المقدمة الخامسة

إذا وقع المجاز من يد العلم إلى يد الجهل ينقلب إلى حقيقة، ويفتح الباب للخرافات.

فالمجازات والتشبيهات إذا ما اقتطفتهما يسارُ الجهل المظلم من يمين العلم المنوّر، أو استمرتا وطال عمرُهما، انقلبتا إلى «حقيقة» مستفرغة من الطراوة والنداوة، فتصير سرابًا خادعًا بعدما كانت شرابًا زلالًا، وتصبح عجوزًا شمطاء بعدما كانت فاتنة حسناء.

نعم، إن شعلة الحقيقة إنما تتلمع من المجاز بشفافيته. ولكن بتحوله إلى حقيقة يُصبح كثيفًا قاتمًا يحجب الحقيقة الأصلية. فهذا التحول قانون فطري، فإن أردت شاهدًا عليه فراجع أسرار تجدد اللغات وتغيراتها، والاشتراكَ والترادف في الأمور. أنصت إليها جيدًا تسمع حتمًا أن كثيرًا من الكلمات أو الحكايات أو الخيالات أو المعاني التي كان السلف يتذوقونها، لم توافق الرغباتِ الشابة لدى الخَلَف، لأنها غدت عجوزًا لا زينة لها. لذا أصبحت سببًا لدفعهم إلى ميل التجدد والرغبة في الإيجاد، والجرأة على التغيير.

هذه القاعدة جارية في اللغات مثلما هي جارية في الخيالات والمعاني والحكايات. ولهذا لا ينبغي الحكم على أي شيء بظاهره؛ إذ من شأن المحقق:

سبر غور الموضوع.. والتجرد من المؤثرات الزمانية.. والغوص في أعماق الماضي.. ووزن الأمور بموازين المنطق.. ووجدان منبع كل شيء ومصدره.

ومما أطلَعني على هذه الحقيقة ودلّني عليها هو حدوث خسوف القمر زمن صباي، إذ سألتُ والدتي عنه، فأجابت: لقد ابتلع الثعبانُ القمرَ. فقلت: فَلِمَ يشاهَد القمر؟ قالت: إن ثعابين السماء شبه شفافة.

فانظر كيف تحول التشبيه إلى حقيقة! فحجبت حقيقةَ الحال، إذ شبّه أهلُ الفلك تقاطُع مائل القمر بمنطقة البروج في الرأس والذنب بثعبانَين أو تنّينين؛ حيث إن القمر أو الشمس إذا أتى أحدهما إلى الرأس والآخر إلى الذنب وتوسطتهما الأرضُ، يخسف القمر.

يا من لا يسأم من كلامي المختلط هذا! أنعم النظر أيضًا في هذه المقدمة وانظر إليها بدقة متناهية، فكثيرٌ جدًا من الخرافات والخلافات، إنما تنشأ من هذا الأصل. فينبغي الاسترشاد بالمنطق والبلاغة.

خاتمة:

يجب أن يكون للمعنى الحقيقي ختمٌ خاص وعلامة واضحة متميزة، والمشخِّص لتلك العلامة هو الحُسن المجرد الناشئ من موازنة مقاصد الشريعة.

أما جواز المجاز فيجب أن يكون على وفق شروط البلاغة وقواعدها، وإلّا فرؤية المجاز حقيقةً والحقيقةِ مجازًا، أو إراءتهما هكذا، إمدادٌ لسيطرة الجهل ليس إلّا.

إن ميل التفريط من شأنه حملُ كل شيء على الظاهر.. حتى لَينتهي الأمرُ تدريجيًا إلى نشوء مذهب الظاهرية مع الأسف. وإن حبَّ الإفراط من شأنه النظرُ إلى كل شيء بنظر المجاز، حتى لينتهي الأمر تدريجيًا إلى نشوء مذهب الباطنية الباطلِ. فكما أن الأول مضر فالثاني أكثر ضررًا منه بدرجات.

والذي يبين الحدّ الأوسط ويَحدّ من الإفراط والتفريط إنما هو فلسفة الشريعة مع البلاغة، والحكمةِ مع المنطق.

نعم، أقول: الحكمة (الفلسفة) لأنها خير كثير مع تضمنها الشر، إلّا أنه شرٌ جزئي. ومن الأصول المسلّمة أنه يلزم اختيار أهون الشرّين، إذ تركُ ما فيه خيرٌ كثير لأجل شرٍّ جزئي فيه يعني القيامَ بشر كثير.

نعم، إن الحكمة القديمة (الفلسفة القديمة) خيرُها قليل، خرافاتُها كثيرة، حتى نهى السلف -إلى حد ما- عنها، حيث الأذهانُ كانت غير مستعدة، والأفكار مقيدة بالتقليد، والجهل مستول على العوام. بينما الفلسفة الحاضرة فخيرُها كثير -من جهة المادة- بالنسبة للقديمة، وكذبها وباطلها قليل. والأفكار حرة في الوقت الحاضر، والمعرفة مسيطرة على الجميع. وفي الحقيقة، لا بد أن يكون لكل زمان حكمُه.

المقدمة السادسة

إن كل ما يردُ في التفسير -مثلًا- لا يلزم أن يكون منه، فالعلم يمدّ بعضه بعضًا. فما ينبغي التحكّم (في الرأي)؛ إذ من المسلّمات: أن الماهر في مهنة الهندسة، ربما يكون عاميًا وطفيليًا في مهنة أخرى كالطب، ودخيلًا فيها… ومن القواعد الأصولية: أنه لا يعدّ من الفقهاء مَن لم يكن فقيهًا، وإن كان مجتهدًا في أصول الفقه، لأنه عامي بالنسبة إليهم… وكذلك من الحقائق التاريخية: أن الشخص الواحد لا يستطيع أن يتخصص في علوم كثيرة؛ إلّا من كان فذًا، فيستطيع أن يتخصص في أربعة أو خمسة من العلوم، ويكون صاحب ملَكة فيها.

فمن ادّعى الكلَّ فاتَه الكل؛ لأن لكل علم صورةً حقيقية، وبالتخصص تتمثل صورته الحقيقية؛ إذ المتخصص في علم إن لم يجعل سائر معلوماته متممة وممدةً له، تمثلت من معلوماته الهزيلة صورة عجيبة.

لطيفة افتراضية للتوضيح: لو افترض مجيء مصوّر إلى هذه الأرض من عالم آخر لم يكن قد شاهد صورة كاملة للإنسان ولا غير إنسان من الأحياء، وربما رأى عضوًا من أعضاء كل منها… فإذا أراد هذا المصور تصوير إنسان، مما شاهد منه من يد ورجل وعين وأذن ونصف الوجه وأنف وعمامة وأمثالها، أو أراد تصوير حيوان مما صادف نظره من ذيل حصان وعنق جمل ورأس أسد، فالمشاهدون يتهمون المصور في عمله لأن عدم وجود تناسق وانسجام وامتزاج بين الأعضاء يَحول دون وجود كائن حي كهذا وسيقولون: إن شروط الحياة لا تسمح لمثل هذه الأعاجيب.

فهذه القاعدة نفسها تجري في العلوم.. والعلاج هو اتخاذ المرء أحد العلوم أساسًا وأصلًا، وجَعْل سائر معلوماته حوضًا تخزن فيه.

ومن العادات المستمرة أن علومًا كثيرة تتزاحم في كتاب واحد، فبسبب تعانقها وتجاوبها بإمداد بعضها بعضًا وإنتاج بعضها بعضًا، يحصل تشابك إلى حد كبير، بحيث لا تكون نسبةُ مسائل العلم الذي أُلِّف الكتاب فيه إلّا زكاة محتواه. فالغفلةُ عن هذا السرّ تؤدي بالظاهري أو الغوغائي المغالِط إلى أن يقول محتجًا به: «الشريعة هي هذه، وهذا هو التفسير!» إذا ما يرى مسألة ذُكرت استطرادًا في تفسير أو كتاب فقه. وإن كان صديقًا يقول: «مَن لم يقبل بهذا فليس بمسلم!» وإن كان عدوًا يقول محتجًا به: «الشريعة أو التفسير خطأ» حاشَ لله.

أيها المُفْرطون والمفرّطون! إن التفسير والشريعة شيءٌ وما أُلّف فيهما من كتب شيءٌ آخر، فالكتاب يسعُ الكثيرَ. ففي حانوت الكتاب أشياء تافهة غير الجواهر النادرة.

فإن استطعت أن تفهم هذا، تنجُ من التردد. فانتبه! فكما لا تُشترَى لوازم البيت المتنوعة من صناع واحد فقط، بل يجب مراجعة المختص في صنعة كل حاجة من الحاجات؛ كذلك لابد من توفيق الأعمال والحركات مع ذلك القانون الشامخ بالكمالات (قانون الفطرة). ألا يُشاهَد أنّ من انكسرت ساعتُه، إذا راجع خياطًا لخياطتها فلا يقابَل إلّا بالهزء والاستخفاف؟

إشارة: إن أساس هذه المقدمة هو: أن الامتثال والطاعة لقانون التكامل والرقي للصانع الجليل -الجاري في الكون على وفق تقسيم الأعمال- فرضٌ وواجب، إلّا أن الطاعة لإشارته ورضاه سبحانه الكامنين في ذلك القانون لم يوفَ حقَّهما. علمًا أن يد عناية الحكمة الإلهية -التي تقتضي قاعدة تقسيم الأعمال- قد أَودعت في ماهية البشر استعدادات وميولًا، لأداء العلوم والصناعات التي هي في حكم فرض الكفاية لشريعة الخِلقة (السنن الكونية).

فمع وجود هذا الأمر المعنوي لأدائهما، أضَعنا بسوء تصرفنا الشوق -الممِد للميل، المنبعث من ذلك الاستعداد- وأطفأنا جذوته بهذا الحرص الكاذب، وبهذه الرغبة في التفوق التي هي رأسُ الرياء! فلا شك أنّ جزاء العاصي جهنم، فعُذِّبنا بجهنم الجهل، لأننا لم نتمثل أوامرَ الشريعة الفطرية التي هي قانونُ الخلقة.. وما ينجينا من هذا العذاب إلّا العمل على وفق قانون «تقسيم الأعمال»؛ فقد دخل أسلافُنا جنان العلوم بالعمل على وفق تقسيم الأعمال.

خاتمة:

كما لا يكفي مجرد دخول غير المسلم المسجدَ لاعتناقه الإسلام، كذلك دخول مسألة من مسائل الفلسفة أو الجغرافية أو التاريخ وأمثالِها في كتب التفسير أو الفقه، لا يجعل تلك المسألة من التفسير أو الشريعة قطعًا.

ثم إن حُكمَ مفسِّر أو فقيه -بشرط التخصص- يُعدّ حجة في التفسير فقط أو في الفقه فحسب. وإلاّ فهو ليس بحجة في الأمور التي دخلت خِلسةً في كتب التفسير أو الفقه، لأنه يمكن أن يكون دخيلًا في تلك الأمور. ولا عتابَ على الناقل. ومن كان حجةً في علم وناقلًا في علوم أخرى، فاتخاذ قوله فيها حجة أو التمسك بقوله فيها من قبيل الدعوى ما هو إلّا إعراضٌ عن القانون الإلهي المستند إلى تقسيم المحاسن وتوزيع المساعي.

ثم إنه مسلَّم منطقيًا: أن الحكم يقتضي تصور «الموضوع» و«المحمول»([1]) بوجهٍ ما فقط، أما سائر التفاصيل والشروح فليس من ذلك العلم، وإنما من مسائل علم آخر.

ومن المقرر أنه: لا يدل «العام» على «الخاص» بأيٍّ من الدلالات الثلاث الخاصة.([2])

فمثلًا: إن أعظم مجافاة للمنطق النظرُ إلى تأويل الآية الكريمة ﴿بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ (الكهف:96) في تفسير البيضاوي، نظرةً جازمة أنه: بين جبال أرمينيا وأذربيجان. إذ هو -أساسًا- ناقل. فضلًا عن أن تعيينَه ليس مدلولَ القرآن، فلا يعدّ من التفسير. لأن ذلك التأويل تشريحٌ مستند إلى علم آخر لقيد واحد من قيود الآية الكريمة. وكذلك ظلمٌ وإجحاف بحق ذلك المفسر الجليل وبرسوخ قدمه في العلم في تفسيره المذكور اتخاذُ أمثال هذه النقاط الضعيفة فيه ذريعةً لبث الشبهات حوله. فحقائق التفسير الأصلية والشريعة واضحة جلية، وهي تتلألأ كالنجوم. فما الذي يدفع عاجزًا مثلي على الجرأة غيرَ ما في تلك الحقائق من وضوح وقوة.

فادّعي وأقول: إذا دُقق النظر في كل حقيقة من الحقائق الأساسية في التفسير والفقه، يشاهَد أنها نابعة من الحقيقة، موزونة بميزان الحكمة، وتمضى إلى الحق وهي حقٌ. فالشبهات الواردة -مهما كانت- ناشئةٌ من أذهان مِهذارٍ ثم اختلطت بتلك الحقائق. فمن كانت لديه شبهة حول حقائق التفسير الأصلية، فهذا ميدان التحدي، فليبرز إلى الميدان.

المقدمة السابعة

المبالغة تشوِّش الأمورَ وتبلبلها.

لأن من سجايا البشر مزجَ الخيال بالحقيقة بميل إلى الاستزادة في الكلام فيما التذّ به، والرغبةَ في إطلاق الكلام جزافًا فيما يصف، والانجذابَ إلى المبالغة فيما يحكى. وبهذه السجية السيئة يكون الإحسانُ كالإفساد، ومن حيث لا يعلم يتولد النقصان من حيث يزيد، وينجم الفساد من حيث يُصلح، وينشأ الذم من حيث يمدح، ويتولد القبح من حيث يحسن.. وذلك لإخلاله -من حيث لا يشعر- بالحُسن الناشئ من الانسجام والموازنة (في المقاصد).

فكما أن الاستزادة من دواء شاف قلبٌ له إلى داء؛ كذلك المبالِغون في الترغيب والترهيب، المستغنِي عنهما الحقُ؛ كجعل الغيبة كالقتل، أو إظهار التبول وقوفًا بدرجة الزنا، أو التصدق بدرهم مكافئا لحَجَّة… وأمثالها من الكلمات غير الموزونة التي يُطلقها المبالِغون… إنما يستخفون بالزنا والقتل ويهوّنون شأن الحج.

فبناءً على هذا لا بد أن يكون الواعظُ حكيمًا، وذا دراية بالمحاكمات العقلية.

نعم، إن الوعاظ الذين لا يملكون موازين، ويطلقون كلامَهم جزافًا، قد سببوا حَجْبَ كثير من حقائق الدين النيّرة.

فمثلًا: الزيادة التي زيدت في معجزة انشقاق القمر الباهرة بالمبالغة في الكلام، وهي أن القمر قد نزل من السماء ودخل تحت إبط الرسول ﷺ ثم رجع إلى السماء… هذه الزيادة، جعلت تلك المعجزة الباهرة كالشمس، مَخفيةً كنجم السهى، وجعلت ذلك البرهان للنبوة الذي هو كالقمر مخسوفًا، وفَتحت أبواب حجج تافهة للمنكرين.

حاصل الكلام: يجب على كل محبٍّ للدين وعاشق للحقيقة: الاطمئنانُ بقيمة كل شيء وعدمُ إطلاق الكلام جزافًا وعدمُ التجاوز؛ إذ المبالغةُ افتراء على القدرة الإلهية، وهي فقدان الثقة بالكمال والحسن في العالم واستخفاف بهما واللذين ألجأ الإمامَ الغزالي إلى القول: «ليس في الإمكان أبدع مما كان».

أيها السيد المخاطب! قد يؤدي التمثيلُ أيضًا ما يؤديه البرهانُ من عمل؛

فكما أن لكل من الألماس والذهب والفضة والرصاص والحديد قيمتَها الخاصة، وخاصيتها الخاصة بها، وهذه الخواص تختلف، والقيَم تتفاوت… كذلك مقاصد الدين تتفاوت من حيث القيمة والأدلة. فإن كان موضع أحدها الخيال، فموضع الآخر الوجدان والآخر في سر الأسرار. إنّ من يعطي جوهرة أو ليرة ذهبية في موضع فلس أو عشر بارات، يُحجَر عليه لسفَهه، ويُمنع من التصرف في أمواله. وإذا انعكست القضية فلا يُسمع إلّا كلماتُ الاستهزاء والاستخفاف؛ إذ بدلًا من أن يكون تاجرًا صار محتالًا يُسخَر منه. كذلك الأمر في من لا يميز الحقائق الدينية ولا يعطي لكل منها ما يستحقه من حق واعتبار، ولا يعرف سكة الشريعة وعلامتَها في كل حكم. كلُّ حُكم شبيهٌ بجزء من ترس يدور على محوره لمعمل عظيم. فالذين لا يميزون يعرقلون تلك الحركة، مثَلُهم في هذا كمثل جاهل شاهَد ترسًا صغيرًا لطيفًا في ماكنة جسيمة، وحاول الإصلاح وتغيير ذلك الوضع المتناسق. ولكن لعدم رؤيته الانسجام الحاصل بين حركة الترس الصغير والماكنة الكبيرة وجهلِه بعلم المكائن، فضلًا عن غرور النفس الذي يغريه ويخدعه بنظره السطحي؛ تراه يخلّ بنظام المعمل من حيث لا يشعر ويكون وبالًا على نفسه.

زبدة الكلام: إن الشارع سبحانه وتعالى قد وضع سكته وختمَه المعتمد على كل حكم من أحكام الشرع. ولابد من قراءة تلك السكة والختم. فذلك الحكم مستغن عن كل شيء سوى قيمته وسكته. فهو في غنىً عن تزيينِ وتصرف الذين يلهثون وراء المبالِغين والمغالين والمنمقين للّفظ. وليعلَم هؤلاء الذين يطلقون الكلام جزافًا، كم يكونون ممقوتين في نظر الحقيقة في نصحهم الآخرين. فمثلًا: لم يكتف أحدهم بالزجر الشرعي لتنفير الناس عن المسكِرات فقال كلامًا أمام جمع غفير من الناس أخجلُ من كتابته، وقد شطبته بعد كتابته.

فيا هذا! إنك بكلامك هذا تعادي الشريعة! وحتى إن كنتَ صَديقًا فلا تكون إلّا صديقًا أحمق، وأضرّ على الدين من عدوه.

خاتمة:

أيها الظالمون الذين يحاولون جرحَ الإسلام ونقده من بعيد، من الخارج! زِنوا الأمور بالمحاكمة العقلية. ولا تنخدعوا ولا تكتفوا بالنظر السطحي؛ فهؤلاء الذين أصبحوا سببًا لأعذاركم الواهية -في نقد الإسلام- يسمَّون بلسان الشريعة «علماء السوء». فانظروا إلى ما وراء الحجاب الذي ولّده عدم موازنتهم الأمور، وتعلقُهم الشديد بالظاهر، سترون أن كل حقيقة من حقائق الإسلام برهان نيّر كالنجم الساطع، يتلألأ عليه نقشُ الأزل والأبد.

نعم، إن الذي نزل من الكلام الأزلي يمضي إلى الأبد والخلود. ولكن -يا للأسف- يلقي أحدُهم ذنوبه على الآخرين ليبرئ نفسه، وما ذلك إلّا مِن حبه لها وانحيازه إليها ومن عجزه وأنانيته وغروره. وهكذا يُسنِد كلامَه الذي يحتمل الخطأ أو فعله القابل للخطأ إلى شخص معروف، أو إلى كتاب موثوق، بل حتى أحيانًا إلى الدين، وغالبًا إلى الحديث الشريف، وفي نهاية المطاف إلى القدر الإلهي، وما يريد بهذا إلّا تبرئة نفسه.

حاش لله ثم حاشَ لله! فلا يَرِدُ الظلامُ من النور. وحتى لو ستر النجومَ المشاهَدة في مرآته لا يستطيع ستر نجوم السماء، بل هو العاجز عن الرؤية والإبصار.

أيها السيد المعترض! إنه ظلم فاضح جعلُ الشبهات الناشئة من سوء فهم الإسلام، والأحوال المضطربة الناشئة من مخالفة الشريعة، ذريعةً لتلويث الإسلام… وما هذا إلّا كالعدو الذي يتذرع لأي سبب كان للانتقام والثأر، أو مثل الطفل الذي يروم البكاء لأتفه سبب. إذ إن كل صفة من صفات المسلم لا يلزم أن تكون ناشئة من الإسلام.

المقدمة الثامنة

تمهيد:

لا تَمَلَّ من هذه المقدمة الطويلة الآتية، لأن ختامَها في منتهى الأهمية، فضلًا عن أنها تزيل اليأس -المُبيد لكل كمال- وتبعث الحياة في الأمل -الذي هو جوهر كل سعادة وخميرتها- وتبشّر بأن المستقبل سيكون لنا والماضي لغيرنا.. رضينا بالقسمة، وها هو ذا موضوعها:

عقد موازنة بين أبناء الماضي والمستقبل، فالمدارس العليا لا تُقرأ فيها الألفباء، ومهما ماهية العلم عينها فإن صورةَ تدريسها غيرُ مختلفة.([3])

نعم، إن الماضي مدرسةُ الأحاسيس والمشاعر المادية، بينما المستقبلُ هو مدرسة الأفكار… فهما ليسا على طراز واحد.

وأقصد من أبناء الماضي أولًا: القرون الأولى والوسطى لما قبل القرن العاشر لغير المسلمين. أما الأمة الإسلامية فهي خير أمة في القرون الثلاث الأولى، وأمةٌ فاضلة عامةً إلى القرن الخامس، وما بعده حتى القرن الثاني عشر أعبّر عنه بالماضي. أما المستقبل فأعدّه ما بعد القرن الثاني عشر.

وبعد هذا فمن المعلوم أن الغالب على تدبير شؤون الإنسان، إما العقل أو البصر، وبتعبير آخر: إما الأفكار أو الأحاسيس المادية. أو إما الحق أو القوة. أو إما الحكمة أو الحكومة. أو إما الميول القلبية أو التمايلات العقلية. أو إما الهوى أو الهدى.

وعلى هذا نشاهد أن أخلاق أبناء الماضي الحاملة شيئًا من الصفاء، وأحاسيسَهم الخالصة إلى درجة، قد استخدمت أفكارَهم غير المنورة وسيطرت عليها، فبرزت الشخصيات وسادت الاختلافات… بينما أفكارُ أبناء المستقبل المنوّرةُ -إلى حد- قد تغلبت على أحاسيسِهم المظلمة بالهوى والشهوة وسخّرتها لأمرها، فتحققت أن السيادة تكون للحقوق العامة، فتجلّت الإنسانية إلى حد ما. وهذا يبشر بأن الإسلام الذي هو الإنسانية الكبرى سيسطع كالشمس في رابعة النهار في سماء المستقبل وعلى جنان آسيا.

ولما كانت الأحاسيسُ المادية والميول والرغبات والقوة التي أنشأت الأغراضَ النفسانية والخصوماتِ وميلَ التفوق على الآخرين مسيطرةً على أودية الماضي كان الإقناع الخطابي كافيًا لإرشاد أهل ذلك الزمان، لأن تصوير المدَّعَى وتزيينه وتهويله وتأنيسه إلى الخيال يداعب الأحاسيس ويؤثر في الميول والرغبات، فكان هذا يسدّ مسدّ البرهان. بيد أن قياس أنفسنا عليهم يعني التحرك إلى الخلف وإقحامًا لنا في زوايا ذلك الزمان؛ إذ لكل زمان حكمُه… نحن نطلب الدليل، ولا ننخدع بتصوير المدّعَى وتزيينه.

ولما كان مصدرُ تبخّر حقائق الحكمة في صحراء الوقت الحاضر والباعث بالسحاب الممطر إلى جبال المستقبل، هو الأفكار والعقل والحق والحكمة والتي ولّدت حديثًا ميلَ التحري عن الحقيقة، وعشقَ الحق، وترجيحَ المنفعة العامة على الخاصة، وظهورَ رغبات إنسانية؛ لذا لا يثبت المدّعَى بغير البراهين القاطعة… فنحن أبناء الحال الحاضرة والمرشّحين للمستقبل لا يشبع أذهانَنا تصويرُ المدّعَى وتزيينه بل نطلب البرهان.

فلنذكر قليلًا من حسنات وسيئات الماضي والمستقبل اللذين هما في حكم سلطانين.

ففي ديار الماضي كان السائد في الأغلب هو: القوة، والهوى، والطبائع، والميول، والأحاسيس… لذا فإن إحدى سيئاته أنه كان هناك في كل أمر من أموره -ولو بصورة عامة- تحكّمٌ واستبداد وظهورُ محبةِ شخص على حساب خصومةِ آخرَ.. وغلبة خصومة مسلك الآخرين على محبة مسلكه.. ومداخلة الالتزام والتعصب.. والانحياز المانع عن كشف الحقيقة.

حاصل الكلام: لما كانت الميولُ متفاوتةً فإن تدخّل الشعور بالانحياز في كل شيء، ونشوء التبلبل بالاختلافات جَعَل الحقيقة تهرب وتختفي.

ثم إن من سيئات استبداد الأحاسيس، تأسسَ المسالك والمذاهب غالبًا على التعصب وتضليل الآخرين، أو على السفسطة.. بينما هذه الثلاثة مذمومة في نظر الشرع، منافيةٌ للأخوَّة الإسلامية، مفرِّقة للانتساب الجنسي (الإنساني)، مخالِفةٌ للتعاون الفطري لدرجة أن أحد هؤلاء يضطر في النهاية إلى تبديل مذهبه ومسلكه دفعةً، مصدقًا إجماع الناس وتواترهم تاركًا التعصب والسفسطة. بينما إذا ما عَمل ابتداءً بالحق بدلًا من التعصب، وبالبرهان بدلًا من السفسطة، وبالتوفيق والتطبيق بدلًا من تضليل الآخرين، وطبّق الشورى، فلا يمكن أن يبدّل مذهبه ومسلكه الحق ولو بجزء منهما حتى لو اتفقت الدنيا عليه.

ولما كان المهيمنُ هو الحق والبرهان والعقل والشورى في خير القرون وعصور السلف الصالح، لم يكُ للشكوك والشبهات موضع. كذلك نرى أنه بفضل انتشار العلوم في الوقت الحاضر وهيمنتها بصورة عامة -وفي المستقبل هيمنةً تامة إن شاء الله- سيكون المهيمنُ هو الحق بدلًا من القوة، والبرهانُ بدلًا من التعصب والسفسطة، والحميةُ بدلًا من الأحاسيس المادية، والعقلُ بدلًا من الطبع، والهدى بدلًا من الهوى، كما كان الحال في القرون الأولى والثانية والثالثة وحتى إلى القرن الخامس عامة. أما بعد القرن الخامس إلى الآن فقد غلبت القوةُ الحقَّ.

ومن محاسن سلطان الأفكار أنْ تخلّصت شمسُ الإسلام مما كان يحجبها من غيوم الأوهام والخيالات، بل أخذت كلُّ حقيقة منها بنشر نورها، حتى المتعفنون في مستنقع الإلحاد أخذوا يستفيدون من ذلك النور.

ومن محاسن مشاورة الأفكار تأسُّسُ المعتقدات والمسالك على البراهين القاطعة، وربطُ الحقائق بالحق الثابت الممِد للكمالات كلها، مما يؤدي إلى عدم تمويه الأفكار وخداعها بإلباس الباطل لباس الحق!

أيها الإخوة المسلمون!

إن الوضع الحاضر يبشرنا بلسان الحال أن مضمون: ﴿جَٓاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ (الإسراء:81) قد أشرأب بعنقه ويشير بيده إلى المستقبل مناديًا بأعلى صوته:

إن الحاكم على الدهر وعلى طبائع البشر إلى يوم القيامة هو «حقيقة الإسلام» التي هي تجلّي العدالة الأزلية في عالم الكون، والتي هي الإنسانية الكبرى. وما محاسنُ المدنية التي هي الإنسانية الصغرى إلّا مقدمتُها! ألَا يشاهَد أنه قد خفف تلاحقُ الأفكار وتنوّرها عن كاهل حقائق الإسلام طبقاتِ تراب الأوهام والخيالات. وهذا يبين أن ستنكشف تمامًا تلك الحقائقُ التي هي نجومُ سماء الهداية وستتلألأ وتسطع على رغم أنوف الأعداء.

وإذا شئت فاذهب إلى المستقبل وادخُل فيه وشاهِدْ كيف يهذر وينهزم في ميدان الحقائق -التي تحكمها وترعاها الحكمة- مَن يتحرى التوحيد في التثليث فيما لو بارز المتمسكين بالعقيدة الحقة، المتقلدين سيف البرهان، تلك العقيدة التي يرضاها التوحيد الخالص، والاعتقاد الكامل، والعقل السليم.

أقسم بالقرآن العظيم ذي الأسلوب الحكيم، أنه ما ألقى النصارى وأمثالهم في وديان الضلالة نافخًا فيهم الهوى إلاّ عزلُ العقل وطردُ البرهان وتقليدُ الرهبان..

وما جعل الإسلام يتجلى دومًا، وتنكشف حقائقُه وتنبسط بنسبة انبساط أفكار البشر إلّا تأسُّسه على الحقيقة وتقلّدُه البرهان ومشاورتُه العقل واعتلاؤه عرشَ الحقيقة ومطابقتُه دساتير الحكمة المتسلسلة من الأزل إلى الأبد ومحاكاتُه لها.

ألَا يشاهَد كيف يحيل القرآنُ الكريم في فواتح أكثر الآيات وخواتمها البشرَ إلى مراجعة الوجدان واستشارة العقل بقوله تعالى: ﴿اَفَلَا يَنْظُرُونَ و﴿فَانْظُرُوا و﴿اَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ و﴿اَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ و﴿تَتَفَكَّرُوا و﴿وَمَا يَشْعُرُونَ و﴿يَعْقِلُونَ و﴿لَا يَعْقِلُونَ و﴿يَعْمَلُونَ و﴿فَاعْتَبِرُوا يَٓا اُو۬لِي الْاَبْصَارِ (الحشر:٢).

وأنا أقول أيضًا: فاعتبروا يا أولى الألباب.

خاتمة:

فيا أولى الألباب! انفُذوا من الظاهر إلى الحقيقة فهي تنتظركم، وإذا ما شاهدتموها فلا تؤذوها. هكذا ينبغي، وهذا هو الألزم.


[1] مثال: الإنسان ناطق. فالإنسان هنا موضوع والناطق محمول. فوصف الناطق قد حمل على الإنسان.

[2] وهي دلالة المطابقة والتضمن والالتزام، لأن اللفظ الدال بالوضع يدل على تمام ما وضع له بالمطابقة، وعلى جزئه بالتضمن، وعلى ما يلزمه في الذهن بالالتزام؛ كالإنسان، فإنه يدل على تمام الحيوان الناطق بالمطابقة، وعلى جزئه بالتضمن، وعلى قابل العلم بالالتزام. (التعريفات).

[3] لعل المقصود أن طريقة تقديم العلم تختلف باختلاف الأزمان، فما يتعلمه المبتدئون غير ما يتعلمه الواصلون إلى المراحل العليا، وما عرفه أبناء الماضي غير ما ينبغي أن يعرفه أبناء الحاضر والمستقبل.