ذيل الذيل

لدواء اليأس([1])

الحمد لله الذي قال: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا (الحجرات:12).

والصلاة على محمد الذي قال: «من قال: هلك الناس هلك الناس فهو أهلكهم».

فإن محاكم التفتيش المدنية لهذا العصر، أنجبت لقطاءها -غير الشرعيين- باستعمالها وسائل رهيبة في تلقيح بعض الأذهان، وتجري بهم حقدها الدفين على الإسلام للثأر منه، محاوِلةً فتح الباب أمام ما يصرف المسلمين عن الدين، أو جَعْلهم في الأقل مهملين له، أو بإمالتهم نحو النصرانية، أو التخلي عن الإسلام بإلقاء الشبهات والشكوك في العقول، وتشيع بهذا مكرًا سيئًا هو الآتي:

«أيها المسلم! تأمل، أينما وجد مسلم فهو فقير، غافل، جاهل إلى حدٍ ما، بينما النصراني أينما حلّ فهو متحضر، يقظ، صاحب ثروة… وهذا يعني.. الخ..»

وأنا أقول: أيها المسلم لا ترخِ يدك عن الإسلام الذي هو حامي وجودنا وكياننا تجاه الدمار الذي تولّده هذه النتيجة المُخيفة لتقدم أوروبا، بل عض عليه بالنواجذ واستعصم به بقوة، وإلّا فمصيرك الهلاك.

نعم، نحن نتدنى إلى أسفل وهم يرقون إلى أعلى، ولهذا سببان اثنان: أحدهما مادي، والآخر معنوي.

السبب الأول:

الوضع الفطري لأوروبا التي هي كنيسة النصرانية عامة، ومنبع حياتها، فهي ضيقة، جميلة، تملك الحديد، متعرجة السواحل، تلتف فيها الأنهار والبحار التفاف الأمعاء في الجسد، مناخها بارد.

نعم، إن أوروبا على الرغم من كونها عُشر الخمس للكرة الأرضية، فإنها جذبت ربع البشرية نحوها بلطافة مناخها الفطري.

وإنه ثابت حكمةً: أن اجتماع الأفراد الكثيرين يولّد الحاجات، فلا يستوعب إنتاجُ الأرض تلك الحاجاتِ التي تتزايد بأسباب كثيرة -كالتقليد وغيره- ومن هنا تصبح الحاجةُ أمَّ الاختراع والصناعة، وحبُّ الاستطلاع معلّمَ العلم، والضيقُ الروحي مولدَ السفاهة.

نعم، إن التوجه نحو الصناعة والميل إلى المعرفة ينشـأ من الكثرة؛ فبسبب ضيق المكان في أوروبا، وكثرة بحارها وأنهارها التي هي وسائط نقل طبيعية فيها، فإن التعارف ينتج التجارة، والتعاونَ الاشتراك في الأعمال، مثلما يولد التّماس تَلَاحُقَ الأفكار والمنافسةَ والتسابق.

ولكثرة ما فيها من الحديد -الذي هو منبع جميع صناعات أوروبا- أعطى لمدنيتهم السلاحَ القوي حتى غصبت أنقاضَ مدنيات الدنيا كلها وأغارت عليها، إلى حد أثقلت كفتها وأخلّت بميزان الكرة الأرضية.

ثم إن البرودة المعتدلة التي من شأنها أن تأخذ كل شيء ببطء وتتركه ببطء، قد أعطت لسعيهم الثبات والمتانة، فأدامت مدنيتهم.

ثم إن تَشكُّل دولهم المستندة إلى العلم، وتصادُم قواهم المتكافئة، وإزعاجاتِ استبداداتهم الغدارة، ومضايقاتِ تعصبهم المقيت الظالم -كتعصب محاكم التفتيش- والذي آل إلى خلاف المقصود، والتسابقَ الجاري بين عناصرها المتوازنة.. كل ذلك نمّى استعداداتِ الأوروبيين، وفجّر قابلياتِهم، فظهرت لديهم المزايا، والفكر القومي.

السبب الثاني:

هو نقطة الاستناد. نعم، إن أيّ نصراني كان إذا ما رفع رأسه ومدّ يده إلى أي مقصد من المقاصد المتسلسلة المتداخلة، إذا به يجد وراءه نقطة استناد قوية تعزز قوته المعنوية وتبعث فيها الحياة، حتى يجد في نفسه من القوة ما يمكّنه أن يقتحم كل صعب وعظيم من الأعمال.

فتلك النقطة، نقطة الاستناد، هي مدنيةُ أوروبا التي هي معسكر (كتلة مسلحة) وكنيستُها العظيمة، وهي مستعدة في كل آن أن تنفخ الحياة في عروق رفقاء دينها الذين يمدون إليها أيديهم من كل صوب، ومتهيأة أيضًا لقطع الشريان النابض للمسلمين، فلقد عجنت بتعصب محاكم التفتيش المدنية الماكرة، والإلحاد النابع من الفكر المادي. فأوروبا تختال غرورًا بانتصار مدنيتها على الآخرين.

ألا يُشاهد الإنكليز الذين تقنّعوا بقناع الحرية، يَمدّون أيدهم إلى كل جهة ويتحرون عن نصراني، فأينما وجدوه بعثوا فيه الحياة.. فها هي الحبشة والسودان… وها هي الطيار والأرتوش وها هي لبنان وحوران.. وها هي ماسور وألبانيا.. وها هم الكرد والأرمن.. والترك والروم.. الخ.

حاصل الكلام: إن الذي ينفث فيهم الحياة هو الأمل.. والذي يقتلنا هو اليأس. وقد اشتهر أحدهم بقوله: «أستطيع أن أحرّك الكرة الأرضية من مكانها إذا وجدتُ نقطة استناد»، ففي هذا القول المفترض نقطة عجيبة، هي: أن هذا الإنسان الصغير جدًا إذا ما وَجد نقطة استناد يستطيع أن يدير أعظم الأشياء كالكرة الأرضية.

فيا أهل الإسلام!

إن نقطة استنادنا تجاه المصائب والدواهي، التي ألقت بثقلها العظيم، عِظم الأرض، على العالم الإسلامي، هي الإسلام الذي يأمر بالاتحاد النابع من المحبة، وبامتزاج الأفكار الناشئ من المعرفة، وبالتعاون الذي تولده الأخوّة.

فانظر بدءًا من العالم الإسلامي، تلك الدائرة الواسعة، وانتهاء إلى طالب علم في المدرسة الشرعية كأصغر دائرة… تجد أن لكل منها عُقدًا حياتية، وتلك العقد مرتبطة ببعضها متسلسلة ومستندة إلى تلك النقطة العظمى، كأفراد المجتمع وروابطه.. بمعنى أنه يمكن أن يصحو المسلمون ويبدأوا بالرقي متى ما نُبِّهوا وبُث فيهم روحُ النماء، فلا صحوة بخنق تلك العقد الحياتية.

وإلّا فإن قيام أحد بالموازنة والمقارنة بين محاسن أوروبا ومساوئنا، وثمرةِ تلاحق الأفكار لديهم مع ثمرة سعي شخص واحد عندنا([2])… فكما أنه يبين بهذه المقارنة الظالمة المجحفة الخادعة أنه لقيط أوروبا لإظهار افتتانه بها ونفوره من أمته، فإنه أيضًا بالهجاء النابع من الخِداع والفكر الثوري والميل إلى التخريب، والمشحون بالعصيان والافتراء والتعرض للشرف، يُظهر فرعونيتَه والثناءَ على نفسه والتربيت على غروره ضمنًا، مبديًا دون علم منه عداءه للإسلام. علمًا أنه المكلف بالشعور بالشفقة على أمته شرعًا وعقلًا وحكمة، إلّا أنه بحكم الفرعونية والأنانية والغرور يضع الشعور بالتحقير بدلًا من الشعور بالشفقة، والميلَ إلى النفور من الأمة بدلًا من ميل الانجذاب إليها، وإرادةَ الاستخفاف بها بدلًا من محبتها، ويَصِمُها بالجهل بدلًا من احترامها، ويرغب في التكبر عليها بدلًا من الرحمة بها، ويقيم روح الانفرادية بدلًا من روح التضحية والفداء لها… فيثبت بهذا كله أنه لا يملك حَمِيَّة للأمة وأنه مبتوت الأصالة، فيكون جانيًا منفورًا منه في نظر الحقيقة بحيث يتصرف تصرف الأحمق الأبله، كمن يحاول إلباس عالم فاضل في المسجد ملابسَ أعجبته لراقصة ساقطة في باريس.

ذلك لأن الحمية هي نتيجة ضرورية للمحبة والاحترام والرحمة، فلا حمية بدون هذه الأمور، وإلّا فهي حمية كاذبة وخادعة. والنفورُ من الأمة خلافُ الحمية أيضًا، مفتوني أوربا الذين يشنون هجومهم على المتعصبين عندنا، كل منهم أكثر تعصبًا وتزمتًا في مسلكهم السقيم؛ فلو مَدَح عالمٌ دينيٌ الشيخَ الكيلاني بإفراطٍ كمدحِ أولئك
لشكسبير لكُفِّرَ.

هيهات، أين المحبة من هؤلاء؟

إن إحدى العقد الحياتية المحرِّكة للمجتمع والدافعةِ إلى الفعالية، هو الفكر الأدبي. الذي بدأ فينا وحده بالنمو -مع الأسف- ولا سيما أدب الهجاء ورغبة تحقير الآخرين. والذي ينطوي على الإعجاب بالنفس والغلو في الوصف في أسلوب شعري وبما لا يليق بالأدب. فهو أدب خارج عن الأدب الحقيقي الذي تُؤَدِّبنا به الآيةُ الكريمة ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا (الحجرات:12) بحيث يهاجم كلٌّ الآخرَ. ومع ردّ تعرضات ضمنية للأمة وللإسلام بوجه أولئك المفتونين، نمر مرّ الكرام على هجائهم اللاديني وإهانة الآخرين، فنمضي قائلين: ربما يستحقون ذلك.

إنني أظن أن الباعث على ذل هذه الأمة أكثرَ من الجهل هو الذكاء الأبتر العقيم غيرُ المرافق لنور القلب. وفي نظري أن أخطر مرض هو الانحياز المتطرف، لأنه يدفع إلى خلاف المقصود، بإخراج كل شيء عن طوره.

أيها الأخ!

لقد بدأتْ عندنا تباشيرُ أسبابِ فتية، قوية، بدلًا من تلك الأسباب الهرمة التي ولّدت تقدم النصرانية.

وقد فصّلت ذلك في كتاب آخر.([3])

حكاية:

قبل عشر سنوات (المقصود سنة 1910م) ذهبتُ إلى «تفليس» وصعدتُ تل الشيخ صنعان، كنت أتأمل تلك الأرجاء وأراقبها. فاقترب مني أحد رجال البوليس فقال:

بم تنعم النظر؟

قلت: أخطّط لمدرستي!

قال: من أين أنت؟

قلت: من بتليس

قال: وهنا تفليس!

قلت: بتليس وتفليس شقيقتان

قال: ماذا تعني؟

قلت: لقد بدأ ظهور ثلاثة أنوار متتابعة في آسيا، في العالم الإسلامي، وستنقشع عندكم ثلاث ظلمات بعضها فوق بعض، سيُمزَّق هذا الستار المستبد ويتقلص، وعندها آتي إلى هنا وأُنشئ مدرستي.

قال: هيهات! إنني أحار من فرطِ أَمَلِكَ؟

قلت: وأنا أحار من عقلك! أيمكن أن تتوقع دوام هذا الشتاء؟ إن لكل شتاء ربيعًا ولكل ليل نهارًا.

قال: لقد تفرق المسلمون شذر مذر.

قلت: ذهبوا لكسب العلم، فها هو الهندي الذي هو ابن الإسلام الكفء يَدرس في إعدادية الإنكليز.

وها هو المصري الذي هو ابن الإسلام الذكي يتلقى الدرس في المدرسة الإدارية السياسية للإنكليز..

وها هو القفقاس والتركستاني اللذان هما ابنا الإسلام الشجاعان يتدربان في المدرسة الحربية للروس.. الخ.

فيا هذا! إن هؤلاء الأبناء البررة النبلاء، بعد ما ينالون شهاداتهم، سيتولى كل منهم قارة من القارات، ويرفعون لواء أبيهم العادل، الإسلام العظيم، خفاقًا ليرفرف في آفاق الكمالات، معلنين سر الحكمة الأزلية المقدرة في بني البشر رغم كل شيء.

وهذا هو نصف حكايتي.

مثال:

والآن سأمثل للحالة الروحية التي تدفع إلى القول: «نفسي نفسي.. ماذا عليّ». بالآتي:

يتقابل شخصان وتبدأ المناظرةُ والمفاخرة بينهما، أحدهما جسور ولكن عضت النوائبُ([4]) عشيرتَه الأصيلة. والآخر جبان، لكنه ينتمي إلى عشيرة أخرى تبسمت لها الأقدار. فالأول يرفع رأسه ويرى ذلّ عشيرته لا تستطيع عزة نفسه تحمّل الذل، فيخفض رأسه وينظر إلى نفسه، فيراها محملة إلى حدٍّ ما بالعزة. وعندها يبدأ غروره المجروح بالأنانية بالصراخ قائلًا: وماذا عليّ.. ها أنذا! وهاهي أفعالي أنا.. فينسحب من تلك العشيرة أو ينتسب إلى أخرى مُظهِرًا عدم أصالته.

أما الثاني فكلما رفع رأسه سطعت أمام ناظرَيْه مفاخرُ عشيرته فينتفخ غروره. ولكن ما إن ينظر إلى نفسه يراها واهية، وعندها يتيقظ روح التضحية والفداء في الشعور القومي، فيقول: فداكِ نفسي يا عشيرتي!.

فإذا فهمتَ الرمز الكامن في هذا المثال، فإن في ميدان العالم هذا، ميدانُ الامتحان والمجاهدة والسباق، إذا تظاهرت مشاعر كل مسلم ونصراني، وكردي ورومي، في أثناء المبارزة في الحَمِيَّة، تجد سر المثال. ولكن هذا التفاوت ليس كما يظنه الناس وربما هو ناتج من النظر الظاهري والسطحي وغلط الحس.

أيها المسلم!

إياك أن تنخدع. فلا تخفضْ رأسك! فإن قطعةَ ألماسٍ نادرة مهما كانت صَدِئَةً أفضلُ من قطعة زجاج لامعة دومًا. فضعفُ الإسلام الظاهري ناشئ من خدمة هذه المدنية الحاضرة في سبيل دين آخر.

آن الأوان إذن أن تبدل هذه المدنيةُ صورتَها، فإذا ما بَدَّلَتْها فالقضية تنعكس.

فكما قيل في البداية أينما كان المسلم فهو البدوي بالنسبة للنصراني، مستنكف عن المدنية لا يكترث بها ويتحرج في قبولها، فإذا ما بُدّلت الصورة فالوضع يتبدل.. وكل آت قريب.

و ﴿اِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (الشرح: ٦)

سعيد النُّورْسِيّ

* * *


[1] رسالة «دواء اليأس» هي «الخطبة الشامية» وذيلها «تشخيص العلة» وهذا البحث ذيل لذيلها. إلّا أنه نشر مع هذه الرسالة فأبقيناه في موضعه. (المترجم).

[2] إن إسناد محاسن المدنية إلى النصرانية التي لا فضل لها فيها، وإلصاق التدني والتقهقر بالإسلام الذي هو عدوّ له، دليل على دوران المقدرات بخلاف دورتها، وعلى قلب الأوضاع.(المؤلف).

[3] المقصود الخطبة الشامية.

[4] بمعنى أن «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» ليس مجازًا. (المؤلف).