57
فخرج «مصطفى باشا» من الخيمة ثانيةً، وتجوَّل قليلًا، ثم عاد وقال له: إنَّ لي بالجزيرة [منطقة الجزيرة في الأصل تشمل عموم المنطقة الواقعة بين دجلة والفرات، لكن المقصود بها عند الإطلاق الجزيرة العليا، وهي منطقة تتوزع اليوم بين جنوب شرقيِّ تركيا، وشَمال العراق، وشَمال شرقيِّ سورية؛ هـ ت] جمعًا غفيرًا من العلماء، إن استطعتَ أن تناظرهم فتُلزِمَهم الحُجَّةَ أجبتُكَ إلى ما طلبتَ، وإلا ألقيتُك في نهر الفرات.
فقال له المُلَّا سعيد: كما أنه ليس من شأني إلزامُ جميع العلماء، فليس لك أن تلقيني في النهر، لكنني أطلب منك -إن أجبتُهم على أسئلتهم- بندقيةَ «ماوْزَر»، فإن أخلفتَ وعدك قتلتُك بها.
وبعد هذا السجال انطلقا على ظهور الخيل صوبَ الجزيرة، ولم يكلِّمه الباشا كلمةً طَوالَ الطريق، إلى أن نزلا مكان استراحة يدعى «باني خاني»، فاستلقى المُلَّا سعيد متعبًا فغلبه النوم، فلما أفاق وجد مِن حوله علماءَ الجزيرة جالسين، وكتبهم بأيديهم ينتظرونه باهتمام.
وبعد الترحيب والتعارف دارتْ بينهم كؤوس الشاي، وقعد العلماء ينظرون في الكتب مترقِّبين أسئلته في حالةٍ من الحيرة والارتباك لِما عرفوا من شهرته، حتى إنهم نَسُوا شُربَ الشاي، بينما شرب هو كأسه ثم كأسَ واحدٍ أو اثنين منهم دون أن ينتبهوا للأمر، وعندها قال لهم الباشا: أنا لستُ متعلِّمًا، لكنني أعلم من الآن أنكم مغلوبون في مناظرته، فإنني أراكم منهمكين في التفكير والنظر في الكتب حتى نسيتم شرب الشاي، بينما شَرِب كأسَه وكؤوس بعضكم!
وبعد أن تحدَّث المُلَّا سعيد إلى العلماء حديثًا ودِّيًّا قال لهم: أيها السادة.. لقد عاهدتُ نفسي ألا أسأل أحدًا، فها أنا ذا منتظرٌ أسئلتَكم، فطرحوا عليه أربعين سؤالًا أجاب عليها جميعًا إجاباتٍ سديدةً إلا سؤالًا واحدًا لم يفطُنوا إلى خطئه في إجابته عنه،