براهين نبوة محمد ﷺ

مقدمة

إنّ كلَّ حال من أحواله ﷺ، وكل حركة من حركاته دليلٌ على صدقه.

نعم، إن عدمَ التردد في كل حركة من حركاته، وعدمَ مبالاته بالمعترضين، وعدمَ تخوفه من المخالفين.. شاهدٌ على صدقه وجديته.

وإن إصابته روحَ الحقيقة في أوامره كلها تدل على أنه على الحق المبين.

نحصل من هذا: أنه في الوقت الذي هو مبرأ من التخوف والتردد والاضطراب وأمثالها من الأمور التي تومئ إلى الحيلة وعدم الثقة وفقدان الاطمئنان، تراه يلفت نظر أهلِ الدقة إلى كل فعل من أفعاله وإلى كل طور من أطواره… يلفتهم بالمبدأ على صدقه وفي المنتهى على إصابته الحق؛ إذ يعمل في أخطر المواقع دون تحرج وبقوة اطمئنان بالغ، ومن بعد ذلك بلوغُه الهدف في الختام بتأسيسه القواعد الحية المثمرة لسعادة الدارين، ولاسيما إذا لوحظ مجموع حركاته وامتزاجُها، فالجدية وإصابته الحق تشعان كالشعلة الجوالة، ويتجلى لعينك برهان نبوته من انعكاساتها وموازناتها.

إشارة: إن الزمان الماضي والزمان الحاضر -أي عصر السعادة النبويّ- والمستقبل يتضمنان براهين نيّرة على النبوة، ويرددان بلسان واحد برهانَ ذاته ﷺ بأنه معدن الأخلاق العالية وداعي الصدق ودَلَّال النبوة. فهذه الأزمنة تدل وتعلن عن نبوته وتبينها حتى لمن فقدَ بصره، ولهذا سنطالع هذه الصحف الثلاث والمسالة العظمى من ذلك الكتاب.. وهي ذاتُه المباركة ﷺ، فنزوره ونبيّن مدَّعانا الذي هو البرهان الأكبر.

وبناء على هذه النقاط فمسالك النبوة أربعة. والخامسة منها مشهورة مستورة.

المسلك الأول للنبوة

يعني لا بد من معرفة أربع نكت لنرَ ذاته الشريفة:

إحداها: أنه «ليس الكَحَلُ كالتكَحِّل»أي لا يصل الصنعيُّ والتصنعيُّ -ولو كانا على أكملِ الوجوه- مرتبةَ الطبيعيّ والفطريّ ولا يقوم مقامَه، بل تومئ فلتاتُ هيئتِه العامةِ إلى التصنع والتكلف.

ثانيتها: أن الأخلاق العالية إنما تتصل بأرض الحقيقة بـ«الجدية»، وأن إدامة حياتها وانتظام مجموعها إنما هي بـ«الصدق»، ومتى ما انقطعت عرى الصدق والجدية منها صارت كهشيم تذروه الرياح.

ثالثتها: من القواعد وجودُ الميل والجذب في الأمور المتناسبة، ووجودُ التدافع والتنافر في الأمور المتضادة، فكما أن هذه القاعدة جاريةٌ في الماديات، جارية أيضًا في الأخلاق والمعنويات.

رابعتها: «للكل حكمٌ ليس لكلٍّ».. إن آثار محمد ﷺ وسيرته المباركة وتاريخ حياته تشهد -مع تسليم أعدائه- بأنه لعلى خلق عظيم، وأنه قد اجتمعت فيه الخصال العالية كافة. ومن شأن امتزاج كثرة من تلك الأخلاق وتجمّعها وإحاطتها، توليد عزة النفس، التي تولّد شرفًا ووقارًا يترفعان عن سفساف الأمور، كترفع الملائكة وتنزههم عن الاختلاط بالشياطين… فالأخلاق السامية كذلك لا تسمح أصلًا بتداخل الحيلة والكذب بينها، بل تتنزه وتتبرأ وتترفع عنها، بحكمة التضاد فيما بينها.

ثم إن حياةَ هذه الأخلاق الرفيعة وروحَها هي: الصدقُ وإصابةُ الحق… فهما يضيئان كالشعلة المنورة ويعلنان عنها.

أيها الأخ! ألا ترى أن الشخص المشتهر بالشجاعة وحدَها يترفع عن الكذب، لئلا يخل بالمقام الذي تعطيه تلك الصنعة، فكيف إذا اجتمعت جميعُ الخصال الرفيعة؟ نعم، للكلِّ حكمٌ ليس لكلٍّ.

نشاهد في الوقت الحاضر: أن المسافة بين الصدق والكذب لا تتجاوز الإصبع، فكلاهما يباعان في سوقٍ واحدة، ولكن لكل زمان حكمُه، إذ لم يحدث قط في أي وقت مضى أن اتسعت الشقةُ بين الصدق والكذب اتساعه الذي حدث في عصر السعادة النبوية. فقد انجلى الصدقُ ببهائه الحقيقي وبكمال الاحتشام والهيبة، واعتلى محمد ﷺ الصادق الأمين أعلى عليي الصادقين، وأوقعَ انقلابًا عظيمًا في العالم، فأظهر بُعدَ الصدق عن الكذب بُعد ما بين المشرق والمغرب. فراجَ سُوقُ الصدق ومتاعُه في ذلك القرن.

أما الكذب الشبيه بأشلاء الأموات والجثث، فقد ظهر قبحُه وسماجتُه، وتردّى بمن تمسك به من أمثال مسيلمة الكذاب إلى أسفل سافلي الإنسانية. فكسد سوقُه ولم ترج بضاعته في ذلك القرن.

وهكذا فمِن طبائع العرب الاعتزاز والتفاخر، والرغبة في الرائج من المتاع… لذا تسارعوا وتسابقوا للتجمل بالصدق والبعد عن الكذب، ونشروا راية العدل على العالمين. ومِن هنا نشأت عدالةُ الصحابة عقلًا. إذا أنعم الإنسان النظر في السيرة والتاريخ والآثار، ودقق حاله ﷺ من الرابعة من عمره إلى الأربعين، مع أن شأن الشبابية وتَوقُّد الحرارةِ الغريزية أن تظهر ما يخفى، وتلقى إلى الظاهر ما استتر في الطبيعة من الحيل والخداع، تراه ﷺ قد تدرج في سنيه وعاشر باستقامةٍ كاملة، ومتانةٍ بالغة، وعفّة تامة، مع اطراد وانتظام، وما أومأ حالٌ من أحواله إلى خديعة، لاسيما في مقابلة المعاندين الأذكياء.

وبينما تراه ﷺ كذلك إذ تنظر إليه وهو على رأس أربعين سنة الذي من شأنه جعل الحالات مَلَكة والعاداتِ طبيعةً ثابتة لا تخالَف، قد أوقع انقلابًا عظيمًا في العالم.. فما هو إلّا من الله.

فمن لم يصدّق أنه من الحق وعلى الحقيقة المحضة، فقد اختفى إذن في ذهنه سوفسطائي. ألاَ ترى أنه ﷺ كيف كان حالُه في أمثال واقعة الغار الذي انقطع بحسب العادة أملُ الخلاص، إذ يتصرف بكمال الوثوق وغاية الاطمئنان والجدية.

كل ذلك شاهد كاف على نبوته وجديته ودليل قاطع على تمسكه بالحق.

المسلك الثاني

إن صحيفة الماضي برهان على نبوته، بملاحظة أربع نكت:

إحداها: أن من يأخذ أساسات علم وفن -أو في القصص- ويعرف روحَه والعقدَ الحياتية فيه ويحسن استعمالها في مواضعها ثم يبني مدّعاه عليها، فإن ذلك يدل على مهارته وحذاقته في ذلك العلم.

ثانيتها: أيها الأخ! إن كنت عارفًا بطبيعة البشر، لا تر أحدًا يتجاسر بسهولة على مخالفةٍ وكذبٍ ولو حقيرًا، في قوم ولو قليلين، في دعوىً ولو حقيرة، بحيثية ولو ضعيفة. فكيف بمن له حيثية في غاية العظمة، وله دعوىً في غاية الجلالة، ويعيش بين قوم في غاية الكثرة، ويقابله عناد في غاية الشدة، ومع أنه أمّي لا يقرأ ولا يكتب، إلّا أنه يبحث في أمور لا يستقل فيها العقلُ وحده، ويظهرها بكمال الجدية، ويعلنها على رؤوس الأشهاد.. أفلا يدل هذا على صدقه؟

ثالثتها: إن كثيرًا من العلوم المتعارفة عند المدنيين -بتعليم العادات والأحوال وتلقين الوقوعات والأفعال- مجهولةٌ نظريةٌ عند البدويين. فلابد لمن يحاكم محاكمة عقلية، ويتحرى حال البدويين أن يفرض نفسه في تلك البادية.

فإن شئت فراجع المقدمة الثانية، فقد أوضحتْ هذه النكتةَ.

رابعتها: لو ناظر أميّ علماءَ علم، ثم بيّن رأيه في مسائله مصدّقًا في مظان الاتفاق، ومصححًا في مطارح الاختلاف، يدلك ذلك على تفوقه، وأن علمَه وهبيٌ لا كَسبي.

فبناء على هذه النكتة نقول:

إن الرسول الكريم ﷺ مع أميّته، كأنه بالروح الجوالة الطليقة طوى الزمانَ والمكان، فدخل في أعماق الماضي، وبيّن كالمشاهِد لأحوال الأنبياء عليهم السلام، وشرح أسرارَهم على رؤوس العالم، في دعوى عظيمة تجلب إليها أنظار الأذكياء. وقد قص قصصهم بلا مبالاة ولا تردد وفي غاية الثقة والاطمئنان، وأَخَذَ العقدَ الحياتية فيها وأساساتها، مقدمةً لمدّعاه مصدِّقًا فيما اتفقت عليه الكتب السالفة ومصححًا فيما اختلفت فيه. فثبت أن حاله هذه دليلٌ على نبوته.

إن مجموع دلائل نبوة الأنبياء عليهم السلام دليلٌ على صدقه ﷺ، وجميع معجزاتهم معجزة معنوية له.

أيها الأخ!

قد يَحلّ القَسَم محل البرهان، لأنه يتضمن البرهان لذا: [والذي قصّ عليه القصص للحصص، وسيّر روحه في أعماق الماضي وفي شواهق المستقبل، فكَشَفَ له الأسرارَ في زوايا الواقعات، إن نظره النقاد أدق من أن يُدلَّس عليه، ومسلكه الحق أغنى من أن يُدلِسَ على الناس].

نعم، إن الخيال لا يستطيع أن يظهر نفسه حقيقة لنور نظره ﷺ، ومسلكه الحق أغنى من أن يدلس أو يغالط الناس.

المسلك الثالث

في بيان صحيفة الحال الحاضرة -أعني عصر السعادة النبوية-

فها هنا أيضًا أربع نكت؛ ونقطة لا بد من إنعام النظر فيها:

إحداها: أنك إذا تأملت في العالم ترى أنه قد يتعسر ويستشكل رفعُ عادةٍ ولو حقيرة، في قوم ولو قليلين، أو خصلة ولو ضعيفة في طائفة ولو ذليلين، على ملِك ولو عظيمًا، بهمّة ولو شديدة، في زمان مديد بزحمة كثيرة، فكيف أنت بمن لم يكن حاكمًا، تشبث في زمان قليل بهمّة جزئية بالنسبة إلى المفعول، وقلَعَ عادات ورفعَ أخلاقًا قد استقرت بتمام الرسوخ واستؤنس بها نهاية استئناس واستمرت غاية استمرار، فأرسى فجأةً بدلَهَا عاداتٍ وأخلاقًا تكمّلت دفعةً في قلوب قوم في غاية الكثرة ولمألوفاتهم في نهاية التعصب، أفلا تراه خارقًا للعادات؟ فإن لم تصدِّق بهذا فسأورد اسمك في قائمة السوفسطائيين.

ثانيتها: هي أن الدولة شخصٌ معنوي، تشكُّلها تدريجي -كنمو الطفل- وغلبتُها للدول العتيقة -التي صارت أحكامها كالطبيعة الثابتة لملّتها- متمهلة تدريجية أيضًا. أفلا يكون حينئذ من الخارق لعادةِ تشكّلِ الدول تشكيلُ محمد ﷺ لحكومةٍ عظيمة، في زمان قصير، وغلبتُها للدول العظمى دفعة، مع إبقاء حاكميته لا على الظاهر فقط بل ظاهرًا وباطنًا ومادةً ومعنىً. فإن لم تستطع رؤية هذه الأمور الخارقة، فأنت في طائفة العميان!

ثالثتها: هي أنه يمكن بالقهر والجبر تحكّمٌ ظاهري، وتسلّط سطحي، لكن الغلبة على الأفكار والتأثيرَ بإلقاء حلاوته في الأرواح والتسلّط على الطبائع مع محافظة حاكميته على الوجدان دائمًا لا يكون إلّا من خوارق العادات. وليس إلّا الخاصة الممتازة للنبوة. فإن لم تعرف هذه الحقيقة فأنت غريب عنها.

رابعتها: هي أن تدوير أفكار العموم وإرشادَها بحِيَل الترهيب والترغيب، إنما يكون تأثيرها جزئيًا سطحيًا مؤقّتًا يسدّ طريق المحاكمة العقلية في زمان. أما من نفذ في أعماق القلوب بإرشاده، وهيّج دقائق الحسيات، وكَشَفَ أكمامَ الاستعدادات، وأيقظ السجايا الكامنة، وأظهر الخصال المستورة، وجعل جوهرَ إنسانيتهم فوّارة، وأبرز قيمة ناطقيتهم، فإنما هو مقتبِسٌ من شعاع الحقيقة ومن الخوارق للعادة.

نعم، إن صَقْلَ القلوب وتطهيرَها من أمثال القساوة المتجسمة في وأد البنات، وجَعْل تلك القلوب ترق وتترحم حتى على النمل الصغير، إنما هو انقلاب عظيم. لاسيما لدى أولئك البدويين. بحيث إن أرباب البصائر يصدقونه حتمًا، ويقولون إنه خارق للعادة لا يشملها قانون طبيعي.

فإن كنت ذا بصيرة تصدّقْ هذا بلا ريب.

والآن استمع إلى هذه «النقطة»:

إن تاريخ العالم يشهد أن الداهي الفريد، هو الذي اقتدر على إنعاش استعداد عمومي، وإيقاظ خصلة عمومية، والتسبب لانكشاف حس عمومي، إذ مَن لم يوقظ هكذا حسًا نائمًا يكون سعيُه هباءً منثورًا ومؤقتًا لا يدوم.

وهكذا فإن أعظم الدهاة قد وُفّق لإيقاظِ واحد أو اثنين أو ثلاث من هذه الحسيات العمومية: كحس الحرية، وكحس الحمية الملية، وحس المحبة. أفلا يكون إذن من الخوارق إيقاظُ ألوف من الحسيات العالية المستورة النائمة، وجَعْلها دفعةً فوارة منكشفة في قوم بدويين منتشرين في جزيرة العرب، تلك الصحراء الواسعة.

إن من لم يُدخل هذه النقطةَ في عقله، نتحداه بجزيرة العرب فهي ماثلة أمام عينه.. بعد ثلاثة عشر عصرًا، وبعد ترقي البشر في مدارج التمدن!. فلينتخب المعاندون مئةً من أكمل الفلاسفة، وليسعوا مائة سنة، فهل يفعلون جزءًا من مئة جزء مما فعله النبي ﷺ بالنسبة إلى زمانه؟

إشارة: إن من أراد التوفيق يلزمه مصافاةٌ مع عادات الله، ومعارفةٌ مع قوانين الفطرة، ومناسبةٌ مع روابط الهيئة الاجتماعية. وإلّا أجابَته الفطرةُ بعدم الموفقية جوابَ إسكات! أما النواميس العامة الجارية فتقذف مَن يخالفها إلى صحراء العدم. تأمل في هذا، تر أن حقائق الشريعة التي هي قوانين دقيقة عميقة جارية في فطرة العالم، كم حافظتْ على موازنة قوانين الفطرة وروابط الاجتماعيات التي بدقتها لا تتراءى لعقول أولئك القوم!!

نعم، إن المحافظةَ على حقائق الشريعة، في هذه الأعصار المديدة، مع تلك المصادمات العظيمة بل انكشافَها أكثرَ، يدل على أن مسلك الرسول الكريم ﷺ مؤسَّسٌ على الحق الذي لا يزول.

فإذا عرفت هذه النكت الأربع مع هذه النقطة، فاستمع بذهن متفتح واسع يملكُ قوة في المحاكمة العقلية ودقة في الملاحظة، إلى ما يأتي:

إن محمدًا الهاشمي ﷺ مع أنه أمّي لم يقرأ ولم يكتب، ومع عدم قوته الظاهرية، وعدم ميله إلى تحكم وسلطنة.. قد تشبث بقلبه -بوثوق واطمئنان في موقع في غاية الخطر وفي مقام مهم- بأمر عظيم، فغلَب على الأفكار، وتحبّب إلى الأرواح، وتسلط على الطبائع وقلع من أعماق قلوبهم العادات والأخلاق الوحشية المألوفة الراسخة المستمرة الكثيرة. ثم غرس في موضعها في غاية الإحكام والقوة – كأنها اختلطت بلحمهم ودمهم – أخلاقًا عالية وعادات حسنة.. وقد بدّل قساوةَ قلوب قوم خامدين في زوايا الوحشة بحسيات رقيقة وأظهر جوهر إنسانيتهم، ثم أخرجهم من زوايا النسيان ورقى بهم إلى أوج المدنية وصيّرهم معلمي عالَمهم، وأسس لهم دولة عظيمة في زمن قليل. فأصبحت كالشعلة الجوالة والنور النوار بل كعصا موسى تبتلع سائر الدول وتمحوها. فأظهر صدقَه ونبوتَه وتمسُّكه بالحق إلى كل مَن لم تعمَ بصيرته.

فإن لم تر صدقه ذاك فسوف يشطب اسمك من سجل الإنسان!