الرحيل

في 19/3/1960 يوم السبت وصل الأستاذ إلى إسبارطة وكان الوقت بعد صلاة العصر وقبلها جاء الشرطي ليستفسر عنه قائلاً: إن الأستاذ قد غادر أميرداغ.

قلنا لهم: لم يأت إلينا!

وفعلاً بعد مضي ساعة واحدة أتى الأستاذ بالسيارة، وما إن سمعنا تنبيه السيارة حتى نزلنا وفتحنا الكراج، ودخلت السيارة ثم قفلنا الأبواب.

كان الأستاذ متمدداً على ظهره في المقعد الخلفي للسيارة والمرض قد اشتد عليه. أخذناه بأحضاننا لنخرجه من السيارة. وعندما صعدنا السلم أردنا أن نحمله على ظهورنا، فلم يقبل. فأدخلنا -أنا والأخ طاهري- أيدينا تحت إبطيه حتى أوصلناه إلى الغرفة، وأجلسناه مكانه ثم تمدد في فراشه. كانت درجة حرارته عالية جداً، لذا لم نفارقه قط، حتى إننا كنا نصلي فرادى كي نتناوب البقاء معه للرعاية والسهر عليه.

كنا نحن الأربعة «أنا وزبير  وحسني وطاهري» عند الأستاذ. وفي منتصف الليل كنت أنا مع الأخ زبير نتناوب الخفارة عنده. فيرخى أحدنا يده ويدلكها والآخر يدلك رجليه. فنظر الأستاذ اليّ قائلاً: سنذهب.

قلت: نعم، سنذهب يا أستاذي، ولكن إلى أين؟.

قال: إلى «أورفة»… إلى «دياربكر»…

وكرر قوله: سنذهب.

ولما قلت: إلى أين يا أستاذي؟

قال: إلى «أورفة».

قال الأخ زبير: ربما يقول هذا تحت وطأة الحمى التي تنتابه!

وفي حوالي الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل بدأ الأستاذ يكرر القول نفسه: «سنذهب في الصباح الباكر إلى أورفة».

فكان يؤكد على أورفة.

ثم جاء الأخ «طاهري» و«حسني» لكي يستلما دورهما في الخفارة. وذهبنا أنا والأخ زبير لتناول السحور حيث كنا في العشر الأواخر من رمضان المبارك..

ولقد قال الأستاذ أيضاً للأخ حسني: «تهيأوا للذهاب إلى أورفة». ولكن الأخ حسني بيّن أن إطارات السيارة لا تصلح للسفر.

وكرر الأستاذ مرة أخرى: «سنذهب إلى أورفة مهما كلف الأمر، استأجِرُوا سيارة ولو بمائتي ليرة.. أبيع جبتي إذا اقتضى الأمر».

بدأنا بتهيئة السيارة للسفر، ورأيت أن إطارات السيارة فعلاً غير صالحة، ولا يمكننا الحصول على إطارات جديدة في هذا الوقت… وعندما كنا منهمكين في تهيئة السيارة جاء الأخ طاهري مسرعاً لمعاونتنا حيث أرسله الأستاذ إلينا، وأخبرنا أن الأستاذ يطلب الإسراع في الأمر.

تهيأت السيارة، والأستاذ نفسه مستعد للسفر، وأنا كنت انتظر الإشارة من الأستاذ كي أشاركهم في السفر، إذ كان الأخ زبير يقول منذ المساء: «ليت الأخ «بايرام» يكون معنا، فيساعدنا في الطريق. فربما نجد صعوبة دونه».

لذا، لدى خروج الأستاذ من الباب سأل الأخ زبير الأخ طاهري: «هل سيأتي «بايرام» أيضاً؟»

فقال الأستاذ: «نعم، إنه سيكون معنا».

فوضعنا الأستاذ في المقعد الخلفي من السيارة بعدما فرشنا له فراشاً عليه ليجد الراحة. وجلست مع الأخ زبير في المقعد الأمامي مع السائق.

في 203/03/ 1960 والساعة تشير إلى التاسعة صباحاً، كان ثمة شرطيان يراقباننا في الشارع، حيث اشتد هجوم المعارضة على الحكومة حتى أذيع في الراديو:

«على بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ البقاء في إسبارطة أو أميرداغ».

وقبل أن تتحرك السيارة جاءت صاحبة البيت «السيدة فطنة» إلى سيارة الأستاذ، فودعها الأستاذ قائلاً: «أختي! أستودعكن الله نرجو دعاءكن، فأنا مريض جداً..»

كان الأستاذ يقول هذا بحزن شديد، حيث إن اللحظات هي لحظات فراق، حتى إن عيون صاحبة البيت طفحت بالدموع.. وقد قالت للأخ طاهري: «إنني -والله- وجلة من سفر الأستاذ في هذه المرة، إنه ذاهب ليبحث عن مستقره (أي قبره)».

وقبل المغادرة أوصينا الأخ طاهري بعدم فتح الباب لأي طارق، وأن يذهب لينام. فنفذ الأخ ما أوصيناه.

فبدأ الشرطة يسألون صاحبة البيت: «ألا تعلمين، متى ذهب الأستاذ وإلى أين؟»

فكانت تجيبهم: «وهل أنا حارسة، كيف أدري، وأنتم لا تدرون..؟»

كانت الأمطار تهطل بغزارة أثناء مغادرتنا إسبارطة، وكنا نخاف كثيراً من كيد والي «قُونيا» حيث كان يصرح للصحف: «سأجتث جذور طلاب النور وأقلعها من الأعماق».

لذا كنا نقرأ على طول الطريق آية الكرسي وباستمرار دفعاً لشره.

اشتد المطر نازلا بغزارة أكثر عند وصولنا إلى «أغريدر» بحيث لم يبق أحد من الشرطة في الشارع، فدخلوا جميعاً إلى بناية مركز الشرطة، حتى إننا مررنا من أمام المركز ولم يرنا أحد. وهكذا تركنا المدينة. ثم وضعنا الطين على لوحة السيارة لئلا يرانا أحد من المراقبين. وبعد أن تركنا «قره أغاج» أصبح الأستاذ في عافية، فنـزل من السيارة وجدد الوضوء. وبعد أن قطعنا مسافة عدة كيلومترات من هناك وقفنا على شمال الطريق عند النبع، فصلى الأستاذ فوق صخرة هناك، ثم بدأنا السير، وقبل أن نصل «قونيا» أنهى الأستاذ أذكاره وأوراده، واستعدل في مكانه على المقعد الخلفي، ولكن ما إن وصلنا حدائق «مرام» في ضواحي قونيا حتى اشتد مرض الأستاذ مرة أخرى ولم يتمكن من النطق. فدخلنا المدينة واشترينا فيها من دكان زيتوناً وجبناً استعداداً للإفطار، ودفع الأستاذ ثمنه وقال: «أبنائي أنا مريض جداً، كلوا أنتم بدلاً عني».

وبفضل الله فقد وسعتنا عنايته الكريمة حيث لم يشاهدنا -والحمد لله- أحد في المدينة، بل ولا في المدن التي تلت قونيا.

وقبل وصولنا إلى «أرَكْلي» جلس الأستاذ في مكانه ومد يديه ماسكاً أذني وأذن الأخ زبير من الخلف قائلاً لنا: «أبنائي، لا تخافوا أبداً، فقد قصمت رسائل النور ظهر الملحدين والشيوعيين، فرسائل النور غالبة دائماً بإذن الله».

كرر هذا القول عدة مرات، وكان صوته واطئاً جداً بحيث لا نكاد نسمعه، ثم قال: «هؤلاء لم يفهموني، هؤلاء لم يفهموني، هؤلاء لم يفهموني، هؤلاء أرادوا أن يلوثوني بالسياسة».

ثم نزلنا من السيارة لأداء صلاة العصر. ولكن الأستاذ ظل داخل السيارة وصلى هناك.

وعندما حان وقت المغرب وصلنا «أولو قشلة» فقال الأستاذ: «هل لنا بشيء من الأكل؟»

فنزلنا -أنا والأخ زبير- واشترينا من المطعم قليلاً من الرز، وأردنا أن نهيئ الطعام، ولكن الموقد الذي نحمله ما كان يصلح لهذا لغرض، فأخذنا موقد حارس سكة الحديد هناك.. كان الجو بارداً جداً، فتوسلت بالحارس ليعيرنا موقده وقلت له: إن معنا شيخاً مريضاً وإن موقدنا معطوب. فرضي الحارس.

بدأنا نحضر الطعام، ظل الأخ زبير مع الأستاذ داخل السيارة. وضعنا قليلاً جداً من الزبدة والبيض مع شيء من اللبن، فأخذ الأستاذ ملعقة منه ليضعه في فمه ولكنه لم يستطع الأكل، لانسداد بلعومه من شدة المرض.

مررنا من «أطَنه» ليلاً ثم من «جيحان»، وصلينا العشاء في ضواحيها. ثم استرخى الأخ حسني لينام ساعة حيث كان يقود السيارة باستمرار. وعند السحور وصلنا «العثمانية» ودخلناها للتزود بالوقود، ولنتناول السحور، إلّا أن الأستاذ لم يذق شيئاً قط. ثم أقمنا صلاة الفجر قرب «ألمان بناري» والأستاذ لم يغادر السيارة. كانوا يطلقون على هذا الجبل سابقاً «كاوورداغي» (أي جبل الكفر) والآن يطلقون عليه «نور داغى» (أي جبل النور).

وعند انبلاج الصباح وصلنا «غازي عنتاب» فاشتريت من المطعم شيئاً من الحساء وسألت عن الطريق إلى «نِزيب»، حيث كانت الثلوج والأمطار تتساقط بشدة. وكان الطريق محفوفاً بالمخاطر فترى السيارات عاطلة على جانبي الطريق، أما سيارتنا -والفضل لله- فكانت تسبق الريح ولم تتعطل لا في إطاراتها ولا في محركها، والحمد لله.

وعندما وصلنا إلى أورفة كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة وكان الأخ حسني على معرفة جيدة بشوارع أورفة.. دنونا من مسجد «قاضي أوغلو» الذي كان الأخ «عبد الله يَكَن» موجوداً فيه، فأوقفنا السيارة قرب المسجد، وأسرع الأخ زبير إلى المسجد لإبلاغ الأخ عبد الله بقدوم الأستاذ، وعندها قال الأستاذ: «لنسرع بالذهاب فلا متسع لنا للانتظار».

جاء الأخ زبير ومعه الأخ عبد الله مسرعاً إلى السيارة، فطلبنا من الأخ عبد الله أن يدلنا على فندق نظيف جداً، فدلنا على فندق «إيبَك بالاس».

حملنا الأستاذ معاً وصعدنا به إلى الطابق الثالث حيث الغرفة رقم (27) ووضعناه على فراشه ليرتاح قليلاً من عناء هذا السفر الطويل.

أما أهالي أورفة فقد كانوا منهمكين بتلاوة القرآن الكريم وختمه، نظراً لأننا كنا في شهر رمضان المبارك. وما إن سمعوا بقدوم الأستاذ إلى مدينتهم حتى هرعوا إلى الفندق وعاتبَنا الكثيرون من عدم إخبارنا لهم مسبقاً بمجيء الأستاذ ليستقبلوه…

بدأ الناس يتقاطرون من كل مكان لزيارة الأستاذ. كان الأخ زبير جالساً على باب الغرفة، يسمح لهم بالدخول واحداً واحداً، أما أنا فقد كنت أمسك بيد الأستاذ وهم يقبلونها، والأستاذ يقبل رؤوسهم، وما كان الأستاذ يرغب بمغادرتهم بينما كنت أقول لهم أرجو أن تخرجوا من الغرفة ليتسنى لغيركم المجيء إلى الأستاذ، فكانوا يخاطبونني: «ألا ترى أن الأستاذ لا يرغب في ذلك».

لقد كنا فعلاً في حيرة من هذا الموقف من الأستاذ، حيث لم نكن قد رأينا مثله من قبل، فما كان الأستاذ ليسمح لأحد بالبقاء عنده سواء أكان في إسبارطة أم في أميرداغ، حتى إننا عندما كنا في إسبارطة ومرض الأستاذ، فقلت له: «يا أستاذي هل أبلغ الإخوان بمرضك؟»

قال: «لا، لا يأتي أحد إليّ دونكم».

بينما هنا في هذه المدينة، لم يكن يردّ أحداً، بل كان يضمهم إلى صدره، فقد أتى لزيارته أهالي المدينة كلهم، ومن التجار كافة، ولم يردّ الأستاذ أحداً منهم. بل كان يتحمل محتسباً ولم يسترح بل لم يذق طعم النوم. وكذلك نحن لم يجد النوم إلى عيوننا سبيلا.

استلمت دوري من الأخ زبير فجلست أمام الباب، وجاء في الحال شرطيان اثنان، قال أحدهما: «تهيؤوا للذهاب! أين السائق؟»

أجبتهم: «الأستاذ مريض جداً».

ثم جاء أحد عشر شرطياً وقالوا: «تهيؤوا حالا! ستذهبون إلى إسبارطة في الحال».

قلت لهم: «سأبلغ الأستاذ بالأمر».

دخلت على الأستاذ وأخبرته بالأمر، فسمح لهم بالدخول إليه، فقالوا: «إن رجوعكم إلى إسبارطة أمر صادر من وزارة الداخلية».

قال لهم الأستاذ: «يا للعجب! لقد أتيت هنا لكي أموت فيه، وربما سأموت، وها أنتم ترون حالي، دافعوا عني».

قال أحدهم: «نحن تحت أوامر السلطة، ماذا نعمل؟»

ثم جاءوا بالأخ حسني مع سيارته أمام الفندق، ليأخذ الأستاذ، وبدأ الناس بالتجمهر أمام الفندق. وصرخ صاحب الفندق من أعلى السلم على الشرطي: «إنه ضيفي. كيف يجوز لكم أن تأخذوه مني؟»

كان الناس في هياج شديد، حتى أخذوا يهتفون قائلين: «كيف يؤخذ ضيف كريم مثل الأستاذ وهو على فراش الموت».

أصبح الناس في حالة لا تسمح للشرطة بالصعود إلى الفندق، وبدؤوا يرجون من السائق أن يبعد السيارة من باب الفندق، ففعل، وعندها هدأ الناس قليلاً وبدؤوا بزيارة الأستاذ مرة أخرى. فجاء موظفو الدولة والشرطة والعسكريون من جنود وضباط وأعضاء الأحزاب.. كلهم لزيارة الأستاذ.

ثم بدأ إصرار الشرطة على مقابلة الأستاذ وإبلاغه بأن الأمر صادر من الجهات العليا وأن علينا الخروج من أورفة حالا. وقالوا: «إن كنتم لا تغادرون المدينة بسيارتكم فسنأخذكم بسيارة إسعاف».

فأجبناهم: «إن أستاذنا مريض، وإن مرضه شديد جداً، لا يستطيع أن يتحمل قطع مسافة يوم كامل في السفر مرة أخرى. فضلا عن أننا لا نتدخل في أموره، وبخاصة وهو في هذه الحالة التي هي أشبه ما تكون بالموت».

قال أحدهم: «إن الأمر قطعي لا مرد له، فهو أمر وزاري، فكما جاء أستاذكم إلى هذه المدينة سيرجع كذلك. اخرجوا من أورفة حالا».

قلنا: «نحن لا نتدخل في أمور الأستاذ، تعالوا قابلوه أنتم بأنفسكم واعرضوا عليه مطالبكم، فإن قال لنا: نذهب، فنحن ذاهبون، لأننا لا نرد قوله أبداً، ولا يمكن أن نبلغه ما تقولونه».

فاستشاطوا غضباً وقالوا:ما هذا؟ ألا تقدرون أن تقولوا له مثل هذا الشيء البسيط؟

– نعم، نحن لا نقول له شيئاً، وكل ما يقوله ننفذه حرفياً.

– ونحن أيضاً مرتبطون بالأوامر الرسمية، فيجب أن تتركوا أورفة في مدة أقصاها ساعتان، وترجعوا إلى إسبارطة.

وعندما سمع الناس بقضية إخراج الأستاذ من أورفة احتشد قرابة ستة آلاف شخص أمام الفندق، وعندها ذهبنا إلى المستشفى لنخبر رئيس الصحة بحالة الأستاذ الصحية وأنه لا يستطيع السفر، وطلبنا منه إجراء الفحص على الأستاذ بنفسه.

أجرى الطبيب الفحص ثم التفت إلينا: «كيف تجرأتم على جلب الأستاذ إلى هنا، فدرجة حرارته عالية، وهو في حالة لا يمكن تحريكه مطلقاً. تعالوا معي لأزودكم بتقرير لجنة الأطباء بأنه لا يمكن أن يحرك من مكانه..»

نفدت طاقتي كلياً بعد صلاة المغرب من كثرة الوقوف والسهر والتعب، فقلت للأخ زبير: «إنني متعب جداً، فلقد أنهكني الوقوف».

قال: «اذهب ونم في الغرفة».

فذهبت ونمت حوالي ساعتين. ثم جاء الأخ زبير إلى الغرفة وقال: «أخي إنني قد نفد صبري، لم أغمض عيني هذا الأسبوع قط.. تعال لنتناوب..»

صلينا العشاء، ثم نام الأخ زبير. بقيت أنا والأخ حسني عند الأستاذ.

ثم قال الأخ حسني: «إن رجليّ بدأتا تؤلمانني من الوقوف والسهر، أريد أن أرتاح قليلاً».

قلت: «إنني مرتاح الآن، اذهب أنت أيضاً للنوم».

بقيت وحدي عند الأستاذ. وكان الأستاذ قد طلب منذ الصباح الباكر قطعة ثلج، لما كان يشعر به من شدة الحرارة، فبحثنا عن الثلج ولم نحصل عليه. وعندما حلّ الليل جاء بعض الأصدقاء وقد حصلوا على الثلج. فقلت: «أستاذي لقد حصلوا على قطع من الثلج!» فأشار بالرفض.

– أستاذي هل أحضر الشاي؟

فأشار بالرفض.

وعندما أشارت الساعة إلى الثانية والنصف ليلاً بدأت شفتا الأستاذ بالجفاف، وكنت أبللهما بمنديل. ثم كلما كنت أريد أن أغطيه يرفض، واستمر هكذا لفترة قصيرة.. أسدلت على المصباح شيئاً ليخفت ضوءه، لئلا يقلق ضوؤه راحة الأستاذ..

بدأت أرخى ساعديه فضمني إليه، ثم وضع يده على صدره، واستسلم للنوم.. فأشعلت المدفأة، وحيث كنت أظنه نائماً. انتظرت أن يصحو على السحور، فكنت أقول في نفسي:سوف يأتي الإخوة الآخرون ونتناول السحور معاً. فوا سذاجتاه! لم أكن أعلم أن الأستاذ قد فارقنا، وأنه قد انتقل إلى عالم الخلود، وأغمض عينه عن هذه الدنيا الفانية.

لم أكن قد رأيت سابقاً مثل هذه الحالة! فأنّى لي أن أعلم!

مضى وقت السحور كثيراً، وجاء الأخ حسني مع الأخ عبد الله وقالا: «لقد نمنا كثيراً أطلنا فيه».

قلت: «سأذهب إلى الغرفة المجاورة لأصلي الفجر، فلا تحركوا ساكناً لأن الأستاذ نائم».

ذهبت إلى الغرفة، صليت الفجر، قرأت الأذكار والأوراد اليومية، مع جزء من القرآن الكريم. وما إن أردت أن أطبق جفني لأنام حتى جاء الإخوة:

– يا أخانا، إن الأستاذ لا يحرك ساكناً.

– الأستاذ نائم فلا توقظوه.

ثم جاؤوا مرة أخرى وقالوا: «إن الأستاذ لا يتحرك أبداً..»

ذهبنا معاً إلى غرفة الأستاذ. جلس الأخ زبير بجانب رأسه ونحن الأربعة ننظر إليه، وليس للأستاذ أية علامة للحركة. ولكن درجة حرارته اعتيادية! فاضطربنا كثيراً. وقال الأخ زبير: «هذه الحالات تتكرر كثيراً لدى الأستاذ».

فخيم علينا الحزن، وعندها قال الأخ زبير: «هناك شخص يعرف مثل هذه القضايا اسمه «عمر أفندي الواعظ».

وحالما أتى الرجل ورأى وضع الأستاذ قال: « ﴿اِنَّا لِلّٰهِ وَاِنَّٓا اِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ إخواني! إن الأستاذ قد مات».

لم أكن أصدق عيني بوفاة الأستاذ قطعاً. إذ عندما كنا في سجن «أفيون» سنة 1949 سمموا الأستاذ، فاحمر لسانه، فكنا نبكي بلا توقف على حاله، وعندها قال الأخ «أحمد فيضي» رحمه الله: «لماذا تبكون يا أطفال! إن حياة الأستاذ طويلة!».

وهنا أيضاً تذكرت قول الأخ أحمد فيضي مسلياً نفسي: ترى هل إن عمر الأستاذ يطول؟

هرع الإخوان ليبعثوا بالخبر إلى ولايات مختلفة من أرجاء البلاد.

سجينا الأستاذ بنسيج قطني رقيق. وبعد هنيهة جاء صاحب الفندق، ولما نظر إلى الأستاذ علم أنه قد توفي، وأخذ يضرب على فخذيه ويصرخ.

وعلى إثره جاء مدير الأمن واستفسر عن اضطراب صاحب الفندق. فأجابه:

– إن بديع الزمان قد مات.

– هل حقاً إنه مات!

– نعم!

فانسحب الشرطة كلهم من أمام الفندق، وجاء الطبيب الخاص ليتأكد من حالة الوفاة وقال: الله.. الله.. إن درجة حرارته مرتفعة جداً، هل لديكم مرآة؟

فوضع المرآة على فم الأستاذ، وتأكد من عدم تنفسه وانقطاعه كلياً، ثم قال: «نعم، إنه ميت! ولكن لا تشبه حالته حالة وفاة.. إنني أشك فيه، ولا أرى دفنه في الحال».

ثم كتب تقريره للمسؤولين.

ثم جاء قاضي التركات، وبدأ يثبت ما ورثه الأستاذ فكان:

ساعة، وسجادة، ولفاف الرأس، وجبة. فأعطي كلها لأخيه عبد المجيد.

بدأت ألوف من أهالي أورفة يحتشدون أمام باب الفندق، وأخبروا الولايات الأخرى كلها بهذا النبأ الفاجع.

أُخذ نعش الأستاذ من الفندق من بعد صلاة الظهر إلى غسله في «دَرْكاه» ووصلنا إليه بعد ساعتين أو أكثر حيث الازدحام كان شديداً جداً فقد أغلق أهالي أورفة محلاتهم. ولما ذهبوا بنعش الأستاذ أغمي عليّ وعلى الأخ حسني.

فخاطبَنا الأخ عبد الله: «هل أنتم أطفال.. أفيقوا!»

ولدى وصولنا إلى «دركاه» ليتم غسل الأستاذ، كان الازدحام لا يطاق حتى تعذر الدخول إلى هناك، ومع ذلك دخلنا واستطعنا أن نغسل الأستاذ هناك، وقام بغسله «ملا حميد أفندي» وهو من علماء أورفة المعروفين.

وساعدَنا في الغسل الإخوان «زبير وحسني وعبد الله وخلوصي».

وبعدما تم الغسل أخذنا نعشه الطاهر إلى «أولو جامع» كي نختم على روحه القرآن الكريم. ظلت الجنازة في تلك الليلة في الجامع، وما إن تنفس الصبح حتى أصبح الازدحام في أورفة شديداً جداً، حيث أتى الناس من كل أنحاء تركيا. وقرأ الجميع الختمة القرآنية حتى الصباح وأهدوا ثوابها إلى روح الأستاذ.

ولشدة الازدحام فقد قدرنا أنه لن يتيسر الدفن في هذا اليوم… فاستدعانا الوالي، وبدأ يرجو منا ويلح بأن يدفن الأستاذ اليوم بعد صلاة العصر بدلا من يوم الجمعة لأن الازدحام أصبح لا يطاق في المدينة.

وفي الحال أُعلنَ عن أن صلاة الجنازة ستقام يوم الخميس بعد صلاة العصر.

حضر الوالي نفسه ورئيس البلدية وأقاموا صلاة الجنازة.

ولقد اندهشنا من ظاهرة عجيبة وهي أنه: عندما كان الأستاذ يُغسل كانت الأمطار تتساقط رذاذاً وشاهدنا عندها طيوراً ذات أشكال غريبة وألوان زاهية، وبأعداد هائلة جداً.

وهكذا دفن الأستاذ يوم الخميس بعد صلاة العصر. ولم يستطع كثير من الناس حضور تشييع الجنازة إلا من جاء بسيارات خصوصية. فلم يلحق من كانوا في أميرداغ، ومنهم الأخ جَيلان، فلقد حزن هذا الأخ حزناً عميقاً على تأخره عن الجنازة وقال: «لقد خدمت الأستاذ سنوات طوالا واليوم يا للأسف لم أحضر وفاته!»

الخاطرة الأخيرة

يقول عبد المجيد شقيق الأستاذ: بعد مرور خمسة أشهر على وفاة شقيقي استُدعيت إلى ديوان الوالي في «قونيا». شاهدت هناك ثلاثة جنرالات معه، خاطبني أحدهم:

لا يخفى عليكم أننا نعيش ظروفاً حرجة، فالزوار من الولايات إلى قبر شقيقكم يزدادون يوماً بعد يوم، فنحن نريد أن ننقل رفاته -بمعاونتكم- إلى أواسط الأناضول. فنرجو توقيع هذا الطلب. ومدوا إليّ بورقة طلب باسمي، قلت بعد قراءتها: ولكني لم أطلب هذا… أرجوكم دعوه ليرتاح في الأقل في قبره! أصروا على موقفهم وقالوا: «لامناص من الأمر».

توجهنا -بعد توقيع الطلب- إلى المطار فأقلتنا طائرة عسكرية إلى أورفة، وفي الثالثة ليلاً ذهبنا إلى المقبرة… كان هناك تابوتان في صحن الجامع مع بعض الجنود. اقترب الطبيب العسكري مني قائلاً: «لا تقلق سننقل الأستاذ إلى الأناضول».

وعلى إثر هذا الكلام أجهشت بالبكاء فلم أتمالك نفسي. أمر الطبيب الجنود بهدم القبر. فكانوا يترددون ويخشون سخط الله عليهم.

فقال الطبيب: نحن مأمورون وليس أمامنا سوى التنفيذ، فقاموا بهدم القبر وإخراج التابوت منه. وعندما فتحوا التابوت. قلت في نفسي: لا بد أن عظام أخي الحبيب قد أصبحت رماداً. ولكن ما إن لمست الكفن حتى خيل لي أنه قد توفي أمس. كان الكفن سليماً إلا أنه مصفر قليلاً من جهة الرأس. وكانت هناك بقعة واحدة على شكل قطرة ماء. وعندما كشف الطبيب عن وجهه، نظرت إليه وإذا عليه شبه ابتسامة. احتضنا ذلك الأستاذ العظيم ووضعناه في التابوت الآخر. وأخذناه إلى المطار. كانت الشوارع خالية من الأهلين ومليئة بالجنود المدججين بالسلاح، حيث أعلن منع التجول في المدينة. جلست بجانب التابوت في الطائرة والحزن والأسى يملآن قلبي، والدموع تملأ عينيّ. اتجهت الطائرة إلى أفيون، ومنها نقل التابوت بسيارة إسعاف إلى إسبارطة حيث دفن في مكان لا يزال مجهولاً». رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

وصية

لقد كان منذ القدم دأب أستاذنا ألّا يتذلل أمام أعظم الرؤساء، حفاظاً على عزة العلم، بل ما كان يقبل هدايا أحد من الناس دون مقابل. والآن وقد أصبح يرفض الهدايا -التي لا ضير من قبولها لدى أهل العلم- بحجة المرض الذي ضعفه أشدّ الضعف، بل يرفض حتى ما نقدّمه له نحن الذين نقوم بخدمته ولو كان شيئا صغيراً، فنراه يتمرض إن تناوله. فاقتنعنا أنه أُخطر إلى قلبه مَنعه من إخلال قاعدته التي اتخذها طوال حياته، وهي ألّا تكون رسائل النور أداة لأي شيء كان حفاظا على الإخلاص التام. ونحن الآن في موسم عيد لرسائل النور حيث تنتشر في الأرجاء كافة. لكننا نجد أن أستاذنا يتضجر من المحاورة ويمتعض من النظر إليه والمصافحة حتى من أخص طلابه وإخوانه.

وشاهدناه يقول في هذه الأيام المباركة للعيد السعيد: «اجعلوا قبري في مكان مخفي غاية الإخفاء، ويلزم ألّا يعرف موضعه أحدٌ عدا واحد أو اثنان من طلابي فقط. هذه وصيتي إليكم؛ فالحقيقة التي منعتني عن المحاورة والمسامرة في الدنيا تمنعني بلاشك بعد وفاتي.

ونحن بدورنا سألنا أستاذنا: إن الذي يزور القبر يقرأ سورة الفاتحة ويُثاب عليها. فما الحكمة من منعكم زيارة قبركم؟ فأجاب: إن الغفلة الناشئة من الأنانية وحب الذات في هذا العصر العصيب تدفع الناس إلى أن يولوا اهتمامهم إلى مقام الميت وشهرته الدنيوية في أثناء زيارتهم القبور، مثلما عمل الفراعنة في الزمن الغابر على تحنيط موتاهم ونصب التماثيل لهم ونشر صورهم رغبة في توجيه الأنظار إليهم، فتوجهت الأنظار إلى المعنى الاسمي -أي لذات الشخص- دون المعنى الحرفي -أي لغيره-.. وهكذا فإن قسماً من أهل الدنيا في الوقت الحاضر يولون توجههم إلى شخص الميت نفسه وإلى مقامه ومنـزلته الدنيوية بدلاً من الزيارة المشروعة لكسب رضاء الله ونيل الثواب الأخروي كما كانت في السابق.

لذا أُوصي بعدم إعلام موضع قبري حفاظا على سر الإخلاص ولئلا أجرح الإخلاص الذي في رسائل النور. فأينما كان الشخص سواء في الشرق أو الغرب وأيا كان فإن ما يقرأه من «الفاتحة» تبلغ إلى تلك الروح.

ومما يلفت النظر أن ما كتبه الأستاذ النُّورْسِيّ في مستهل مؤلّفه «لمعات» «اللوامع» المطبوع في سنة1921 فيه إشارة إلى سنة وفاته وتهدّم قبره. إلّا أن أحداً لم ينتبه إليها إلا بعد وفاته. وهذا أمر جار لدى كثير من العلماء العاملين والأولياء الصالحين وليس علماً بالغيب كما لا يخفى إذ هو إعلام من الله لهم بإشارات خفية ورموز دقيقة. ندرج ذلك في أدناه:


الداعي([1])

قبري المهدّم يضم تسعاً وسبعين جـثـة ([2]) لسعيد ذي الآثام والآلام

وقد غدا شاهد القبر تمام الثمانين

والكل يبكي معاً لضياع الإسلام

فيئن قبري المليء بالأموات مع شاهده

وغداً أنطلق مسرعاً إلى عقباي

وأنا على يقين أن مستقبل آسيا بأرضها وسمائها

سيستسلم ليد الإسلام البيضاء

إذ يمينه يُمن الإيمان

يمنح الطمأنينة والأمان للأنام.

* * *


 

[1]  هذه القطعة توقيع المؤلف.

[2]  يعني: لما كان الجسد يتجدد في كل سنة مرتين، فإن سعيدَين قد ماتا في كل سنة، فضلاً عن أن سعيداً في هذه السنة في السنة التاسعة والسبعين، وإن سعيداً سيعيش إلى هذا التاريخ، حيث يموت في كل سنة سعيد. (أضاف المؤلف هذا الهامش سنة 1951.  ذكره صونغور).

       ومما يوضح هذا المعنى ما ذكره الأستاذ في مؤلفه «إشارات» بالنص العربي: أنا تولدتُ الآن متلخّصاً من ثمانين «سعيداً» تمخّضوا في أربعين سنة بقيامات مسلسلة واستنساخات متسلسلة. فهذا «السعيد» حيّ ناطق (وتسع وسبعون) ميّتون. لو بالانجماد تماسك ماءُ الزمان وتمثّل أولئك «السعيدون» وتراءوا لمَا تعارفوا (لشدة التخالف فيما بينهم).. تدحرجتُ عليهم في الأطوار فتفرّق مني ما زان وأخذتُ منهم ما شان. فكما أن أنا الآن هو أنا في هاتيك المراحل، كذلك أنا فيما يأتي بموتي من المنازل. إلّا أنه في كل سنة بمهاجرة اثنتين لساكني تلك البلاد يجدِّد «أنا» لباسَه فيلبس «السعيدَ» الجديدَ ويخلع العتيقَ.