أميرداغ، وشهراً في إسبارطة.

في 20/1/1960 توجه الأستاذ بديع الزمان من أميرداغ إلى إسبارطة، وبعد أن أمضى مدة فيها توجه إلى أفيون، وبعد أن أمضى فيها يوماً واحداً قفل راجعاً إلى أميرداغ.

الدرس الأخير حول العمل الإيجابي البنّاء

الذي ألقاه الأستاذ النُّورْسِيّ قبل وفاته على طلبة النور

«إخواني الأعزاء!

إن وظيفتنا هي العمل الإيجابي البنّاء وليس السعي للعمل السلبي الهدام. والقيام بالخدمة الإيمانية ضمن نطاق الرضى الإلهي دون التدخل بما هو موكول أمره إلى الله. إننا مكلفون بالتجمل بالصبر والتقلد بالشكر تجاه كل ضيق ومشقة تواجهنا وذلك بالقيام بالخدمة الإيمانية البناءة التي تثمر الحفاظ على الأمن والاستقرار الداخلي.

أقول متخذاً من نفسي مثالاً: إنني لم أنحن تجاه التحكم والتسلط منذ القدم. وهذا ثابت بكثير من الحوادث. فمثلاً: عدم قيامي للقائد العام الروسي، وكما أنني لم أعر أية أهمية على أسئلة الباشوات في ديوان المحكمة العسكرية العرفية الذين كانوا يهددوني بالشنق والإعدام. وطوري هذا تجاه القواد الأربعة تُبين عدم قبولي للتحكم والتسلط. إلّا أنني قابلت المعاملات الشائنة بحقي منذ ثلاثين سنة الأخيرة بالرضى والقبول، ذلك من أجل السعي للعمل الإيجابي والاجتناب عن السعي للعمل السلبي لئلّا أتدخل بما هو موكول أمره إلى الله. بل قابلتها بالرضى والصبر الجميل اقتداءً بنبي الله جرجيس عليه السلام وبالصحب الكرام الذين قاسوا كثيراً في غزوة بدر وغزوة أحد.

فمثلاً: إنني لم أدعُ حتى على المدعي العام الذي اتخذ علينا القرار الجائر رغم أنني قد أثبت أخطاءه البالغة واحداً وثمانين خطأً. لأن المسألة الأساسية في هذا الزمان هو الجهاد المعنوي، وإقامة السد المنيع أمام التخريبات المعنوية، وإعانة الأمن الداخلي بكل ما نملك من قوة.

نعم، إن في مسلكنا قوة. إلّا أننا لم نقم باستعمالها إلّا في تأمين الأمن الداخلي. لذا قمت طوال حياتي بتحقيق الأمن الداخلي اتباعاً لدستور الآية الكريمة: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰى﴾ (أي لا يجوز معاقبة إنسان بجريرة أخيه أو أحبائه). إن هذه القوة لا يمكن استعمالها إلّا ضد الهجمات الخارجية. إن وظيفتنا -وفق دستور الآية الكريمة المذكورة- هي الإعانة على ضمان الأمن الداخلي بكل ما نملك من قوة. لهذا السبب لم تشتعل نار الحروب الداخلية المخلة بنظام الأمن الداخلي في العالم الإسلامي إلّا بنسبة واحد من الألف. وهذا كان من جراء الاختلاف في الاجتهاد. إن أعظم شرط من شروط الجهاد المعنوي هو عدم التدخل بالوظيفة الإلهية. أي بما هو موكول إلى الله. بمعنى أن وظيفتنا الخدمةُ فحسب، بينما النتيجة تعود إلى رب العالمين، وأننا مكلفون ومرغمون في الإيفاء بوظيفتنا.

وأقول كجلال الدين خوارزم شاه: «إن وظيفتي هي الخدمة الإيمانية، أما النصر أو الهزيمة فمن الله سبحانه». وإنني قد تلقيت درس التقلد بالإخلاص التام من القرآن الكريم.

أجل، يستوجب مجابهة الهجمات الخارجية بالقوة، لأن أموال العدو وذراريه تكون بمثابة غنيمة للمسلمين. أما في الداخل فالأمر ليس هكذا. ففي الداخل ينبغي الوقوف أمام التخريبات المعنوية بشكل إيجابي بناء، بالإخلاص التام. إن الجهاد في الخارج يختلف عما هو في الداخل. وقد أحسن إليّ المولى سبحانه وتعالى بملايين من الطلاب الحقيقيين. فنحن نقوم بالعمل الإيجابي البناء بكل ما نملك من قوة في سبيل تأمين الأمن الداخلي. فالفرق عظيم بين الجهاد الداخلي والخارجي في الوقت الحاضر.

وهناك مسألة أخرى في غاية الأهمية. وهي أن متطلبات المدنية الدنية (الدنية بالنسبة لأحكام القرآن الكريم) في يومنا هذا قد زيّدت الحاجات الضرورية من الأربعة إلى العشرين. فجعلت الحاجات غير الضرورية بمثابة الحاجات الضرورية بالإدمان والاعتياد والتقليد. فتجد من يفضل الدنيا على الآخرة رغم إيمانه بها لانهماكه بالأمور المعاشية والدنيوية ظناً منه أنها ضرورة.

قبل أربعين سنة أرسل إلي قائد عام عدداً من الضباط وحتى بعضَ العلماء الأئمة من أجل أن يعيدوني شيئا إلى الأمور الدنيوية. فقالوا: «نحن الآن مضطرون». أي إننا مضطرون في تقليد بعض الأصول الأوروبية وموجبات المدنية حسب القاعدة المعروفة: «إن الضرورات تبيح المحظورات». قلت لهم: إنكم منخدعون تماماً؛ لأن الضرورة النابعة من سوء الاختيار لا تبيح المحظورات. فلا يجعل الحرام بمثابة الحلال. بينما إن لم تنبع من سوء الاختيار، أي إن لم تأت الضرورة عن طريق الحرام فلا ضير. فمثلاً: إذا سكر شخص بسوء اختياره بشربه الحرام، ثم اقترف جريمة وهو سكران، فإن الحكم يجري عليه ولا يكون بريئاً بل يعاقب. ولكن إذا قام طفل مختل العقل بقتل شخص ما -وهو في حالة الاختلال- فهو معذور ولا يعاقب. لأنه لم يقترف الجريمة بإرادته. وهكذا قلت للقواد والأئمة: أيّ الأمور تُعد ضرورية مما سوى الأكل والعيش؟. فالأعمال النابعة من سوء الاختيار والميول غير المشروعة لا تكون عذراً لجعل الحرام حلالاً. فإذا أدمن الإنسان نفسه على شيء كمتابعته للأفلام في السينما وارتياده المسرح والرقص بكثرة، وهذه الأمور ليست ضرورية قطعاً، بل نابعة من سوء الاختيار، لذا لا تكون كافية لجعل الحرام حلالاً. وحتى القانون الإنساني قد أخذ هذه الأمور بنظر الاعتبار، وميز بين الضرورة القاطعة غير الداخلة ضمن إطار الاختيار والأحكام الناشئة من سوء الاختيار. إلا أن القانون الإلهي قد فرق بينهما بشكل أساس وثابت راسخ ومحكم.

إخواني! لا تهاجموا بعض العلماء الذين ظنوا بعض إلجاءات العصر ضرورة، وركنوا إلى البدع. لا تصادموا هؤلاء المساكين الذين ظنوا الأمر «ضرورة»، بدون علم وعملوا وفقها. ولهذا فنحن لا نقوم باستعمال قوتنا في الداخل. فلا تتحرشوا بهم وإن كان المعارضون لنا من العلماء الأئمة. إنني قد تحملت وحدي المعارضات كافة، ولم أفتر مقدار ذرة قط. ووفّقت في تلك الخدمة الإيمانية بإذن الله. فالآن رغم وجود ملايين من طلبة النور، فإنني أسعى بالعمل الإيجابي وأتحمل جميع مظالمهم وإهاناتهم وإثاراتهم.

إننا لا نلتفت إلى الدنيا، فإذا ما نظرنا إليها فنحن لا نسعى إلى ما سوى لمعاونتهم فيها. فنحن نعاونهم في تأمين الأمن بشكل إيجابي. وبسبب هذه الحقائق وأمثالها نحن نسامحهم حتى لو عاملونا بالظلم.

إن نشر رسائل النور قد أورث قناعة تامة بأن الديمقراطيين يساندون الدين ولا يخالفونه. لذا فإن التعرض للرسائل يكون ضد منفعة الوطن والملة.

وها مثالاً صغيراً لقاعدة: «إنّ ضرورةً نبعت من سوء الاختيار لا تكون سبباً لجعل الحرام حلالاً»: كانت هناك رسالة خاصة سرية قد منعتُ نشرها، ووصيت تلاميذي بنشرها بعد وفاتي، إلّا أن المحاكم قد عثرت عليها وطالعتها بدقة ثم قضت بالبراءة. وأيدت محكمة التمييز هذه البراءة. وأنا بدوري أذنتُ بنشرها من أجل تأمين الأمن الداخلي والحيلولة دون أن يمس خمساً وتسعين بالمائة من الأبرياء ضرر، وقلت: يمكن نشرها بالاستشارة…

المسألة الثالثة:

يسعى الكفر المطلق حالياً لنشر جهنم معنوي رهيب، بحيث يلزم أن لا يقترب منه أي إنسان في العالم أجمع. ولكن أحد أسرار كون القرآن الكريم «رحمة للعالمين» هو: مثلما أنه رحمة للمسلمين جميعاً، فهو رحمة لجميع الكفار أيضاً وبني آدم أجمع، حيث يورثهم احتمال وجود الآخرة ووجود الله سبحانه، فيخفف عنهم بهذا الاحتمال شيئاً من الجحيم المعنوي الذي يكتوون بناره في هذه الحياة الدنيا. وهذا سر دقيق من أسرار كون القرآن رحمة للخلق أجمعين. إلّا أن قسم الضلالة من العلم والفلسفة، أي غير المتوافق مع القرآن الكريم والمنحرف عن الصراط السوي قد بدأ بنشر الكفر المطلق على طراز الشيوعيين. فبدأ بتطعيم أفكارهم المولدة للفوضى والإرهاب ونشرها بوساطة المنافقين والزنادقة وبوساطة قسم من السياسيين الكفرة. علماً أن الحياة لا يمكن أن تسير بدون دين. ومبدأ «لا حياة لأمة بلا دين» تشير إلى هذه النقطة. إذ لا يمكن العيش-في حقيقة الحال- بالكفر المطلق. ولهذا فإن إحدى المعجزات المعنوية للقرآن الحكيم أنه قد منح هذا الدرس لطلاب رسائل النور ليكونوا سداً أمام الكفر المطلق والإرهاب في هذا القرن. وحقاً إن الرسائل أدت دورها. نعم، إن هذا الدرس القرآني هو الذي وقانا من هذا التيار الجارف الذي استولى على الصين ونصف أوروبا ودول البلقان وأقام سداً أمام هذا الهجوم. وهكذا وُجد حل سليم أمام هذا الخطر الداهم.

إذن لا يمكن لمسلم أن يخرج عن الإسلام ويتنصّر أو يتهود أو يكون بلشفيا… لأن النصراني إذا أسلم فإن حبَّه لعيسى عليه السلام يزداد أكثر. واليهودي كذلك يزداد حبه لموسى عليه السلام بعد دخوله للإسلام. ولكن المسلم إذا ارتد وحل ربقته من سلسلة الرسول محمد ﷺ وتخلى عن الدين الحنيف فلا يمكن له أن يدخل أي دين آخر بل يكون إرهابياً. ولا يبقى في روحه أي نوع من الكمالات. بل يتفسخ وجدانه، ويكون بمثابة سم قاتل للحياة الاجتماعية.

لذا نشكر الله عز وجل أن قد بدأ بالانتشار درسٌ من دروس القرآن المعجز لينقذ هذا العصر باسم رسائل النور بين ملة الترك والعرب باللغة التركية والعربية. وقد تحقق أنها مثلما أنقذت قبل ست عشرة سنة إيمان ستمائة ألف شخص. فإنها الآن قد تجاوز هذا العدد إلى الملايين من الناس. وكما أن رسائل النور أصبحت وسيلة لإنقاذ الإنسانية من الإرهاب -شيئاً ما- أصبحت وسيلة للتآخي والوحدة بين الأخوين الجليلين للإسلام وهما العرب والترك، وكذلك أصبحت وسيلة لنشر الأحكام الأساسية للقرآن الكريم حتى بتصديق أعدائها.

فمادام الكفر المطلق يقف حائلاً أمام القرآن الكريم في هذا العصر، وأن الكفر يضمر في ثناياه في هذه الحياة الدنيا جهنما معنوية تفوق جهنم نفسها، حيث إن الموت لا يمكن قتله، بل تشهد كل يوم ثلاثون ألفاً من الجنائز على استمرارية الموت، فإن هذا الموت هو بمثابة جهنم معنوية تفوق عذاب جهنم نفسها عشرات المرات لمن وقع في الكفر المطلق أو لمن يساند الكفر المطلق، نظراً لأنه يفكر في الموت أنه إعدام أبدي له ولأحبائه الذين مضوا والآتين معاً. لأن كل شخص كما يكون سعيداً بسعادة أحبائه، يتعذب بعذابهم. فالذي يكفر بوجود الله تمحى عنده جميع تلك السعادات، وتحل العذاب محلها. لذا هناك حل وحيد في هذا العصر ليزيل هذا الجحيم المعنوي من قلب الإنسان؛ ألا وهو القرآن الحكيم، وأجزاء رسائل النور التي هي المعجزة المعنوية للقرآن الكريم والتي كتبت وفق أفهام أبناء هذا العصر.

نحن الآن نشكر الله عز وجل، إذ قد شعر-إلى حد ما- أحدُ الأحزاب السياسية هذا الأمر فلم يقم بمنع هذه المؤلفات. ولم يمنع نشر رسائل النور التي تثبت بأن الحقائق الإيمانية تذيق أهل الإيمان جنة معنوية في هذه الدنيا. بل سمح على نشرها وتخلى عن مضايقة ناشريها.

إخواني! إن مرضي قد اشتد كثيراً، ولعلي أتوفى قريباً، أو أمنع من المكالمة كلياً -كما كنت أمنع أحياناً منها- لذا فعلى إخوتي في الآخرة أن يتجاوزوا عن الهجوم على أخطاء بعض المخطئين المساكين، وليعدّوها من قبيل «أهون الشرين». وليقوموا بالعمل الإيجابي دائماً. لأن العمل السلبي ليس من وظيفتنا. ولأن العمل السلبي في الداخل لا يُغتفر. ومادام قسم من السياسيين لا يلحقون الضرر برسائل النور، بل يتسامحون قليلاً. لذا انظروا إليهم كأهون الشرين. ومن أجل التخلص من أعظم الشر فلا تمسوهم بضرر بل حاولوا أن تنفعوهم.

وإن الجهاد المعنوي في الداخل هو العمل ضد التخريبات المعنوية وإنه ليس مادياً قط.. وإنما يستوجب القيام بخدمات معنوية. لذا فكما لم نتدخل بأمور أهل السياسية، فلا يحق لأهل السياسة أن ينشغلوا بنا.

فمثلاً: لقد سامحت عن جميع حقوقي وعفوت عن حزب من الأحزاب السياسية رغم مقاساتي منه ألوفاً من المضايقات والسجون منذ ثلاثين سنة. فقد أصبحتْ جميع تلك المشقات والمضايقات وسيلةً لخلاص خمسة وتسعين بالمائة من المساكين من أن يسقطوا في مضايقات ومظالم واعتراضات.حيث أسند الذنب إلى خمسة بالمائة من ذلك الحزب، بحكم الآية الكريمة: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰى﴾ فلا يحق إذن لذلك الحزب الذي عادانا القيام بالشكوى منا بأي وجه كان.

حتى إن المدعي العام الذي طالب في إحدى المحاكم -من جراء الأوهام الخاطئة لبعض المخبرين والجواسيس- بإنزال الحكم علينا نحن السبعين متهماً، مستنداً إلى سوء فهمه وعدم تدقيقه، وبإسناد معنى خطأ لقسم من رسائل النور، فسعى بالحكم علينا بهذه الأخطاء التي كانت تنوف على ثمانين خطأً، كما أثبتنا أخطاء تلك الأخطاء، وكان أحد إخوانكم الذي تعرض أكثر من غيره لمثل تلك الهجمات الظالمة، مسجوناً وقد شاهد طفلة صغيرة من خلال نافذة السجن فسأل عنها فقيل له إنها ابنة ذلك المدعي العام، فلم يقم حتى بالدعاء على ذلك المدعي العام لأجل تلك الطفلة البريئة المسكينة. ولعل تلك المشقات والاضطرابات التي ألقاها علينا المدعي العام انقلبت إلى رحمة، نظراً لأنها أصبحت وسيلة لنشر رسائل النور تلك المعجزة المعنوية.

إخواني! ربما أموت قريباً. فإن لهذا العصر مرضاً داهماً، وهو الأنانية وحب النفس، واشتهاء قضاء حياة جميلة في ظل مباهج وزخارف المدنية الجذابة وأمثالها من الأمراض المزمنة. إن أول درس من دروس رسائل النور الذي تلقيته من القرآن الكريم، هو التخلي عن الأنانية وحب النفس، حتى يتم إنقاذ الإيمان بالتقلد بالإخلاص الحقيقي. ولله الحمد والمنة، فقد برز في الميدان كثيرون ممن بلغوا ذلك الإخلاص الأعظم الحقيقي. فهناك الكثيرون ممن يضحون بأنانيتهم وبمنصبهم وجاههم في سبيل أصغر مسألة إيمانية. وحتى قد أخفت صوت لأحد طلاب النور وهو الضعيف المسكين من قبل الرحمة الإلهية عندما أصبح أعداؤه أصدقاء له وكثر الخطاب معه. ويتألم من أنظار من ينظر إليه بنظر تقدير واستحسان. إضافة إلى أنه يتضايق من المصافحات كأنه يتلقى الصفعات. فسئل عنه «ما حالك؟ فما دام لك أصحاب يتجاوزون الملايين، فلماذا لا تحافظ على احترامهم لك وتوقيرهم إياك؟»

فأجاب قائلاً: مادام الإخلاص التام هو مسلكنا. فبمقتضى الإخلاص التام لا بد من التضحية والفداء ليس بالأنانية فحسب، بل لو منحت سلطنة الدنيا لوجب تفضيل مسألة إيمانية واحدة باقية على تلك السلطنة. لذا فقد فضل نكتة دقيقة قرآنية في آية واحدة أو في حرف منها في الحرب، وفي الخط الأمامي بين قنابل مدافع الأعداء فأمر طالبه المسمى بـ«حبيب»: أن «أخرج الدفتر» فأملي عليه تلك النكتة وهو يمتطي صهوة جواده. أي إنه لم يترك حرفاً واحداً ونكتةً واحدة من القرآن الكريم مقابل قنابل الأعداء بل فضلها على إنقاذ حياته.

فسألنا ذلك الأخ: «من أين تلقيت هذا الإخلاص العجيب». فقال: من نقطتين:

الأولى: إن في غزوة بدر التي هي من أعظم الغزوات الإسلامية، وضع قسم من المجاهدين أسلحتهم ووقفوا لأداء الصلاة جماعة، بينما القسم الآخر وقفوا مسلحين حذرين، ثم التحقوا بالصلاة كسبا لثواب الجماعة كما أمر به رسول الله ﷺ. فمادامت هذه الرخصة موجودة في الحرب. ومادام ثواب الجماعة رغم كونه سنة قد فضّل على أكبر حادثة في الدنيا لأجل رعاية تلك السنة النبوية فنحن نستلهم من الرسول الأعظم ﷺ هذه النكتة الصغيرة ونتبعها بروحنا وأنفسنا.

الثانية: إن الإمام علي رضي الله عنه قد طلب من الله سبحانه وتعالى في أماكن كثيرة من قصيدته «البديعية» ولاسيما في أواخرها حاميا يحميه من طروء الغفلة في خشوعه عند وقوفه في الصلاة. فطلب من الرب الجليل عفريتاً من الجن ليحميه مما يمكن أن يحدثه الأعداء من خلل في اطمئنانه وخشوعه في الصلاة.

إن أخاكم هذا المسكين الضعيف، الذي قضى صفوة عمره في الأنانية في هذا الزمان، قد تلقى هاتين النكتتين الصغيرتين من سيد الكونين الذي هو سبب خلق الأفلاك، ومن الذي هو أسد الإسلام. وفي زماننا هذا قد أعطى هذا المسكين الضعيف أهمية لأسرار القرآن ولم يعر سمعاً لحماية نفسه من الأعداء في الحرب، فبيّن نكتة واحدة فقط من حرف واحد من القرآن الكريم».

 سعيد النُّورْسِيّ