س: ما ذلك النبع؟.

ج: الزكاة، فأنتم أحناف وشوافع.

س: [حبذا ونعمت إن لم تذهب غائضه، بل فاضت إلى تلك الخزينة].([1])

ج: [أجل، إن فيكم ذكاوة إنما تتزاهر بالزكاة].

س: كيف؟.

ج: لو أعطى الأذكياء زكاة ذكائهم، وصَرَف الأغنياء ولو زكاة زكاتهم لمنفعة الأمة، لتسابقت أمتنا مع الأمم الأخرى.

س: ثم ماذا؟

ج: إن ما يعين ذلك النبع هو الإعانة الملّية الإسلامية، وهي الصدقات والنذور التي هي أبناء عمومة الزكاة تنبض بعِرقها، وتعين في الخدمات.

س: لِمَ تسخَر كثيرًا من عاداتنا المستمرة وتزيفها؟([2])

ج: لأن لكل زمان حكمًا، وهذا الزمان يحكم على عادات هرمة بالموت والنسخ، لأن مضارها قد ترجّحت على منافعها، وهذا الترجيح يفتي بإعدامها والقضاء عليها.

س: ما أول ما يلزمنا؟.

ج: الصدق.

س: ثم ؟

ج: عدم الكذب.

س: ثم ؟

ج: الصدق والإخلاص والوفاء، والثبات، والتساند.

س: فقط ؟

ج: أجل.

س: ولِمَ ؟

ج: إن ماهية الكفر الكذب، وماهية الإيمان الصدق، أليس هذا البرهان كافيًا: أن بقاء حياتنا مرهونة بدوام الإيمان والصدق والتساند.

س: ألا يلزم أوّلًا إصلاح رؤسائنا؟.

ج: نعم، كما أن الرؤساء قد أخذوا أموالكم وحجزوها في جيوبهم، فقد أخذوا عقولكم أيضًا و حجزوها في أدمغتكم. لذا فأنا الآن أخاطب عقولكم الموجودة لديهم:

فيا أيتها الرؤوس والرؤساء، إيّاكم والتواكلَ الذي هو عين التكاسل، ولا تسوّفوا في الأعمال فيحولها بعضكم إلى بعض، اخدمونا بأموالنا التي في أيديكم وبعقولنا التي لديكم؛ فقد أخذتم أجرتكم باستخدامكم هؤلاء المساكين… فهذا أوان الخدمة والعمل [فعليكم بالتدارك لما ضيّعتم في الصيف].

س: يبدو منذ سنين أنه قد تنبهت الرغبة في التدين وتيقّظ الشعور الديني والنزوع إلى الحق، حتى تاب أشقياء «كه وه دان ومامه خوران» توبةً نصوحًا بنصيحة من الشيخ أحمد واصبحوا مريدين صوفيين [وقد قطع الطريق على الشقاوة هذا الميلان].

ج: ما أرشدهم إلّا المشروطية الرشيدة والشيخ رسائل النور([3]) لأنه لما ارتقت المشروطية الشرعية عرش الأفكار، هزّت الحبل المتين للملّية، فاهتز بدوره الإسلام -وهو العروة الوثقى- وعرف كل مسلم أنه ليس هملًا سائبًا، بل مرتبطًا بالآخرين بالمنفعة المشتركة والحسّ المجرد، فالمسلمون جميعًا مرتبطون كالعشيرة الواحدة. إذ كما أن الحسنة التي تصدر من فرد من العشيرة يفتخر بها الكل، ويشتركون معه، فلا ينحصر ذلك الشرف على الفرد نفسه، بل يصبح ألوفًا -كالشمعة التي تظهر لها آلاف الصور في آلاف المرايا- فيُمدّ الرابطة الحياتية لتلك العشيرة بالنور والقوة؛ كذلك الأمر إذا ارتكب أحدهم جناية فإن أفراد العشيرة كلهم يُعدّون متَّهَمين معه إلى حدّ ما. فمثلًا: إذا ارتبط أفراد هذا المجلس برباط، وألقى أحدُهم نفسَه في الطين، فإما أن يوقع أصدقاءَه في الطين أو يضجرهم بكثرة الحركة، وبناء على هذا فإن السيئة الواحدة تتصاعد إلى الألف والحسنة المنفردة تصير ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ اَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ (البقرة:261).

فهذا السر الذي يقود إلى التوبة أجهشَ المتيقظين فكرًا أو روحًا بالبكاء، ولكن العقل الذي هو في قمة المنارة لا يرى جيدًا سببَه الذي هو في قعر بئر الوجدان.

الحاصل: أن المسلمين تنبهوا ويتنبهون([4]) وبدأوا يرون الشر شرًا والخير خيرًا.. فهذا هو السرّ الذي جعل عشائر هذه البوادي والوديان يتوبون إلى الله توبة نصوحًا والمسلمون كلهم بدورهم يستعدّون لكسب هذا السرّ شيئًا فشيئًا.

إلّا أنكم أقرب إلى الملّية الإسلامية لأنكم بدو لم تفسد بعدُ فطرتكم الأصلية.

س: مع علمك بأن إكرام الضيف عادةٌ مستحسنة عندنا، فَلِمَ لا تنزل ضيفًا على أحدنا وتحجم عنا، فعاداتنا هذه قديمة وأصيلة فلِمَ تزيّف هذه العاداتِ وتمنع طلابك من تناول طعامنا وقبول هدايانا، مع أنه واجبٌ علينا خدمتكم والإحسان إليكم، وهو من حقكم علينا.

ج:

أولًا: العلم عزيز، لا أريد أن أُذلّه.. وأريد أن أريَكم أن من أهل العلم من لا يتنزل للدنيا، ولا يجعل صنعة العلم وسيلةَ العيش، وأن الطلاب ليسوا متسولين ولا شحاذين.

ثانيًا: أريد أن أنصح فعلًا بعضَ الموظفين الذين يُظهرون الإهمال والكسل في وظيفتهم، ولا يقنعون بمرتّباتهم فلا تُمسك تلك المرتبات أيديَهم عن إكرام الضيوف.

ثالثًا: بعض الرؤساء الذين انقطعت مجاري وارداتهم الظالمة يَزلّون إلى ظلمات الظلم بفتحهم أبواب مصاريف واسعة جدًا، فأريد أن أبيّن لهم طريقًا لسد تلك الأبواب.

رابعًا: أريد أن أريكم مقياسًا تقيسون به من يسيح فيما بينكم ويجول، أَهُم يقومون بهذا العمل لأجل الملّة أم لهوى أنفسهم؟ فأبيّن بذلك محكًّا بين الحيلة والحمية.

س: تصبح بهذا مانعًا لإحسان الناس، ألا ينتج هذا استخفافًا بسخائهم؟

ج: الإحسان إنما يكون إحسانًا حقًا إن كان للنوع أو للمحتاج أو الفقير، وعنده يكون السخاء سخاءً حقًا، وإذا كان السخاء لأجل الأمة، أو للفرد الذي يتضمن الأمة، فهو سخاء جميل، ولكن إن كان لغير المحتاج يعوّدْه الكسل والتسوّل.

والخلاصة: أن الأمة باقية، بينما الفرد فانٍ.

س: [ما تقول في الإحسانات الشخصية في السلف، أمناءِ الأمة، ورشدائها، وسيوف الدولة وصلاحها… تجلت العبوسـية بمكارمها بـإهـداء عشـرة دنانير لـشعـرٍ لا يـوزن شُـعَيرة].

ج:([5]) [فيه ما فيه… مع أنها بالنهاية قد انجرّت إلى النوع والملّة، لأن اللسان الذي خَدَمه الشعرُ خيط الملّية، مع أن هذا الزمان هو الذي كشف عن احتياج الملّية وفتح الباب لهذا المقصد العالي].

س: إن الرؤساء المتغلبة، قد تهاووا، وأُوصِد بابُ الظلم دونهم، دع الساقطين وشأنهم، واترك الذين يعانون السكرات، يُتمّوا سكراتهم…

ج: إنني أريد أن أحفِّظَهم سُنّة الحرية الشرعية حتى يمتثلوها ماداموا على قيد الحياة. نعم، لقد تساقط الرؤسـاء الذيـن تربَّوا بقوة الاسـتبداد وحـدها، وهـم يسـتحقونه، إلّا أن فيهم حماة.

[نعم، إن بينهم حماة للمليّة، فنشكرهم.. ومتكاسلين، فنشكوَهم.. ومتحيرين، فنرشدهم.. وأمواتًا فنحافظ على ميراثهم لئلا يأخذه مَنْ..] برز إلى الميدان حديثًا.

س: لقد كنتَ -سابقًا- تودّ الشيوخ جميعًا وتحبهم بل تحسن الظن حتى بالمتشيخين، فما هذا الهجوم على قسم من المتشيخين الذين ابتلوا بالبدع؟

ج: قد يرد العداء من فرط المحبة وشدتها! نعم، فكما كنت أحبّهم لأجل نفسي، فقد عشقتهم لنفس الإسلام أضعاف أضعافها،

[لقد انتقش في سويداء قلوبهم الطاهرة الصبغة الربّانية وفي خلدهم ضياء الحقيقة]([6])

[ نديمانْ بادَهَا خوْر دند رفتند تهى خمخانها كردندورَفتنْد ].([7])

إلّا إن أس أساس مسلكهم: تنوير القلوب وربطها بالفضيلة الإسلامية والسير عليها، أي: الانطباع بالحمية الإسلامية، أي ترك المنافع الشخصية لأجل الإخلاص، أي: التوجه إلى تأسيس المحبة العامة، أي: خدمة الاتحاد الإسلامي والدعوة إليه.

[فوا أسفًا لقد أساؤا متكئين وتكاسلوا في خدمتهم فحينئذٍ أريد تحويل هممهم إلى مجراها الحقيقي القديم ].

س: أنت تذكر دومًا «الاتحاد الإسلامي» ألا تعرّفه لنا؟.

ج: قد عرّفته في مؤلفي «المحكمة العسكرية العرفية» وسوف أريكم حجرًا من ذلك القصر المعلّى ونقشًا منه:

إن «الكعبة المكرمة» هي الحجر الأسود لكعبة سعادتنا التي هي الاتحاد الإسلامي المنوّر. و«الروضة المطهّرة» درّته البيضاء، و«جزيرة العرب» مكته المكرمة و«الدولة العثمانية» المنفّذة للحرية الشرعية بحذافيرها هي مدينته المنورة لمدنيّتها.

فإن شئت أن ترى مليّة الإسلام والحجر الأساس للاتحاد الإسلامي ونقشه، فدونك التوقير اللائق الغيور النابع من الحياء والحمية.. والتبسم البريء الناشئ من الاحترام والرحمة..

والحلاوة الروحانية الحاصلة من الفصاحة والملاحة.. والنشوة السماوية الناشئة من العشق الفتي والشوق الربيعي.. واللذة الملكوتية المتولدة من الحزن الغروبي والفرح السَحَري.. والزينة المقدّسة المتجلّية من الحُسن المجرد والجمال المجلّى([8])… فيمكن أن يرى من اللون النوراني الباعث من امتزاج هذه الخصال الحميدة شيء من منظر اللون الأرجواني من بين الألوان السبعة لقوس قزح قاب قوسي الشرق والغرب والطاق المعلّى لكعبة سعادتهما.

ولكن لا يحصل الاتحاد بالجهل، بل الاتحاد امتزاج للأفكار، وهذا الامتزاج لا يتمّ الّا بالنور الوضيء للمعرفة.

س: لِمَ سكتَّ في السابق؟.

ج: [لأن الاستبداد كان مانعًا للاتحاد فكنتُ سكتُّ على جمر الغضا]([9])

س: الهجوم على المشايخ الذين وقعوا في البدع فيه خطر عليك، لأن فيهم أولياء [ألا تخاف أن تصيبهم بجهالة فتصبحَ على ما فعلتَ من النادمين].

ج: [إن المولى جل جلاله قد وَسَم بقدرته على جباههم الرفيعة نقش الحقيقة. ومُرادي أن أرشد من طاش فهمه من ذلك النقش]([10]) نعم، إن هجومي ليس عليهم بل لهم. وذلك لئلا يقلل من شأنهم غيرُ الأكفاء الذين يتزيّونَ بزيّهم. فعلى هذا أُعلنُ ولا أبالي:

إني على عزم جازم أن أقتحم المهالك -أيًّا كانت- أمام ما أصبو إليه من سلامة الإسلام، ولن يثنوني عن عزمي بالتهديد والتخويف. وما قيمة هذه الحياة الدنيا التي يفديها أدنى أرمني لقومه؟. فكيف أخاف عليها وعلاقتي واهية معها، ولاسيما أنها كادت تطير مني سبع مرات، إلّا أن الله سبحانه أبقاها عندي أمانةً. فإذن ليس لي حق المنّة في بذلها والتضحية بها. ومع أن الروح أرادت الطيران من القفص إلى الشجر، والعقلَ نزع إلى الهروب إلى اليأس، إلّا أنهما استُبقيا كي تَفدي الحياةُ بنفسها في المستقبل. فالتهديد إذن باستلاب هذه الحياة لا قيمة له وليس بشيء عندي. ولم يبق ما يهددونني به الّا الحياة الأخروية، فلو حُرِمتُ حتى من هذه الحياة، فلن أُحجِم عن مقصدي ولا أرضى» بالبقاء تحت وطأة منّتها وثقلها. فإن دَعوا على تلك الروح المحترقة الآن بنار الأسى والأسف لتُحرَق في نار جهنم، فليكن ولا أبالي، لأن الوجدان بإخراجه نار الأسى منه يتضمن فردوسًا من المقاصد، كما أن الخيال يشكل جنة من الأمل. فليكن الجميع على علم أنني قابض على حياتيّ بيديّ كلتيهما ومنهمك بحربين مع عدوين في ميدانين للمبارزة، فلا يرتقينّ إلى ميداني من يملك حياة واحدة!.

س: ما تطلب من الشيوخ الحاليين؟.

ج: الإخلاصَ الذي يترنمون به دومًا، والجهادَ الأكبر الذي يرابطون في التكايا التي هي معسكرات معنوية بالطريقة، التي هي جندية روحانية فيها.. وتركَ التزام النفس وتركَ المنافع الشخصية الذي هو معنى الزهد، الذي هو شعارهم.. والمحبةَ التي يدعونها وهي جوهر مزاج الإسلام. ها هم قد أخذوا منا أجرتهم باستخدامنا، فالآن نطالبهم بالعمل وهو دَيْن في رقابهم.

س: كيف يكونون؟

ج: إما أن يولّوا وينصرفوا عنّا، أو يرفعوا العناد والغيبة والانحياز فيما بينهم، لأن قسمًا من المتشيخين المبتدعين قد تسببوا في تشكيل فرقٍ من أهل البدع والضلالة.

س: كيف يمكن أن يتّحدوا ويتفقوا فيما بينهم، وبعضُهم ينكر على بعض، وتحرم في قواعدهم ودساتيرهم محبة المُنكِر، بل حتى الأنسُ به، فلا ريب أن مسألة الإنكار مسألة مهمة؟!.

ج: وعلى هذا فلي الحق إذن أن أخاطب بما يأتي: أيها الحمقى أما سمعتم أو أما علمتم أن الآية الكريمة ﴿اِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ اِخْوَةٌ (الحجرات:10) ناموس إلهي، وهل تعاميتم عن الدستور النبوي الكريم «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»؟

فيا للعجب… كيف تتمكن أن تَنسخ مسألةُ الإنكار هذه -الواهية المترددة بين الصدق والكذب- هذين الأساسين العظيمين الضروريين، ألا إن مسألة الإنكار ليست بكلام الله تعالى حتى لا تقبل النسخ.. أما علموا أن الزمان قد نَسَخَ ذلك الإنكار بفتوى غلبة ضرّه على نفعه، والعملُ بالمنسوخ لا يجوز؟.

س: ألا يمكن أن يكون العداء فيما بينهم لرؤية بعضهم من بعض أفعالًا غير مشروعة؟.

ج: عجبًا! بأي وجه حق، وبأي إنصاف وبأي سبب تغلبت أسبابُ العداء الناشئة من تصرفات غير مشروعة واهية كحجج الصبيان، وترجحت على أسباب المحبة العظيمة -كجبل سُبحان- الناشئة من الإيمان والإسلام والإنسانية والجنسية.

نعم، إن الإسلام والإنسانية اللتين تقتضيان المحبة هما كجبل «أُحُد»، أما الأسباب المنتجة للعداء فليست إلّا كالحصيّات الصغيرة. فالذي يجعل العداء يتغلب على المحبة يرتكب في الحقيقة حماقة عظيمة، كمن يبخس من قيمة جبل «أُحد» ويستصغره إلى أدنى من حصاة!!.

إن العداء والمحبة كالضياء والظلام لا يجتمعان أبدًا، فإذا تغلب العداء، انقلبت المحبة إلى مداراة وتصنّع، أما إذا تغلبت المحبة فالعداء ينقلب إلى ترحّم وإشفاق ورقّة قلب.

إن مذهبي هو إبداء الحب للمحبة، وإظهار الخصام للعداء، أي أن أحبّ شيء اليّ في الدنيا هي المحبة، وأبغض شيء عندي هو الخصام والعداء.

س: ما الفرق بين الشيخ الولي والمتشيخ المدّعي للولاية؟.

ج: إن كان هدف الشخص وغايته الاتحاد بضياء القلب ونور الفكر، وكان مسلكه المحبة، وشعاره ترك حبّ الذات والأنانية، وكان مشربه إنكار الذات (المحويّة) وطريقته الحميّة الإسلامية، ربما يكون شيخًا مرشدًا حقًا؛ ولكن إن كان مسلكه إظهار مزاياه بتنقيص الآخرين، ويلقّن محبته -إلى مريديه- بخصومة الآخرين، وينحاز إلى نفسه ويلتزم جانبها مما يستلزم الاختلاف وشق العصا، وكان يُظهر أن محبته متوقفة على خصومة الآخرين مما ينتج الغيبة والميل إليها.. فما هو إلاّ متشيّخ يتطلع إلى الرئاسة، أو ذئب متغنّم (في زي غنم) فلا ينتهي به الأمر إلّا إلى جعل الدين وسيلة لجرّ مغانم الدنيا، أو هو منخدع بلذة منحوسة مشؤومة أو باجتهادٍ خطأ يجعله يُحسن الظن بنفسه ويفتح طريق سوء الظن في المشايخ الكرام والذوات المباركة.

س: كلامك حسن جميل، ولكن أين من يسمع؟ ومسلكك عالٍ ورفيع ولكن من يتّبع؟

ج: [ما لا يدرك كله لا يترك كله].. و[إنما الأعمال بالنيات].. [إن الملام على من اتبع الهوى والسلام على من اتبع الهدى].

س: ما رأيك في الاختلافات الرهيبة بين علماء العالم الإسلامي؟ وماذا تقول فيها؟

ج: إن العالم الإسلامي في نظري كمجلس النواب (البرلمان) غير المنتظم أو كمجلس الشورى اختل نظامه، وما نسمعه في الفقه بأن: «هذا هو رأي الجمهور، وعليه الفتوى» إنما هو نظير رأى الأكثرية في ذلك المجلس. وما عدا رأى الجمهور من الأقوال إن لم تكن خالية من الحقيقة والجوهر واللب، تُفوَّض إلى رأي صاحب القابليات والمواهب والاستعدادات لينتخب كلُّ استعدادٍ وموهبة ما يناسب تربيته وينسجم معها. وهاهنا نقطتان مهمتان.([11])

الأولى: أن «القول» الذي أُنتخب بميل هذا الاستعداد، والذي يتضمن الحقيقة -إلى حدّ ما- وظلَّ في الأقلية، مقيّد في نفس الأمر، ومخصَّص بالاستعداد الذي انتخبه، إلّا أن صاحبه أهمله فتركَهُ مطلقًا، والتزمه متبعوه فجعلوهُ عامًا، وتعصّب له مقلّدوه وسعوا في هدم المخالفين حفاظًا عليه.. من هذه النقطة تولدت المصادمة والمشاجرة والجرح والردّ حتى تَشكَّلَ من الغبار المثار من تحت أرجلهم ومن الأبخرة المتصاعدة من أفواههم ومن البروق المنطلقة من ألسنتهم -سحابًا ذا بروق وذا رحمة أحيانًا- فولّد حجابًا أمام شمس الإسلام الساطعة، ولكن ذلك السحاب المبشِّر بالرحمة الواهبَ للاستعداد والقابلية من فيض نور الشمس، مثلما لم يُنزل الغيث.. فقد حجب النور أيضًا…

الثاني: أن القول الذي ظل في الأقلية، إن لم يَغلبْ ما فيه من الحقيقة والجوهر على ما في الاستعدادات المنتخبة له، من هَوَسٍ وهوى أو تدين موروث ومزاج، فإنه -أي ذلك القول- يبقى على خطر عظيم، لأنه بدلًا من أن ينصبغ الاستعداد به وينقلب إلى ما يقتضيه، يصرفه لنفسه ويلقحه ويسخّره لأمره.

وها هنا يتحول الهُدى إلى الهوى، ويتشرب المذهب من المزاج. إن النحل يشرب الماء فيقطّر عسلًا، بينما الحية تشربه وتنفث سمًّا.

س: يا ترى، ألا يجد هذا المجلس الإسلامي العالي على سطح الأرض انتظامًا وتنسيقًا لأعماله مرة أخرى؟.

ج: أعتقد بأن العالم الإسلامي قاطبة سيصير بمثابة مجلس نواب (برلمان) مقدّس في الملّة الإنسانية وبين بنى آدم، وسيشكِّل وينظم السلفُ والخلفُ فيما بينهم مجلسًا للشورى مُوَلّيًا كلٌّ منهم وجهَه للآخر على مدى العصور، إلّا أن القسم الأول وهم الآباء الشيوخ، سينصتون بهدوء وثناء.

س: ([12]) إن قسمًا من الأجانب يوردون شبهات حول مسائل كتعدد الزوجات والرق، كأنها لا تساير المدنية، فيثيرون الأوهام حول الشريعة.

ج: سأقول لكم قاعدة بصورة مجملة لأنني على نيةِ إصدار تفاصيلها في رسالة مستقلة.

إن أحكام الإسلام على قسمين:

الأول: وهو الذي تؤسسه الشريعة وهو الحُسن الحقيقي والخير المحض.

الثاني: الشريعة المعدِّلة، أي تأتي الشريعة وتُخرج الشيء من صورته البشعة الظالمة إلى صورةٍ ملائمة للزمان والمحيط قابلةٍ للتطبيق حسب الطبيعة البشرية، أخذًا بالصورة المعدَّلة اختيارًا لأهون الشرّين وأخف الضررين، حتى يتيسّر الوصول إلى الحُسن الحقيقي تمامًا. لأن رفع أمرٍ مستأصل في الطبيعة البشرية رفعًا آنيًّا يقتضي قلبَ الطبيعة البشرية رأسًا على عقب.

وعلى هذا فالشريعة ليست هي التي أوجدت الرقَّ، بل هي التي أوجدت السُبُل، ومهّدت الطريق لتحويل الرقّ من أقسى صوَره إلى ما ييسّر الوصول إلى الحرية التامة والانتقال إليها. أي عدّلت تلك الصورةَ البشعة وقلّلت منها. ثم إن تعدّد الزوجات إلى حدّ أربع زوجات، مع أنها موافقة لطبيعة الإنسان والعقل والحكمة، فإن الشريعة لم تجعلها من الواحدة إلى الأربعة، بل نزّلتها ونقّصتها من الزوجات الثمانية والتسعة إلى الأربعة، ولاسيما قد وضعت شرائط -في التعدد- بحيث لا تؤدي مراعاتُها إلى ضررٍ ما، وحتى لو حصل في بعض النقاط شر، فهو شرّ أهون، وأهون الشرّ عدالة إضافية (نسبية)، إذ الخير المحض لا يمكن أن يحصل في جميع أحوال العالم، هيهات!!..

* * *


[1] لا تمتعض إن هذا الكلام قد لبس لبوس الزكاة (المؤلف).

[2] تجد كأن بعض الأسئلة دخيلة في الموضوع وكأن وديانًا تفصل بينها، ولكن إذا ركب الخيال منطادًا وأخذ بيده منظارًا مقربًا فلربما يجد مواطنها (المؤلف).

[3] لما كان طلاب النور قد دخلوا ضمن «مَامَه خُورَان»، فيجب إطلاق الشيخ رسائل النور -بدلًا عن الشيخ المشروطية- لأنهم سـتـار الأحرار والحمية الإسلامية والملّية وهم لا محالة ضـمـن دائرة الاتحاد المحمدي (المؤلف).

[4] نعم، قد استقلت بعد خمس وأربعين سنة كلٌ من عشائر البلدان العربية وباكستان، فهم يصدقون سعيدًا القديم في درسه هذا، وسيصدقونه في المستقبل (المؤلف).

[5] هذه العبارة نابعة من مصنع الموضوع ولابسة ما أهدي إليه من الأسلوب المحلّي (المؤلف).

[6] إن هذا الأسلوب قد نسج من قطع الخرق المباركة لأحد السلاسل (للأولياء الصوفيين) أي هو إشارة إلى أولياء عظام من أمثال: الشاه النقشبند، الإمام الرباني، خالد ضياء الدين، سيد طه، سيد صبغة الله، وسيدا (المؤلف).

[7] بيت بالفارسية تعني: أن الندماء شربوا ما شربوا وتركوا الحانة خالية.

[8] إن كل فقرة من هذه الفقرات في هذا الأسلوب المسلسل تشير إلى شعاع من أشعة الإسلام وإلى جمال من جماله وإلى سجية من سجاياه وإلى رابطة من روابطه وإلى أساس من أسسه (المؤلف).

[9] قلت هذا الكلام عندما كنت أفكر في لزوم اللغة العربية (المؤلف).

[10] إن المرشدين قد اجتمعوا في هذه التكية، أي في هذه العبارة، فلا تغادرهم دون زيارة لهم ففيها إشارة إلى كل من المولوي والقادري والنقشبندي والبكتاشي (المؤلف).

[11] تأمل جيدًا في هاتين النقطتين ويحسن بك أن تقدرهما حق قدرهما. (المؤلف).

[12] هذا السؤال طرح من قبل أحد الأرناؤوط (المؤلف).