الكلمة الثانية: «اليأس داء قاتل»

إن مما أملت عليّ تجاربي في الحياة وتمخض فكري عنه هو: أن اليأس داء قاتل، وقد دبّ في صميم قلب العالم الإسلامي. فهذا اليأس هو الذي أوقعنا صرعى -كالأموات- حتى تمكنتْ دولة غربية لا يبلغ تعدادها مليوني نسمة من التحكم في دولة شرقية مسلمة ذات العشرين مليون نسمة فتستعمرها وتسخرها في خدمتها.. وهذا اليأس هو الذي قتل فينا الخصال الحميدة وصَرَفَ أنظارَنا عن النفع العام وحَصَرَها في المنافع الشخصية.. وهذا اليأس هو الذي أمات فينا الروح المعنوية التي بها استطاع المسلمون أن يَبْسطوا سلطانهم على مشارق الأرض ومغاربها بقوة ضئيلة، ولكن ما إن ماتت تلك القوة المعنوية الخارقة باليأس حتى تمكّن الأجانب الظَلَمة -منذ أربعة قرون- أن يتحكموا في ثلاثمائة مليون مسلم ويكبّلوهم بالأغلال.

بل قد أصبح الواحد بسبب هذا اليأس يتخذ من فتور الآخرين وعدم مبالاتهم ذريعة للتملص من المسؤولية، ويخلد إلى الكسل قائلًا: «مالي وللناس، فكل الناس خائرون مثلي»، فيتخلى عن الشهامة الإيمانية ويترك العمل الجاد للإسلام.

فما دام هذا الداء قد فتك فينا إلى هذا الحد، ويقتلنا على مرآى منا، فنحن عازمون على أن نقتصّ مِنْ قاتلنا، فنضربَ رأس ذلك اليأس بسيف الآية الكريمة: ﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّٰهِ (الزمر:53). ونقصم ظهره بحقيقة الحديث الشريف: «ما لا يدرك كله لا يترك جلّه».

إن اليأس داء عضال للأمم والشعوب، أشبه ما يكون بالسرطان… وهو المانع عن بلوغ الكمالات، والمخالف لروح الحديث القدسي الشريف: «أنا عند ظن عبدي بي».. وهو شأن الجبناء والسفلة والعاجزين وذريعتهم، وليس هو من شأن الشهامة الإسلامية قط.. وليس هو من شأن العرب الممتازين بسجايا حميدة هي مفخرة البشرية. فلقد تعلّم العالم الإسلامي من ثبات العرب وصمودهم الدروس والعبر. وأملنا بالله عظيم أن يتخلى العرب عن اليأس ويَمدّوا يدَ العون والوفاق الصادق إلى الترك الذين هم جيش الإسلام الباسل فيرفعوا معًا راية القرآن عالية خفّاقة في أرجاء العالم، إن شاء الله.

الكلمة الثالثة: «الصدق أساس الإسلام»

لقد علمتني زبدةُ تتبعاتي وتحقيقاتي في الحياة بتمخض الحياة الاجتماعية أن «الصدق» هو أس أساس الإسلام، وواسطة العِقد في سجاياه الرفيعة ومزاج مشاعره العلوية. فعلينا إذن أن نحيي الصدق الذي هو حجر الزاوية في حياتنا الاجتماعية في نفوسنا ونداوي به أمراضنا المعنوية.

أجل، إن الصدق هو عقدة الحياة في حياة الإسلام الاجتماعية. أما الرياء فهو نوع من الكذب الفعلي، وأما المداهنة والتصنع فهو كذب دنيء مرذول. وأما النفاق فهو كذب ضار جدًا. والكذب نفسه إنما هو افتراء على قدرة الصانع الجليل.

إن الكفر بجميع أنواعه كذب. والإيمان إنما هو صدق وحقيقة. وعلى هذا فالبون شاسع بين الصدق والكذب بُعدَ ما بين المشرق والمغرب. ولا ينبغي أن يختلط الصدق والكذب اختلاطَ النور والنار، ولكن السياسة الغادرة والدعاية الظالمة قد خلطتا أحدهما بالآخر. فاختلطت كمالات البشرية ومُثُلها بسفسافها ونقائصها.([1])

إن الصدق والكذب بعيدٌ أحدُهما عن الآخر بُعدَ الكفر عن الإيمان؛ فإن عروج محمد ﷺ في خير القرون إلى أعلى عليين بوساطة الصدق وما فتحه من كنوزِ حقائقِ الإيمان وأسرار الكون.. جَعَل الصدقَ أَروَجَ بضاعةٍ وأثمنَ متاع في سُوق الحياة الاجتماعية؛ بينما تردّى مسيلمة الكذاب وأمثاله إلى أسفل سافلين بالكذب؛ إذ لما حدث ذلك الانقلاب العظيم في المجتمع تبيّن أن الكذبَ هو مفتاح الكفر والخرافات، وأفسدُ بضاعة وأقذرها. فالبضاعة التي تثير التقزز والاشمئزاز لدى جميع الناس إلى هذا الحد لا يمكن أن تمتد إليها يدُ أولئك الذين كانوا في الصف الأول من ذلك الانقلاب العظيم، أولئك الصحابة الكرام الذين فُطروا على تناول أجود المتاع وأثمنه وأفخره، وحاشاهم أن يلوثوا أيديهم المباركة بالكذب ويمدوها عمدًا إلى الكذب ويتشبّهوا بمسيلمة الكذاب، بل كانوا بميولهم الفطرية السليمة وبكل ما أوتوا من قوة في طليعة المبتاعين للصدق الذي هـو أروج مال وأقـوم متاع بل هو مفتاح جميع الحقائق ومرقـاة عروج محمد ﷺ إلى أعلى عليين. ولأن الصحابة الكرام قد لازموا الصدق ولم يحيدوا عنه ما أمكنهم ذلك فقد تقرر لـدى علماء الحديث والفقه «أن الصحابة عدول، رواياتهم لا تحتاج إلى تزكية، كل ما رووه من الأحاديث عن النبي ﷺ صحيح». فهذه الحقيقة المذكورة حجـة قاطعة على اتفاق هـؤلاء العلماء.

وهكذا فإن الانقلاب العظيم الذي حدث في خير القرون أدّى إلى أن يكون البون شاسعًا بين الصدق والكذب كما هو بين الكفر والإيمان. إلّا أنه بمرور الزمن قد تقاربت المسافةُ بين الصدق والكذب، بل أعطت الدعاياتُ السياسية أحيانًا رواجًا أكثرَ للكذب، فبرز الكذب والفساد في الميدان وأصبح لهما المجال إلى حدٍ ما.

وبناءً على هذه الحقيقة فإن أحدًا من الناس لا يمكن أن يبلغ مرتبة الصحابة الكرام.

نكتفي هنا بهذا القدر ونحيل القارئ الكريم إلى رسالة الصحابة التي هي ذيل الكلمة السابعة والعشرين رسالة «الاجتهاد».

أيها الإخوة في هذا الجامع الأموي ويا إخوتي الأربعمائة مليون من المؤمنين بعد أربعين عامًا في جامع الإسلام الكبير.

لا نجاة إلّا بالصدق، فالصدق هو العروة الوثقى، أما الكذب للمصلحة فقد نَسخَه الزمانُ، ولقد أفتى به بعض العلماء –مؤقتًا- للضرورة والمصلحة، إلّا أن في هذا الزمان لا يُعمل بتلك الفتوى؛ إذ أُسيء استعماله إلى حد لم يعد فيه نفعٌ واحد إلّا بين مئةٍ من المفاسد. ولهذا لا تُبنى الأحكام على المصلحة.

مثال ذلك: إن سبب قصر الصلاة في السفر هو المشقة، ولكن لا تكون المشقة علة القصر. إذ ليس لها حدّ معين، فقد يُساء استعمالُها، لذا لا تكون العلة إلّا السفر. فكذلك المصلحة لا يمكن أن تكون علّة للكذب لأنها ليست للمصلحة حدّ معين، فإنها مستنقع ملائم لسوء الاستعمال، فلا يناط بها الحكم. وعلى هذا فالطريق اثنان لا ثالث له: «إما الصدق وإما السكوت» وليس -قطعًا- الصدق أو الكذب أو السكوت.

ثم إن انعدام الأمن والاستقرار في الوقت الحاضر بالكذب الرهيب الذي تقترفه البشرية وبتزييفها وافتراءاتها، ما هو إلّا نتيجة كذبها وسوء استعمالها للمصلحة، فلا مناص للبشرية إلّا سدّ ذلك الطريق الثالث، وإلّا فإن ما حدث خلال نصف هذا القرن من حروب عالمية وانقلابات رهيبة ودمار فظيع قد يؤدي إلى أن تقوم قيامة على البشرية.

أجل، عليك أن تصدق في كل ما تتكلمه ولكن ليس صوابًا أن تقول كل صدق، فإذا ما أدّى الصدق أحيانًا إلى ضرر فينبغي السكوت. أما الكذب فلا يسمح له قطعًا.

عليك أن تقول الحق في كل ما تقول ولكن لا يحق لك أن تقول كل حق، لأنه إن لم يكن الكلام خالصًا فقد يؤثر تأثيرًا سيئًا، فتضع الحق في غير محله.

الكلمة الرابعة: «المحبة»

إن مما تعلمته من الحياة الاجتماعية البشرية طوال حياتي، وما أملَته عليّ التتبعات والتحقيقات هو:

أن أجدر شيء بالمحبة هو المحبة نفسها. وأجدر صفة بالخصومة هي الخصومة نفسها. أي إن صفة المحبة التي هي ضمان الحياة الاجتماعية البشرية والتي تدفع إلى تحقق السعادة هي أليق للمحبة، وأن صفة العدواة والبغضاء التي هي عامل تدمير الحياة الاجتماعية وهدمِها هي أقبح صفة وأضرها وأجدر أن تُتجنب وتُنفَر منها. ولما كنا قد أوضحنا هذه الحقيقة في المكتوب الثاني والعشرين (رسالة الأخوة) نشير إليها هنا إشارة مقتضبة:

لقد انتهى عهد العداوة والخصام. ولقد أظهرت الحربان العالميتان مدى ما في روح العداوة من ظلم فظيع ودمار مريع. وتبين أن لا فائدة منها البتة. وعليه فلا ينبغي أن تَجلب سيئاتُ أعدائنا -بشرط عدم التجاوز- عداوتَنا، فحَسْبُهم العذاب الإلهي ونار جهنّم.

إن غرور الإنسان وحبّه لنفسه قد يقودانه أحيانًا إلى عداء إخوانه المؤمنين ظلمًا ومن دون شعور منه فيظن المرء نفسه محقًا. مع أن مثل هذه العداوة تُعدّ استخفافًا بالوشائج والأسباب التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض -كالإيمان والإسلام والإنسانية- وحطًا من شأنها. وهي أشبه ما يكون بحماقةِ من يرجّح أسبابًا تافهة للعداوة كالحصيات على أسباب بجسامة الجبال الراسيات للودّ والمحبة.

فما دامت المحبة مضادة للعداوة ومنافية لها فلا تجتمعان قطعًا كما لا تجتمع الظُّلمة والنور. فالذي تتغلب أسبابُه على الآخر هو الذي يجد موضعه في القلب بحقيقته، أما ضده فلا يكون بحقيقته.

فمثلًا: إذا وُجدت المحبةُ بحقيقتها في القلب فإن العداوة تنقلب حينئذ إلى الرأفة والشفقة، فهذا هو الوضع تجاه أهل الإيمان. أما إذا وجدت العداوة بحقيقتها في القلب، فإن المحبة تنقلب عندها إلى المداراة والمماشاة والصداقة الظاهرية. فهذا إنما يكون مع أرباب الضلال غير المتجاوزين.

أجل، إن أسباب المحبة هي الإيمان والإسلام والإنسانية وأمثالها من السلاسل النورانية المتينة والحصون المعنوية المنيعة؛ أما أسباب العداوة والبغضاء تجاه المؤمن فإنما هي أمور خاصة تافهة تفاهة الحصيات. لذا فإن إضمار العداء لمسلم إضمارًا حقيقيًا، إنما هو خطأ جسيم لأنه استخفاف بأسباب المحبة التي هي أشبه بالجبال.

نحصل مما سبق:

أن الود والمحبة والأخوة هي من طباع الإسلام وروابطه. والذي يحمل في قلبه العداء فهو أشبه ما يكون بطفل فاسد المزاج يروم البكاء بأدنى مبرر للبكاء، وقد يكون ما هو أصغرُ من جناح ذبابة كافيًا لدفعه إلى البكاء، أو هو أشبه ما يكون برجل متشائم لا يحسن الظن بشيء ما دام سوء الظن ممكنًا، فيحجب عشر حسناتٍ للمرء بسيئة واحدة. ومن المعلوم أن هذا منافٍ كليًا للخُلُق الإسلامي القاضي بالإنصاف وحسن الظن.

الكلمة الخامسة: «تضاعف السيئات والحسنات»

إن الدرس الذي تعلمته من الشورى الشرعية هو: أن سيئة امرئٍ واحدٍ في هذا الزمان، لا تبقى على حالها سيئة واحدة، وإنما قد تكبر وتسري حتى تصبح مئة سيئة. كما أن حسنة واحدة أيضًا لا تبقى على حالها حسنة واحدة بل قد تتضاعف إلى الآلاف. وحكمة هذا وسره هو: أن الحرية الشرعية والشورى المشروعة قد أظهرتا سيادة أمتنا الحقيقية؛ إذ إن حجر الأساس في بناء أمتنا وقوامَ روحها إنما هو الإسلام، وإن الخلافة العثمانية والجيش التركي من حيث كونهما حاملين لراية تلك الأمة الإسلامية فهما بمثابة الصَدَفة والقلعة للأمة، وأن العرب والترك هما الأخوان الحقيقيّان وسيظلان حارسين أمينين لتلك القلعة المنيعة، والصَدَفة المتينة.

وهكذا فبفضل هذه الرابطة المقدسة التي تشد الأمة الإسلامية بعضها ببعض يصبح المسلمون كافةً كعشيرة واحدة. فترتبط طوائفُ الإسلام برباط الأخوّة الإسلامية كما يرتبط أفراد العشيرة الواحدة ويُمد بعضهم بعضًا معنويًّا، وإذا اقتضى الأمر فماديًا، وكأن الطوائف الإسلامية تنتظم جميعها كحلقاتِ سلسلةٍ نورانية. فكما إذا ارتكب فرد في عشيرة ما جريمةً فإن عشيرته بأسرها تكون مسؤولة ومتّهَمة في نظر العشيرة الأخرى وكأن كل فرد من تلك العشيرة هو الذي قد ارتكب الجريمة، فتلك الجريمة قد أصبحت بمثابة الألوف منها، كذلك إذا قام أحد أفراد تلك العشيرة بحسنةٍ واحدة، افتخر بها سائر أفراد العشيرة وكأن كل فرد منها هو الذي كسب تلك الحسنة.

فلأجل هذه الحقيقة فإن في زماننا هذا ولاسيما بعد أربعين أو خمسين سنة ليس المسيء هو وحده المسؤول عن سيئته، بل تتضرر الأمة الإسلامية بملايينها بتلك السيئة. وستظهر أمثلة هذه الحقيقة بكثرة بعد أربعين أو خمسين سنة.

يا إخواني المستمعين إلى أقوالي في هذا الجامع الأموي، ويا أيها الإخوان المسلمون في جامع العالم الإسلامي بعد أربعين أو خمسين عامًا!

لا يعتذرنّ أحدكم بالقول: «إننا لا نضرّ أحدًا ولكننا لا نستطيع أن ننفع أحدًا أيضًا. فنحن معذورون إذن». فعذركم هذا مرفوض، إذ إن تكاسلكم وعدم مبالاتكم وتقاعسكم عن العمل لتحقيق الاتحاد الإسلامي والوحدة الحقيقية للأمة الإسلامية، إنما هو ضرر بالغ وظلم فاضح.

وهكذا فكما أن سيئة واحدة تتضاعف إلى الألوف فإن حسنة واحدة في زماننا هذا -وأعني بالحسنة هنا ما يتعلق بقدسية الإسلام- لا تقتصر فائدتها على فاعلها وحده بل يمكن أن تتعداه ليعم نفعها -معنويًا- ملايينَ المسلمين ويشدُّ من حياتهم المادية والمعنوية.

وعليه فإن هذا الزمان ليس زمان الانطراح على فراش الكسل والخلود إلى الراحة وعدم المبالاة بالمسلمين بترديد: «أنا مالي».

يا إخوتي في هذا الجامع، ويا إخواني في مسجد العالم الإسلامي الكبير بعد أربعين أو خمسين عامًا!

لا يذهب بكم الظن أنني صعدت هذا المنبر لأرشدكم وأنصحكم، بل ما صعدته إلّا لأذكر حقنا عليكم وأطالبكم به، إذ إن مصالح الطوائف الصغيرة وسعادتها الدنيوية والأخروية ترتبط بأمثالكم من الطوائف الكبيرة العظيمة، والحكام والأساتذة من العرب والترك؛ فإنّ تكاسلكم وتخاذلكم يضران بإخوانكم من الطوائف الصغيرة من أمثالنا أيّما ضرر. وإنني أوجه كلامي هذا بوجه خاص إليكم يا معشر العرب العظماء الأماجد، ويا من أخذتم من التيقظ حظًا أو ستتيقظون تيقظًا تامًا في المستقبل؛ لأنكم أساتذتنا وأساتذة جميع الطوائف الإسلامية وأئمتها، فأنتم مجاهدو الإسلام الأوائل، ثم جاءت الأمة التركية العظيمة لِتُمدّ وظيفتكم المقدسة تلك أيّما إمداد. لذا فإن ذنبكم عظيم بالتكاسل والتقاعس، كما أن حسناتكم جليلة وسامية أيضًا. ولا سيما نحن على أمل عظيم برحمة الله أنه بعد مرور أربعين أو خمسين عامًا تتحدون فيما بينكم -كما اتحدت الجماهير الأمريكية- وتَتَبَوَّءون مكانتكم السامية وتوفَّقون بإذن الله إلى إنقاذ السيادة الإسلامية المأسورة وتقيمونها كالسابق في نصف الكرة الأرضية بل في معظمها. فإن لم تقم القيامة فجأة فسيرى الجيل المقبل هذا الأمل.

فيا إخوتي الكرام!

أرجو أن لا يذهب بكم الظن بأنني بكلامي هذا أستنهض هممكم للاشتغال بالسياسة -حاش لله-، فإن حقيقة الإسلام أسمى من كل سياسة، بل جميعُ أصناف السياسة وأشكالها يمكن أن تسير في ركاب الإسلام وتخدمه وتعمل له، وليس لأية سياسة كانت أن تَستغل الإسلامَ لتحقيق أغراضها.

فأنا بفهمي القاصر أتصور المجتمع الإسلامي ككل -في زماننا هذا- أشبهَ ما يكون بمصنع ذي تروس وآلات عديدة؛ فإذا ما تعطل تُرس من ذلك المصنع أو تجاوز على رفيقه الترسِ الآخرِ فسيختل حتمًا نظامُ المصنع الميكانيكي. لذا فقد آن أوان الاتحاد الإسلامي وهو على وشك التحقق. فينبغي أن تصرفوا النظر عن تقصيراتكم الشخصية، وليتجاوزْ كلٌّ عن الآخر.

وهنا أنبّه ببالغ الأسى والأسف إلى أن قسمًا من الأجانب كما سلبوا أموالنا الثمينة وأوطاننا، بثمن بخسٍ دارهم معدودة مزوّرة، كذلك فقد سلبوا منا قسمًا من أخلاقنا الرفيعة وسجايانا الحميدة والتي بها يترابط مجتمعنا، وجعلوا تلك الخصال الحميدة محورًا لرقيهم وتقدمهم، ودفعوا إلينا نظير ذلك رذائل طباعهم وسفاهة أخلاقهم.

فمثلًا: إن السجية الملّية التي أخذوها منا هي قول واحدٍ منهم:

«إن متّ أنا فلتحيَ أمتي، فإن لي فيها حياة باقية» هذه السجية أقوى أساسٍ وأمتنُه لرقيهم وتقدمهم، قد سرقوها منا؛ إذ هذه الكلمة إنما تنبع من الدين الحق ومن حقائق الإيمان، فهي لنا وللمؤمنين جميعًا، بينما دخلت فينا أخلاق رذيلة وسجايا فاسدة، فترى ذلك الأناني الذي فينا يقول: «إذا متّ ظمآن فلا نزل القطر» و«إن لم أرَ السعادة فعلى الدنيا العفاء!» فهذه الكلمة الحمقاء إنما تنبع من عدم وجود الدين ومن عدم معرفة الآخرة، فهي دخيلة علينا تسمّمنا. ثم إن تلك السجية الملية عندما سرت إلى الأجانب يكتسب كلُّ فرد منهم قـيمة عظيمـة حتى كأنه أمـة وحـده؛ لأن قيمـة الشخص بهمّته، فمن كانت همتُه أمتَه فهـو بحد ذاته أمة صغيرة قائمة.

وبسبب عدم تيقظ أناس منا، وبحكم أَخْذِنا الأخلاقَ الفاسدة من الأجانب فإن هناك مَن يقول: «نفسي نفسي» مع ما في أمتنا الإسلامية من سموٍّ وقدسيةٍ. فألف رجل مثل هذا الشخص الذي لا يفكر إلّا بمصلحته الشخصية ولا يبالي بمصلحة الأمة، إنما ينزل بمنزلة شخص واحد.

[مَن كانت همتُه نفسَه فليس من الإنسان لأنه مدني بالطبع] فهو مضطر لأن يراعي أبناءَ جنسه، فإن حياته الشخصية يمكن أن تستمر بحياته الاجتماعية. فمثلًا:

إن الذي يأكل رغيفًا عليه أن يفكّر كم يحتاج إلى الأيدي التي تُحضِر له ذلك الرغيفَ. فهو يقبّل تلك الأيدي معنى. وكذا الثوب الذي يَلبسه، كم من الأيدي والآلات والأجهزة تضافرت لتهيئته وتجهيزه. وقِيسُوا على منوال هذين المثالين لتعلموا أن الإنسان مفطور على الارتباط بأبناء جنسه من الناس لعدم تمكنه من العيش بمفرده، وهو مضطر إلى أن يعطي لهم ثمنًا معنويًا لدفع احتياجاته، لذا فهو مدني فطرةً. فالذي يحصر نظره في منافعه الشخصية وحدها إنما ينسلخ من الإنسانية ويصبح حيوانًا مفترسًا، اللهم إلّا من لا حيلة له، وله معذرة حقيقية.

الكلمة السادسة: «الشورى»

إن مفتاح سعادة المسلمين في حياتهم الاجتماعية إنما هو «الشورى». فالآية الكريمـة تأمرنا باتخاذ الشورى في جميع أمورنا، إذ يقول سبحانه: ﴿وَاَمْرُهُمْ شُورٰى بَيْنَهُمْ (الشورى:38).

أجل، فكما أن تَلاحُقَ الأفكار بين أبناء الجنس البشري إنما هو شورى على مر العصور بوساطة التاريخ، حتى غدا مدارَ رقيّ البشرية وأساسَ علومها، فإن سبب تخلف القارة الكبرى التي هي آسيا عن ركب الحضارة إنما هو لعدم قيامها بتلك الشورى الحقيقية.

إن مفتاح قارة آسيا وكشافَ مستقبلها إنما هو الشورى، أي كما أن الأفراد يتشاورون فيما بينهم، كذلك ينبغي أن تسلك الطوائف والأقاليم المسلكَ نفسه فتتشاور فيما بينها. إن فك أنواع القيود التي كَبّلت ثلاثمائة بل أربعمائة مليون مسلم، ورَفَعَ أنواعَ الاستبداد عنهم إنما يكون بالشورى والحرية الشرعية النابعة من الشهامة الإسلامية والشفقة الإيمانية، تلك الحرية الشرعية التي تتزين بالآداب الشرعية وتنبذ سيئات المدنية الغربية.

إن الحرية الشرعية النابعة من الإيمان إنما تأمر بأساسين:

1- [ أن لا يُذَلِّل «المسلمُ» ولا يَتَذلَّل.. من كان عبدًا لله لا يكون عبدًا للعباد ].

2- [أن لا يجعل بعضكُم بعضًا أربابًا من دون الله]. إذ من لا يعرف الله حق معرفته يتوهم نوعًا من الربوبية لكل شيء، في كلٍّ حَسَبَ نسبته، فيسلّطه على نفسه.

[نعم إن الحرية الشرعية عطية الرحمن] وتجلٍ من تجليات الخالق الرحمن الرحيم، وهي خاصّة من خصائص الإيمان.

فليحيا الصدقُ، ولا عاش اليأسُ، فلتدُم المحبة ولتقْوَ الشورى، والملامُ على من اتبع الهوى، والسلام على من اتبع الهدى..آمين.

وإذا قيل:

لِمَ تهتم بالشورى إلى هذا الحد، وكيف يمكن أن تتقدم البشريةُ عامة وآسيا والإسلامُ بوجه خاص بتلك الشورى؟

الجواب:

فكما أوضحتْ لمعةُ «الإخلاص» وهي اللمعة الحادية والعشرون: أن الشورى الحق تُوَلِّد الإخلاص والتساند، إذ إن ثلاث ألفات هكذا (111) تصبح مئة وإحدى عشرة، فإنه بالإخلاص والتساند الحقيقي يستطيع ثلاثة أشخاص أن يفيدوا أمتهم فائدةَ مئةِ شخص. ويخبرنا التاريخ بحوادث كثيرة أن عشرة رجال يمكنهم أن يقوموا بما يقوم به ألف شخص بالإخلاص والتساند الحقيقي والشورى فيما بينهم.

فما دامت احتياجات البشر لا حد لها وأعداؤه دون حصر، وقوته ورأس ماله جزئيان محدودان جدًا، ولاسيما بعد ازدياد المخرِّبين والمتوحشِين نتيجةَ تفشّي الإلحاد.. فلابد أن يكون أمام أولئك الأعداء غير المحدودين والحاجاتِ التي لا تحصر نقطةُ استناد تنبع من الإيمان، فكما تستند حياته الشخصية إلى تلك النقطة فإن حياته الاجتماعية أيضًا إنما تستطيع أن تدوم وتقاوم بالشورى الشرعية النابعة من حقائق الإيمان، فتوقف أولئك الأعداء الشرسين عند حدّهم وتلبي تلك الاحتياجات.


[1] إخواني! يُفهم من هذا الدرس الذي ألقاه «سعيد القديم» قبل خمس وأربعين سنة: أن سعيدًا ذاك كان وثيق الصلة بالسياسة وبشؤون الإسلام الاجتماعية. ولكن حذار أن يذهب بكم الظن إلى أنه قد نهج اتخاذ الدين أداة للسياسة ووسيلة لها. كلا! بل كان يعمل بكل ما لديه من قوة على جعل السياسة أداةً للدين، وكان يقول: «إني أفضّل حقيقة واحدة من حقائق الدين على ألف قضية سياسية من سياسات الدنيا».

    نعم، لقد أحسّ آنذاك -قبل ما يقارب الخمسين عامًا- أن بعض الزنادقة المنافقين يحاولون جعل السياسة آلة للإلحاد، فعمل هو أيضًا -بكل قوة- في مواجهة نواياهم ومحاولاتهم الفكرية تلك على جعل السياسة وسيلة من وسائل تحقيق حقائق الإسلام وخادمة لها.

    بيد أنه رأى بعد ذلك بعشرين سنة أن بعض الساسة المتدينين يبذلون الجهد لجعل الدين أداة للسياسة الإسلامية، تجاه جعل أولئك الزنادقة المنافقين المتسترين الذين يجعلون السياسة آلة للإلحاد بحجة التغرّب. ألاَ إن شمس الإسلام لن تكون تابعة لأضواء الأرض ولا أداة لها. وإن محاولة جعلها آلة لها تعني الحط من كرامة الإسلام، وهي جناية كبرى بحقه، حتى إن «سعيدًا القديم» قد رأى من ذلك النمط من التحيز إلى السياسة أن عالِمًا صالحًا قد أثنى بحرارة على منافق يحمل فكرًا يوافق فكره السياسي، وانتقد عالمًا صالحًا آخر يحمل أفكارًا تخالف أفكاره السياسية حتى وَصَمَه بالفسق، فقال له « سعيد القديم»: لو أن شيطانًا أيّد فكرك السياسي لأمطرتَ عليه الرحمات، أما إذا خالف أحدٌ فكرك السياسي لَلَعنته حتى لو كان مَلَكًا!». لأجل هذا قال «سعيد القديم» منذ خمس وثلاثين سنة: «أعوذ بالله من الشيطان والسياسة» وَترَك السياسةَ. (المؤلف).

   ولما كان سعيد الجديد قد ترك السياسة كليًا ولا يَنظر إليها قطعًا، فقد تُرجمت هذه الخطبة الشامية لسعيد القديم التي تمس السياسة.

   ثم إنه لم يثبت أنه استغل الدين كأداة للسياسة طوال حياته التي استغرقت أكثر من ربع قرن، وفي مؤلفاته ورسائله التي تربو على مئة وثلاثين رسالة والتي دُققت بإمعان من قبل خبراءِ مئاتِ المحاكم بل حتـى في أحلك الظروف التي تلجئه إلى السياسة لشدة مضايقات الظَلَمة المرتدين والمنافقين، بل حتى عندمـا أُصدِر أمر إعدامه سرًا، لم يجد
أحدٌ منهم أية أمارة كانت عليه حول استغلاله الدين لأجل السياسة.

   فنحن طلاب النور نرقب حياته عن كثب ونعرفها بدقائقها لا نملك أنفسنا من الحيرة والإعجاب إزاء هذه الحالة، ونعدّها دليلًا على الإخلاص الحقيقي ضمن دائرة رسائل النور. (طلاب النور).