المسألة الثالثة: نسبة القدرة قانونية..

﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى (النحل:60) ﴿لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌۚ (الشورى:11)

فهذه المسألة الغامضة سنقرّبها إلى الذهن ببعض الأمثلة؛ حيث التمثيل يقرب التصوير إلى الأذهان.

المثال الأول: «الشفافية»

إن تجلّي ضوء الشمس يُظهر الهويةَ نفسَها على سطح البحر أو على كل قطرة من البحر، فإذا كانت الكرة الأرضية مركّبة من قِطَع زجاجية صغيرة شفافة مختلفة تقابل الشمس دون حاجز يحجزها، فضوء الشمس المتجلي على كل قطعة على سطح الأرض وعلى سطح الأرض كلها يتشابه ويكون مساويًا دون مزاحمة ودون تجزؤ ودون تناقص.. فإذا افترضنا أن الشمس فاعل ذو إرادة وأعطت فيضَ نورها وإشعاع صورتها بإرادتها الأرض، فلا يكون عندئذٍ نشرُ فيضِ نورها على جميع الأرض أكثَر صعوبة من إعطائها ذرة واحدة.

المثال الثاني: «المقابلة»

هب أنه كانت هناك حلقة واسعة من البشر يحمل كلُّ واحد منهم مرآة بيده، وفي مركز الدائرة رجل يحمل شمعة مشتعلة، فإن الضوء الذي يرسله المركز إلى المرايا في المحيط واحد، ويكون بنسبة واحدة، دون تناقص ودون مزاحمة ودون تشتّت.

المثال الثالث: «الموازنة»

إن كان لدينا ميزان حقيقي عظيم وحساس جدًا وفي كفتيه شمسان أو نجمان، أو جبلان، أو بيضتان، أو ذرتان.. فالجهد المبذول هو نفسه الذي يمكن أن يرفع إحدى كفتيه إلى السماء ويخفضَ الأخرى إلى الأرض.

المثال الرابع: «الانتظام»

يمكن إدارة أعظم سفينة -لأنها منتظمة جدًا- كأصغر دمية للأطفال.

المثال الخامس: «التجرد»

إن الميكروب مثلًا كالكركدن يحمل الماهية الحيوانية وميزاتها، والسمك الصغير جدًا يملك تلك الميزة والماهية المجردة كالحوت الضخم، لأن الماهية المجردة من الشكل والتجسم تدخل في جميع جزيئات الجسم من أصغر الصغير إلى أكبر الكبير وتتوجه إليها دون تناقص ودون تجزؤ، فخواص التشخصات والصفات الظاهرية للجسم لا تُشوِش ولا تتداخل مع الماهيّة والخاصة المجرّدة، ولا تُغيِّر نظرة تلك الخاصة المجردة.

المثال السادس: «الطاعة»

إن قائد الجيش بأمره: «تَقَدمْ» مثلما يحرّك الجندي الواحد فإنه يحرّك الجيش بأكمله كذلك بالأمر نفسه. فحقيقةُ سرِّ الطاعة هي أن لكل شيء في الكون -كما يشاهَد بالتجربة-

نقطةَ كمال، وله ميل إليها، فتضاعُف الميل يولّد الحاجة، وتضاعُف الحاجة يتحول إلى شوق، وتضاعف الشوق يكوّن الانجذاب، فالانجذاب والشوق والحاجة والميل.. كلّها نوىً لامتثال الأوامر التكوينية الرّبانية وبذورُها من حيث ماهية الأشياء.

فالكمال المطلق لماهيات الممكنات هو الوجود المطلق، ولكن الكمال الخاص بها هو وجودٌ خاص لها يُخرج كوامن استعداداتها الفطرية من طَور القوة إلى طور الفعل… فإطاعة الكائنات لأمرِ «كُنْ» كإطاعةِ الذرة الواحدة التي هي بحكم جندي مطيع. وعند امتثال الممكنات وطاعتها للأمر الأزلي: «كُن» الصادرِ عن الإرادة الإلهية تندمج كليًّا الميولُ والأشواقُ والحاجاتُ جميعها، وكل منها هو تجلٍّ من تجلّيات تلك الإرادة أيضًا. حتى إن الماء الرقراق عندما يتلقى -بمَيلٍ لطيفٍ منه- أمرًا بالانجماد، يَظهر سرّ قوة الطاعة
بتحطيمه الحديد.

فإن كانت هذه الأمثلة الستة تَظهر لنا في قوة الممكنات المخلوقات وفي فعلها وهي ناقصة ومتناهية وضعيفة وليست ذات تأثير حقيقى، فينبغي إذن أن تتساوى جميع الأشياء أمام القدرة الإلهية المتجلّية بآثار عظمتها.. وهي غير متناهية وأزليةٌ، وهي التي أوجدت جميع الكائنات من العدم البحت وحيّرت العقول جميعها، فلا يصعب عليها شيء إذن. ولا ننسى أن القدرة الإلهية العظمى لا توزن بموازيننا الضعيفة الهزيلة هذه، ولا تتناسب معها، ولكنها تُذكَر تقريبًا للأذهان وإزالةً للاستبعاد ليس إلَّا.

نتيجة الأساس الثالث وخلاصته: ما دامت القدرة الإلهية مطلقة غير متناهية، وهي لازمة ضرورية للذات الجليلة المقدسة، وأن جهة الملكوت لكل شيء تُقابلها وتتوجه إليها دون ستار ودون شائبة، وأنها متوازنة بالإمكان الاعتباري الذي هو تَساوي الطرفين، وأن كل شيء مطيع للنظام الذي هو شريعة الفطرة الكبرى، وأن جهة الملكوت مجردة وصافية من الموانع والخواص المختلفة… لذا فإن أكبر شيء كأصغره أمام تلك القدرة، فلا يمكن أن يُحْجِم شيءٌ أيًّا كان أو يتمرّد عليها. فإحياءُ جميع الأحياء يوم الحشر هينّ عليه كإحياء ذبابة في الربيع، ولهذا فالآية الكريمة: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ أمرٌ حق وصدق جلي لا مبالغة فيه أبدًا.

﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا اَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّٰهِ﴾ (آل عمران:64)

نورد نكتة واحدة من بين أُلوف نكات هذه الآية الكريمة:

إنه بقطع النظر عن مشرب الصوفية، فإن الإسلام يرفض الواسطة ويقبل الدليل، وينفي الوسيلة ويثبت الإمام؛ بينما غيره من الأديان يقبل الواسطة. فبناء على هذا السر الدقيق يستطيع النصراني أن يصبح متدينًا إذا أشغل مقامات من حيث الثروة والمنصب. بينما في الإسلام: العوامُّ هم المتمسكون بالدين أكثر من ذوي الثروات والمناصب؛ وذلك لأن النصراني ذا المقام يحافظ على نصرانيته وأنانيته بقدر تعصبه في دينه، فلا ينقص ذلك من تكبره وغروره، بينما المسلم يبتعد عن التكبر والغرور بقدر تمسكه بالدين، بل ينبغي له أن يتنازل عن عزة المنصب.

ومن هنا فالنصرانية ربما تتمزق بهجوم العوام المظلومين على الظالمين الذين يَعُدّون أنفسهم خواص النصارى، حيث النصرانية تُعِين تحكّمهم. بينما الإسلام لا ينبغي أن يتزعزع لأنه ملك العوام أكثرَ من الخواص الدنيويين.

* * *

﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰى﴾ (الأنعام:164)

تُمثل هذه الآية الكريمة أعدل دستور في السياسة الشخصية والجماعية والقومية. أما الآية الكريمة: ﴿اِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب:72) فتُبين استعدادَ الإنسان إلى الظلم الرهيب المغروز في فطرته.

والسر في ذلك هو: أن القوى والميول المودَعة في الإنسان لم تُحَدَّد، خلافًا للحيوان؛ لذا فإن الميل للظلم وحبّ الذات يتماديان كثيرًا وبشكل مخيف.

نعم، إن حب الإنسان لنفسه، وتحريَ مصلحته وحده، وحبه لذاته وحده، من الأشكال الخبيثة لـ«أنا والأنانية»، وإذا ما اقترن العناد والغرور بذلك الميل تولدت فظائع بشعة بحيث لم يعثر لها البشر على اسم بعدُ. وكما أن هذا دليل على وجوب وجود جهنم كذلك لا جزاء له إلّا النار.

ولنتناول هذا الدستور في:

نطاق الشخص:

يحوز الشخص أوصافًا كثيرة؛ إن كانت صفةٌ منها تستحق العِداء، فيقتضي حصرَ العِداء في تلك الصفة وحدها، حسب القانون الإلهي الوارد في الآية الكريمة، بل على الإنسان أن يشفق على ذلك الشخص المالك لصفات بريئة كثيرة أخرى ولا يعتدي عليه؛ بينما الظالم الجهول يعتدي على ذلك الشخص لصفة جانية فيه، لما في طبيعته من ظلم مغروز، بل تَسري عداوته لأوصاف بريئة فيه، حيث يخاصم الشخص نفسه، وربما لا يكتفي بالشخص وحده فيشمل ظلمُه أقاربَ الشخص بل كلَّ من في مسلكه، علمًا أن تلك الصفة الجانية قد لا تكون نابعة من فساد القلب، وربما هي نتيجة أسباب أخرى، حيث إن أسبابًا كثيرة تولد الشيء الواحد، فلا تكون الصفة جانية، بل حتى لو كانت تلك الصفة كافرة أيضًا لا يكون الشخص جانيًا.

وفي نطاق الجماعة:

نشاهد أن شخصًا حريصًا، قد طرح فكرًا ينطوي على رغبة، فقال بدافع الانتقام أو بدافعِ اعتراضٍ جارح: سيتبعثر الإسلام ويتشتت، أو ستمحى الخلافة. فيتمنى أن يُهانَ المسلمون -العياذ بالله- وتُخنق الأخوةُ الإسلامية، لكي يَظهر صدق كلامه ويَشبع غرورُه وأنانيته فحسب، بل يحاول إيضاح ظلم الخصم الجاحد في صورةِ عدالةٍ، باختلاقِ تأويلات وحذلقات لا تخطر على بال.

وفي نطاق المدنية الحاضرة:

نشاهد أن هذه المدنية المشؤومة قد أعطت البشريةَ دستورًا ظالمًا غدارًا، بحيث يزيل جميعَ حسناتها، ويبين السرَّ في قلق الملائكة الكرام لدى استفسارهم ﴿اَتَجْعَلُ فيهَا مَنْ يُفْسِدُ فيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَٓاءَ (البقرة:30) إذ لو وُجد خائن واحد في قصبة، فإنها تقضي بتدميرها وبمن فيها من الأبرياء، ولو وجد عاصٍ واحد في جماعة فهي تقضي بالقضاء على تلك الجماعة مع أفرادها وعوائلها وأطفالها. ولو تحصّن من لا يخضع لقانونها في جامع أياصوفيا فإنها تقضي بتخريب ذلك البناء المقدس الذي هو أثمن من مليارات الذهب. وهكذا تحكُم هذه المدنية بوحشية رهيبة.

فلئن كان المرء لا يؤاخَذ حتى بجريرةِ أخيه، فكيف تدان ألوفُ الأبرياء في قصبةٍ أو في جماعة لوجودِ مخرِّب واحد فيها. علمًا أنه لا تخلو مدينة أو جماعة منهم.