فيا أيها البعيدون عن الإنصاف!.. أ رأيتم كيف تصبحون سببًا لضلالة بعض المنكوبين؟! علمًا أن كثيرًا ما يصلح الفاسد إذا كرّر عليه القول: «أنت صالح، أنت فاضل»، ويفسد الصالح إذا ما كرر عليه: «أنت فاسد، أنت طالح». وهذا أمر مجرّب وقد حَدَثَ كثيرًا.

س: لماذا؟.

ج: لأنه لو كان في ضمير البعض سوء، فلا ينبغي أن يُهاجَم، لأن هناك كثيرًا من السيئات كلما بقيت مستورة تحت ستار الحسنة ولم يمزق عنها حجابها وتغوفل عنها، انحصرت في نطاق ضيق وربما يسعى صاحبُها لإصلاحها تحت حجاب الحياء. ولكن ما إن يُمزَّق الحجابُ ويُرفع حتى يُرمى بالحياء فيُزال، وإذا ما أُظهر معه الهجوم، فالسيئة تتوسع توسعًا هائلًا… ولقد رأيت في حادثةِ (31 مارت) حالةً قريبة من هذا: عندما نادى من كانوا يجودون بأرواحهم للإسلام من أصحاب الهمم بالدعوة إلى المشروطية، والذين كانوا يعتقدون أن نعمة المشروطية غاية المنى وجوهر الحياة، وجدّوا في تطبيق تفرعاتها وفق الشريعة، مرشِدين المسؤولين في الدولة وموجِّهين لهم للتوجه إلى القبلة في صلاة العدالة، طالبين إعلاء الشريعة المقدسة حقًا بقوة المشروطية، وإبقاء المشروطية بقوة الشريعة، محمّلين مخالفة الشريعة السيئات السابقة جميعَها، فما إن نادى هؤلاء بهذا النداء وقاموا بتطبيق بعض الأمور الفرعية إذا ببعض مَن لا يميّز يمينه عن شماله يبرز أمامهم ويجابهونهم ظنًا منهم أن الشريعة تشد أزر الاستبداد -حاشاها- فقلّدوا كالببغاء منادين: «بأنّا نطالب بالشريعة»، فاختفى الهدف ولم يعد يُفهم القصد الحقيقي، وانجر الوضع إلى ما رأيتم. ومعلوم أن الخطط قد مُهّدت وحيكت من قبل. فلما آل الأمر إلى هذا هجم بعض من يتقنع -كذبًا- بالحمية على ذلك الاسم السامي، واعترضوا -متعدين- عليه. فدونكم نقطة سوداء مظلمة جديرة بالاعتبار. [ولقد قعدت الهمة بتلك النقطة ولم تقدر على النهوض. ولقد شوشت طنطنة الأغراض صدى موسيقى الحرية، ولقد تقلصت المشروطية منحصرة -اسمًا- على قليلين، فتفرق عنها حماة ذمارها].([1])

س: لِمَ نتضرر ممن نظن أن لا دين لهم؟.

ج: سأمثل لكم صورة تمثيلية على شاشة الخيال تبيّن لكم مضاره؛ تصوّروا في هذه الصحراء قصرًا وسط بستان زاهر، وفي زاوية من القصر هناك حمام للمياه المعدنية -كمستَحمكم في وادي «بيت الشباب»- فأنتم مضطرون إلى الدخول في ذلك القصر شئتم أم أبيتم بسبب ارتعاشكم من شدة البرد ولَكَماتِ الثلج ولطمات الريح. ولكن لأنكم قد سمعتم -أو رأيتم- أن في باب القصر أشخاصًا عميانًا وفي الحوض رجالًا عراةً يستحمون فتتوهمون -من هذا- أن القصر كلّه دار عميان ومنزل عرايا… فلما أردتم الدخول والوهمُ آخذ بأيديكم تنزعون عنكم لباس الطاعة لتوافقوهم، وتغمضون عين الحقيقة -التي هي العقيدة- لئلا تنظروا إلى عوراتهم، علمًا أن عيونهم مفتحة وعوراتهم مستورة، يتشاورون فيما بينهم بتفكر وتأمل في غرفٍ محتشمة ويداوون في بعض الزوايا العميانَ ويخدمون العرايا لسترهم.

فبالله عليك إذا دخلت عليهم بهذه الصورة الجنونية، وعورتُك مكشوفة وعينُك معصوبة، فهل تتصور أعظمَ من هذه الحالة المزرية الداعية إلى الاستهزاء والسخرية.

وفي نظري أن من جاء -في الحقيقة- من نسل مسلم، لا تَترك فطرتُه ووجدانهُ الإسلامَ البتة، حتى إنْ تجرد عقلُه وفكرُه عن الإسلام. بل حتى أولئك الذين هم أشدّ سفاهة وبلاهة يوالون الإسلام الذي هو سور حصين لمستندنا. وسيما المطلعين على السياسة. ولم يشهد التاريخ منذ العصر النبوي السعيدِ إلى الآن أَنْ رجّح مسلم دينًا آخر على الإسلام بمحاكمته العقلية، أو دخل دينًا آخر بدليل عقلي. نعم، هناك من يمرق من الدين، فتلك مسألة أخرى.. أما التقليد فلا أهمية له… بينما منتسبو سائر الأديان قد دخلوا ويدخلون حظيرة الإسلام أفواجًا أفواجًا بالمحاكمة العقلية والبراهين القاطعة، فإذا ما أريناهم الإسلام الصادق المستقيم، والصدق والاستقامة اللائقَين بالإسلام، فسوف يدخلون في الإسلام أفواجًا. وكذلك يشهد التاريخ وينبئنا أن رقي المسلمين وتمدنهم يكمن في اتباعهم حقيقة الإسلام ويتناسب معه، في حين أن رقي الآخرين وتمدنهم يتناسب تناسبًا عكسيًا مع تمسكهم بدينهم.. وكذا تشهد لنا الحقيقة أن الإنسان المنتبه لا يمكن أن يكون هملًا بدون دين البتة، ولاسيما المتيقظ الذي ذاق طعم الإنسانية وعرف ماهية ذاته وأنه مهيأ ومرسل إلى الخلود، لا يمكن له أن يعيش دون دين مطلقًا، لأن المتنبه إن لم يتمسك بالدين الحق الذي هو جوهر الحقيقة، لا يمكنه أن يظل دون «نقطة استناد» أمام هجوم الكائنات عليه ودون «نقطة استمداد» لاستثمار آماله غير المحدودة.. ومن هذا السر فقد انتبه الآن في الجميع ميلُ البحث والتحري عن الدين الحق. فثبت أن هذا براعة الاستهلال بأن الإسلام هو الدين الفطري للبشرية في المستقبل.

أيا من لا ينصفون! كيف ضاقت في نظركم حقيقةُ الإسلام التي لها القدرة على أن تعم العالم أجمع وتوحّده وتربّيه وتضيئَه نورًا، فرُحتم تحصرون الإسلام في الفقراء وفي المتعصبين من العلماء، وتريدون أن تطردوا نصف أهله منه، كيف تجرأتم على ذلك الإسلام العظيم الذي هو القصر النوراني الجامع لكمالات الإنسانية كلها وهو المربي المزكّي لأحاسيس البشرية النبيلة ومشاعرِها الراقية كلها، فتخيلتموه خيمة المآتم السوداء مضروبة على حشد من الفقراء والبدو الجائعين.

نعم، إن المرء بحسب ما تريه مرآتُه؛ فمرآتُكم السوداء الكاذبة إذن قد مَثَّلت لكم الأمرَ هكذا.

س: أنت تغالي وتُفْرط، إذ تُظهر الخيالَ عينَ الحقيقة وتُهِيننا بظنك أننا جهلاء، فنحن في عصر آخر الزمان([2]) والفسادُ يستشري وسينقلب من سيء إلى أسوأ.

ج: لماذا تكون الدنيا ميدان تقدمٍ وترقٍ للجميع، وتكون لنا وحدنا ميدانَ تأخر وتدنٍ.. فهل الأمر هكذا؟! فها أنذا آليتُ على نفسي ألّا أخاطبكم، فأدير إليكم ظهري وأتوجه بالخطاب إلى القادمين في المستقبل: أيا مَن اختفى خلف عصر شاهق لما بعد ثلاثمائة سنة، يستمع إلى كلمات النور بصمت وسكون، ويلمحنا بنظر خفي غيبي.. أيا من تتسمّون بـ«سعيد وحمزة، وعمر وعثمان وطاهر، ويوسف وأحمد وأمثالهم»! إنني أتوجه بالخطاب إليكم: ارفعوا هاماتكم وقولوا: «لقد صدقت» وليكن هذا التصديق دَيْنًا في أعناقكم. إن معاصريّ هؤلاء وإن كانوا لا يُعيرون سمعًا لأقوالي، لندعهم وشأنَهم، إنني أتكلم معكم عبر أمواج الأثير الممتدة من الوديان السحيقة للماضي -المسمّى بالتاريخ- إلى ذرى مستقبلكم الرفيع.. ما حيلتي، لقد استعجلتُ وشاءت الأقدارُ أن آتي إلى خضم الحياة في شتائها.. أما أنتم فطوبى لكم؛ ستأتون إليها في ربيع زاهر كالجنة، إن ما يُزرع الآن ويُستنبت من بذور النور ستتفتح أزاهير يانعة في أرضكم.. نحن ننتظر منكم لقاء خدماتنا، أنكم إذا جئتم لتَعْبُروا إلى سفوح الماضي، عوجوا إلى قبورنا، واغرِسوا بعض هدايا ذلك الربيع على قمة «القلعة»([3]) التي هي بمثابة شاهدِ قبرِ مدرستي، والمستضيفة لرفاتنا وعظامنا والحارسة لتراب «خورخور»([4]) سنوصي الحارس ونذكّره… نادونا… ستسمعون صدَى «هنيئًا لكم» ينطلق من قبورنا [ولو من الشاهد على طيف الضيف].

إن عيون هؤلاء الذين يرتضعون معنا ثدي هذا الزمان في قفاهم تنظر إلى الماضي دومًا، وتصوراتُهم شبيهة بهم معزولة وبلا حقيقة، هؤلاء الصبيان وإن كانوا ينظرون إلى حقائق هذا الكتاب([5]) ويتوهمونها خيالًا.. فلا أبالي، لأنني على ثقة من أن مسائل هذا الكتاب ستتحقق فيكم واضحة.

أيا من أخاطبكم، ألا معذرةً، إني أصرخ عاليًا، وأنا معتلٍ منارة العصر الثالث عشر الهجري، أدعو أولئك المدنيين المتحضرين صورةً وشكلًا والمتهاونين في الدين حقيقة، والذين يجولون في أودية الماضي السحيق فكرًا.. أدعوهم إلى الجامع.. فيا أيتها القبور المتحركة برجلين اثنتين، أيتها الجنائز الشاخصة! ويا أيها التعساء التاركون لروح الحياتين كلتيهما.. وهو الإسلام، انصرِفوا من أمام باب الجيل المقبل، لا تقفوا أمامه حجرَ عثرةٍ، فالقبور تنتظركم.. تنحَّوْا عن الطريق ليأتي الجيل الجديد الذي سيَرفع أعلامَ الحقائق الإسلامية عاليًا ويهزها خفاقة تتماوج على وجوه الكون.

س: إن أسلافنا كانوا أفضل منا أو مثلنا، فهل يكون أحفادنا أفسد منّا؟

ج: أيها الأتراك والأكراد! لو أنني أقمت اجتماعًا عظيمًا، ودعوت أجدادكم من قبل ألف سنة وكذا أولادكم من بعد عصرين.. دعوتهم جميعًا إلى المجلس الصاخب لهذا العصر، ألا يقول أجدادكم الذين اصطفوا يمينًا:

أيها الأولاد التافهون والخلف المتبذّرون، أأنتم زبدة حياتنا ونتيجتها؟ هيهات.. لقد جعلتمونا أسوةً عقيمة وتركتمونا عاقرين..!!. وكذا، أفلا يقول أولادكم الذين اصطفوا يسارًا والمقبلون من مدنية المستقبل، مصدقين أجدادكم المصطفين يمينًا:

أيها الآباء الكسالى!.. أأنتم تمثلون حياتنا كلها دقّها وجلّها، أمْ أنتم رمزها والحد الأوسط لرابطتنا مع أولئك الأجداد الأشاوس؟ هيهات لَكَمْ أصبحتم أنتم أنموذجًا تافهًا وعيّنة لا حقيقة لها وقياسًا ذا التباس واختلاط.([6])

فيا أيها البدو الرحل ويا أدعياء الانقلاب.([7])

لقد رأيتم على لوحة الخيال([8]) أن الطرفين معًا قد أقاما الحجة عليكم في هذا الاجتماع.

س: نحن لا نستحق هذا القدر من الإهانة والتحقير. نقطع على أنفسنا عهدًا على أننا لا نتقاعس عن التمسك بالأَخلاف ولا نتشبث بأذيال الأسلاف [ففتحنا السمع لكلامك فمرحبًا به].

ج: يمكنكم الآن أن تعودوا إلى وظيفتكم في طرح الأسئلة لأنكم أظهرتم الندامة.

س: هل بحث علماء السلف عن مساوئ الاستبداد؟([9])

ج: نعم، وألف مرة نعم. إن أغلب الشعراء في قصائدهم وكثيرًا من المؤلفين في ديباجات كتبهم، شكوا من الزمان واعترضوا على الدهر وهجموا على الفَلَك وداسوا الدنيا بالأقدام وسحقوها…

فإذا استمعتم إليهم بأُذن القلب ونظرتم إليهم بعين العقل رأيتم أن سهام الاعتراضات جميعها لا تَستهدِف ولا تصيب إلّا صدر الاستبداد الذي تلففَ وتزمّلَ بستار الماضي المظلم، وسمعتم الصراخات والآهات جميعها أنها تصدر من تحت مخالب الاستبداد، ومع أن الاستبداد لم يكن يُرى، ولم يكن يُعلَم اسمه ومعناه، إلّا أن أرواح الجميع كانت تتسمّم بمعناه، وتتألم به، وتعلم أن هناك أحدًا ينفث السم، حتى إن بعض الدهاة كلما كان يتنفس كان يصرخ صراخًا من الأعماق، إلّا أن العقل ما كان ليدرك ماهيته جيدًا، إذ كان مُنبثًا في الظلمات غير متجمع على حال. لذا عندما ظنوا البلايا -المحالة إزالتُها- مصائب سماوية، بدأوا بشن الهجوم على الزمان وصنع الدهر وصوّبوا سهامًا نحو صدر الفَلَك، إذ من القواعد المقررة أنه: إذا خرج أمرٌ من دائرة الجزء الاختياري، ومن الجزئية ودخل الدائرة الكلية العمومية، أو كان دفعه محالًا بحسب العادة، يُسند إلى الزمان، ويُلقى اللوم على الدهر، وترمى قبة الفلك بالحجارة، وإذا أنعمتَ النظر جيدًا رأيت أن الأحجار الآيبة تنقلب يأسًا وتتحجر في القلب [انظر كيف أطالوا فيما لا يلزم وكلما أضاءت لهم السعادة أثنوا على مَن سادهم، وكلما أظلم عليهم شتموا الزمان.([10])].

س: أما تكون الشكوى من الزمان والاعتراض على الدهر اعتراضًا على بدايع صنعة الصانع جلّ جلاله؟

ج: كلا، ثم كلا، بل ربما تعني الشكوى ما يأتي:

كأن الشاكي يقول: إن ماهية العالم المنظمة بدستور الحكمة الأزلية غير مستعدة لإنجاز الأمر الذي أطلبه، والشيء الذي أبغيه، والحالة التي أشتهيها، ولا يسمح به قانون الفلك المنقش بيد العناية الأزلية، ولا توافقه طبيعة الزمان المطبوعة بمطبعة المشيئة الأزلية، ولا تأذن له الحكمة الإلهية المؤسِّسة للمصالح العامة.. لذا لا يقطِف عالمُ الممكنات من يد القدرة الإلهية تلك الثمراتِ التي نطلبها بهندسة عقولنا وتَشَهِّي هوانا وميولنا. وحتى لو أعطتها لَماَ تمكن من قبضها والاحتفاظ بها، ولو سقطتْ لَمَا تمكّن من حملها. نعم، لا يمكن أن تسكن دائرة عظيمة عن حركاتها المهمة لأجل هوى شخص…

س: ما تقول في كثير من الشعراء والعلماء الذين أفرطوا -في زمانهم- في الثناء على الأمراء والحكام؟ مع أنك تنظر إلى كثير منهم نظرك إلى مستبدين؟ فإذن قد أساءوا العمل.

ج: [ولولا خلال سنَّهُ الشعر ما درى  بُناةُ المعالي كيف تُبنى المكارم]

كانت نواياهم حسب هذه القاعدة هي حض الأمراء -بحيلة لطيفة- على الترفع عن السيئات، وجعلهم يتسابقون في مضمار الحسنات بإدخال المكافأة الشعرية موضع التسابق في الأوساط، ولكن لما كانت تلك المكافأة الشعرية قد سُلِبتْ من عرق جبين أمة عظيمة فقد تصرفوا تصرفًا مستبدًا، أي إنهم قد أساءوا في العمل وإن أحسنوا في النيّة.

س: لِمَ ؟.

ج: أفلا ترون أن محصل كلامهم في قصائدهم وبعض مؤلفاتهم إنما هو غصبٌ ضمني لمحاسن قوم عظيم وإغارةٌ عليها، ثم إهداء تلك المحاسن إلى شخص مستبد. فبإظهارهم أن تلك المحاسن صادرة منه، أثنوا على الاستبداد -من هذه الزاوية- دون أن يشعروا.

س: نحن معاشر الأتراك والأكراد لنا من الشجاعة ما يملأ قلوبنا، بل ملء أجسادنا.. بل انبسطت حتى تجلّت بين هذه الوديان جبالًا محصنة لنا. ولنا من الذكاء ما يملأ رؤوسنا، ولنا من الغيرة ما يملأ صدورنا، ولنا من الطاعة ما يملأ أبداننا وجوارحنا… فأفرادنا يملأون الأودية حياةً وتتزين بهم الجبال([11]) فما بالنا بقينا هكذا سافلين مفلسين أذلاء، حتى صرنا لقىً على الطريق يدوسنا الممتطون للرقي والسارعون المجدون للمستقبل، مع أن الأمم المجاورة، وإن كانوا أقلّ منا عددًا وأقصر منا قوة، إلّا أنهم يتطاولون علينا [إن ركسهم يغلب طاهرنا].([12])

ج: أما حينما انفتح بالمشروطية باب للتوبة وتاب الكثيرون، فليس لي حق في توبيخ الرؤساء وتعنيفهم، إلّا أنني ألقم السابقين وأعنيهم، فإن انجرح شعور البعض واحترامه فليعذرني، إذ احترام الحق وعدم جرحه أولى، فاحترام شعور الملّة أعلى وأغلى شأنًا منهم. اعلموا أن سببًا مهمًا لذلك التدني هو بعض الرؤساء والخدّاعون المتظاهرون بالحميّة ممن يدّعون الفداء والتضحية للأمة، أو قسم من المتشيخين المدّعين غير المؤهلين للولاية.

فهذه السنّة السيئة المخالفة للسنة النبوية السنيّة هي الأخرى من سيئات الاستبداد.

س: كيف ؟

ج: إن لكل أمة من الأمم حوضًا معنويًا يشكل جسارة الأمة، ويصون عرضها، وتجتمع فيه قوتها. ولها كذلك خزينة معنوية تشكل سخاء الأمة، وتَضْمن منافعها العامة. وتخزن فيها ما فضل من الأموال. فالقسمان المذكوران من الرؤساء -بعلم أو بدون علم- قد فتحوا ثغرات وثقوبًا في جوانب ذلك الحوض وتلك الخزينة، وسحبوا موارد البقاء وأَسالوا مادة الحياة، فجففوا الحوض وأفرغوا الخزينة، فإذا استمر الأمر على هذا المنوال فستنهار الدولة تحت غَلَبة الديون البالغة المليارات. فكما أن الرجل إذا فقد كلًا من قواه الغضبية (الدافعة) وقواه الشهوية (الجاذبة) يصبح ميتًا وإن كان حيًا يرزق.. وكما أن القطار إذا ثقب خزانه البخاري بثقوب يتعطل عن الحركة.. وكما أن المسبحة إذا انقطع خيطها تتبعثر حباتها.. كذلك الأمر في الأمة -التي هي شخصية معنوية- فإن الرؤساء الذين يجففون حوضَ قوتِها ويفرغون خزينة ثروتها ويقطعون حبل فكرها الملّي، يفتتّونها قِطَعًا وأوصالًا، ويجعلونها سائبة ذليلة دون كيان، عديم الوجود… نعم، [حقيقت كتم نمى كنم براى دل عامى جند]، فلا أجرح شعور الحقيقة لأجل فئة من العوام.

س: إن هذا المقام أجدر بالتفصيل، فلا تَدَعه مجملًا ومبهمًا؟

ج: إن العهد السابق قد انتهز بداوتكم وجهلكم، وحاك خططًا، فاستغَلَّها قسم من الكبراء بأسلوب خبيث مستخدِمين القوةَ والإرغام، فثقبوا ذلك الكنز وذلك النبع، وأسالوا زلال الحياة في صحراء قاحلة وأرض سبخة، فما نبتَ ولا اخضرّ إلّا كسالى وانتهازيون، حتى كانوا يستغلون الضعف البشري والعواطف الحساسة لدى أولئك المساكين الذين مدّوا أيديهم إلى صيد صغير، بتنفيرهم من ثروة الدنيا لترتخي أظفارهم عن الصيد… فيفلت منهم، ليخطفوه هم بمخالبهم لأنفسهم.

نعم، إن لكل أمة سخاءً وكرمًا وهو بذلُ مقدارٍ من ثروتها لمصلحة الأمة ومنفعتها، بيد أنه استُغل سخاء الأمة فينا استغلالًا سيئًا بخلاف سخاء الأمم الأخرى الذي يتخزن في جوفها حوضًا واسعًا ليسقي بستانَ العلوم والمعارف… وكذا من طبيعة كل أمة جسارة، لأجل المحافظة على شرف الأمة وصيانة عرضها. وقد أساء بعض الكبراء في العهد السابق استعمال هذه الجسارة فألقوها في صحراء الاختلاف وأضاعوها، وأَخَذَ كلٌّ يضرب عنق الآخر بغمدٍ من تلك القوة وغلاف منها، حتى كسروه… وهكذا انكسرت… حتى إنهم صرفوا -فيما بينهم- تلك القوةَ العظيمة المركبة من خمسمائة ألف من الأبطال المستعدين للحفاظ على شرف الأمة، فأبادوها في أرض الاختلافات جاعلين أنفسهم مستحقين للتأديب والتأنيب. فإن استفدتم من «المشروطية» و«الحرية الشرعية» وسددتم تلك الثغرات أو جعلتموها مسايل إليه كالحوض، وأعطيتم تلك القوة الرائعة بيد الدولة لِصَرفها في الخارج فستحصّلون ثمنها رحمةً، وعدالة ومدنية.

فان شئتم نتبادل فيما بيننا أسلوب الحوار، فأنا أسألكم وأجيبوا أنتم.

ج: [فاسأل ولا تجد به خبيرًا].

س: هل يمكن أن تكون أمة الأرمن أشجع منكم؟.([13])

ج: كلا، ثم كلا، لم تكن ولن تكون..

س: فلماذا إذن لا يبوح فَدَائِيُّهم بأسراره ولا يفشي عن أخيه شيئًا ولو قطّع إربًا إربًا وأحرق حرقًا، بينما إن طُعِن شجاعٌ منكم يفرشْ أسراره جميعًا مع دمه المهراق… فما سبب هذا التفاوت العظيم في الشجاعة؟…

ج: نحن لا نعرف كنه ماهيته، ولكننا نعلم أن ثمة شيئًا يصيّر الذرة جبلًا ويُخضع الأسدَ للثعلب، فذلك وظيفتك -في الإجابة- نحن لا نطيق حملها، فقد عرفنا وجود ذلك الشيء فعليك بشرح ماهيتنا.

ج: فاستمعوا إذن، وافتحوا آذانكم جميعًا، فإن همة أرمني متيقظ بالفكر الملّي، هي مجموع أمته، وكأن أمته قد صغرت وأصبحت نفسَه أو استقرت في قلبه، فمهما كانت روحه عزيزة وغالية عنده إلّا أن أمته أعظم عنده وأعزّ. وحتى لو كان له ألف روح لضحّى به مفتخرًا لما يحمل من فكر سامٍ -بالنسبة إليه- علمًا أن أقصى ما كان يتصوره أشجعكم في السابق -ولا أقصد الحاليين- الذي لم يكُ متيقظًا ولا داخلًا في النور، ولا عالمًا بشرف الملّة الإسلامية، هو مجرد شرف نفسه أو نفعها، أو شرفُ عشيرتِه أو رئيسِها، فإذن ينظر بنظر قصير ويفكر بتفكير قاصر. فلا جرم قليلٌ مَن يُفدي روحه العزيزة لمثل هذه المقاصد الصغيرة..

فلو تصورتم وفكّرتم بالملّية الإسلامية([14]) مثل ما ينظرون بملّيتهم إلى الأمور. لأعلنتم على رؤوس الأشهاد في العالم شجاعتكم وبسالتكم ولسموتم إلى العلا، ولو تصور الأرمن وفكّروا مثلكم تفكيرًا سطحيًا وقاصرًا لكانوا لقىً أذلاء.

حقًا، إن لكم استعدادًا لِشجاعةٍ لا تُجارَى ولبسالة لا تُمارَى، بدليل أن أحدكم يستخف حياته ويفدي روحه رخيصة لصغائر الأمور كمنفعة بسيطة أو عزة جزئية أو شرف رمزي اعتباري أو لِيقال: إنه جَسور أو لاستعظام شرف رئيسه. فكيف إذا تنبّه هؤلاء.. ألا يستخفّون بحياتهم فداءً للملّة الإسلامية -التي لا تقدّر بثمن- ولو كانوا مالكين لألف روح، إذ تُكسبهم أخوةَ ثلاثمائة مليون مسلم ومساندتهم وعونهم المعنوي، فلا غرو أن الذي يضحّي بحياته لعشرة قروش، يضحّي بها بشوق مضاعف لعشر ليرات.

فوا أسفى! إنه مثلما انتقلت محاسننا إلى غير المسلمين، فسجايانا الحميدة هم الذين سرقوها كذلك، وكأن قسمًا من أخلاقنا الاجتماعية السامية لم يجد رواجًا عندنا، فنَفَر منا والتجأ إليهم، وإن قسمًا من رذائلهم لم يلق رواجًا عندهم فجُلب إلى سُوق جهالتنا.

ألا ترون -بحَيرة شديدة- أن غير المسلمين قد سرقوا الكلمة البيضاء والخصلة الحمراء كأمثال: «إن مُتّ أنا فلتسلم دولتي ولتحيَ أمتي وأحبّتي» التي هي أس أساس الكمال والرقي والتقدم الحاضر، بل هي مقتضى الدين المبين، ذلك لأن فدائِيَّهم يقول: «إن متّ فلتحيَ أمتي، إنّ لي فيها حياة معنوية…» علمًا أن الكلمة الحمقاء والسجية العوراء التي هي أساس الذلّ والأنانية هي التي تقودنا وقد شلّت همتنا وهي التي تتمثل بالعبارة الآتية [إذا متّ ظمآنَ فلا نزل القطر..]…

وهكذا فإن أفضل خصالنا ومقتضى ديننا هو أن نقول، بروحنا وجسدنا ووجداننا وفكرنا وبكل قوانا: «إن متنا، فأمتنا الإسلامية حية، وهي باقية خالدة فلتحيَ أمتي ولتسلم، وحسبي الثواب الأخروي، فإن حياتي المعنوية التي في حياة الأمة تحييني وتعيّشني، وتجعلني في نشوة ولذة في العالم العُلوي، فينبغي أن نجعل الدساتير النورانية للنور والحميّة لنا دستورًا مردِّدِين: [والموت يومُ نَورُوزِنَا].

س: كيف نجمع قوتنا ونحافظ على شرف الملّة الإسلامية؟.([15])

ج: احفروا بالفكر الملّي في جوف الأمة حوضًا للمعرفة والمحبّة -كحوض الكوثر- وسُدُّوا بالمعارف والعلوم ثغراتٍ تحتها يسيل منها الماء، وافتحوا بالفضيلة الإسلامية المسايلَ التي تصب الماء فيه. هناك نبع كبير ضائع أسيء استعماله إلى يومنا هذا، فجرى في الأرض السبخة الرملية فما أدّى الّا إلى ترعرعِ متسولين عَجَزة.. فشيِّدوا مجرىً جميلًا له وصُبُّوا الماء بالمساعي الشرعية إلى ذلك الحوض ثم اسقُوا بستانَ كمالاتكم به، فهذا نبعٌ لا ينضب ولا ينفد أبدًا.


[1] قف أمام هذه الفقرة.. لا تغادرها.. أنعم النظر فيها.. ولقد سكت -في تلك الحادثة- الشهام الغيارى والنجباء والكرماء من أولي العزائم والهمم العالية، وكَمّمت الصحافة المغرضة صوتَ الحرية الحقة، فانحصرت المشروطية في قلّة قليلة جدًا من الناس وتشتت عنها فدائيوها. (المؤلف).

[2] ربما جاء هذا الاعتراض من وليّ عظيم كان حاضرًا في ذلك الوقت فاعترض على ما أحسّ به سعيد القديم -قبل خمس وأربعين سنة- «بحسّ مسبق» من أن ميدان رسائل النور الضيق هو واسع جدًا وهو سياسي أيضًا. لذا صدرت أغلب أجوبته في هذه الرسالة في ضوء ذلك الإحساس. فلربما أبدى ذلك الولي العظيم اعتراضه على هذه النقطة فقط (المؤلف).

[3] المقصود قلعة مدينة «وان» التي هي بمثابة شاهد قبر للمدرسة الدارسة (خورخور) والتي تمثل نموذجًا لمدرسة الزهراء في «وان». (المؤلف).

[4] اسم نبع صغير أسفل قلعة «وان» وعنده مدرسة المؤلف.

[5] إنه ينبئ بحس مسبق عن كليات رسائل النور التي ستؤلَف في المستقبل (المؤلف).

[6] من عبارات علم المنطق. وقد قالها لحضور مجلس طلابه الذين تلقوا في وقتها درسًا في المنطق (المؤلف).

[7] أضيف مؤخرًا (المؤلف).

[8] فالخيال بدوره مثل المَشاهد السينمائية (المؤلف).

[9] إن ذلك الدرس الذي ألقي قبل أربعين سنة لهو درس ضروري في الوقت الحاضر كذلك، إذ إن هذه المحاورة الدائرة بين السؤال والجواب قادرة على مواكبة الحياة وتعيش حية في كل وقت وهي نابضة بالحياة الآن (المؤلف).

[10] تمهل، لا تغادر هذه الفقرة، أَدرِكها جيدًا. وهي تعني: أنهم يمنحون الحسنات إلى الرؤساء ويلصقون السيئات بالزمان، فيُبدون شكواهم بالشتم (المؤلف).

[11] إذن لم تفتر قوتهم المعنوية (المؤلف).

[12] إذا أردت فأنعم النظر، فإن العبارة تشير إلى «وارتكس» «عضو المبعوثان» من الأرمن والسيد «ملا طاهر» النائب عن «حكاري» في ذلك الوقت (المؤلف).

[13] إن الأتراك والأكراد لكونهم علماء عظامًا في فن الشجاعة، أصبحوا هم المجيبين وأنا السائل (المؤلف).

[14] إن ملّيتنا وجود مستقل بذاته، روحها الإسلام وعقلها القرآن والإيمان (المؤلف).

[15] لقد ورد إلى القلب أنه: يمكن أن تكون هذه الدروس التي ألقيت قبل خمس وأربعين سنة على العشائر البدو دروسًا الآن لطلاب النور الحاليين أيضًا (المؤلف).