82

قبلت المَشْرُوطِيّة بالدلائل الشرعية، ولم آخذ بها على وجه التقليد أو مخالفة الشريعة كما فعل الآخَرون من أدعياء المدنية، ولم أقدِّم الشريعة رشوةً لشيء.

فكانت جريمةً أنْ بذلتُ ما بوسعي لإنقاذ العلماء والشريعة من ظنونِ أوروبا الفاسدة، حتى لقيتُ منكم هذه المعاملة!!

الجريمة الثالثة:

خشيتُ أن يَخدع بعضُ دعاة الأحزاب أبناءَ بلدي -البالغَ عددُهم نحوَ عشرين ألفًا في اسطنبول- لكونهم حمَّالين بسطاء غافلين فيستغلوهم ويستخدموهم بما يسيء إلى الولايات الشرقية، فرُحْتُ في العام الماضي أطوف على جميع أماكنهم حتى المقاهي التي يترددون إليها، وبيَّنتُ لهم معنى المَشْرُوطِيّة بِلُغةٍ يفهمونها، وقلتُ لهم ما معناه: إن الاستبداد ظلمٌ وتحكُّم، وإن المَشْرُوطِيّة عدالةٌ وشريعة؛ فإذا أطاع السلطانُ أمرَ نبيِّنا (ص) وتأسَّى به كان خليفةً فأطعناه؛ وإلا فإن الذين يرتكبون المظالم ويخالفون نهجَ نبيِّنا (ص) هم قُطَّاعُ طرقٍ وإن كانوا سلاطين.

وقلت لهم أيضًا: إن أعداءَنا الجهلُ والفاقةُ والفُرقة، وسنجاهدهم بسلاح العلم والصناعة والاتفاق، وسنَمُدُّ أيديَنا إلى الأتراك إخوتِنا الحقيقيين الذين أخذوا بأيدينا إلى التيقظ والرقي بوجهٍ ما، وسنشُدُّ بيد الصداقة على أيدي جيراننا، لأن في الخصومة شرًّا، ولا وقتَ عندنا للخصومة، ولن نتدخل في شؤون الحكومة لأننا لا ندري حكمتها.

وهكذا أثَّرت النصيحة في هؤلاء الحمالين يومَ أنْ أضربوا فقاطَعوا بضائع النمسا -مثلما قاطعتُ أنا كلَّ أوربا [ناقشَ أحدُ المولَعين بالمظاهر الأستاذَ بديع الزمان يومًا بأن عليه أن يرتدي زيًّا يناسب مقامه العلمي، فأجابه الأستاذ قائلًا: أنتم تزعمون أنكم تقاطعون النمسا بينما تعتمرون قبعاتها، أما أنا فأقاطع أوروبا كلَّها فلا أرتدي إلا لباس بلادي المادي والمعنوي؛ المُعِدّون] – فتصرفوا تصرفًا عقلانيًّا وهم في ذروة انفعالهم واضطرابهم.