المانع الثامن:

توهم وجود نوع من التناقض بين مسائل من العلم الحديث والمعنى الظاهري لحقائق الإسلام؛ هذا التوهم سبّبَ إلى حدٍ ما وَقْفَ استيلاء الحقائق الإسلامية في الماضي. فمثلًا: إن «الثور والحوت» اللذين هما عبارة عن مَلَكين روحانيين مأمورين بالإشراف على الأرض بأمر الله تَخَيَّلَهما البعضُ أنهما حيوانان حقيقيان مجسّمان، أي: ثور ضخم وحوت جسيم، فوقف أهل العلوم الحديثة موقف المعارض للإسلام لعـدم اطـلاعهم على حقيقـة التشبيه والمجاز.

وهناك مئات من الأمثلة كهذا، إذ بعد الاطلاع على الحقيقة لا يجد أعتى الفلاسفة مفرًا من الاستسلام والانصياع. حتى إن رسالة «المعجزات القرآنية» قد أشارت إلى كل آية من الآيات التي تَعَرَّضَ لها أهلُ العلم الحديث، وأَظْهَرَتْ أن في كلٍ منها لمعة رائعة من لمعات إعجاز القرآن، وبَيَّنت ما ظَنَّه أهل العلم مدارَ نقدٍ في جُمَل القرآن وكلماته: أن في كل منها من الحقائق السامية الرفيعة ما لا تطاوله يد العلم، وألجأ الفلاسفَة العنيدين إلى الاستسلام والرضوخ. وهذه الرسائل في متناول الجميع، وفي إمكان كل واحد الاطلاع عليها بسهولة، وعليه أن يطلع عليها، ليرى كيف انهار هذا المانع فعلًا، بعدما قيل منذ خمس وأربعين سنةً.

نعم، إن هناك مؤلفاتٍ قيمة لعلماء الإسلام في هذا المجال، وكلُّ الأمارات تدل على أن هذا المانع الثامن سيضمحل تمامًا.

وإذا لم يحدث ذلك الآن، فإنه بعد ثلاثين أو أربعين عامًا سوف يتجهّز العلم، والمعرفة الحقيقية، ومحاسن المدنية، بوسائل وأعتدة كاملة فتتغلب -هذه القوى الثلاث- على الموانع الثمانية المذكورة وتقضي عليها، وذلك ببعثها روحَ التحري عن الحقائق، والإنصافِ والمحبة الإنسانية، وإرسالها إلى جبهاتِ محاربةِ تلك الأعـداء الثمانـية.

وقد بدأت تهزمها فعلًا، وسوف تقضي عليها قضاءً تامًا بعد نصف قرن إن شاء الله.

نعم، «الفضل ما شهدت به الأعداء».

وإليكم مثالين فقط من بين مئات الأمثلة:

المثال الأول: أن مستر كارلايل أحد مشاهير فلاسفة القرن التاسع عشر وأشهر فيلسوف من القارة الأمريكية يلفت أنظار الفلاسفة وعلماء النصرانـيـة بقـولـه:

«لقد جاء الإسلام على تلك الملل الكاذبة والنحل الباطلة فابتلعها، وحق له أن يبتلعها، لأنه حقيقة خارجة من قلب الطبيعة، وما كاد يظهر الإسلام حتى احترقت فيه وثنيات العرب وجدليات النصرانية وكل ما لم يكن بحق فإنها حطب ميت أكلته نارُ الإسلام فذهب، والنار لم تذهب».

ويزيد مستر كارلايل فيقول بحق الرسول ﷺ:

«هو الرجل العظيم الذي علّمه الله العلم والحكمة، فوجب علينا أن نصغي إليه قبل كل شيء».

ويقول أيضًا:

«إن كنت في ريب من حقائق الإسلام فالأولى بك أن ترتاب في البديهيات والضروريات القطعية، لأن الإسلام مِن أَبْدَهِ الحقائق وأشدها ضرورة».

وهكذا فقد سجّل هذا الفيلسوفُ الشهير هذه الحقائقَ حول الإسلام في أماكن متفرقة من مؤلَّفه.

المثال الثاني: هو الأمير بسمارك الذي يُعتبر من أشهر رجال الفكر في تاريخ أوروبا الحديث. يقول هذا الفيلسوف:

«لقد درستُ الكتب السماوية بإمعان، فلم أجد فيها الحكمة الحقيقية التي تكفل سعادة البشرية، وذلك للتحريف الذي حصل فيها. ولكني وجدت قرآن محمد ﷺ يعلو على سائر الكتب. وقد وجدت في كل كلمة منه حكمة. وليس هناك كتاب يحقق سعادة البشرية مثله. ولا يمكن أن يكون كتابٌ كهذا من كلام البشر. فالذين يدّعون أن هذه الأقوال أقوال محمد ﷺ يكابرون الحق وينكرون الضرورات العلمية، أي أن كون القرآن كلام الله أمرٌ بديهي».

وهكذا تنتج حقول الذكاء في أمريكا وأوروبا محاصيل رائعة من أمثال مستر كارلايل وبسمارك من جهابذة المحققين.

وفي ضوء هذه الحقيقة أقول وبكل اطمئنان واقتناع:

إن أوروبا وأمريكا حبَالى بالإسلام، وستلدان يومًا ما دولة إسلامية، كما حَبِلت الدولة العثمانية بأوروبا وولدت دولة أوروبية.

أيها الإخوة في الجامع الأموي، ويا إخواني في الجامع الإسلامي بعد نصف قرن! أفلا تنتج المقدمات التي أسلفنا ذكرها حتى الآن: أن الإسلام وحده سيكون حاكمًا على قارات المستقبل حكمًا حقيقيًا ومعنويًا، وأن الذي سيقود البشرية إلى السعادتين الدنيوية والأخروية ليس إلّا الإسلام والنصرانية الحقّة المنقلبة إلى الإسلام والمتفقة معه والتابعة للقرآن بعد تحررها من التحريفات والخرافات!

الجهة الثانية: أن الإسلام مستعد للرقي المادي:

إن الأسباب القوية التي تدفع الإسلام إلى الرقي تبين أن الإسلام سيسود المستقبل ماديًا أيضًا.

فكما أثبتنا في الجهة الأولى استعداد الإسلام معنويًا للرقي؛ تُظهر هذه الجهة إظهارًا واضحًا استعداد الإسلام للرقي المادي وسيادته في المستقبل. لأنه في قلب الشخصية المعنوية للعالم الإسلامي خمسُ قوىً لا تُقهَر، وهي في منتهى الرسوخ والمتانة:([1])

القوة الأولى:

«الحقيقة الإسلامية» التي هي أستاذ جميع الكمالات والمُثُلِ، الجاعلةُ من ثلاثمائة وخمسين مليونَ مسلمٍ كنفسٍ واحدة، والمجهّزة بالمدنية الحقيقية والعلوم الصحيحة، ولها من القوة ما لا يمكن أن تهزمها قوة مهما كانت.

القوة الثانية:

«الحاجة الملحة» التي هي الأستاذ الحقيقي للمدنية والصناعات والمجهَّزة بالوسائل والمبادئ الكاملة.. وكذا «الفقر» الـذي قصم ظهرنا. فالحاجة والفقر قوتـان لا تسكتان ولا تُقهران.

القوة الثالثة:

«الحرية الشرعية» التي ترشد البشرية إلى سبل التسابق والمنافسة الحقّة نحو المعالي والمقاصد السامية، والتي تمزق أنواع الاستبداد وتشتتها، والتي تهيّج المشاعر الرفيعة لدى الإنسان، تلك المشاعر المجهّزة بأنماط من الأحاسيس كالمنافسة والغبطة والتيقظ التام والميل إلى التجدد والنزوع إلى التحضر. فهذه القوة الثالثة: (الحرية الشرعية) تعني التحلي بأسمى ما يليق بالإنسانية من درجات الكمال والتشوق والتطلع إليها.

القوة الرابعة:

«الشهامة الإيمانية» المجهّزة بالشفقة والرأفة. أي: أن لا يرضى الذلّ لنفسه أمام الظالمين، ولا يُلحقه بالمظلومين. وبعبارة أخرى عدم مداهنة المستبدّين وعدم التحكم بالمساكين أو التكبّر عليهم، وهذا أساس مهم من أسس الحرية الشرعية.

القوة الخامسة:

«العزة الإسلامية» التي تعلن إعلاء كلمة الله. وفي زماننا هذا يتوقف إعلاء كلمة الله على التقدم المادي والدخولِ في مضمار المدنية الحقيقية. ولا ريب أن شخصية العالم الإسلامي المعنويةَ سوف تدرك وتحقق في المستقبل تحقيقًا تامًا ما يتطلبه الإيمان من الحفاظ على عزة الإسلام..

وكما أن رقي الإسلام وتقدمه في الماضي كان بالقضاء على تعصب العدو وتمزيق عناده ودفع اعتداءاته -وقـد تـم ذلك بقوة السـلاح والسيف-؛ فسـوف تُغلب الأعداء ويُشَتَّتَ شملُهم بالسيوف المعنوية -بدلًا من المادية- للمدنية الحقيقية والرقي المادي والحق والحقيقة.

اعلموا أيها الإخوان!

إن قصدنا من المدنية هو محاسنها وجوانبها النافعة للبشرية، وليس ذنوبها وسيئاتها، كما ظن الحمقى من الناس أن تلك السيئات محاسن فقلّدوها وخرّبوا الديار، فقدموا الدين رشوة للحصول على الدنيا فما حصلوا عليها ولا حصلوا على شيء.

إنه بطغيان ذنوب المدنية على محاسنها، ورجحان كفة سيئاتها على حسناتها، تلقت البشرية صفعتين قويتين بحربين عالميتين، فأتتا على تلك المدنية الآثمة، وقاءت دماءً لطخت وجه الأرض برمتها. وسوف تتغلب بإذن الله محاسنُ المدنية بفضل قوة الإسلام التي ستسود في المستقبل، وتطهّر وجه الأرض من الأدناس وتُحقِّق أيضًا سلامًا عامًا للبشرية قاطبة.

نعم، لما كانت مدنية أوروبا لـم تتأسـس على الفضيلة والهدى بـل على الهَوَس والهوى، وعلى الحسد والتحكم، تغلّبت سيئاتُ هذه المدنـيـة على حسناتها إلى الآن، وأصبحت كشجرة منخورة بديدان المنظمات الثورية الإرهابية. وهذا دليل قوي ومؤشر على قرب انهيارها وسبب مهم لحاجة العالم إلى مدنية آسيا «الإسلامية» التي ستكون لها الغلبة عن قريب.

فإذا كان أمام أهل الإيمان والإسلام أمثالُ هذه الأسباب القوية والوسائلِ القويمة للرقي المادي والمعنوي، وطريقٌ سويٌ ممهد كسكة الحديد للوصول إلى السعادة في المستقبل، فكيف تيأسون، وتثبطون روح العالم الإسلامي المعنوية وتظنون ظن السوء وفي يأس وقنوط، أن الدنيا دار ترقٍ وتقدم للأجانب وللجميع بينما أصبحت دار تدنٍ وتأخّر للمسلمـين المساكـين وحدهم. إنكم بهـذا ترتكبون خطأ شنيعـًا؛ إذ ما دام الميل نحو الكمال قانونًا فطريًا في الكون وقد أُدرج في فطرة البشرية، فإن الحق والحقيقة سيُظهران في المستقبل على يد العالم الإسلامي إن شاء الله سعادةً دنيوية أيضًا كفّارة لما اقترفته البشرية من آثام، ما لم تقم قيامة مفاجئة بما ارتكبت من مفاسد ومظالم.

فانظروا إلى الزمن، إنه لا يسير على خط مستقيم حتى يتباعد المبدأ والمنتهى، بل يدور ضمن دائرة كدوران كرتنا الأرضية؛ فتارة يرينا الصيف والربيع في حال الترقي، وتارة يرينا الشتاء والخريف في حال التدني. وكما أن الشتاء يعقبه الربيع، والليلَ يخلفه النهار، فسيكون للبشرية ربيع ونهار إن شاء الله، ولكم أن تنتظروا من الرحمة الإلهية شروقَ شمس حقيقة الإسلام، فتروا المدنية الحقيقية في ظلِ سلامٍ عام شامل.

لقد قلنا في بداية هذا الدرس أننا سنقيم برهانًا ونصف برهان على دعوانا. وقد انتهى الآن البرهان مجملًا.

وجاء دور نصف البرهان وهو الآتي:

لقد ثبت بالبحث والتحري الدقيق والاستقراء والتجارب العديدة للعلوم أن الخير والحسن والجمال والإتقان والكمال هو السائد المطلق في نظام الكون وهو المقصود لذاته وهو المقاصد الحقيقية للصانع الجليل. بدليل أن كل علمٍ من العلوم المتعلّقة بالكون يُطْلِعنا بقواعده الكلية على أن في كل نوع وفي كل طائفة انتظامًا وإبداعًا بحيث لا يمكن للعقل أن يتصور أبدع وأكملَ منه.

فمثلًا: علم التشريح الذي يخص الطب، وعلم المنظومة الشمسية الذي يخص الفلك والعلوم التي تخص النباتات والحيوانات وبقية العلوم كلٌّ منها تفيدنا بقواعدها الكلية وبحوثها المتعددة النظامَ المتقنَ للصانع الجليل في ذلك النوع، وقدرتَه المبدعة وحكمتَه التامة فتبيِّن جميعُها حقيقةَ الآية الكريمة: ﴿اَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (السجدة:7).

كما أن الاستقراء التام والتجارب الشاملة تثبت أن الشر والقبح والباطل والسيئات كلها جزئية وتَبَعية وثانوية في خِلْقَةِ الكون.

فالقبح مثلًا في الكون والمخلوقاتِ ليس هدفًا لذاته وإنما هو وحدة قياسية، لتنقلب حقيقةٌ واحدة للجمال إلى حقائق كثيرة. والشر كذلك، بل حتى الشيطان نفسه إنما خُلق وسُلّط على البشرية ليكون وسيلةً لترقيات البشر غير المحدودة نحو الكمال التي لا تُـنال إلّا بالتسابق والمجاهدة.

وأمثالُ هذه الشرور والقبائح الجزئية خُلقت في الكون لتكون وسيلة لإظهار أنواع الخير والجمال الكليين. وهكذا يَثبت بالاستقراء التام أن المقصد الحقيقي في الكون والغاية الأساسية في الخلق إنما هو الخير والحسن والكمال، لذا فالإنسان الذي لوّث وجه الأرض بكفره الظالم وعصيانه الله لا يمكن أن يفلت من العقاب، ويذهب إلى العدم من دون أن يحق عليه المقصود الحقيقي في الكون، بل سيدخل سجن جهنم!

كما ثبت بالاستقراء التام وتحريات العلوم وأبحاثها أن الإنسان هو أكرم المخلوقات وأشرفها، لأنه يستطيع أن يكشف بعقله عن مراتب الأسباب الظاهرية في خلق الكائنات ونتائجها، ويعرفَ العلاقاتِ بين العلل والأسباب المتسلسلة، ويستطيعُ أن يقلّد بمهارته الجزئية الصنائعَ الإلهية والإيجادَ الرباني المنتظَمَ الحكيم، ويستطيعُ أن يدرك بعلمه الجزئي وبمهارته الجزئية إتقانَ الأفعال الإلهية، وذلك بجعل ما لديه من جزء اختياري ميزانًا جزئيًا ومقياسًا مصغَّرًا لدرك تلك الأفعال الإلهية الكلية والصفات الجليلة المطلقة.

كل ذلك يُثبت أن الإنسان أشرفُ مخلوق وأكرمُه.

وثبت أيضًا بشهادة الحقائق التي قدّمها الإسلام للبشرية والتي تخص البشر والكائنات أن المسلمين هم أفضلُ البشر وأشرفُهم وهم أهل الحق والحقيقة، كما ثبت بشهادة التاريخ والوقائع والاستقراء التام؛ أن أشرفَ أهل الحق المشرَّفين من بين البشر المكرَّمين وأفضلَهم هو محمد ﷺ الذي يَشهد له ألفٌ من معجزاته وسموُّ أخلاقه ومكارمُه وحقائقُ الإسلام والقرآن.

ولما كان نصف البرهان هذا قد بين هذه الحقائقَ الثلاث أفيمكن أن يَقْدح نوعُ البشر بشقاوته شهادةَ هذه العلوم جميعها، وينقض هذا الاستقراء التام، ويتمرّد في وجه المشيئة الإلهية والحكمة الأزلية؛ فيستمر في قساوته الظالمة وكفره المتمرد ودماره الرهيب؟ أفيمكن أن تستمر هذه الحالة في عداء الإسلام هكذا؟

إنني أقسم بما آتاني الله من قوة بل لو كان لي ما لا يعد ولا يحصى من الألسنة لأقسمت بها جميعًا، بالذي خلق العالم بهذا النظام الأكمل، وخلق الكون في منتهى الحكمة والانتظام من الذرات إلى السيارات السابحات في أجواز الفضاء، ومن جناح البعوضة إلى قناديل النجوم المتلألئة في السموات، ذلكم الحكيم ذو الجلال والصانع ذو الجمال، أُقسم به سبحانه بألسنةٍ لا تحد أنه لا يمكن أن يخرج البشر على سنة الله الجارية في الكون ويخالفَ بقية إخوانه من طوائف المخلوقات بشروره الكلية ويقضيَ بغلبة الشر على الخير فيهضمَ تلك المظالم الزقومية على مدى ألوف السنين! فهذا لا يمكن قطعًا!

نعم، إنه لا يمكن ذلك إلّا بافتراضٍ محالٍ هو أن الإنسان خليفة الله في الأرض، الحاملَ للأمانة الكبرى والأخَ الأكبر الأكرم لسائر أنواع المخلوقات، إنما هو أدنى مخلوق وأردَؤه وأرذله وأضرّه وأحقره، دخل الكون متلصصًا ليفسده! فهذا الفرض المحال باطل من أساسه لا يمكن قبوله بأية جهة كانت.

فلأجل هذه الحقيقة يمكن أن نستنتج من نصف برهاننا هذا:

أنه كما أن وجود الجنة والنار ضروري في الآخرة فإن الغلبة المطلقة ستكون للخير وللدين الحق في المستقبل، حتى يكون الخير والفضيلة غالبَين في البشرية كما هو الأمر في سائر الأنواع الأخرى، وحتى يتساوى الإنسان مع سائر إخوانه من الكائنات، وحتى يحق أن يقال: إنه قد تحقق وتقرر سرّ الحكمة الأزلية في النوع البشري أيضًا.

وحاصل الكلام: ما دام البشر -طبقًا للحقائق المذكورة القاطعة- أفضل نتيجة منتَخبة من الكائنات، وأنه أكرم مخلوق لدى الخالق الكريم، وأن الحياة الباقية تقتضي وجود الجنة وجهنم بالبداهة، فتستلزم المظالم التي ارتكبتها البشرية حتى الآن وجودَ جهنم، كما تستلزم ما في استعداداته الكمالية المغروزة في فطرته، وحقائقَه الإيمانية التي تهم الكائنات بأسرها وجودَ الجنة بالبداهة. فلابد، ولا محالة أن البشر لن يَهضموا ولن يغفروا الجرائمَ التي ارتُكبت خلال الحربين العظيمتين والتي جرّت الويلاتِ والمصائب على العالم بأجمعه واستقاءت زقوم شرورها التي استعصت على الهضم فلطّخت وجه الأرض، وتركت البشريةَ تعاني البؤس والشقاء وهدمت صرح المدنية الذي بنَته البشرية طوال ألف عام. فما لم تقم قيامةٌ مفاجئة على البشرية فإننا نرجو من رحمة الرحمن الرحيم، أن تكون الحقائق القرآنية وسيلة لإنقاذ البشرية من السقوط إلى أسفل سافلين، وتطهّرَ وجه الأرض من الأدناس والأدران، وتقيم سلامًا عامًا شاملًا.


[1] نعم، نفهم من أستاذية القرآن وإشارات درسه: أن القرآن بذكره معجزاتِ الأنبياء، إنما يدل البشرية على أن نظائر تلك المعجزات سوف تتحقق في المستقبل بالترقي، ويحث الإنسان على ذلك وكأنه يقول له: هيا اعمل واسعَ لتنجز أمثال هذه المعجزات؛ فاقطع مثلًا مسافة شهرين في يوم واحد كما قطعها سليمان عليه السلام.. واعمل على مداواة أشد الأمراض المستعصية كما داواها عيسى عليه السلام..واستخرج الماء الباعث على الحياة من الصخر وأنقذ البشرية من العطش كما فعله موسى عليه السلام بعصاه.. وابحث عن المواد التي تقيك شر الحرق بالنار، وألبسها كما لبسها إبراهيم عليه السلام.. والتقط أبعد الأصوات واسمعها وشاهِد الصور من أقصى المشرق والمغرب كما فعل ذلك بعض الأنبياء.. وألِن الحديد كالعجين كما فعله داود عليه السلام، واجعل الحديد كالشمع في يدك ليكون مدارًا لجميع الصناعات البشرية.. كما تستفيدون فوائد جمة من الساعة والسفينة اللتين هما من معجزات سيدنا يوسف وسيدنا نوح عليهما السلام.. فاعملوا على محاكاتهما وتقليدهما. وهكذا قياسًا على هذا نجد أن القرآن الكريم يسوق البشرية إلى الرقي المادي والمعنوي، ويلقي علينا الدروس ويثبت أنه أستاذ الجميع. (المؤلف).