يا أخا الوجدان!

كأني بك قد اشتقت إلى رؤية ماهية الكتب الثلاثة التي ستترتب على هذه المقدمات…

صبرًا! سأذكر لك موضوعًا يمثّل مُجمل ما فيه، أو بتعبير آخر يمثل صورتَها المصغرة أو خريطتها المختصرة. ولكني سأبادر بتقديم تسع مسائل مما في تلك الكتب، على أمل أن أفصل الموضوع تفصيلًا عقب المقالة الثالثة إن شاء الله ووَفَّق الربُّ الكريم. فها هو ذا الموضوع!

سأعرج إلى علوم السماوات بسير روحاني، بالوسائل التي يريها القرآن الكريم وبقوة الفلسفة الصائبة، لأنظر من هناك ونشاهد:

أن الكرة الأرضية عبارة عن كرة ضخمة تديرها يدُ القدرة للصانع الحكيم، ونرى بعين الحكمة أنه يقذفها كحجر المقلاع، إلى أن يشتتها، ليبدّلها إلى أفضل منها. ثم نتدلى ونتدرج من جو السماء حتى ننزل إلى مهدنا، الأرضِ التي بسطها وهيأها الخالقُ الرحمن لراحتنا.. ثم ننظر بإنعام إلى الإنسان، كيف أنه يرمي بمهده بعد تجاوزه مرحلة الطفولة، فإنه يُرسَل إلى قصور السعادة الأبدية كذلك بتخريب الأرض.

وبعد أن نُديم التأمل في هذا، ندخل ميدان الماضي بالسير الروحاني الذي لا يقيده زمانٌ ولا مكان ونحاور أبناء جنسنا، أبناء الماضي بأمواج البرقيات التاريخية، ونتعلم العبر والأحداث التي وقعت في تلك الزوايا الآفلة، ونصنع منها قطارًا للأفكار. ثم نرجع عائدين ونزور أبناء جنسنا ونتوجه إلى مشرق المستقبل لنرى -ونري الآخرين- فجرَ سعادته الصادق الذي يتراءى من بعيد. ثم نركب قطار «الرقي والتقدم» وسفينة «السعي» المسماة بالتوفيق، حاملين في أيدينا مصباح البرهان وندخل معه «الزمان» الذي يبدو مُظلم البداية، إلّا أن وراءه سطوعًا، لكي نصافح أبناء المستقبل ونهنئهم بسعادتهم التي يرفلون فيها.

وهكذا ففي هذه الصورة الفوطوغرافية المصغرة تندرج صورةٌ جميلة، ستظهر لك محرَّرًا.

والآن.. في هذه الأرض تنبت أشجارُ الكتب المذكورة وتُسقى بجداول المقالات الثلاث.

أيها الأخ! قبل أن آخذ بيدك وأُوصلك إلى خزينة الحقائق، أُبادر إلى سرد بضع مسائل وعدتُك إياها، لأدفع بها غشاوةَ الخيالات عن بصر بصيرتك، تلك الخيالات التي صارت كالغول تضع أيديها على عينك فتُغمضها، وتدفع صدرك وتخوّفك.. وإن أرتك شيئًا فالنور نارٌ والدرّ مَدَرٌ. فاحذرها.

واعلم أن أعظم منشأ يولد شبهاتك، مسائل تتعلق:

بكروية الأرض.. ثم الثور والحوت.. وجبل قاف.. وسد ذي القرنين.. وأوتادية الجبال.. ووجود جهنم تحت الأرض.. والآيات الكريمة: ﴿دَحٰيهَا و﴿سُطِحَتْ و﴿وَالشَّمْسُ تَجْري لِمُسْتَقَرٍّ لَهَاۜ و﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَٓاءِ مِنْ جِبَالٍ فيهَا مِنْ بَرَدٍ (النور:43) وأمثالها من المسائل. سأبين لك حقيقتها كي تسدّ عيون الأعداء وتفتح أبصارَ الأصدقاء.

وها أنذا أستهل بـ:

المسألة الأولى

من المعلوم لذهنكم المنصف: أن علماء الإسلام متفقون على كروية الأرض، ولو اتفاقًا سكوتيًا. فإن كان لديك ريب فاذهب إلى «المقاصد» و«المواقف» تقف على المقصد وتطلع عليه، وترى أن «سعدًا» «وسيدًا» قد تناوَلا الكرة الأرضية، تناولَ الكرة الاعتيادية، ينظرون بمتعة إلى كل جانب منها. وإن استعصى لك ذلك الباب على الفتح، فادخل التفسير الواسع للإمام الرازي الموسوم بـ«مفاتيح الغيب» واجلس في حلقة تدريس ذلك الإمام الداهية وأنصت إلى درسه، فإن لم تطمئن بهذا ولم تتمكن من أن تستوعب كرويةَ الأرض فاتبع «إبراهيم حقي» واذهب إلى حجة الإسلام الإمام الغزالي واستَفتِه قائلًا: هل في كروية الأرض مشاحة؟ فسيقول لك حتمًا: «المشاحة إن لم تقبل بها» إذ قد بعث فتواه منذ عصره أنه من أنكر أمرًا ثابتًا بالبرهان القطعي ككروية الأرض بحجة الحفاظ على الدين، فقد جَنى على الدين جنايةً عظمى؛ فهذا ليس وفاءً للإسلام بل خيانة له.

وإن كنت أميًّا لا تجيد قراءة الفتوى، فاستمع إلى مُعاصرنا وأخينا في الفكر، السيد حسين الجسر إنه يعنّف منكِر الكروية ويقول بقوة الحق ودون تردد: «من كان ينكِر كروية الأرض مستندًا إلى الدين في سبيل حمايته، فهو صديقٌ أحمقُ، أضرُّ على الدين من العدو الألد».

فإن لم يُفِق فكرُك الباحث عن الحقيقة من رقدته، بهذا الصوت القوي ولم تستطيع عينُك الانفتاح، فخذ بيد ابن همام وفخر الإسلام وأمثالهم واذهب إلى الإمام الشافعي، واستفته في مسألة في الفقه: تؤدّى الفرائضُ الخمس في وقت واحد وهناك قوم لا وقت عشاء لهم أحيانًا، كيف يصلون العشاء؟ وهناك قوم لا تغرب عليهم الشمسُ أيامًا أو لا تطلع لياليَ، كيف يصومون؟ واستفسره: كيف ينطبق تعريف الشرط الشرعي وهو ما يقارن كل ما سواه من الأركان، على شرطية استقبال القبلة في الصلاة؟ علمًا أن المقارنة هي في القيام وحدَه وفي نصف القعود؟ فاطمئن أنه -أي الإمام الشافعي- يجيبك عن المسألة الأولى بكروية الدائرة المارّة من الشرق والغرب، وعن المسألة الثانية والثالثة بتقوّس الدائرة الممتدة من الجنوب إلى الشمال. أي يفتيك بما أعطاك البرهان العقلي. ويقول عن مسألة القبلة: «ما القبلةُ إلّا عمودٌ نوراني قد نظّم السماوات إلى العرش وثَقَب طبقاتِ كرة الأرض إلى الفرش».

فلو كُشف الغطاءُ لَصافح شعاعُ عينك القبلةَ نفسَها في كل حركة من حركات صلواتك.

أيها الأخ..! لا قيمة لأوهامك العجيبة كي تَدخل في القلب، لأنك لم تجد لها موضعًا سوى عالَم الخيال، فضلًا عن أنك لا تصدّقه، بل لا تتمكن حتى من إقناع نفسك بها.. بيد أنك زغت.. فإن كان قلبُك المفتوح للخيالات والمقفل تجاه الحقيقة، لا يسع الكرة الأرضية التي هي أصغر بكثير مما تتخيلها، فوسِّع أُفقَ نظرك ليتوسع ذهنُك، ثم شاهِد سكان الأرض كمجلس واحد وسألهم، فإن صاحب البيت أدرى بما فيه. فإنهم يجيبونك بالمشاهدة والتواتر بلسان واحد:

«يا هذا إن كرتنا الأرضية التي هي مهدُنا وقطارنا في فضاء العالم، ليست مجنونة فتشذَّ عن القاعدة الجارية والقانون الإلهي في الأجرام العلوية». ويُبرزون لك الخرائط دلائلَ مجسمة مفروشة أمامك.

إن شريعة الفطرة الإلهية المسماة بنظام خلق العالم، فَرضتْ على الأرض التي تسير سيرَ المريد المولوي العاشق أن لا تشذّ عن صف النجوم المقتدية بالشمس. إذ قالت الأرض مع قرينتها السماءِ ﴿اَتَيْنَا طَٓائِعينَ (فصلت:11)، والطاعة في الجماعة أفضل وأحسن.

نحصل مما سبق: أن الله سبحانه وتعالى خلق الأرضَ كما يشاء واقتضتها حكمته، ولم يخلقها كما تشتهي خيالاتُكم يا أهل الخيال، ولم يجعل عقولَكم مهندسة الكائنات.

تنبيه: من الأمور المشيرة إلى ضعف العقيدة أو إلى الميل إلى مذهب السوفسطائي أو إلى طالب الإسلام حديثًا ولمّا يتملكه.. هو الكلمة الحمقاء: «هذه الحقيقة منافية للدين!» لأن الذي يجد احتمالًا لمنافاة ما هو ثابت بالبرهان القاطع مع الدين -الذي هو الحق والحقيقة- ويخاف من هذه المنافاة لا يخلو من، إما أنه قد اختفى في دماغه سوفسطائي يشوش له الأمور، أو استتر في قلبه موسوس يثير الشغب والفوضى، أو أصبح طالبًا للدين مجددًا يريد أن يتملكه بالتنقيد.

المسألة الثانية

لا يخفى أن «مسألة الثور والحوت» المشهورة دخيلةٌ في الإسلام وطفيلية عليه، أسلمتْ مع راويها. فإن شئتَ فراجع «المقدمة الثالثة» لترى من أي باب دخلت.

أما نسبتُها إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فانظر إلى مرآة «المقدمة الرابعة» ترى سرّ إلحاقها به.

وبعد هذا فإن كونَ «الأرض على الثور والحوت» يروى فيه حديث:

أولًا: لا نسلّم أنه حديث، لأن عليه علامة الإسرائيليات.

ثانيًا: ولو سلّمنا أنه حديث، فإنه آحادي، يفيد الظن لضعف الاتصال، فلا يدخل في العقيدة، إذ اليقين شرطٌ فيها.

ثالثًا: حتى لو كان متواترًا وقطعيّ المتن، فليس بقطعيّ الدلالة. فراجع المقدمة الحادية عشرة، وتأمل في المقدمة الخامسة لترى كيف استهوت الظاهريين الخيالاتُ حتى حرفوا هذا الحديث عن محامله الصحيحة ووجوهه الصائبة.

فالوجوه الصحيحة له ثلاثة:

الوجه الأول:

فكما أن حَمَلة العرش المسماة بـ: «الثور، النسر، الإنسان» وغيرهم ملائكة، كذلك هذا الثور والحوت ملَكان اثنان حاملان للأرض. وإلّا فإن تحميل العرش العظيم على الملائكة، بينما الأرض على ثور عاجز -كالأرض- مناف لنظام العالم! ويرِد في لسان الشريعة: أن لكل نوع ملَكًا موكلًا خاصًا به يلائمه، وقد سمي ذلك الملَك باسم ذلك النوع، بناءً على هذه العلاقة، وربما يتمثل بصورته في عالم الملائكة. وقد روي حديث بهذا المعنى، أن الشمس تغرب في كل مساء تحت العرش وتسجد عنده ثم تستأذن وتعود. نعم، إن الملك الموكّل على الشمس اسمه الشمس ومثاله الشمس، وهو الذي يذهب ويؤوب.

ولدى الفلاسفة الإلهيين: أن لكل نوع ماهيةً مجرّدةً حية ناطقة تمد الأفراد. ويعبّر عنهم الشرع: مَلَك الجبال ومَلَك البحار وملك الأمطار، إلّا أنه لا تأثير لهم تأثيرًا حقيقيًا إذ لا مؤثر في الكون إلّا الله.

أما الحكمة في وضع الأسباب الظاهرية، فهي في إظهار العزة والعظمة لئلا يرى النظرُ المتوجه إلى «دائرة الأسباب» مباشَرةَ يدِ القدرة لأمور خسيسةٍ ظاهرة من دون حجاب. أما في الملكوتية وفي حقيقة الأمر وهي «دائرة العقيدة»، فإن مباشرةَ يدِ القدرة بدون حجاب لكل شيء، يلائم العزةَ؛ إذ كل شيء في هذه الجهة سامٍ وعالٍ… ذلك تقدير العزيز العليم.

الوجه الثاني:

إن الثور هو المثير للحرث وأهم واسطة لزراعة الأرض وعمارتِها. أما الحوت (السمك) فهو مصدر عيش أهل السواحل، بل كثير من الناس.

فإذا سأل أحد: بِمَ تقوم الدولةُ؟

فالجواب: على السيف والقلم.

أو إذا سأل: بِمَ تقوم المدنية؟

فالجواب: على المعرفة والصناعة والتجارة.

أو إذا سأل: بِمَ تدوم البشرية وتبقى؟

فالجواب: بالعلم والعمل.

كذلك أجاب سيدُ الكونين وفخرُ العالمين ﷺ -والله أعلم- بناء على ما سبق ذلك السائلَ الذي لم يستعد ذهنُه لدرك الحقائق -بدلالة المقدمة الثانية- وسأل عن شيء خارج نطاق وظيفته: الأرض على أي شيء؟ فأجابه رسولنا الكريم ﷺ بما يلزمه أصلًا: الأرضُ على الثور. أي إن عمارة الأرض لنوع البشر ومنبع الحياة لأهل القرى منهم، على الزراعة، والزراعة محمولةٌ على كاهل الثور. وإن معظم معيشة القسم الآخر من البشر، ومعظم مصادر تجارة أهل المدنية، في جوف السمك وعلى الحوت. حتى يصدقُ عليهم المثل السائر: كلُّ الصيد في جوف الفرا!

فهذا جواب لطيف حقّ، حتى لو كان مزاحًا فإنه ﷺ لا يقول إلّا حقًا. ولو سُلّم أن السائل سأل عن كيفية الخِلقة. فقد [تلقّى السامع بغير المترقب] كما هو القاعدة في علم البيان، إذ تُلقى الإجابة عن الضروري والمطلوب بأسلوب حكيم. ولم يجاوبه على وفق شهية السائل المريض الكاذبة. والآية الكريمة: ﴿يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ الْاَهِلَّةِۜ قُلْ هِيَ مَوَاقيتُ لِلنَّاسِ (البقرة:189) براعةُ الاستهلال لهذه الحقيقة.

الوجه الثالث:

إن الثور والحوت برجان مقدّران في مدار الأرض السنوي. فتلك البروج وإن كانت افتراضية موهومة، إلّا أن السنن الإلهية الجارية في العالم والتي تنظِّم وتربط الأجرام السماوية والمسماة لفظًا واصطلاحًا بالجاذبية العامة، قد تمركزت في تلك البروج، لذا فالتعبير الفلكي: «الأرض على البروج» جائز.

هذا الوجه هو في نظر علم الفلك الحديث، لأن القديم قد افترض البروجَ في السماء، بينما الحديث افترضها في مدار الأرض، لذا يحوز هذا التأويل أهميةً في نظر الفَلك الحديث.

ثم إنه قد روي أن السؤال تَعَدَّد، فمرة أجاب: «على الحوت» وأخرى -بعد شهر- أجاب: «على الثور». بمعنى أن خيوط القانون المذكور وأشعتَها المنتشرة في كل جهة من جهات الفضاء الواسع غيرِ المحدود، قد تجمعتْ وتمركزت في برج الحوت، لذا انطلقت الكرة الأرضية من برج الدلو ومسكت بالقانون المتدلي من برج الحوت، وتعلقت ثمرةً يانعة على غصن من شجرة الخلقة… أو إنها -أي الأرض- كالطير جثمت على برج الثور وبنت عشها فيه.

وبعد ما عرفتَ هذا دقِّق النظر منصفًا:

إنه حسب مضمون «المقدمة الخامسة» ترى كيف تؤوّل تلك المسألة العجيبة المشهورة التي تدور بين أهل الخيال المولعين باختراع الغرائب بغير إسناد العبثية إلى الحكمة الأزلية، وبغير إحالة الإسراف إلى الصنعة الربانية، وبغير إخلال النظام البديع الذي هو برهان الصانع الجليل؟

ألا تبًّا وسُحقًا وبُعدًا للجهل!!

المسألة الثالثة

جبل قاف

اعلم أن العلمَ بوجود شيء غيرُ العلم بنوعيته وماهيته. فلا بد من التمييز بين هاتين النقطتين. فكم من يقين الأصل تصرّف فيه الوهمُ حتى أخرجه من الإمكان إلى الامتناع… فشاوِر فيه «المقدمة السابعة» تُجبْك بلسان فصيح.

نعم، وكم من قطعي المتن تزاحمت الظنونُ في دلالته، بل تحيرت الأفهامُ بالإجابة عن السؤال: ما المراد؟. فشقق صَدَف «المقدمة الحادية عشرة» تجد هذه الجوهرة.

تنبيه: ولما كان هذا الأمر هكذا.. فلا يشير من قطعي المتن إلى «قاف» إلّا ﴿قٓ۠ وَالْقُرْاٰنِ الْمَجيدِۚ . بينما يجوز أن يكون ﴿قٓ كـ ﴿صٓ، فليس هو في شرق الدنيا بل في غرب الفم. فيسقط الدليل من اليقين بهذا الاحتمال.

ثم إن دليلًا آخر بعدم وجود قطعي الدلالة غير هذا، قولُ أحد مجتهدي الشريعة وهو القرافي: «لا أصل له».

أما نسبة كيفيته المشهورة إلى ابن عباس رضي الله عنه، فانظر في مرآة «المقدمة الرابعة» ليتمثل لك وجه نسبتها. علمًا أن كلَّ ما قاله ابن عباس كما لا يلزم أن يكون حديثًا، كذلك لا يلزم قبوله لكل ما نقله، لأن ابن عباس قد التفتَ قليلًا أيام شبابه إلى الإسرائيليات عن طريـق الحكايـات إظـهـارًا لبـعـض الـحـقـائـق.

وإذا قلت: إن لعلماء الصوفية تصويرات كثيرة حول «قاف».

أقول جوابًا: إن عالَم المثال المشهور هو ميدان جولانهم، فكما نتجرد من ملابسنا، فهم يتجردون من أجسادهم ويشاهدون ذلك المعرض الحاوي للعجائب والغرائب بالسير الروحاني، فـ«قاف» متمثل في ذلك العالم كما يعرّفونه. إذ كما تتمثل السموات والنجوم في مرآة صغيرة، يتمثل أصغر الأشياء من عالم الشهادة -كالبذرة- شجرةً ضخمة في عالم المثال بتأثير من تجسم المعاني. ولا يُخلَط أحكامُ هذين العالمين قط. والمطّلع على لبّ كلام محي الدين بن عربي يصدّق هذا.

أما ما اشتهر بين العوام ومَن هم مثلهم أن «قـاف» جـبل محيـط بـالأرض متعدد، ما بين كل اثنين منه مسافة خمسمائة سنة، ذروتُه تمس السماء.. إلى آخر خيالاتهم، فاقتبِسْ من «المقدمة الثالثة» لتقويم هـذه الخيالات، ثم ادخل في هـذه الظلمات لعلك تـجـد زلال بلاغتها.

وإن أردت أن تعرف عقيدتي في هذه المسألة، فاعلم أنني أجزم بوجود «قاف» ولكن أحيل كيفيته إلى ثبوت حديث صحيح متواتر؛ فإن ثبت الحديث في بيان كيفيته أؤمن به على ما أراد النبي ﷺ الذي هو صدق وصحيح وحق، لا على ما تخيّله الناس، لأنه قد يكون المفهوم غيرَ المراد. وأما ما فهمناه من هذه المسألة فنعطيكه:

أولًا: إن جبل «قاف» هو سلسلة هيمالايا التي هي أم أعظم جبال «جامولار» التي هي سلسلة أحاطت بمعظم الشرق، والتي كانت حاجزة بين البدويين والمدنيين سابقًا، ويقال: إنه قد تشعب من عرق هذه السلسلة أكثر جبال الدنيا، ومن هذا الأصل نشأ الفكرُ المشهور بإحاطة «قاف» للدنيا.

ثانيًا: إن عالم المثال برزخ بين عالَمي الشهادة وعالَم الغيب، فهو يشبه الأول صورةً والآخر معنىً، هذا المفهوم يحل ذلك المُعَمَّى واللغز.

فمن شاء أن يطّلع قليلًا على هذا العالَم (عالَم المثال) فله أن ينظر إليه بنافذة الكشف الصـادق، أو بمنفذ الرؤيـا الصـادقة، أو بمنظار المواد الشفافة، أو على الأقل بشـاشة الخيال الخلفية؛ فهناك دلائل كثيرة جدًا على وجود هذا العالم، عالمِ المثال وتجسُّمِ المعاني فيه.

وبناء على هذا يمكن أن يكون «قاف» الموجود في هذه الكرة الأرضية بذرة «قاف» ذي عجائبَ موجودٍ في عالم المثال.

ثالثًا: إن مُلك الله واسع لا ينحصر في هذه الكرة الفقيرة. وفضاء الله أوسع ودنيا الله أعظم من أن يضيق بـ«قاف» ذي عجائب. وليس خارجًا من الإمكان العقلي. إنه يناطح برأسه كتف السماء -التي هي موج مكفوف- رغم بُعده خمسمائة سنة من أيام الله عن كرتنا الأرضية، إذ يجوز أن يكون «قاف» شفافًا وغير مرئي كالسماء.

رابعًا: لِمَ لا يجوز أن يكون «قاف» سلسلة عظيمة تجلت في دائرة الأفق، مثلما أن اسم الأفق يكون مصدرًا لـ«قاف» لأنه أينما نظر المرء تتراءى له دائرة من سلاسلَ جبلية كالدوائر المتداخلة، وهكذا بالتدريج والتعاقب يَثْبت النظرُ ويبقى، مسلِّمًا أمرَه إلى الخيال، حتى يتخيل الخيالُ دائرةً من سلاسل جبلية محيطة بالأرض تمس أطراف السماء. فتشاهَد متصلة بها بدلالة الكروية حتى لو كان البُعد خمسمائة سنة.

المسألة الرابعة

سد ذي القرنين

كما علمتَ أن العلمَ بوجود شيء غيرُ العلم بماهيته وكيفيته.

وأن القضية الواحدة تتضمن أحكامًا كثيرة، منها ضرورية، ومنها نظرية مختلَفٌ فيها.

وأن المقلّد المعاند إذا سأل أحدًا عما رآه في كتاب -وإن كان محرفًا- على وجه الامتحان والتجربة وأجابه حتى عن معلومه الغائب عنه. فالجواب صحيح من جهتين:

إما أنه صحيح مباشرة، يطابق الواقع. أو بما يطابق معلومَ السائل المعانِدِ بالذات، أو بالتأويل. فكلا الوجهين صحيح.

فالجواب الواحد إذن يُرضي الواقع، لأنه حق، ويُقنع السائلَ لأنه يقدِر على تطبيقه على معلومِه، وإن لم يكن مرادًا. وفي الوقت نفسه لا يجرح شأنَ المقام، لأن فيه -أي في الجواب- عقدةَ الحياة التي تستمد منها مقاصدُ الكلام بواعثَ حياتها.

وهكذا جواب القرآن.

سنميّز بعد الآن الضروريَ من غير الضروري؛

ومن الأحكام الـضروريـة المـفهومة في الجواب القرآني والتي لا تـقبـل الإنكار: «ذو القرنين» وهو شخص مؤيَّد من عند الله، بنى سدًا بين جبلين بإرشاده وتدبيره، دفعًا لفساد الظالمين والبدويين.. ويأجوج ومأجوج قبيلتان مفسدتان، وإن السد سيُدمّر حالما يأتي أمرُ الله.. الخ.

وعلى هذا القياس؛ فما دلّ عليه القرآنُ من أحكام، هو من ضروريات القرآن، أي إنه قطعيُّ الدلالة، ولا يمكن إنكارُ حرف منه، ولكن تفصيلاتِ تلك المواضيع وكيفياتِها ووجوهَها وحدودَ ماهياتها ليست قطعيةَ الدلالة في القرآن، بل ثبت أنه لا يدل عليها حسب قاعدةِ: «لا يدل العام على الخاص بأيٍّ من الدلالات الثلاث»، وحسب دستور علم المنطق: «يكفي للحُكم تصوُّر وجهٍ ما بين الموضوع والمحمول»، ولكن يمكن أن يقبلها القرآنُ. أي إن تلك التفصيلات هي من الأحكام النظرية محوَّلةٌ إلى دلائل أخرى، فهي مظنّة الاجتهاد، وفيها مجال للتأويل. والدليل على نظريتها (ظنيتها) اختلاف العلماء.

ولكن يا للأسف، فإنه بتخيل لزوم مطابقة الجواب لتمام السؤال، ومن دون اهتمامٍ بخلل السؤال، أخذوا الأحكامَ الضرورية والنظرية للجواب بأجمعها من مصدر السائل ومنبَت السؤال وأصبحوا مفسِّرين له، لا بل مؤوِّلين لما يجوز أن يدلّ عليه الجواب، لا بل أظهروا أفراد المعنى معنىً له، لا بل أوّلوا ما يجوز أن يصدُق عليه مع شيء من الإمكان مدلولًا مفهومًا له… فتلقّاه الظاهريون بالقبول، والعلماءُ بالإصغاء دون تنقيد لعدم أهميته كالحكايات كما وضح في «المقدمة الثالثة». ولكن لو قبل بتلك التفصيلات كما ورد في التوراة والإنجيل المحرّفَين فإنها تخالف عصمة الأنبياء التي يعتقد بها أهلُ السنة والجماعة… الشاهد على هذا قصةُ لوط وداود عليهما السلام.

ولكن لما كان في الكيفية مجالٌ للاجتهاد والتأويل، فأنا أقول وبالله التوفيق:

الاعتقاد الجازم بما أراد الله تعالى ورسولُه ﷺ واجبٌ قطعًا، لأنه من ضروريات الدين، أما المراد ما هو؟ فاختُلف في تعيينه:

فذو القرنين -لا أقول إسكندر، لأن الاسم لا يسمح بذلك- قال بعض المفسرين في حقه: إنه مَلَك، وقيل: ملِك، وقيل: نبي، وقيل: ولي.. إلى آخر ما قيل.

وعلى كلٍّ فهو مؤيَّدٌ من عند الله ومرشد لبناء سد الصين.

أما السدُّ، فقال بعضهم: إنه سد الصين، وقيل: غيرُه تحوَّل جبلًا، وقيل: سد مخفي لا يطلَع عليه، سترتْه انقلاباتُ أحوال العالم.. وقيل.. وقيل..

وعلى كل فهو ردم عظيم وجدار جسيم بُني لدفع شر المفسدين.

أما يأجوج ومأجوج، فقيل: قبيلتان من ولد يافث، وقيل: المغول والمانجور، وقيل: أقوام شرقية شمالية، وقيل: طائفة من جماعة عظيمة من بني آدم يشيعون الفتنة والفوضى في الدنيا والمدنية. وقيل: مخلوقات لله تعالى آدميون أو غيرهم في ظهر الأرض أو في بطنها، يسببون فساد العالم عند قيام الساعة. أما جهة الاتفاق والأمر القاطع: فهما طائفتان من مخلوقات الله كانتا أهل غارة وفساد على الحضارة والمدنية كأجَل القضاء عليها.

أما خرابُ السد؛ فقيل: عند القيامة، وقيل: قريب منها، وقيل: يخرب بحيث يعدّ أمارتها وإن كان بعيدًا، وقيل: وقع الخراب ولكن لم يدكّ. وقيل، وقيل…

وعلى كلٍّ؛ فانهدامُه علامة على كهولة الأرض وشيب البشر.

فإن وازنتَ بين ما ذُكر آنفًا وقارنته يمكنك أن تجوّز أن السدّ المذكور في القرآن هو سدّ الصين، الطويل بفراسخ، ومن عجائب الدنيا السبعة المشهورة، قد بُني بإرشاد مؤيَّدٍ من عند الله لصدّ شرور أهل البداوة عن أهل المدنية في ذلك الزمان.

نعم، فمِن أولئك الهمج قبيلة «الهون» الذين دمّروا أوروبا، و«المغول» الذين خربوا آسيا.

ثم إن خرابَ السد من علامات الساعة، ولاسيما دكّه غير خرابه. وإذا ما قال النبي ﷺ إنه من أشراط الساعة: «أنا والساعة كهاتين» كيف يُستغرب كون خراب السد من علامات القيامة بعد خير القرون؟ ثم إن انهدام السد بالنسبة لعمر الأرض هو انقباض وجه الأرض لشيبها، بل كنسبة وقت الاصفرار إلى تمام النهار، حتى لو كانت القيامة بعيدةٌ بألوف من السنين.

كذلك فإن الفوضى والاضطراب الذي يولّده يأجوج وماجوج هو في حكم حمىً تصيب البشرية لهرمها.

وبعد هذا ينفتح لك بابٌ لتأويل آخر من فاتحة «المقدمة الثانية عشرة» وهو: أن القرآن يقص القصص لأخذ العِبَر منها، وينتقي منها النقاط التي هي كالعقد الحياتية التي تناسب مقصدًا من مقاصد القرآن ويربطها به.. فهما -أي القصة والعبرة- تتعانقان في الذهن والأسلوب وإن لم تتراء ناراهما أو نوراهما معًا ولم يحصلا في الخارج سوية. ولما كانت القصة للعبرة فلا يلزمك تفصيلاتها ولا عليك كيف كانت. خذ حظك منها وامض إلى شأنك.. واستظهر من «المقدمة العاشرة» ترى أن المجاز يفتح بابًا للمجاز فـ ﴿تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ (الكهف:86) تنعي على الظاهريين وتطردهم.

واعلم أن مفتاح حجة الله المتجلية في أساليب العرب هو البلاغةُ التي هي أصل الإعجاز والمؤسَّسة على الاستعارة والمجاز، لا ما يُلتَقط من خرزٍ -بالحدس الكاذب- من المشهورات وتختبئ في أصداف الآيات دون رضاها. فاستنشِق خاتمةَ «المقدمة العاشرة» فإنها مسكٌ وذُقها ففيها عسل.

ويجوز أن يكون السد وهو مجهول الكيفية في موضع آخر مجهول مستور عنا كسائر علامات الساعة، ويبقى إلى القيامة مجهولًا ببعض انقلاباته، وسينهدم في القيامة.

إشارة:

معلوم أن المسكن يدوم أزيدَ من ساكنيه، وعمر القلعة أطول من عمر المتحصنين بها. فالسكنى والتحصن علّة وجودها لا علة بقائها ودوامها. وحتى إن كانا كذلك فلا يقتضيان استمرارها ولا عدم خلوها. فليس من ضروريات دوام الشيء دوام الغرض المترتب عليه.. فكم من بناء يبنى للسكنى أو للتحصن وهو خاوٍ وخالٍ.

ومِن عدمِ فهم هذا السر فُتح الطريق للأوهام.

تنبيه: إن القصد من هذا التفصيل فتحُ طريقٍ لتمييز وفرزِ التفسيرِ عن التأويل.. والقطعي عن الظني.. والوجودِ عن الكيفية.. والحكم عن التفصيلات الجانبية.. والمعنى عن أفراد المعنى.. والوقوع عن الإمكان.