59
بقي المُلَّا سعيدٌ في الجزيرة مدةً بعد هذه الحادثة العجيبة، ثم غادرها مع تلميذه «المُلَّا صالح» إلى منطقة «بيرو» حيث مَضاربُ قومٍ من العرب البدو، فأقام بها زمنًا، وبلَغَه هناك أن «مصطفى باشا» قد عاد لسيرته الأولى في الظلم، فذهب إليه ونصَحَه، وجرتْ بينهما ذات مرةٍ مناقشةٌ حادةٌ، ووجَّه إليه المُلَّا سعيد كلامًا شديدًا، وهدَّده قائلًا: لقد عدتَ إلى الظلم من جديد، وسأقتلك في سبيل الحق؛ فتدخَّل كاتب الباشا ليهدِّئ الموقف، لكن المُلَّا سعيدًا استمرَّ في تعنيفه له على ظلمه، فلم يتحمَّل الباشا هذه الإهانة، وهجم عليه يريد قتله، فحجزه وجهاء العشيرة، وفي نهاية الأمر تنحَّى نجلُ الباشا «عبدُ الكريم» بالمُلَّا سعيد جانبًا وقال له: إن أبي فاسدُ العقيدة.. أرجو منك أن تتكرَّم بالتحوُّل من هنا إلى مكانٍ آخر.
ولم يشأ المُلَّا سعيد أن يرد طلبَ «عبد الكريم»، فتوجه إلى بادية «بيرو» وحدَه، وفي الطريق واجه قطَّاعَ طرُقٍ من البدو مسلَّحين بالحِراب، فأطلق باتجاههم بضع طلقاتٍ من بندقيته الـ«ماوْزَر» فلاذوا بالفرار؛ ثم تابع مسيرَه فاعترضته عصابةٌ أخرى أكثر عددًا من تلك، وتمكَّنتْ من محاصرته وهمَّتْ بقتله، إلا أن أحد أفرادها قال لهم: إنني أعرفه، إنه شخصٌ مشهور شاهدته مِن قَبْلُ في عشيرة «ميران»؛ فتراجعوا واعتذروا إليه، وعرضوا عليه مرافقتَه لحمايته من المخاطر، لكنه رفض طلبهم وتابع السير وحدَه إلى أن وصل بعد أيامٍ إلى «ماردين»، وهناك انتهض علماؤها لمناظرته، فوجدوا من مقدرتِه العلمية ما دفعهم لأنْ يتتلمذوا عليه مع أنه شابٌّ في عمر أبنائهم.
وفي تلك الآونة التقى باثنين من طلاب العلم قَدِما إلى «ماردين»، كان أحدهما من أتباع «جمال الدين الأفغاني»، وكان الآخر من مريدي الطريقة السنوسية، فاطَّلع منهما على مسلك كلٍّ من جمال الدين الأفغاني والطريقة السنوسية.
انخرط المُلَّا سعيد في وقتٍ مبكِّرٍ من شبابه بالحياة السياسية، وكانت بداية حياته السياسية في «ماردين»، حيث شرع في خدمة الأمة والوطن، وكان من تَبِعات ذلك أنْ نفاه