س: كيف تكون الحرية خاصية الإيمان؟

ج: لأن الذي ينتسب إلى سلطان الكون برابطة الإيمان ويكون عبدًا له تتنزّه شفقتُه الإيمانية عن التجاوز على حرية الآخرين وحقوقهم، مثلما تترفع شهامتُه الإيمانية وعزته عن التنازل بالتذلل للآخرين والانقياد لسيطرتهم وإكراههم.

نعم، إن خادمًا صادقًا مخلصًا للسلطان لا يتذلل لتحكّمِ راعٍ وسيطرته، كما يَرْبأ بنفسه أن يفرض سيطرته على مسكين ضعيف. فبمقدار قوة الإيمان إذن تتلألأ الحرية وتسطع. فدونكم خير القرون، العصر السعيد، عصر النبوة والصحابة الكرام.

س: هيهات! نحن عوام كيف نصير أحرارًا تجاه الشخصيات الكبار أو الأولياء والصلحاء والعلماء العظام، أوَ ليس من حقهم أن يتحكموا فينا لمزاياهم، فكيف لا نكون أُسراءَ فضائِلِهم؟

ج: إن شأن الولاية والمشيخة والعظمة: التواضع والتجرد، وهما من لوازم الفضيلة وخصائص الكمال ورفعة الشأن، لا التكبر والتحكم.. فمن تكبّر فهو صبي متشيّخ وطفل متكهّل، فلا تعظّموه..

س: لِمَ يكون التكبّر علامة التصاغر؟

ج: لأن لكل شخص نافذة يشاهد فيها ويطل منها على المجتمع، تلك هي مرتبة الشهرة والكرامة. فإذا كانت تلك النافذة أرفع من قامة استعداده، يتطاول بالتكبر، أما إذا كانت أخفض من قامة همته يتواضع بالتحدب ويتخفض كي يشهد في تلك المرتبة ويُشاهد.

س: حسنًا جدًا؛ لقد رضينا بأن الحرية حسنة جميلة، ولكن تبدو حرية الروم والأرمن شوهاء، وتسوقنا إلى التوجس وقلق البال، فما رأيك فيها؟

ج:

أولًا: إن حريتهم ألّا يُظلَموا، ولا يُخَلّ براحتهم، وهذا أمر شرعي؛ أما ما زاد على هذا فهو تعدّ منهم تجاه طيشكم وسوء تصرفكم، أو استغلال لجهلكم.

ثانيًا: لو كانت حريتهم -كما تظنونها- مضرة بكم، فلسنا معاشر المسلمين بخاسرين، لأن الأرمن الذين هم بين ظهرانينا لا يبلغون ثلاثة ملايين، وغير المسلمين فينا أيضًا لا يبلغون عشرة ملايين، بينما ملتنا الإسلامية وإخواننا الحقيقيون الأبديون يزيدون على ثلاثمائة مليون، إلّا أنهم مقيّدون بثلاثة قيود رهيبة من قيود الاستبداد، فينسحقون تحت هذا الاستبداد المعنوي للأجانب.. وهكذا فحرية غير المسلمين -التي هي شعبة من حريتنا- إنما هي مقدمة وأتاوة لحرية أمتنا كافة.. وهي رافعةٌ ذلك الاستبداد المعنوي المرعب.([1]) وهي مفتاح لفك تلك القيود.. وهي رافعة للاستبداد المعنوي الرهيب الذي ألقاه الأجانب على كاهلنا. نعم، حرية العثمانيين كشّافة لطالع آسيا العظيمة ومفتاح لحظ الإسلام وأساس لسور الاتحاد الإسلامي.

س: ما تلك القيود الثلاثة التي قيّد الاستبدادُ المعنوي بها العالَمَ الإسلامي؟

ج: إن استبداد حكومة روسيا -مثلا- قيدٌ.. وتحكّم الشعب الروسي قيدٌ آخر، وتغلّب عاداتهم الكفرية الجائرة على العادات الإسلامية قيد ثالث.. والحكومة الإنكليزية، وإن كانت تبدو غير مستبدة إلّا أن أمتها متحكمة مسيطرة، وعاداتها مهيمنة، فدونكم «الهند» برهانًا على ذلك و «مصر» نصف برهان عليه.

أفلم يثبت إذن أن أمتنا الإسلامية مقيدة بثلاثة قيود، أو بقيد ونصف، وليس لنا إزاء ذلك إلّا قيد كاذب موهوم ضعيف وضعناه على أرجل غير المسلمين فينا. وقد تحملنا كثيرًا من دلالهم بديلًا عن ذلك. فلقد ازدادوا نسلًا وثروة، أما نحن فقد تناقصنا نسلًا وثروة. وذلك بسبب انحصار الوظائف -التي هي ضربٌ من عمل الخادم- والعسكرية فينا.

إن الفكر الملّي والدُ «الحرية» وما كان الأسرى إلّا الأكراد والأتراك.

وهكذا نفكّ ذلك القيد الكاذب ونحلّه عن أرجلِ ثلاثة ملايين أو عشرة ملايين لينفسح المجال ويتمهّد الطريق أمام حرية ثلاثمائة مليون مسلم مقيدين بثلاثة قيود.([2]) ولا ريب أن مَن أعطى ثلاثة عاجلًا وربح ثلاثمائة آجلًا ليس بخاسر!..

[وسيأخذ الإسلام بيمينه من الحجة سيفًا صارمًا جزارًا مهندًا… وبشماله من الحرية لجام فرس عربي مشرق اللون فالقًا بفأسه وقوسه رؤوس الاستبداد الذي به اندرس بساتيننا].([3])

س: هيهات! كيف تكون حريتُنا مقدمة لحرية العالم الإسلامي كافة وفجره الصادق؟.

ج: بجهتين: –

الأولى: إن الاستبداد الذي فينا أقام سدًا مظلمًا جائرًا إزاء حرية آسيا، فما كان لضياء الحرية أن ينفذ من ذلك الستار الكثيف المظلم ليفتّح الأبصار ويُري الكمالات، ولكن بخراب هذا السدّ انتشر -وسينتشر- فكر الحريّة ومفهومها حتى إلى الصين، بيد أن الصين أفرطت وأصبحت شيوعية. ولما ثقلت كفة الحرية في ميزان العالَم، فقد رفعت كليًّا الوحشية والاستبداد اللذين في الكفة الأخرى، وسيزولان بمرور الزمن. فلو أنكم قرأتم صحيفة الأفكار وتأملتم في طريق السياسة واستمعتم إلى الخطباء العموميين، أعني الصحافة الصادقة في أخبارها، لعلمتم أنه قد حصل في العالم العربي والهند وجاوا ومصر والقفقاس وأفريقيا وأمثالها، تحّولٌ عظيم وانقلاب عجيب ورقي فكرى وتيقظ تام نابعٌ من فوران فكر الحرية وغليانه في أفكار العالم الإسلامي، فلو كنا دافعين مئة سنة ثمنًا لها لكان رخيصًا، لأن الحرية كَشفت عن الملّيةِ وأظهرتها وبدأ يتجلى الجوهر النوراني للإسلام في صَدَفة الملّية، فآذنت -بتحرك الإسلام واهتزازه-: بأن المسلم ليس جزءًا فردًا سائبًا حبلُه على غاربه، بل هو جزء لمركبات متداخلة متصاعدة، له مع سائر الأجزاء صلة رحم من حيث جاذبية الإسلام العامة. فهذا النبأ يمنح أملًا قويًا بأن نقطة الاستناد ونقطة الاستمداد في غاية القوة والمتانة، وهذا الأمل أحيا قوتنا المعنوية بعد أن كانت صريعة اليأس. وستمزِّق هذه الحياةُ حُجُبَ الاستبداد المعنوي العام المستولي على العالم الإسلامي كلّهِ مستمدةً من فكر الحرية ومفهومها الذي يفور فيه([4]) [على رغم أنف أبي اليأس].

الجهة الثانية: مازال الأجانب يُذلّون ملّتنا بالحِيَل، ويتذرعون بأسباب واهية وحجج تافهة لذلك. أما الآن فما ظل في أيديهم ما يحتجون به من حجة تؤثر في عروق إنسانيتهم، أو تهيّج أعصاب تعصبهم أو تحرك أوتارهم الخدّاعة الدساسة، بل لو وجدوا حجةً ما فلا يمكنهم أن يتذرعوا بها؛ إذ من شأن المدنية وخاصيتها: حب الإنسانية.

س: هيهات! أين هذا الأمل العظيم الذي تسلّينا به، من تلك الحيّات المرعبة المحيطة بنا الفاغرة أفواهها لتنفث السم في حياتنا وتمزق دولتنا إربًا إربًا، فتحول ذلك الأمل المشرق إلى يأس قاتم؟.([5])

ج: لا تخافوا، إن المدنية والفضيلة والحرية قد بدأت تهيمن في العالم الإنساني مما أثقلت كفة الميزان، فبالضرورة تتخفف الكفة الأخرى شيئًا فشيئًا، فلو فرضنا محالًا أنهم مزّقونا وقتلونا –لا سامح الله- اطمئِنوا بأننا نموت ونحن عشرون إلّا أننا نُبعَث ونحن ثلاثمائة، نافضين غبار الرذائل والاختلافات عن رؤوسنا متّحدين مقدِّرين حقيقةَ مسؤوليتنا، نتسلّم الراية لنَقُودَ قافلة البشرية. فنحن لا نهاب هذا الموت الذي يُنتج حياةً أشد وأقوى وأبقى. فحتى لو متنا نحن فسيبقى الإسلام حيـا سـالمًا، فلتعش أبدًا تلك الملّة المقدسة.

س: كيف نتساوى مع غير المسلمين؟.

ج: المساواة ليست في الفضيلة والشرف، بل هي في الحقوق. فالسلطان الملك والفقير المسكين كلاهما سيّان في الحقوق.. فيا للعجب إن الشريعة التي نهت عن تعذيب نملة وأمرت ألّا تداس عمدًا، أتهمل حقوقَ بني آدم؟ كلا!

ولكن نحن الذين لم نمتثل الشريعة. ألا تكفي لتصحيح خطئكم هذا، محاكمة أمير المؤمنين الإمام عليّ رضي الله عنه، مع يهودي فقير، ومرافعة صلاح الدين الأيوبي -وهو مدار فخركم- مع نصراني مسكين.([6])

س: إن منح الحرية للروم والأرمن يقلقنا، فتارةً يتجاوزون علينا وأخرى يفتخرون بأن الحرية والمشروطية هما نتيجة سعيهم فيحرموننا فضائلها.

ج: أظن أن تجاوزهم الحدود الآن هو تشفٍّ لغيظ ما توهموا من تجاوزكم عليهم في الماضي… أو هو تصنّع وتظاهر وتهديد تجاه ما يتوقعون واهمين من تعدٍّ منكم عليهم في المستقبل، فإن اطمأنوا واعتقدوا بعدم التعدي عليهم فسيرضخون -بلا شك- للعدالة ويقتنعون بها، وإن لم يقنعوا بالعدالة فالحق يُرغِم أُنوفَهم بقوته ويسوقهم مضطرين إلى الاقتناع.

أما قولهم «نحن الذين حصلنا على المشروطية» فهو كذب بيّن، إذ ما برزت الحرية والمشروطية إلى الوجود إلّا بحراب جنودنا وبأقلام مجتمعنا الحامل لروح الأمة، بل كان هدف هؤلاء وأمثالهم من الثرثارين المهاذير هو «اللامركزية السياسية» التي هي ابنة عم «الإمارة» و«الحكم الذاتي» إلّا أن تسعين بالمئة منهم قد اتّبعونا، وظلّت خمسة من العشرة الباقية يثرثرون، والبقية الباقية باتوا يعذرون ولايرغبون في العدول عن أوهامهم الماضية.

س: كيف تشير إلينا بمحبة اليهود والنصارى، مع أن القرآن الكريم ينهى عن ذلك بقوله تعالى: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارٰٓى اَوْلِيَٓاءَ (المائدة:51).

ج: أولًا: كما يلزم أن يكون الدليل قطعي المتن، يلزم كذلك أن يكون قطعي الدلالة، مع أن للتأويل والاحتمال مجالًا، لأن النهي القرآني ليس بعام بل مطلق، والمطلق قد يُقيّد، والزمان مفسّر عظيم، فإذا ما أظهر قيدَه فلا اعتراض عليه.

وأيضًا، إن كان الحكم قائمًا على المشتق، فإنه يفيد علّية مأخذ الاشتقاق للحكم. فإذَنْ المنهيُّ عنه في هذه الآية الكريمة هو محبتهم من حيث ديانتهم اليهودية والنصرانية.. وأيضًا، لا يكون المرء محبوبًا لذاته، بل لصفته وصنعته، لذا فكما لا يلزم أن تكون كل صفةٍ من صفات المسلم مسلمة، كذلك لا يلزم أن تكون جميع صفات الكافر وصنعته كافرة أيضًا.

فعلى هذا، لِمَ لا يجوز اقتباس ما استحسنّاه من صفةٍ مسلمة أو صنعة مسلمة فيه؟ فإن كانت لك زوجة كتابية، لاشك أنك تحبها.

ثانيًا: لقد حدث انقلاب ديني عظيم في العصر النبوي السعيد، وجَّهَ كلَّ الأفكار والأذهان نحو الدين، فارتبطت بالدين جميعُ الحسّيات والمشاعر، فكانت العداوة والمحبة تدوران حول ذلك المحور (الدين)، لهذا كانت تُشمّ رائحة النفاق من محبة غير المسلم. ولكن الانقلاب الحاضر العجيب في العالم هو انقلاب مدني ودنيوي، فالمدنية والرقيّ الدنيوي يجذبان العقول كلها ويشغلانها ويشدّان بهما جميع الأذهان فضلًا عن أن معظم غير المسلمين ليسوا ملتزمين التزامًا جادًّا بدينهم أساسًا… فعلى هذا فإن محبتنا لهم ما هي إلّا لاقتباس ما استحسناه من مدنيتهم وتقدمهم ولأجل المحافظة على نظام البلاد وأمنها الذي يُعدّ أساس سعادة الدنيا، فهذه الصداقة إذن لا تدخل قطعًا ضمن النهي القرآني.

س: إن قسمًا من أفراد «جون تورك» يقولون: لا تخاطبوا النصارى بــ: «يا كافر» استهانةً بهم، فهم أهل كتاب!.. لماذا لا نخاطب الكافر بـ «أيها الكافر»؟!.

ج: مثلما لا تقولون للأعور: أيها الأعور! لئلا يتأذى، فهناك نهيٌ عن أذاهم كما جاء في الحديث الشريف: [من آذى ذميًا… الخ].

وثانيًا للكافر معنيان:

فالأول: وهو المتبادر إلى الذهن عُرفًا وهو: المُنكِر للخالق سبحانه والملحد الذي لا دين له، فهذا المعنى ليس لنا الحق في إطلاقه على أهل الكتاب.

وثانيه: هو المنكِر لرسولنا الأعظم ﷺ وللإسلام، فهذا المعنى، لنا الحق أن نطلقه عليهم، وهم راضون به كذلك. ولكن لمّا كان المعنى الأول هو الذي يتبادر إلى الذهن مباشرة، صارت تلك الكلمة، كلمة تحقير وإهانة وأذى، زد على ذلك أنه لا اضطرار لخلط «دائرة الاعتقاد» بـ«دائرة المعاملات» وربما هذا هو ما يقصده ذلك القسم من «جون ترك».

س: نسمع كثيرًا من الأخبار المؤسفة والحوادث السيئة، لاسيما من غير المسلمين.. كأن تزوج أحدهم بمسلمة.. وكذا وكذا في مكان، وكيت وكيت في مكان آخر، وحدث ما حدث في مكان… الخ…

ج: نعم، إن وقوع هذه الأمور السيئة الفاسدة وأمثالها أمر هو أقرب ما يكون بالضرورة -مع الأسف- في دولة مستجدة وغير مستقرة، وفي أمة جاهلة متخلفة، علمًا أنه كان هناك أسوأ من هذه السيئات في الماضي، ولكنها كانت خافية عنّا، إلّا أنها ظهرت الآن للعيان. فالداء إذا ما ظهر يسهل علاجه. وكذا فالذي لا يرى من الأمور العظيمة إلّا التقصيرات، ينخدع ويخدع الآخرين بالخب الخبيث، إذ من شأنه إنبات سيئة واحدة وإثمارها كي تطغى على الحسنات، هذا وإن الطور العجيب لهذا الخب، هو أنه يجمع الأمور المتفرقة في الزمان والمكان ويوحّدها معًا، وينظر من خلال ذلك الحجاب الأسود إلى الأشياء. حقًا إن الخب بأنواعه المختلفة هو ماكنة الغرائب ومصنعها. ألا ترى أن عاشقًا خبًّا كيف يرى الكائنات تتراقص متضاحكة متحابة متجاذبة.. وأن والدة حزينة بوفاة طفلها كيف ترى الكائنات نادبة متباكية حزينة؟ فكلٌ يجني ما يشتهيه وما يلائمه. سأورد لكم مثلًا بهذه المناسبة:

تأملوا! إذا دخل أحدكم في بستان رائع جميل يشتمل على أنواع الأزاهير والثمرات، لأجل أن يتنزه فيه ويستجمّ ساعة من الزمان، وكان في بعض جوانب البستان بعض العفونات والنجاسات -حيث إن وجود النقص مع الكمال من مقتضيات هذا العالم وليس المبّرأ من النقص إلّا الجنة- فإنه لا يبحث ولا يتحرّى إلّا تلك العفونات ولا يديم النظر إلّا إلى تلك النجاسات، لانحراف في مزاجه. وكأن ليس في ذلك البستان الباهر إلّا تلك، ثم يتوسع ويتسنبل ذلك الخيال الفاسد بحكم التوهم والتخيل حتى يحسب أن ذلك البستان الرائع مَسْلَخٌ قذرٌ أو مزبلة وسخة، ويأخذه الدوار والغثيان، ويبدأ بالتقيؤ وينكص على عقبيه.

فيا ترى هل ترضى الحكمة والمصلحة بوجههما الصبوح أمثالَ هذا الخيال المنغّص للذة حياة البشر.

ألا تَرَون: أن مَن أحسَنَ رؤيتَه حَسُنَتْ رويّته وتفكيره، فتحسُنُ رؤياه، ويستمتع بحياته.

س: كيف يجوز تجنيد غير المسلم وانخراطه في سلك الجيش؟.

ج: بأربعة أوجه([7]):

أولًا: ما الجندية إلّا للحرب.. فلقد قاتلتم بالأمس دُبًّا ضخمًا وعاونكم النساء والغجر والصبيان والكلاب ونصروكم، فهل في ذلك من بأس عليكم أو من عارٍ عليكم؟

ثانيًا: كان للنبي ﷺ معاهدون وحلفاء من مشركي العرب وكانوا يخرجون معًا إلى الحرب، بينما هؤلاء أهل كتاب.. ولأنهم يكونون متفرقين في الجيش، لا متجمعين، فإن كثرتنا الغالبة، وقوة مشاعرنا، ستحدّان من الضرر الموهوم.

ثالثًا: قد استُخدم في جيش الدول الإسلامية غيرُ المسلمين -ولو نادرًا- والجيش الانكشاري شاهد على هذا.

س: كان المسلمون هم الأغنياء وكان أولئك هم الفقراء، إلّا أن القضية انعكست الآن، فما الحكمة؟.

ج: هناك سببان لهذا حسب علمي:

الأول: الفتور في السعي وعدم الرغبة خلافًا لما هو مستفاد من الأمر الربّاني: ﴿وَاَنْ لَيْسَ لِلْاِنْسَانِ اِلَّا مَا سَعٰى (النجم:39) وانطفاء جذوةِ شوقِ الكسب المستفاد من الأمر النبوي بأن [«الكاسب حبيب الله»] وذلك نتيجة إيحاءات بعض الرجال وتلقيناتِ قسم من الوعاظ الجاهلين، أولئك الذين لم يدركوا إن إعلاء كلمة الله في الوقت الحاضر يتوقف على الرقي المادي… ولم يتفهموا قيمة الدنيا [من حيث هي مزرعة الآخرة].. ولم يميّزوا بين متطلبات القرون الوسطى والقرون الأخرى.. ولم يفرقوا بين قناعتين بعيدتين عن بعضهما «القناعة في التحصيل والكسب» وهي المذمومة و«القناعة في المحصول والأجرة»، وهي الممدوحة.. ولم يتبينوا البون الشاسع بين «التواكل» الذي هو عنوان الكسل و«التوكل» الذي هو صَدَفَة الإخلاص الحقيقي.

فالأول: هو تكاسل في ترتيب المقدمات، وهو في حكم التمرد على النظام القائم بين الأسباب التي هي مقتضى مشيئة الله تعالى. والآخر: هو توكل إيماني في ترتُّب النتائج، وهو من مقتضيات الإسلام، والذي يقود صاحبه إلى التوفيق حتى في النتائج شريطة عدم التدخل في التقديرات الإلهية.

فالتَبَسَ عليهم كلا الأمرين… ولم يتفرسوا سرّ «أمتي.. أمتي» ولا يفهمون حكمة «خير الناس أنفعهم للناس» فهؤلاء هم الذين حطموا ذلك الميل وأطفأوا ذلك الشوق…

والسبب الثاني: هو سلوكنا في المعيشة مسلكًا غير طبيعي، مسلكًا يوافق الكسل ويلائمه، ويداعب الغرور ويربت عليه، وهو المعيشة على الوظيفة الحكومية.. لذا لقينا جزاء ما كسبت أيدينا.

س: كيف؟.

ج: إن الطريق المشروع للمعيشة والسبيل الطبيعي والحيوي إليها هو «الصناعة، والزراعة، والتجارة». أما الطريق غير الطبيعي فهو الوظيفة الحكومية والإمارة بأنواعها. وعندي أن الذين جعلوا مدار معيشتهم «الإمارة» -وإن تسمّت بأي اسم كان- فهم في زمرة الشحاذين العاجزين المتسولين ومن زمرة المخادعين الحيالين.. وفي نظري أن الذي ينخرط في سلك الوظيفة أو الأمارة، فليدخل إليها لأجل الحمية والخدمة للأمة، وإلّا فلو دخلها للمعيشة والمنفعة فحسب، فلا يقوم إلّا بضرب من التسوّل،([8]) إذ ثبت أن حصر كل الوظائف فينا، أضاع علينا ثرواتنا بتسليمها ليد الإسراف، وأن حصر العسكرية فينا شتت ذرارينا في الآفاق. فلو كان الأمر يستمر على هذا المنوال لكنا ضائعين منقرضين. فعلى هذا، فإن هذه المسألة، أي أخذهم إلى الجندية فيه «مصلحة مرسلة» قريبة من الضرورة، فضلًا عن أننا مضطرون إليه اضطرارًا، والمصالح المرسلة في مذهب الإمام مالك، تعدّ علّة شرعية.

س: كيف يمكن أن يصير الأرمني واليًا أو قائمقامًا، كما يحدث الآن؟

ج: كما صار ساعاتيًا وميكانيكيًا وكناسًا… لأن المشروطية هي حاكمية الأمة، والحكومة ليست إلّا خادمة.

ولئن صَدَقت المشروطيةُ فالقائمقام والوالي ليسوا رؤساء بل خدامًا مأجورين، فغير المسلم لا يكون رئيسًا مطلقًا، بل يكون خادمًا. فلو فرضنا أن الوظيفة والأمارة ضرب من الرئاسة والسيادة، فإن إشراكنا ثلاثة آلاف غير مسلم في سيادة رئاستنا يفتح طريقًا إلى الرئاسة أمام ثلاثمائة ألف من إخواننا المسلمين في أقطار العالم، فالذي يخسر واحدًا ويربح الألف لا يتضرر..

س: ألا ترى أن بعض أحكام الشريعة لها علاقة بولاية الوالي مثلًا.

ج: إن الذي يمثل الخلافة بعد الآن هو بالضرورة المشيخة الإسلامية ورئاسة الأمور الدينية وستكون ممتازة، ومقدسة سامية، منفصلة رقيبة ناظرة على الكل… فالمستولي الآن ليس شخصًا فردًا، بل الأفكار العامة، لذا هناك حاجة إلى شخصية معنوية مثلها، تكون أمينة على الفتوى.

س: كنا نسمع سابقًا وإلى الآن أن أكثر أفراد «جون تورك» هم من الماسونيين، الذين يعادون الدين.

ج: لقد ألقى الاستبداد هذه التلقينات إبقاءً لنفسه، ومما يسند هذا الوهم ويقوّيه عدم مبالاة بعضهم بالدين..

ولكن اطمئِنوا، إنّ قصد من لم ينضم منهم إلى الماسونية، ليس إضرار الدين، بل نفع الأمة وتأمين سلامتها، ولكن البعض منهم يفرطون في الهجوم على التعصب المقيت الذي لا يليق بالدين. ويبدو أنكم تطلقون على الذين سبق منهم خدمات للحرية والمشروطية أو الذين ارتضوا بهما اسمَ «جون تورك». فاعلموا أن قسمًا من أولئك هم مجاهدو الإسلام، وقسمًا منهم فدائيو سلامة الأمة، فالذين يشكلون القسم الأعظم منهم والعقدة الحياتية لهم هم من غير الماسونيين ويمثلون أكثرية الاتحاد والترقي. فهناك علماء ومشايخ في صفوف «جون تورك» بقدر عشائركم.. رغم وجود زمرة من الماسونيين المفسدين السفهاء فيهم، وهم قلّة قليلة لا يتجاوزون عشرة بالمئة منهم، بينما التسعون بالمئة الباقية منهم مسلمون ذوو عقيدة أمثالكم، ومعلوم أن الحكم للأكثرية… فأحسنوا الظن بهم؛ إذ إن سوء الظن يضركم ويضرهم معًا حسب قاعدةِ [إن زين عين الرضا، حسن النظر باللطف والشفقة، وإن نور الفؤاد بالرفق والرحمة، ولقد سما على الحق بأقدام التوفيق وسعد من اختار الاستضاءة بمصباحِ «أنا عند ظن عبدي بي»].([9])

س: لِمَ يضرّهم سوء ظنّنا؟.

ج: لأن كثيرًا منهم -مثلكم- لم يمحّصوا الإسلام وما عرفوا إلّا ظواهره بالتقليد، والتقليدُ يتشتت ويتمزق بإلقاء الشبهات والشكوك فانظروا مثلًا: إذا خاطبتم بعضهم: بأنكم لا دين لكم -وبخاصة من كان منهم سطحيًا في الدين ومتوغلًا في الفلسفة المادية- فلربما يتردد ويشك في أمره بوساوس من أن مسلكه خارج عن الإسلام فيشرع بالقيام بأعمال وحركات منافية للإسلام، ناشئة من اليأس والعناد ولسانه يردد: ليكن ما يكون فلا أبالي..


[1] كان ينبغي أن يتحدث بهذا الكلام بعد (أربع وأربعين) سنة إلّا أنه ذكره في ذلك الوقت. (المؤلف).

[2] وقد بدأت الآن بالتحلل والانفتاح والحمد لله . (المؤلف).

[3] ارجع النظر إليها، إنها فقرة ذات شفرات كأنها تخبر عن مجموعة رسائل النور أمثال: «ذو الفقار» «حجة الله البالغة».. مثلما تخبر عن الشعوب الإسلامية: اليمن ومصر والجزائر والهند والفاس (المغرب) والقفقاس وفارس والعرب. (المؤلف).

[4] وقد بدأ تمزقها بعد خمس وأربعين سنة، ولله الحمد والمنّة. (المؤلف).

[5] سؤال محير ذو حقيقة. (المؤلف).

[6] بينما كان سعيد القديم يجاهد بحماسة «للحرية» جاعلًا السياسةَ وسيلة للإسلام بناءً على ما تشعه خاصّية «النور» الساطعة من أمل قوي وسلوان تام أحسّ من قبيل الحسّ المسبق: أن استبدادًا مطلقًا رهيبًا لا دينيًا سيأتي، بناء على ما فهمه من معنى حديثٍ شريف، فأخبر به قبل خمسين سنة. وقد أحس أن ما أخبر به من أنباء مسلية وآمال مشرقة سيكذبه ذلك الاستبداد المطلق فعليًا طوال خمس وعشرين سنة، لذا نبذ السياسة منذ ثلاثين سنة قائلًا: «أعوذ بالله من الشيطان والسياسة» وأصبح سعيدًا الجديد (المؤلف).

[7] المذكور هنا ثلاثة أوجه، أما الوجه الرابع فهو انحصار العسكرية فينا، فقد أدمج في السؤال الذي يلي الجواب. الوجه الرابع أصبح السؤال التالي.

[8] لا تستاؤا ولا تسخطوا أيها الموظفون من كلام سعيد القديم هذا الذي قاله قبل خمس وأربعين سنة. (المؤلف).

[9] كرر النظر في هذه الفقرة العربية الأخيرة، ففيها شفرات ولها إشارات. (المؤلف).